-1-
كنت أود أن يكون عنوان هذا البحث (النهضة الأدبية في السودان) فأتناول فيه من حديث الشعر والنثر ما يرسم صورة صحيحة أو قريبة من الصحيحة للحياة الأدبية هنا، ولكن يبدو أنه سيمضي وقت ليس بالقصير دون أن يجد الباحث المادة الضرورية لمثل هذا البحث؛ فإن نثرا مستقلا يكون أدبا لم يتح بعد لباحث.
ومن عجب أن يجد الإنسان مادة غير نزرة ولا قليلة للشعر، ولا يجد شيئا يمكن أن يعتمد عليه في النثر، وربما كان لذلك أسباب كثيرة هي في الغالب أسباب سلبية، وقد يكون من الخير التغاضي عنها، حتى إذا كان من الخير أن نقول في هذا الشأن قلنا، ولهذا أرى من الحسن أن أقصر بحثي على الشعر وحده.
وطبعي أن يكون في السودان شعر، وأن يكون فيه شعر وفير، فإن أسباب الشعر ودوافعه قوية مستفيضة غالبة، ولو استجاب الشعراء لها، ولو لم تشغلهم شئون أخر عن التأثر بها، والتنبه إليها، لجاءنا شعر وخير كثير.
وإنه لتروعك الرغبة القوية في دراسة الآداب، واستظهار المنظوم والمنثور عند كثيرين من أبناء السودان فإنك تجد عددا غير قليل يحفظ الآلاف من أبيات الشعر، ففضيلة زميلنا الشيخ محمد العبيد الأستاذ بالمعهد العلمي بأم درمان يحفظ شعر شوقي كله، لا يند عنه بيت منه؛ وفضيلة الشيخ أحمد العاقب - وهو شاعر - ال يكاد يمر بمسألة، أو يأخذ في حديث حتى يستشهد بأكثر من بيت من الشعر القديم، أو من الشعر الحديث. ولقد لاحظت أن دواوين: شوقي وحافظ والبارودي والعقاد هي الدواوين المفضلةعند الأدباء السودانيين. أما القراءة فهم مغرمون بها، وأكثر ما يقرأون للأساتذة المصرين من كبار الكتاب أمثال طه حسين والعقاد والزيات وهيكل، وآثر المجلات الأدبية عندهم وأحبها إليهم مجلة الرسالة.
ولا مندوحة لمن يريد الدقة والإنصاف في الحديث عن الشعر السودان، أن يقسمه إلى قسمين، شعر المدرسة القديمة، وشعر المدرسة الحديثة، وكلتاهما تعيش في هذا القرن. وتستطيع أن تقول إن المدرسة القديمة سيطرت على الشعر منذ ابتداء هذا القرن أو قبله بقليل، وبقيت سيطرتها إلى عهد قريب، وبعض أساتذتها لا يزالون يرفدون الأدب بأشعارهم، وإن أخذت أشعة المدرسة الحديثة تبدو في الأفق.
وطابع المدرستين جد مختلف، فبينما نجد سمة التقليد، والتمسك بالتقاليد، والسير على النهج القديم، غالبة على المدرسة القديمة، نجد شيئا كثيراً من التحرر والطموح والاستقلال في المدرسة الحديثة. وقد تأخر - ولا شك - ظهور هذه المدرسة ولم يستقر لأصحابها منهاجهم بعد، ولكني أعتقد أن الخطة الجديدة في نشر التعليم، وإرسال البعوث إلى مصر وإلى غيرها ستؤتي أطيب الثمار في هذه النواحي، نعم لا يزال الشعراء المحدثون في أول الطريق، ولكن بواكيرهم تبشر بأنهم يسيرون بخطى حثيثة نحو الكمال والنضوج.
وسأقصر حديثي في هذا المقال على مقومات المدرسة القديمة ومنهاجها، وطابعها، وشعرائها.
التقليد - في الواقع - هو السمة الأصلية في أساتذة هذه المدرسة. التقليد لشعر القديم وطرائقه، تقليد في الأغراض، وتقليد في المعاني، وتقليد الأساليب، كما أن من السمات الغالبة على هؤلاء الأساتذة سمة الوقار والرزانة والتحفظ. ولا غرو فأكثرهم من (المشايخ) بل إن منهم من وصل إلى أعلى المناصب التي يصل إليها الشيوخ في السودان. نعم من شعراء هذه المدرسة من تخرج في كلية غردؤن، ومن تعلم تعليما مدنيا، ولكن هؤلاء - أيضا - لا يقفون بعيدا عن طائفة المشايخ، لأن روح الدينية أبرز مظاهر الحياة في السودان، وهي قوية مسيطرة، والشعر - ونحن نتحدث عنه من الناحية الفنية - في حاجة شديدة إلى الانطلاق والتحرر والاندفاع.
الشعراء ينظمون كثيراً في المدائح النبوية، وفي المدح، والهجاء، والرثاء، وقل منهم من يخرج على هذه الأغراض. أما معانيهم فهي هي التي نشأت مع الشعر العربي؛ فالشجاع أسد هصور، والجميل بدر منير، والممدوح أندى من الغمام كفا، وأجود من البحر يدا، والفقيد تعزى فيه المروءة والندى، والعاشق لا يزال يقف على الأطلال، ويستوقف الصحب، ويبكي الديار، وأما الأساليب فقلما تميل إلى شئ من الخروج عن منهج الشعر القديم، فلا تجد شاعراً نظم في غير البحور المعروفة بل إنك لتجد أكثر ما ينظم من الشعر على أوزان البحور المشهورة من الطويلوالكمال والبسيط، هذه الأبحر التي تمثل الوقار والشيخوخة والهدوء، ولا أثر في هذه الأشعار لظل الحياة الجديدة الناعمة المتألقة، فهي أكثر تأثرا بما يقرأ أصحابها من الشعر القديم، وهم يجلونه فلذلك يحتذونه.
وأبرز ما يصور لنا النهج هو ابتداء القصائد بالغزل، الغزل المصنوع طبعاً، فالمدائح، والتهاني، والتوديعات، وأشعار المناسبات، لا بد من بدئها بالغزل، ولا بد - مع ذلك - من إظهار المهارة في حسن التخلص، وجودة الانتقال. على أن بعض الشعراء يترك هذه السنة ليحبى سنة أخرى، فيبدأ قصيدته بذكر الخمر وسقاتها وندمائها، أو يذكر النوق وحثها على المسير كأن يقول الشيخ محمد عمر البنا، وهو يمتدح عثمان دقنه وأعوانه
ما ضرني أن لو حثثت العيس في ... أثر الحمول، وإن علا التأنيب
وزجرت للبكرات دامية الخطا ... قد مسها نحو الحبيب لغوب
أوجعتها سيراً فصارت ضمراً ... كهلاك شك، ينجلي ويغيب
ثم تسأله هذه العيس إلى أين المسير؟ ومن تريد - وأنت تذرف الدمع -؟ فيجيبها بأنه يمم الزهادة والتقى، فعساه يلقى نفحة من سر من زهد الدنيا وطلقها:
(عثمان دقنة) من رقي أوج العلا ... بفخارة، والطاهر المجذوب
ومن الابتداء بذكر الخمر قول الشيخ عبد الله عبد الرحمن يهنئ أحد أصدقائه بزواج:
هات اسقني حلب العصير ... حمراء كالخد النضير
وادع الخلاعة والصبا ... واهتف بحي على السرور
وأقم (لأحمد) من بيوت الشعر أمثال القصور
وهذا ابتداء واضح الدلالة على الصنعة والتقليد، فالشيخ عبد الله هذا العالم الوقور الذي نشأ في بيت العلم والتقى، ال يطلب الخمر، ولا يدعو الخلاعة، ولا يستطيع أن يشبه الخمر بالخد إلا وهو مأخوذ بما في فكره من شعر القدامى، ثم ما هذه المفارقة العجيبة؟ دعوة للخلاعة، وحي على السرور، ولكن الشيخ - وهو من شعراء السودان المعدودين - لا يجد أنسب لذكر الخمر - التي لم يذقها طبعا - من تهنئة بزواج، على أ، هـ يبتدئ مدحه نبوية يذكر الخمر فيقول:
أديري علىَّ الكأس يا ربة الشعر ... وجودي بمعسول الرضاب من الثغر
لعلي بهذي الكأس يا عز انتشى ... فاسموا بإدراكي إلى العالم الشعري
وأنا - في الحقيقة - حائر في هذه الكأس، أي شئ فيها؟ أهو خمر؟ أم شعر؟ أم رضاب عزة؟
وكقوله في مطلع قصيدة ألقاها في حفلة الميلاد النبوي:
أدرها بعد نومات العشى ... كميت اللون كالخد الوضي
مشعشعة بماء المزن رقت ... كما رقت شمائل أريحي
حواليها نواعم آنسات ... نواعس، ذات لحظ بابلي
وعلى ذكر الابتداء بالخمر أقول إن وصف الخمر ليس غرضا أساسيا في الشعر السوداني، وإن كنا نجد بعض الشعراء يتسلى بها، كما يقول الشاعر صالح عبد القادر.
اسكب الراح، وناول من طلب ... وأدر كأسك، فالدنيا طرب
وأسقنيها بنت كرم عتقت ... تطرد الهم، وتشفى من تعب
يا رفاقي لا تلوموني على ... حبها، فالعيش في بنت العنب
ما علينا أن شربناها وقد ... كتب الله علينا ما كتب
أما الابتداء بالغزل، فهو - كما قلت آنفاً - اللازمة التي لا تنفك لكثير من القصائد، ومن ذلك قول الشيخ عمر الأزهري يمدح صاحب مجلة الجوائب حيث يقول في أولها:
سلوا عن فؤادي مسبلات الذوائب ... فقد ضاع من بين القلوب الذوائب
فلا سلمت نفس من الحب قد خلت ... ولا كان جفن دمعه غير ساكب
سبا مهجتي لدن المعاطف أهيف ... له لفتات دونها كل ضارب
ولا عيب فيه غير أن جفونه ... بنتها على كسر جميع المذاهب
هذا شعر جيد، لولا ما ذكر فيه من هذا الاصطلاح النحوي، وإن كان ذلك يعد ملحة ملفتة، وهكذا يمضي في غزله حتى يقول متخلصاً.
وحبي له يخف في الكون أمره ... كحب العلا مصباح أفق الجوائب
ولا نعدم في هذه الناحية من يستن سنة أخرى أيضاً، فيبتدئ شعره بانكار الغزل، كقول الشاعر عبد الرحمن شوقي يمدح سيادة الحسيب النسيب السيد علي الميرغني.
وقفت ولم أنسب ولم أتغزل ... ولم أشك حالي في الهوى وتذللي
ولم أبك دارك قد عفت وتغيرت ... وصحبا كراماً بت عنهم بمغزل
ومثلي إذا جن الظلام رأيته ... يقوم قيام الناسك المتبتل
يقولون حب الغيد تيم قلبه ... وما حب ربات الخبا عنك مشغلي
وما في فؤادي موضع لمحبة ... لغيرك حتى قال ذلك عذلي
على أني سأوفي هذا المعنى حقه عند الحديث عن الغزل، وإن كنت أبادر فأقول: إن جريان الغزل على ألسنة كثير من هؤلاء الشعراء، وخاصة أولئك العلماء الأعلام، من أمثال شيخ علماء السودان سابقاً الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم، والشيخ عمر الأزهري، والشيخ البنا وغيرهم، أقول إن هذا مما لا يدع شكا في سلطان التقليد على الشعراء.
ولست أريد من هذا أن أحط من قيمة الشعر السوداني، ولكني أقصد أن السمة الغالبة عليه في هذه الحقبة سمة الاحتذاء والمتابعة، والتقليد فيه خير كثير، وفيه كذلك شر كثير. وإن في هذا الشعر لوثبات طيبة، وملامح مشرقة، سنكشف عنا في أثناء هذا الحديث، كما أن سير الشعراء في ركاب القدامى جعلهم يبعدون بأشعارهم عن تصوير الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولم يجعل لوصف الطبيعة السودانية الحلابة مكانها البارزة في أشعارهم.
****
-2-
يقول الدكتور زكي مبارك في تقدمته لديوان الشاعر السوداني التيجاني يوسف بشير: (فما في بلاد الله مسلمون أصدق من مسلمي السودان، والإسلام قوة روحية سامية لا يمن الله بصفائها على غير المصطفين من عباده الأصفياء. يضاف إلى ذلك أنه عند السودانيين فضيلتين جوهريتين: فضيلة الكرامة، وفضيلة العدل، وتتمثل الأولى في اعتزازهم بأنفسهم اعتزازاً هو الغاية في شرف النفس، أما الفضيلة الثانية فتتمثل في صدق المعاملات؛ فمن النادر جداً أن يحتاج من يعامل تجارهم الكبار إلى الاستعانة بالقضاء). ثم يقول: (المسجد في السودان هو المسجد، ورواده هم المؤمنون، ومسلمو السودان هم البقية الصالحة من رواد مسجد الرسول ﷺ، ومن أجل هذا أغناهم الله بالمعاني، وأنزلهم منازل الكرماء).
وأنا أعرف أن الدكتور زكي لم يهبط أرض السودان، ولم يمتع نظره ومسامعه بمظاهر التدين عند مسلمي السودان، وإني محدثه - لو كان يسمع الآن ويقرأ - حديث الخبير، فما راء كمن سمع:
التدين في البلاد السودانية ظاهرة واضحة بارزة تراها في كل ما تقع عليه عيناك، فالأمانة الطبيعية غير المتكلفة، والأمن في الأنفس والأموال، وهذه الصلوت الخمس التي تقام جماعات في أوقاتها، في الأسواق العامة، وأمام حوانيت التجار، وكم ملأني غبطة وإعجاباً منظر المصلين في ساحة المحطة الوسطى بأم درمان، أو أمام حوانيتهم، يؤمهم أحد التجار، وهم بملابسهم البيض النقية خاشعين خاضعين لله، ثم الكرم الذي لا حد له، والإجلال لعلماء الدين. . . كل هذه مظاهر محببة للتدين العميق في نفوس القوم.
ويظهر هذا التدين بصورة واضحة في شغف السودانيين بالمدائح النبوية، فهي أناشيدهم يترنم بها عالمهم وجاهلهم، ويستمعون إليها، ويستمتعون بهان وربما كان المألوف إذا دعيت إلى وليمة أن يكون من تتمة الإكرام أن تسمع (مديحاً). والمداحون منهم المحترفون، وهؤلاء يدعون في المجتمعات العامة وفي المناسبات الدينية، كليلة الإسراء، أو ليلة القدر، وكثير من البيوت - هنا - تحيي ليالي رمضان بالمديح، ومنهم من دفعته رغبة شخصية، وآنس من نفسه جمالاً في الصوت، وقدرة على التنغيم والتلحين، وهؤلاء - يمدحون - غالباً في المجالس الخاصة. والمدائح - في أكثر الأحايين - بالشعر الذي قيل في مدح رسول الله ﷺ، والمداحون يعتمدون اعتماداً كبيراً على (المجموعة النبهانية) كما يعتمد أهل الحِلات والبوادي على أشعار عامية هي غاية في جودة المعنى، وحسن الأداء، ولها تأثير قوي، يهز المشاعر، ويحرك العواطف، وأشهر هذه المجموعات (ديوان أبى شِريعة)، ولهذا الديوان ميزة أخرى، ذلك أنه وثيقة هامة لمن يريد أن يدرس اللهجات العامية في السودان، ونصيحتي لكل من يريد أن يعالج هذا البحث أن يدرس هذا الديوان، وأن يدرس (طبقات ود ضيف الله) فإن فيهما غناء أي غناء في هذه الناحية.
ولا يفوتني أن أذكر أن المداحين المحدثين قد أخذوا ينحرفون عن إنشاد المدائح النبوية، ولكنهم لم ينحرفوا كثيراً، فهم يتغنون بالقصائد التي تتصل بالعروبة والإسلام، كأندلسية شوقي، ورثاء حافظ للشيخ محمد عبده، ووقفة على طلل لغنيم، وإن كنت سمعت في أيام العيد مدحاً يتغنى بقصيدة المتنبي (من للجآزر في زي الرعابيب). وقد - والله - أجاد، لكنه سأني جداً حين طلبت إليه أن يسمعنا مدحة نبوية، فقال إنه لا يحفظ من هذا النوع شيئاً.
ذكرت هذا كله لأمهد به للحديث عن غرض من أغراض الشعر في السودان، هو غرض غالب ذائع، ذلك هو المدائح النبوية، وإذا كنت في مقالي السابق قد وصفت الشعراء بالتقليد للشعر القديم، فإني أقرر هنا أنهم أصلاء في هذا الغرض، وإن كل ما قالوه من شعر فيه، فهو استجابة لعواطفهم الدينية، واستجابة لبيئاتهم التي أسلفت الحديث عن مظاهر تدينها، ولم أقرأ لشاعر هنا لم يجعل أكثر شعره في المدائح، وإن منها لشعراء نظموا دواوين كاملة في هذا الغرض كديوان (روض الصفا في مدح المصطفى) للعالم الكبير الشيخ أبي القاسم.
ولم يفت الشعراء أن يتحدثون عن تدينهم، واعتصامهم بالله، وبعدهم عن طرق الغواية والهوى، وحبهم في مديح الرسول، وارتياحهم له، ويقول الشيخ الطيب أحمد هاشم:
إن سار غيري للهوان وللهوى ... فإلى العلا والمكرمات أسير
أو سامر الناس الحسان جهالة ... فسميري القرآن والتفسير
ويقول الشيخ علي الشامي:
إن طال ليلي فطول الليل يؤنسني ... إن كان غيري طول الليل يضجره
فإن لي في ظلام الليل مأثرة ... هي الصلاة إلى المولى فتقصره
ويقول الشيخ مجذوب جلال الدين:
إني لمن معشر كانت شمائلهم ... محبة المصطفى في السر والعلن
يلين قلبي لذكراه إذا تليت ... ويقشعر إذا ما رتلت بدني
كما لم يفتهم أن يتحدثوا عن زهدهم في الدنيا، ورضاهم فيها بالقليل، وحثهم الناس على القناعة، والبعد عن سفاسف الأمور وصغائرها؛ وهذا شاعر قديم عاش في السودان منذ قرنين من الزمن هو الشيخ فرح تكتوك، وقول صاحب (شعراء السودان) في ترجمته: (هو ولي صالح، وشيخ من الشيوخ التقاة وشاعر من كبار الشعراء، له من صفاء سيرته وسريرته ما يشهد بصلاحه وتقواه، وهو من قبيلة عرب البطاحين المشهورة في السودان، له في الحكم آيات بينات، وقصائده كلها في الوعظ والإرشاد، قلما ينظم في موضوع آخر إلا ما دعت إليه الضرورة). ومن شعره:
يا واقفاً عند أبواب السلاطين ... ارفق بنفسك من هم وتحزين
إن كنت تطلب عزاً لا فناء له ... فلا تقف عند أبواب السلاطين
واعلم بأن الذي ترجو شفاعته ... من البرية مسكين ابن مسكين
خل الملوك بدنياهم وما جمعوا ... وقم بدينك من فرض ومسنون
واستغن بالله عن دنيا الملوك كما ... استغنى الملوك بدنياهم عن الدين
مالي أذل لمخلوق وأسأله ... ولو سألت الذي أعطاه يعطيني
فلقمة من طعام البر تشبعني ... وجرعة من قليل الماء ترويني
وقطعة من قليل الثوب تسترني ... إن مت تكفنني أو عشت تكسوني
وقد تناولت حياة الرسول ﷺ، وأكثر القصص التي ذكرت في السير، كما تناولت تمجيده وتمجيد أصحابه رضوان الله عليهم، وتتزاحم علينا الأشعار حين نريد أن نختار منها فلنكتف بقليل من كثير.
تناول الشاعران عبد الله حسن الكردي، وجلال مجذوب قصيدة الإمام البرعي التي مطلعها: خل الغرام لصب دمعه دمه ... حيران توجده الذكرى وتعدمه
فخمساها تخميسين أعجباني غاية الإعجاب، وبهذه المناسبة أقول أن التخميس والتشطير من الأمور الشائعة في الشعر السوداني، فمن تخميس الشيخ المجذوب:
يا من تطاول في وصل تنعمه ... ونام ملء جفون العين نومه
أهنأ فما أنت صب القلب مغرمة ... (خل الغرام لصب دمعه دمه
حيران توجده الذكرى وتعدمه)
شتان بين سمير الليل ساهرة ... ونائم غط من بدء لآخره
أتعذل الصب يشكو بُعد هاجرة ... (عذلته حين لم تنظر بناظرة
ولا علمت الذي في الحب يعلمه)
وينتهي من هذا الغزل إلى المديح فيقول:
لا تستوي في الهدى الأنوار والظلم ... ولا السميع كمن في أذنه صمم
أتاهم المجتبي شمساً وعنه عموا ... (حال السها غير حال البدر لو علموا
بل أهل مكة في طغيانهم عمهوا)
يا ضيعة العمر يا عظمى خسارته ... إن لم أشد رحالي نحو دارته
يا كل موصي وفيُّ في سفارته ... كم أستنيب رفاقي في زيارته
عنى، وما كل صب القلب مغرمُه)
ويقول الكردي:
أهوى النبي وأرجو من كرامته ... خيراً، وأطمع في عقبى شفاعته
ومن صبابة قلبي في مقامته ... (كم أستنيب رفاقي في زيارته
عني، وما كل صب القلب مغرمة)
ويتصل بهذه المدائح شعر كثير في ذكرى المولد النبوي، وفي ذكرى الهجرة، وفي ذكرى غزوة بدر، وفي المناسبات الإسلامية المختلفة، وليس أدل على سيادة هذا الغرض وقوته، من أن شعراء غير مسلمين يقولون في الأغراض الإسلامية، ومن ذلك قصيدة الشاعر صالح أفندي بطرس في الحث على العناية بجامع أم درمان، ومنها:
يا مسجداً مطلت بنوه بعهده ... حتى غدى وهو الحسير المعدم
بدأوك جوداً بالصنيع وأحجموا ... ما كان أولى أن ذاك يتمم
بيننا تشيد إذ وقفت كأنك الط - لل المحيل عفاه هام مرهم
أترى المساجد في القديم تشاد في ... أبهى الشكول فمذهب ومرخم
وتراك تعجزهم بأن تبني بآ - جر وتسقف (بالعروق) وتردم
*****
-3-
قلت في مقالي السابق إن التدين ظاهرة واضحة كل الوضوح في الشعب السوداني، وأن الشعراء قد استجابوا لهذه البيئة المتدنية فكانت صورتها فيما نظموا من شعر.
ولكن لا يمكن أن تخلو جماعة من الجماعات البشرية من الطيب والخبيث، والفث والسمين، وفي الشعب السوداني كما في كل شعب نقائص ومثالب دينية واجتماعية، فهل استجاب الشعراء أيضاً لهذا المظهر؟ وهل صوروا العيوب التي تقع عليها أعينهم كما صوروا المحاسن؟
نستطيع أن نلتمس الجواب فيما كتبه الشاعر حمزة الملك في مقدمة ديوانه (الطبيعة) قال: (إننا نجهل أنفسنا فلا أستبعد ألا يرضى بعضنا عن بعض أوصاف صادقة لبعض الأفراد والجماعات وفي هذا كل الخطر.
نحن مرضى، ولا خطر علينا من تشخيص الداء، ووصف للحصول على الشفاء، إنما الخطر كل الخطر في المكابرة والإدعاء، والزعم بأننا أصحاء أشداء. وإنه لمن أجدى الأمور لنا أن نعرف أنفسنا كما هي فنصلح ما فيها من عيوب، وهي وأن كانت عيوباً تمت إلى أسباب بعضها طبيعي، وبعض طارئ استوجبه اضطراب أحوال البلد في السنين الماضية، فإنها كالأمراض التي لا يستعصي علاجها.
ومع ذلك فإنني لا أنسى إن أذكر لهذه المناسبة اننا من أكثر الشعوب تهيؤاً للإصلاح بعد الهنود).
فهو - إذن - يرى عيوباً، وهو يعتقد أن من الصالح له ولقومه أن ينبه على هذه العيوب، وأن يصورها، ويدعو قومه إلى مجافاتها؛ وهو يشعرنا في كلمته بأنه يعتذر عن هذا الذي أقدم عليه من ذكر هذه النفائض، فلا شك أنه كان يشعر بحكم الوسط الذي يعيش فيه - بأنه من غير اللائق أن يتحدث الشاعر عن رذائل قومه، ولكنه يرى الشعر رسول الإصلاح، ويرى الشاعر طبيباً اجتماعياً من واجبه أن يقف من المجتمع - ولا سيما المجتمع المتدين - موقف الناصح الأمين. غير أننا لا نجد الشاعر نفسه عالج بشعره شيئاً مما تراه عيناه، ونجد من الشعراء الآخرين إجفالا عن الخوض في مثل هذا الحديث. نعم نرى من الشعراء من يصيح بقومه أن الدين قد وهى سلكه، وأنتثر عقده، وضعف سلطانه على النفوس، كأن يقول الشاعر الشيخ عبد الله عبد الرحمن صاحب ديوان (الفجر الصادق):
بعدنا عن الدين الحنيف وهديه ... فيا ويلنا إن دام هذا التباعد
أو يقول:
من أين يرجى للبلاد تقدم ... والدين لم ترفع له أعلام
أو يقول:
خذوا بيد الفضيلة وانشروها ... فإن من المعرة أن تهونا
وهنا قد يبدو سؤال لا بد منه، فإننا ذكرنا في مقالنا السابق أن من أظهر صفات السودانيين التدين، فكيف يتفق هذا مع ما يردده شعراؤهم في الحين بعد الحين من الشكوى المريرة والرثاء للفضيلة والبكاء على الدين؟
وليس من الصعب الجواب عن مثل هذا التساؤل، فإننا إذا قسنا حياة الناس اليوم بما كان عليه الشعب السوداني منذ خمسين سنة لوجدنا البون شاسعاً، والفرق بعيداً، فقد كانت أجواء السودان معطرة بأنفاس الزهاد والصالحين، وكانت لهم السطوة الروحية، والهيبة الدينية؛ أما الآن فإذا وجدنا فإنما نجد أفراداً يعدون على الأصابع، فإذا أضفنا إلى هذا أن بعض وسائل المدينة قد دخلت السودان، وأن المحافظين غير راضين عن هذه الوسائل، فالسينما والقهوة، وتعليم البنت، والألعاب الرياضية الكثيرة، كل هذه مما يرى فيه المتدينون المحافظون إبعاداً عن الدين، مع الفوارق - بطبيعة الحال - بين هذه المبعدات.
يبدو أن تعليم الفتاة في السودان كان يلقى جدلا طويلا عريضاً، وأن كثرة كاثرة كانت ترى فيه هدما للدين، فجعلت تجاربه، وتبدى مخاوفها من السفور المنتظر، وأن قوماً كانوا يؤيدون فكرة تعليم الفتاة. وأنا وإن لم أجد صورة واضحة في الشعر لهذا الجدل ألا إني قرأت هذه الأبيات للشاعر الشيخ حسيب علي حسيب في قصيدة عنوانها (دعوها) يقول فيها:
دعو في خدرها ذات الدلال ... فقد أرهقتموها بالجدال
تذوب وقد تناظرتم حياء ... بفحش اللفظ أو هجر المقال
ويعلو خدها خفر ينادي ... ألا ما للنساء من الرجال
أحبا في مناجاة الغواني ... ترى أم ذاك زهد في المعالي
عجبت لحلمهم في كل خطب ... وإن ذكر البنات دعوا نزال
وتأخذ الموالد صورتها المعروفة في كل قطر من الأقطار الإسلامية، ويعيا الوعاظ والمصلحون برد القائمين بها عن هذه المخازي التي تكون فيها، فلا نعدم الشاعر السودان الذي يدلي بدلوه في هذا المضمار، فهذا الشاعر محمد القرشي يقول:
أرى بدعا تشيب لها النواصي ... إذا ما جاء ميلاد الرسول
ويتحدث عن مظاهر الاحتفال بهذا المولد من رايات وطبول وأنوار كثيرة، ثم يتحدث عن ساحات اللهو ويمضي فيذكر (ربات القلائد والحجول) ثم يقول:
تجر ذيولها متبرجات ... لتفتك بالتبرج والذيول
بمجتمع القمار مقامرات ... مع الشبان في الجمع الوبيل
مسار للظباء خرجن فيها ... مراسح للخلاعة والخمول
ثم يستطرد في وصف تمسك عنه حتى يقول:
مصائب في بني الإسلام حلت ... وفاجعة تجل عن المثيل
وحديث الشعراء السودانيين عن النفاق مستفيض، والنفاق - في ظني - أبعد الصفات عن الخلق السوداني الذي طبع على الصراحة والشجاعة، ولكن هكذا يقول الشعراء.
وأكثر ما اشكو النفاق فإننا ... لبسناه من دون النفوس ثياباً
تأصل وأستشرى وأمعن مفسداً ... ورد البيوت العامرات خراباً
وأنشب في روح الشباب مخالباً ... وأعمل في روح الشيبة نابا
ويقول الشاعر حمزة الملك:
أمة في غيها غارقة ... بعد أن جرعها الله الشقاء
قسمت أعمالها بين هوى ... ونفاق وخمول وإدعاء
تلك أدواء دهت أخطارها ... أمم الشرق سواء بسواء
ضاع شرع الله فيما بينهم ... مثلما ضاع وفاء وإخاء
أما أنا فأزعم أن هذا الشاعر كان ثائراً حين نظم قصيدته (الدويم) فطاش من يده القلم فقال ما قال مما يعف كاتب عن ذكره: ويحدثنا الشاعر الكبير الشيخ محمد سعيد العباسي عن بعض العيوب التي يراها:
وكائن رأينا من أخ قل خيره ... بطئ عن الجلى كأن به سقما
ضعيف كليل الفهم أكبر همه ... وأكثره ألا يجوع ولا يظما
وإن خف قوم للمعالي رأيته ... يجوس خلال الدور للشادن الألمي
وقد عابني من لا يقوم بمشهدي ... وليس له مثلي الغداة حمى يحمي
وجاء بأموال التعاويذ والرقي ... وأشياء أخرى لا أرى ذكرها حزماً
ونكتفي بهذا القدر في هذه الغرض، وموعدنا بالحديث عن الشعر الاجتماعي، والشعر الغزلي، والشعر الفكاهي، والحديث عن شعر المدرسة الحديثة، أحاديث تالية إن شاء الله.
*****
- 4 -
لم يعد للشعر في العصر الحديث ما كان له في العصور القديمة من سيطرة وقوة وإيحاء، ولم يصبح - كما كان - مرآة صادقة تظهر فيها حياة الأمم، وتخلد فيها مآثرها ومثالبها، ولئن كنا نستطيع أن نستخرج من الشعر الجاهلي - مثلا - صورة صادقة لحياة العرب في باديتهم فترى فيها مضارب خيامهم، ومعامع حروبهم، وأسراب ظبائهم ونسائهم ونعمهم وشائهم تضطرب في صحرائهم إلى غير ذلك مما حفلت به حياتهم، واصطبغت به معيشتهم، لئن كان ذلك في مقدورنا فإننا لا نستطيع أن ندعي أن أمة من الأمم الحديثة كان شعرها (ديوان حياتها)، ولذلك أسباب كثيرة تختلف باختلاف الأمم.
ولا شك أن من الأسباب القوية في هذا الشأن قصور الشعراء وتقصيرهم، وإن كان ذلك لا يرضي بعض المدارس الحديثة التي ترى أن الشاعر لم يخلق ليكون حاكيا لأحوال المجتمع، وإنما خلق ليرسم للناس صورة نفسه، فالشاعر الذي يودع شعره الأحداث السياسية والاجتماعية ليس بشاعر، إذ أ، الشاعر لم يخلق ليكون واعظا أو مرشدا للجماعات، وإنما خلق - زعموا - للفن وحده، وليرسم نفسه بهذا الفن البديع، فيتحدث عن أفراحهم وآلامها، وعن عواطفها ورغباتها، وقد كان لهذا المذهب أثره القوي في ناشئة الشعراء، فرأينا هم لا يكادون يتعدون دائرة خواطرهم الضيقة، بل ذهبوا إلى ابعد من ذلك فزوروا على أنفسهم، فأخذوا ينوحون وهم يضحكون ويشببون تشبيبا عذريا وهم في اللذات غارقون، وهكذا أرادوا أن يصدقوا فكذبوا، وهربوا من تصوير حياة الجماعة فصورا أنفسهم مشوهة!
لهذا ولأسباب أخر فقد الشعر مكانته، ولم يستطع أن يكون سجلا لحياة الجماعة، نستطيع أن نقول هذا في الشعر المصري، ونستطيع أن نقوله في الشعر العراقي، وتستطيع أن تقوله في شعراء الشام والحجاز، ونستطيع أن نقوله في الشعر السوداني، وإن كان هروب الشعراء السودانيين من حياة المجتمع أوضح، وربما اعتذر الشعراء الذين عاشوا في أوائل هذا القرن عن تخلفهم يقول الشاعر.
قلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت، ولكن الرماح أجرت
ولكن ما عذر هؤلاء الشعراء الذين رأوا رماح قومهم تنطق الأخرس، حتى هذه الرماح التي أجرت كان على الشعراء أن يبكوها، وان يستنهضوها، كما يقول أحدهم.
أنظر إلى السودان إن ... به شباباً ناهضين
قعد الزمان بهم وما ... هم بالشباب القاعدين
غير أن الذي يعزونا أن الشعر العامي لا يزال يحتفظ بقوته في هذا المعنى، فلو هيئ لباحث أن يدرس الشعر العامي وأن يتبيناتجاهاته لظفر بشيء كثير من صور الحياة التي يحياها هؤلاء. ولقد اطلعت على شئ من شعر السودان العامي فرأيت فيه تصويرا دقيقا لبعض ما يكتف القوم، وخيل إلي أني لو استطعت أن أظفر بمجموعةمن هذا الشعر لتمكنت أنأنقل عنها كل مظاهر الحياة في الريف السوداني.
أما الشعر المعرب فالبون شاسع بينه وبين ما تضطرب به الحياة من شتى المظاهر والاتجاهات ولا سيما في أوائل هذا القرن، فإن الشعراء الذين عاشوا منذ ثلاثين سنة حصروا أنفسهم في دائرة ضيقة جدا أكثرها احتذاء للشعر القديم في في أغراضه، ولكن حين تقدم الزمن، وبدت مظاهر النهضة تأخذ طريقها إلى الحياة، وكانت بقية من هؤلاء الشعراء لا تزال تنعم بنسائم السودان البليلة الرخية، وتشرب من ماء النيل العظيم، لم تجد هذه البقية بدا من أن تشارك ناشئة الشعراء في الحديث عن هذه المظاهر، وإن بقيت من ناحية الأسلوب والمعنى وكثير من الأغراض متشبثة بأذيال القديم. والدارس يلاحظ أن هؤلاء الشعراء كانوا يصلون إلى هذه الأغراض بطريقة ملتوية، فكانوا يتخذون المناسبات الدينية والمدائح النبوية سلما إلى ما يريدون، فينفسون بذلك عن بعض الرغبات المكبوتة في نفوسهم، وإن بقيت أقلامهم مجفلة عن تصوير المجتمع، بل منهم من كان يرى أنه من غير اللائق أن يتحدث الشاعر عن مثالب قومه، ثم تقدم الزمن خطوة أخرى فرأينا الشعراء يدخلون المجتمع من باب أوسع فيتنا لونه من نواح كثيرة، أرهفوا آذانهم، وفتحوا أعينهم، لما يحدث أمامهم من خير وشر، فصوروا بعضا وأمسكوا عن بعض وكان للتعليم نصيب كبير من عنايتهم، فلا تفتح مدرسة، ولا يتخرج فوج جديد من كلية حديثة، ولا تنشأ فرقة تمثيل إلا قالوا، وهنأوا البلاد، وتمنوا لها الخير والتقدم، كما كان للغة العربية قدر وفير من اهتمامهم، وكذلك ألمحوا إلماحات خفيفة إلى بعض ما يسطر على العقول من خرافات. وهنا اعتب على شعراء الأمصار عتبا شديداً. وأرى أنهم أغضوا عن تقاليد غير طيبة كان يجب أن يحاربوها كما حاربتها الحكومة، وكما حاربتها الأذواق السليمة، وأهمس في أذن الشاعر الصالح الشيخ عبد الله عبد الرحمن الذي يقول:
سأبلغ جهدي في القصائد حرة ... على أن الشعر في الشعب ضائع
فروض أؤديها وشكوى أبثها ... وما أنا ذو بأس وما أنا طامع
والذي يقول:
خذوها بني أمي قوافي عاتب ... عليكم بها (لا عن جفاء ولا صد)
فواق ألقاها من الوحي صادقاً ... وأرسلها من حيث تجدي ولا تجدي
أهمس في أذنه كيف فاته أن يؤدى فروض الشعر في هذه التقاليد، وكيف لم يرسلها دون أن ينظر أتجدي أولا تجدي؟ وأين جهده الذي بلغه في هذا الذي أشير إليه؟ كما بلغ جهده في نواح أخرى كثيرة.
أليس بعجيب أن يقف الشعراء على الشاطئ، ويجفلوا عن الخوض في آمر هي القذى في الأعين، والشجي في الحلوق.
بعد هذا نريد أن نستخرج بعض مظاهر للمجتمع السوداني من دواوين الشعراء، وأنا أحصر طرفي هنا في ديوانين اثنين، وبعض مقطوعات أخرى، وأنا مضطر لهذا، فن جهة لم يهيأ بي أن أحصل على كل الدواوين التي خرجت، والشعراء لم يساعدوني بإرسال شئ من أشعارهم منذ بدأت اكتب هذا البحث؛ ومن جهة أخرى لم أجد فيما اطلعت عليه من شعر ما يعينني في هذه الناحية إلا هذان الديوانان، فالأول ديوان (الطبيعة) للشاعر حمزة الملك، فإن فيه صورا صادقة، من ذلك صورة (الحاوي) وقد التفت حوله الناس فخدع أبصارهم، بل خدع الشاعر نفسه حيث يقول:
قد رأيت المحال رأى عيان ... ليس في حاجة إلى برهان
رجل كالرجال جاء بما يع ... جز عن فعله بنو الإنسان
بأمر الماء بالوقوف فينص ... اع، وإن شاء لج في الجريان
بضع الشيء في يديك فتل ... قاه على الرغم منك في يد ثان
وبعد أن يعدد ألاعيب أخرى من فعل الحاوي، وهي كلها غريبة عجيبة يقول:
هذر ما نراه أم هو جد=ومن الناس أم من الشيطان؟
زعموا أنه الخداع ولكن=كيف في الشيء تخدع العينان؟
ثم ينتقل بعد كل هذا طفرة واحدة، فيسوق إليك حجة على أن للكون إلها فيقول:
أيها الملحدون هذى أمور ... من صنيع الجهال والغلمان
عللوها فإن قدرتم فقولوا ... إنه لا إله للأكوان
ونترك هذه الصورة لنأخذ صورة أخرى حيرت الشاعر أيضا، لعبث لبله، وانتهى أمره فيها إلى أن يبقى في حيرته، تلك هي صورة صاحبة (الودع)، (فأم عباس) قد أنبأته بالغيب وقد وقع ما أنبأته به، وقد كان ينكر عليها أن تعرف شيئا من عالم المستقبل، فراهنها، ونذر لها نذراً، ولكنها فازت بالرهان، واستحقت النذر، غير أن للشاعر عقلا لا يخضع لهذه الترهات، وهكذا يحار بين عقله، وبين الواقع الملموس:
أرت أم عباس أعجوبة ... تضل كبير الحجى (بالودع)
وما أم عباس إلا عجـ ... وز تقي بها نزعة للورع
تجادل أن أنا جادلتها ... كمن هو في فنه قد برع
وتحلف أن لم أنل ما ترى ... فليست تعود (لحط الودع)
فواعجبي كيف نبأتها ... وُديعتها بأمور تقع
وواعجبي كيف في عصرنا ... تصح الخرافات في المجتمع
وإن كنت صدقتها ما ادعت ... هـ فما أنا إلا لعقلي تبع
أمور أرى بعض أسراره ... ن صدقاً به من رآه اقتنع
أصدق منها صحيحاتها ... وليست تجوز على الخدع
ولكن من الحمق أن نترك الل ... باب مشايعة للبدع
وهكذا لا يصل الشاعر إلى قول فصل في هذا الموضوع، فيقي في ظلام دامس يخبط يمنة ويسرة، ولا يهتدي.
ويتحدث هذا الشاعر عن نماذج بشربة رآها في حياته، فمن فتى كالذئب باسم السن يظهر الإخلاص ويسر الغدر، ومن شيخ شاب في اللؤم، وحرم زوجه بألف طلاق ولكنه لا يزال يعاشرها، ومن رجل يظهر في زي النساء ويفخر بالقوم الرشيق، والخد الأسيل، ومن دعي موغل في كبره، يدعي الجود وهو سليل بيت البخل والشح، ومن جاهل يدعي العلم، وما هو إلا ببغاء تهرف بما لا تعرف، ثم ينتهي به المطاف إلى أن يقول:
فخر كل منهم أن له ... ألف وجه بين صبح ومساء
وفي قصائد (سافرة) و (لقيط) و (سأم قاتل) و (زميل) صور ناطقة في المجتمع.
أما الديوان الآخر فهو (الفجر الصادق) للشيخ عبد الله عبد الرحمن، والحق أن صاحب هذا الديوان من المخضرمين فهو يأخذ خير ما في المدرسة القديمة، ويتناول أشياء كثيرة من المدرسة الحديثة، وفي هذا الديوان مجتمع سوداني، وأهم ما يأخذ القارئ في هذا الديوان أمران.
عنايته بالتعليم، وهذا الموضوع قد استغرق جزءاً كبيراً منه، فيتحدث عن المدرسة الأهلية، وعن مدرسة الأصفاد، وعن كلية غردون، وعن تكريم البعثات العلمية، وعن يوم التعليم، إلى أشياء كثيرة من هذه الموضوعات.
ونستطيع أن تقول أنه يندر أن يفلت من بين يديه أمر يتعلق بالتعليم دون أن يقول فيه، ومن شعره في كلية غردون.
لها علينا وإن ضنت بموعود ... قديم عهد وحق غير مجحود
كم خرَّجت من فتى حلو شمائله ... مشمر الساق في الأتراب محسود
كأنما الجهل طوقان يحيط بنا ... وهي السفينة قد أوفت على الجودي
يا معهدا طاب ماضيه وحاضره ... لا كان ربعك يوما غير معهود
لا أنت في واجب السودان وانية ... ولا مقامك فيها غير محمود
قالوا وفود على أبوابك ازدحمت ... وهل سمعت بعذب غير مورود
وعناية باللغة العربية، وشعراء السودان يولون هذه الناحية نصيبا من جهودهم، ولكن الشيخ عبد الله صريح كل الصراحة حين يتناول هذا الموضوع. قرأت قصيدة طويلة للشيخ عبد الله البنا عنوانها (دمعة على اللغة العربية) بكى فيها حاضرها وأشاد بماضيها، وللشيخ عبد الله أبيات كثيرة، يسوقها كلما سنحت له الفرصة، يقول في قصيدة نبوية:
بنى وطني أن قمت للضاد داعياً ... فإني أدعو للتي هي أقوم
أرى الضاد في السودان أمست غريبة ... وابتاؤها أمست لها تتجهم
تولت وما دمع عليها بفائض ... وما أحد منهم لها يتألم
ونبئت بالسودان قوما تآمروا ... على اللغة الفصحى أساءوا وأجرموا
ويقول مخاطبا قومه وعشيرته بعد أن أشاد بجهود مؤتمر الخريجين في التعليم.
بنى عمنا لبوا النداء فحسبكم ... تنازع مأموم بها وأمام
فلستم بأحياء ولستم أعزة ... إذا الضاد لم يؤذن لها بقيام
وعلى ذكر الخلاف نقول إن صاحب الديوان قد أشار إليه غير مرة، ودعا إلى اتحاد الكلمة، ومن كلماته الرقيقة في ذلك:
أفي الدار مصغ للحديث فسامع ... أم الدارقد سدت عليها المسامع؟
توهمت آيات لها فعرقتها ... لستة أعوام وذا العام سابع
وطوفت استبكي عيون قصائدي ... عليها، وقد تبكي القصيد الفجائع
مشى بين أهليها الخلاف فأصبحوا ... تصدهمو عن كل خير موانع
أرى النار شبت في نواح كثيرة ... ولم ينج متبوع ولم ينج تابع
إذا القوم لجوا في الغواية كلهم ... فقبح مدفوع وقبح دافع
ولا نختم هذا الحديث حتى نشير إلى هذه الصورة التي رسمها الشاعر الشيخ حسيب علي حسيب، وهي صورة طالما رأيناها وألمنا لها:
عجباً أرى المقدام أصبح مذنباً ... يقصى وذا الوجهين أضحى مكرما
إني عرفت الدهر حتى خلتني ... إياه فاسمع سائلي ثم احكما
إن شئت أن تحيا سعيداً بينهم ... كن تابعا ما يشتهون معظما
حتى إذا قالوا الظلام أجننا ... والشمس مشرقة، فقل ما أظلما
وهذا شارع يئس من المجتمع، ونظر إليه نظرة كلها حسرة. وألم، وما له لا يفعل وهو الذي يقول، وتقول معه؟
ماذا أعاتب يا زمان وأتقي ... أهلي أم الأيام أم حسادي؟
ويقول عن قلبه:
ألف الهموم برغمه وألفنه ... فغدا بواد والسرور بوادي ويقول عن أقاربه:
هم مزقوا عرضي لغير جريرة ... وقضوا علي بأن يطول سهادي
يسمعون في خفضي وأطلب رفعهم ... شتان بين مرادهم ومرادي
****
- 5 -
على الرغم من وجود عدد غير قليل من الشعراء في السودان، فإن منزلة الشعر غير مرموقة، ورايته غير مرفوعة، وما زال كثير من الناس - حتى بعض المتعلمين - ينظرون إلى الشعر نظرهم إلى شيء ليس بذي بال، وقد كان الظن غير ذلك، فإن علماء السودان الأعلام قد احسنوا إحساناً محموداً حين نزلوا إلى ميدان الشعر، وهم أهل التقوى، وأهل الورع، فقالوه، وتناشدوه، ونشروه على الناس. وحسبنا أن نعلم أن من كبار العلماء أمثال الشيخ أبي القاسم، والشيخ الضرير، والشيخ البنا الكبير، قد قالوا شعراً في النسيب، ومن هذا النسيب نسيب رقيق عذب، ربما كان يظن الجاهلون أنه مما لا يليق بمكانة العلماء. ولقد سرني أن رأيت عالماً فاضلاً هو شيخ علماء السودان الأسبق الشيخ أبو القاسم هاشم يقول نسيباً مستقلاً، على قلة استقلال هذا الغرض في شعر العلماء.
ولقد أحسن الأستاذ الفاضل سعد ميخائيل واضع كتاب شعراء السودان حين قال عن هذا العالم الجليل (ترى صورته وما عليه من برد الجلال والوقار فتظنه فقيهاً سيسمعك الشعر بروح الفقهاء، بينما هو يحمل بين جنبيه مع التقوى والنزاهة قلباً رقيق الحاشية) نعم إن أكثر شعره في المدائح النبوية، ولكن تشبيبه لا يصدر إلا عن نفس ذات أريحية وهزة. والحق أن التزمت ليس من صفات العلماء الفاقهين لحقيقة العلم، وإنما هو حلة أنصاف العلماء. قال الأصمعي: أنشدت محمد بن عمران قاضي المدينة، وكان من أعقل من رأيت:
يأيها السائل عن منزلي ... نزلت في الخان على نفسي
يعدو على الخبز من خابز ... لا يقبل الرهن ولا ينسي
آكل من كيسي ومن كسرتي ... حتى لقد أوجعني ضرسي
فقال: أكتب لي هذه الأبيات، فقلت أصلحك الله، هذا لا يشبه مثلك، وإنما يروي مثل هذه الأحداث، فقال: أكتبها،
فالأشراف تعجبهم الملح. هكذا. . . الأشراف تعجبهم الملح، ومن تزمت ومن تزمت فإنما يتزمت على نفسه.
وقيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحداً لا يشتهي النسيب؟ فقال: أما ممن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا.
وقيل لسعيد بن المسيب رضي الله عنه: إن قوماً من أهل العراق لا يرون إنشاد الشعر! فقال: لقد نسكوا أعجمياً! وأنا فقد أعجبني أن أرى في علماء السودان من يخرج عن الأغراض الجافة المتزمتة إلى أغراض أخرى مقبولة طيبة، قرأت للشيخ أبي القاسم قوله:
سلاها فهل قلبي سلاها وهل جرى ... حديث سواها في فمي ولساني
ألا إنني قد ضقت ذرعاً وشفني ... صدود الذي أحببته فجفاني
وقوله:
ما على عشاقها من حرج ... إن حب الحسن في الطبع كمين
وعدتني وصلها فازداد ما ... بي من الشوق إليها والحنين
إلى أشعار أخرى في وصف المحبوبة، والشوق إليها، والحديث عنها، والحنين إلى وصلها والتمتع بها.
وقديماً مرت سكينة بنت الحسين على عروة بن أذينة - وكان على زهده وورعه وكثرة علمه وفهمه رقيق الغزل كثيره - فقالت له: أنت الذي تزعم أنك غير عاشق وأنت تقول:
قالت وأبثثتها وجدي فبحث به ... قد كنت عندي محب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطي هواك وما ألقى على بصري
والله ما خرج هذا من قلب سليم قط. . . فليكن. أليس ابن قتيبة يقول، وهو يتحدث عن الشاعر العربي وابتدائه بالنسيب ليميل نحو القلوب، يعلل ذلك فيقول: لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد يخلو أحد من أن يكون متعلقاً منه بسبب، وضارباً فيه بسهم حلال أو حرام).
ولكن، هل يمكن أن نعتبر النسيب فيشعر المدرسة القديمة التي نتحدث عنها، نسيباً معبراً عما في النفوس، حاكياً عواطفها وأحوال الوجد والصبابة؟
وقد سبق أن أجبت عن مثل هذا السؤال، فقلت: إن هذا النسيب نسيب تقليدي أكثر منه معبراً عن واقع الحياة، ذلك أن الشعراء في ذلك العصر حبسوا أنفسهم في الشعر القديم، وأطلوا على الحياة من نوافذه، فكانوا صورة منه لا من حياتهم، وقلدوه في الغرض والطريقة، وإن كان البون بعيداً في الديباجة والمعاني. ونحن نضع بين يدي القارئ صورة للنسيب تكاد تكون عامة: ليس من البشر من تجافى الهوى قلبه، فإن الهوى كرم في الطبع، يمثله اللفظ الرقيق، والأخلاق الغر، وهو الحياة، والقلب من دونه بلقع من البلاقع لا ماء فيه ولا شجر، أو هو سرحة جرداء لا ظل ولا ثمر، وأما العاذل فهو غليظ القلب، جافي الطبع، والحبيب. . الحبيب كل المحاسن حارت في محاسنه، فما القمر، وما الكثيب، وما غصن البان؟
وهو مهفهف القد، ضامر الخصر، يكاد من ثقل الأرداف ينبتر، ريقه عذب، وثغره مؤثر، عابث بصبه، حانث في وعده، مسدود غدائره، يلج محاجره، دعج نواظره، في طبعه خفر، وهو يصبي الحليم، ويشفي السقيم، وهي الظبي جيداً ومقلة، وخدها الورد، وعيناها السحر.
وهكذا يدور النسيب كله في هذه الدائرة، ولا يخرج عنها إلا القليل. ولكل شاعر حظ منها قل او كثر، وهذه أوصاف قد ألفناها كلها في الشعر القديم، ولئن كنا نقرأها هناك مسوقة في صور بديعة فيها الصنعة والروعة، فإنا نقرأها هنا - في الأعم الأغلب - ساذجة غفلا.
قلت إن النسيب تبتدأ به القصائد، وقل من الشعراء خرج عن هذا التقليد، وأكثر الشعراء من المشايخ وهؤلاء قل أن يقولوا قولاً غزلاً مستقلاً، ومن عجب أن أكثر تخلصهم إلى أغراضهم يكون بإنكار الحب. هذا شاعر يدعي الهوى، بل يقول إنه لا حياة له بدونه:
فتركتني ما أستفيق من الهوى ... ونصيبتي للعاشقين مثالا
وهذا الذي لا يستفيق من الهوى، والذي كان الغانيات أذنه، ويمتع بهن سمعه وبصره، هو الذي يقول:
أماطت لثاماً دونه الشمس زينب ... ولاح لنا منها بنان مخضب
وحيت فأحيتنا ومال بعطفنا ... حديث من الذي أحلى وأعذب
فأصبحت مشغوفاً وملت إلى الصبا ... على أن رأسي يا ابنة القوم أشيب
لعمرك ما هاجت غرامي خريدة ... ولا قادني نحو الغواية مطلب
ولكن وجداً بالفضيلة هاجني ... فجاء بأبياتي هوى ونصيب
عشقت التي تدعى الفضيلة إنما ... يقال لها في مذهب الشعر (زينب)
نعم. وقد يقال لها ليلى، أو مهدد، أو دعد، أو هند، أو ما شاءوا من هذه الأسماء التي هي من الكتابات في مذهب الشعر، ولا وجود لها إلا في ثنايا السطور.
وقد يجيء الشاعر بما لا يصدقه الواقع، فيدلنا بذلك على أن للصناعة في هذا الشعر مكاناً.
نحن نعرف أن المرأة السودانية كهى في صعيد مصر، محجبة متمتعة، دون الوصول إليها أهوال وأهوال، ولكني مع إعجابي بهذه الأبيات وإحساسي بحرارة الحب فيها، أرى أن صاحبها نهج في غير نهجه، وسلك غير الطريق:
أستغفر الله لي شوق يجدده ... ذكر الصبا والمغاني أي تجديد
وتلك فضلة كأس ما دممت له ... طعماً، على كبر برح وتأويد
أرنو لسالف أيام لهوت بها ... مع الأحبة حيناً مورقاً عودي
إن زرت حياً أطافت بي ولائده ... يفدينني، فعل مودود بمودود
وكم برزن إلى لقياي في مرح ... وكم ثنين إلى نجواي من جيد
لو استطعن وهن السافحات دمي ... رشفتني رشف معسول العناقيد
يا دار لهوي على النأي اسلمي وعمى ... ويا لذاذة أيامي بهم عودي
ولهذا الشاعر المبدع الشيخ محمد سعيد العباسي غزل رقيق، بل كل شعره رائع، يقول:
يا بنت عشرين والأيام مقبلة ... ماذا تريدين من موءود خمسين
قد كان لي قبل هذا اليوم فيك هوى ... أطيعه، وحديث ذو أفانين
ولا مني فيك والأشجان زائدة ... قوم، وأحرى بهم ألا يلوموني
أزمان أمرح في برد الشباب على ... مسارح اللهو بين الخرد العين
والعود أخضر، والأيام مشرقة ... وحالة الأنس تغري بي وتغريني
أفديه فاتر ألحاظ وقل له ... أفديه، حين سعى نحوي يضربني
يقول لي وهو يحكي البرق مبتسماً ... يا أنت، يا ذا، وعمداً لا يسميني
أنشأت أسمعه الشكوى ويسمعني ... أدنيه من كبدي الحرى ويدنيني
وفي هذا الشعر تسجيل لتقليد عند إخواننا السودانيين، ذلك أن المرأة - مهما طال عهدها مع زوجها - فإنها لا تدعوه باسمه، فذلك حيث يقول (وعمدا لا يسميني). هذا ما أعرفه عن الزوجة، فهل تستحي العاشقة كذلك أن تدعو صاحبها باسمه؟ العلم عند الحب!!
ومن الشعراء من ينساق مع عاطفته، فيشبب تشبيباً مكشوفاً ويذكر ما نال من المتع مع صاحبته ولكنه يتلفت حواليه فيضطر إلى أن يذر الرماد في العيون، فيؤكد أنه لم يأت ما يسخط المروءة والدين:
كلما استعذب الدعابة مني ... لج في عتبه ليعجم عودي
وإذا اهتاج من حرارة قبلا ... تي، أوما إلي بالتهديد
فإذا ما اندفعت ألثمه أس ... لم لي ثغره الشهي الورود
يتغاضى عن احتكامي في الخص ... ر، ويلتذ عند مس النهود
أليس هذا فعل امرأة صناع في الغزل؟ أليس هو حديث عاشق مدمن؟ ولكنه يسخر من القراء حين يقول:
لا تظنوا بي الظنون فإني ... يعلم الله واقف في حدودي
بخ! بخ! قد عرفنا ... ك فقف حيث شئت!
ولست في الواقع أقضي على الشعر السوداني بالتقليد في النسيب لأن الشعراء خلت قلوبهم من الحب، لا فإن لكل إنسان من الحب نصيباً، كما يقول ابن قتيبة، وإن حب الحسن لكمين في الطباع كما يقول شيخ علمائهم، ولكن شتان بين إنسان يحب حباً هادئاً رزيناً، لا يوحي بشعر، وبين إنسان يلذعه الحب، وتكوى الصبابة قلبه، فيعبر عن ذلك بشعر تحس وأنت تقرأه بأن فيه رائحة كبد تشوى على جمرة الهوى. وعند أكثر هؤلاء الشعراء لم يلق الحب في أشعارهم شيئاً من حرارة الجوى، أو رقة الوصال.
ومما يلفت النظر أنك لا تكاد تجد في هذه الأشعار وصفاً للغادة السودانية، فكل محبوباتهم يخجل البدر منهن، وقد سرق الورد حمرة خدودهن، وربما وجدنا لبعضهم لجة خفيفة. قرأت للشيخ إبراهيم أبو النور، وهو من علماء المعهد العلمي هذه الأبيات:
تخال الوجه منها بدر تم ... وتحسب ثغرها حب الغمام
وقد زادت ملاحتها بشرط ... على الخدين خطط بانتظام
محجبة فلم تبرز لشمس ... ولم تعرف محطات الترام
والذي استوقفني في هذا الشعر أمور، فإنه ذكر الشرط، وهو ما يصنع في أوجه السودانيات من علامات الجمال، ولكل قبيلة من القبائل أشراط معينة، بحيث يمكن معرفة القبيلة بمجرد النظر في الوجه، وهي عادة لا تزال موجودة في كثير من القبائل. وطريقة صنعها أن يؤتى بموسى، فتخط ثلاثة خطوط مستطيلة في كل خد من خدي الطفل، وهذه عامة. وبعض القبائل تضيف إليها شرطاً مستعرضاً أو شرطين، مستقيماً أو مائلاً ويعتدون ذلك من علامات الجمال.
وقد حدثني الشيخ أبو النور هذا - وهو عالم واسع الاطلاع - أنه قرأ في تاريخ عبد القادر الجزائري أنه لما ذهب إلى مكة سئل عن هذه الأشراط، أهي موجودة عند العرب، فأجاب بالإيجاب، وذكر على ذلك شاهداً قول شاعرهم:
رأيت لها شرطاً على الخد حوى ... جمالاً، وقد زاد الملاحة بالقرط
فقلت أريد اللثم قالت بخفية ... فقبلتها ألفاً على ذلك الشرط
ثم قال الشيخ: وتسمى هذه الشروط الشلوخ واللعوط، وهذه الأخيرة من لغة حمير، وأنشد على ذلك قول الشاعر:
وبي حبشية سلبت فؤادي ... فلم يمل الفؤاد إلى سواها
كأن لعوطها طرق ثلاث ... تسير به في النفوس إلى هواها
وعندي أن هذا الشعر أقرب إلى الصدق، من الشعر الذي يصف المحبوبة بأنها بدر السماء، أو زجاجة خمر:
أما الأمر الثاني الذي لفت نظري في شعر هذا الشيخ فقوله: ولم تعرف محطات الترام. وهل محطات الترام هنا كما هي في كثير من البلدان، ملتقى العشاق، ومكان لصيد الظباء الحرام.
وكدت أوقن بأن هذا شعر شاب عصري، لولا أن الشيخ دلني بباقي القصيدة على أنه من العلماء، وحسبك دليلاً على هذا قوله:
فمني بالزكاة على فقير ... ومسكين كثيب مستهام
ولم ينس الشعراء النؤى والأحجار والأطلال، لتتم صورة التقليد للشعر العربي، فهذا شاعر يعيش في عاصمة البلاد يقول:
أما وقد شطت بمهدد دارها ... ولقيت بعد فراقها الأهوالا
فتعال للأطلال نندب ماضياً ... ولى وأياماً مررن عجالا
(وبعد) فإني على أي حال معجب بهذا النسيب سواء كان صدى لنفس مكلومة، أو كان تقليداً للشعر القديم؛ فإنه من حظ الشعر هنا أن يقيض هذا الغزل على ألسنة العلماء، وإنه لكسب للأدب وللشعر، وللتاريخ.
*****
- 6 -
لم يكن غرضي في هذا الأحاديث أن أعسر الحساب مع شعراء المدرسة القديمة، ولا أن أتتبع هفواتهم، وأخطاءهم، وإنما أردت أن أكون مؤرخاً. وهذا هو الهدف الرئيسي لهذه البحوث، فإذا صحب ذلك شيء من النقد فإنما هو استطراد وأستتباع، وليس من الأنصاف أن نغوص في ثنايا هذا الشعر محققين مدققين، وحسبنا أن نقف هذا الموقف (السمح) وأن نلمس هذا الشعر لمساً خفيفاً رفيقاً وأن تبرز صفاته العامة، ونكشف سماته المشتركة، دون أن ندخل في التفاصيل فنحكم لشاعر على شاعر، أو نضع الشعراء في طبقات كما كان يفعل بعض النقاد القدامى، فذلك ما لا أريده، أو بالأحرى ما أعتقد إنه عن غرضي بمنأى، وإنما كان الأنصاف في مسلكي الذي سلكته لأنه يكفينا من هؤلاء الشعراء أنهم قالوا الشعر في تلك الأيام الخوالي بل قالوه في أغراض لم تكن البيئة مهيأة لقبول القول فيها. ولعل بهذه الكلمات أكون قد أجبت ذلك الفاضل الذي كتب إلي (يلومني) على أني أكتب بقلم المؤرخ لا بقلم الناقد وأتجاوز عن أشعار كان الواجب يقتضيني أن أكشف للقراء بهرجها، ثم أمضي إلى الغرض.
في حديثي السابق تحدثت عن شعر النسيب، وذكرت أن كبار العلماء قد خاضوا فيه، وفي حديث اسبق تحدثت عن مكانة المدائح النبوية وكثرتها عند السودانيين، وكان وقع في نفسي حين وجهت النظر إلى كتابة هذا البحث إني سأظفر بقصائد رائعة في الغزل على طريقة (ابن الفارض) فإن جميع الأسباب كانت مهيأة لهذا الغزل الإلهي، فكثير من العلماء الزهاد شعراء، وقد بدت رغباتهم في شعر الغزل. ولشعر ابن الفارض مكانة خاصة عند المتصوفين من هؤلاء العلماء، ولكن شد ما أخذ مني العجب حين لم أجد من هذا النوع شيئاً تطمئن إليه النفس، ولاشك أن خلو الشعر السوداني من هذا النوع - وقد تهيأت أسبابه - أمر يدعو إلى العجب.
ولمكان الدين عند الشعراء لا تجد الهجاء غرضاً ذا بال في أشعارهم، والذين قالوا في هذا الغرض لم يطيلوا فيه، بل ربما ذكر البيت والبيتين ومروا به مروراً سريعاً. ومن الق أن نرى هجاء مستقلاً، وهو - مع ذلك - لا يعدو الطريقة العامة من الرمي بالنفاق والغدر والكبر، وربما رق الهجاء وتبدل ولكنه بعد ليس أليم الوخز، ولا نافذ السهم، يقول الأستاذ صالح عبد القادر يهجو ذليلاً أحدث نعمة فطغى أن رآه استغنى، في قصيدة مطلعها.
لا تفرحنَّ بنعمة ... إن الزمان له انقلاب
وبعد أن وصف الزمان وأنه محكم يرفع الذئاب إلى مرتبة الأسود، وينقل الملك العظيم من سرير الملك إلى أعماق القبر قال:
ولقد رماك الدهر ح ... تى هنت في نظر الكلاب
أنا على ماضيك لم ... نسدل ستاراً أو حجاب
أنسيت نومك في الترا ... ب فصرت تحكم في الرقاب
أنسيت أيام (البلي ... لة) والبسارة والهباب
فغدوت تأكل ما علم ... ت وما جهلت من (الكباب)
جلَّ المهيمن إنه ... يهب الأنام بلا حساب
وإذا وصل بنا القول إلى هذا الشعر الفكاهي فأنا نقول إن الفكاهة ليس لها مكان في البيئات المتدينة، بل إن الشعب السوداني لا يكاد يقبل عليها، وربما كان لذلك أسباب كثيرة غير التدين، ومن الممكن أن نقول إنه ليست هنا فكاهة مستقلة. ولقد دأبت بعض المجلات السودانية على أن تنشر طرائف يتفكه بها القراء فكان اعتمادها على ما ينشر في المجلات المصرية، ونتيجة لهذا قلت الفكاهة في الشعر السوداني، على أنا نلمحها لمحاً في بعض القصائد، فهي لا تكاد تأخذ إليها نظر القارئ ولا فكره. وربما جاءت في أثناء الهجاء، أو في معرض شكوى، أو في رثاء شيء ففقده شاعره، وقد تكون الشكوى مرة عميقة ولكن الشاعر يسوقها في شعر خفيف يظنه القارئ يميل إلى الفكاهة، وما هو إلا الجد في معرض الهزل، يقول الشاعر الشيخ حسيب في (مرتبه).
أمرتبي مالي أراك (م) ... قصرت عن نيل المراد
أشكوك أم أشكو إلي ... ك نوازل المحن الشداد
الشهر باق جله ... وبقاك آذن بالنفاد
أنا إن حييت سأشتري ... حظي بأطراف الحداد أما اليراع فاٍنني ... لم أجن منه سوى الكساد
يا صاحب الدرجات والق ... انون والرأي والسداد
أطلق فداك مرتبي ... بعض القيود لكي يزاد
رفقاً بمن قيدته ... بقيود (ثامنة) شداد
فكأنني وكأنه ... ظمآن آلٍ في وهاد
وكأنني متقلد ... من غير ما سيف نجاد
ولقد أعجبني حقاً هذا التشبيه، تشبيه موظف في الدرجة الثامنة، والحياة عليه قاسية، ومرتبه لا يفي بضروريات عيشه، برجل متقلد نجاداً، ولكن ليس معه السيف، فيخاله الناس صاحب سيف يرد به حوادث الأعداء، فإذا هو أعزل ليس له من السيف إلا حمالته التي لا تدفع عدواً، وهذا يسميه الناس موظفاً، ويرونه يروح ويغدو على عمله، وربما حسدوه، فإذا هجمت عليه عوادي الأيام، وحزبته ضرورات العيش، فتش في جيوبه ليجد ما يردها، ولكنه لا يجد إلا نجاد السيف؛ أما السيف ففي أوهام الناس وخيالاتهم.
وهذه القصيدة في رثاء ساعة فقدها الشاعر فبكاها، وليس لشعراء السودان اتجاه - إلا قليلاً - للقول في الأشياء الصغيرة، وكأنهم لا يرون الشعر إلا ما كان في مدح أو هجاء أو رثاء، ولكن هذا الشاعر تظرف فقال في ساعته:
لي ساعة معروفة ... بالصدق في جنح الظلام
لا البرد يوقفها ولا ... يودي بسرعتها الغمام
اغتالها الدهر الخئ ... ون، وليس سلماً للكرام
لم يغن عنها حصنها ... جيب القباء أو الحزام
أحفيظة الوقت الثم ... ين وخير ساعات الأنام
أصبحت بعدك فوضوي ... اً لا أساس ولا نظام
أبدأ تحث على المض ... ي إلى الأمام إلى الأمام
تفديك ساعات تؤخ ... ر أو تقدم أو (تنام)
أما الجد فهو السمة الغالبة على الشعر السوداني كله، ولا سيما حين يفخر الشاعر أو يصور بعض أحوال قومه، فهذا يقول: أيها الدهر أنا من معشر ... حكموا الرأي وهزوا العلما
فأسال العالم عنا إننا ... أمة كنا وكانوا عدما
من لقومي إنهم قد أهملوا ... ما بنى آباؤهم فانهدما
يا بني قومي أفيقوا أنكم ... ما خلقتم لتعيشوا (غنما)
ليتني أعرف ما أخركم ... سادة كنتم فصرتم خدما
ولقد يحزنني أني أرى ... رأيكم مختلفاً منقسماً
وذاك يقول:
كم وقفة لي أبكيت الجماد بما ... أسمعته وهززت النيل والهرما
حليت عاطل الدهر منه بما ... ود الغواني لو أن جيدها نظماً (كذا)
مضى زمان وقلبي ممتل ألماً ... وفي فؤادي أسى كالنار مضطرما
حزناً على أمة بالنيل نائمة ... تشكو الأوار وأخشى أن تموت ظما
وأما القول في الخمر فهو قليل، وطبعي أن يقل القول في هذا الغرض لسيادة التدين على النفوس، على أنا نجد بعض الشعراء يتغاضى عن عواطف الناس، ويقول فيها ما يحلو له، فهذا عثمان هاشم يجاهر بالقول فيها، مع ما لبيته من مكانة دينية يقول:
أدر الراح علينا باليمين ... تحت ظل الورد بين الياسمين
ضن رب الحان للشرب بها=واصطفاها إذ رآنا قادمين
ملأ الأقداح منها بعدما ... راضها بالمزج من ماء معين
فشربناها غبوقاً في الدجى ... ووصلناها صيوحاً بالأذين
وأنا شديد الإعجاب بهذه الاستعارة الفذة (راضها بالمزج) فأن الخمر - على ما أعرف من قراءاتي - تكون كالفرس الجموح فإذا صب عليها الماء هدأت وسكن بعض سورتها، وكم بين رياضتها بالمزج في قول هذا الشاعر، وبين قتلها بالماء في قول حسان بن ثابت:
إن التي ناولتني فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
كم بينهما من مشابه يعرفها الخبيرين!
هذا وبقى أن نسرج النظر قليلاً في أسلوب هذا الشعر، فنقول إن الطبائع العربية، واللهجات العربية أظهر ما تكون في سكان السودان، وكثير من الكلمات العربية الفصيحة يستعملها العامة كما يستعملها الخاصة، وهنا - كما في كل مكان - ألفاظ خاصة لها حظوة فهي كثيرة الدوران على الألسن، فإذا فتشنا عن هذه الألفاظ لا نجد لها في الشعر أثراً، كما أنا نفقد الألفاظ الجزلة، والأساليب الضخمة، مع أن كثيراً من الشعراء كانت لهم أقدام رواسخ في اللغة والأدب، لكن الشعراء مغرمون بالبديع، وربما تكلفوه تكلفاً، فالجناس والتورية، وحسن الابتداء وحسن التخلص، من مقاصدهم الشعرية، فمن التورية قول أحدهم في صديق له اسمه شوقي:
إن نسوا ردك يا شوقي فما ... أنا إلا حافظ ما جهلوا
وقول الآخر:
ولست بخائف حصراً وعياً ... وشوقي فيه يمليني نشيدي
ومن الخباس قول الشيخ عبد الله عبد الرحمن يخاطب الأستاذ علي بك الجارم حين زار السودان:
أما استعارات البيان فإنها ... عبء ينوء به الشباب ثقالاً
يجرون أميالاً ولا يجرونها ... ويرون في طرقاتها الأوحالا
ها (عرضحالي) يا علي مقدماً ... ما حائل من دون عرضي حالاً
ومن حسن التخلص قول الشيخ محمد عمر البنا:
وليل بت فيه سمير أنس ... قرير العين مشروح الفؤاد
كأن صفاء أنجمه علينا ... أيادي الشهم عثمان الجواد
وللشعراء ولوع بالتاريخ الشعري، وله أمثلة كثيرة في أشعارهم، وقد ينظمون شعراً يمكن قراءته على وجهين ومن ذلك قول الحبر الجليل الشيخ الأمين الضرير من قصيدة نبوية كبيرة:
حمداً لمن أبدى لنا سبحانه ... من أمنا بهداه إذ قد صانه
نسباً صريحاً عن خنى ومكانه ... في القرب لم يدرك رسول ذوثنا
فيمكن جعل هذين البيتين ثلاثة، فتكون نهاية البيت الأول (أمنا) ونهاية البيت الثاني (عن خنى) وهكذا كل القصيدة.
وبعد فقد امتد بنا نفس القول في شعر هؤلاء الشعراء الذين كانوا الهداة الرائدين، وما بلغنا الغاية، ولكنا سنكتفي بما قلناه، لنفرغ لشعر شباب السودان، ونرى إلى أي شوط جروا في نهضتهم الشعرية، ونأمل أن تبلغ من ذلك وطراً، ونستعين الله، وبه التوفيق والسداد.
****
-7-
الطبيعة
كنت كتبت منذ عام أبحاثاً في الشعر السوداني واتجاهاته وطبيعته ثم حالت ظروف دون إتمام هذه البحوث. والآن نستأنف الكتابة في هذا الموضوع، ونبدأ بالحديث عن تصوير الشعر السوداني للطبيعة السودانية.
الأدب طابع الأمة وصورة حياتها، ومظهر عواطفها، واتجاهاتها، وسجل تقليدها وعاداتها، وهو المميز لها (إن صدق) عن كل أمة أخرى غيرها، وتظهر فيه أرضها وسماؤها وجدبها ونماؤها؛ وشرها وخيرها، وحلوها ومرها. ولكثير من الأمم نوع من اللباس أصيل فيها ورثته عن القرون البعيدة، ويعرف في كل أمة باللباس الوطني لها، وتستطيع لأول نظرة إذا كنت خبيراً - أن تدرك وطن اللابس من ملبوسه، وأن تعرف جنسه من زيه، وكذلك الأدب ولا سميا الشعر، إذا استوحى فيه الشعراء بيئاتهم، ولم يقلدوا فيه غيرهم، كان صورة صحيحة لبلادهم، ومميزاً واضحاً لهم، وإذا كنت تجد من الثياب ما يصح لأكثر من واحد من الشعوب فكذلك تجد من الشعر، فأنت تقرأ مثلا قول الشاعر:
ألا ليت الرياح مسخرات ... بحاجتنا تباكر أو تأوب
فتخبرنا الشمال إذا أتتنا ... وتخبر أهلنا عنا الجنوب
فيقع في نفسك، بل تكاد تجزم أن هذا شعر سوداني، أو على الأقل يقوله شاعر يعيش في السودان. مع أن قائله شاعر نجدي
والطبيعة من أخص الأمور التي تصبغ أدب الأمة بصيغتها وتطبعه بطابعها، فليس من الممكن أن يكون الشاعر الذي عاش في صحراء يضرب فيها ممسياً ومصبحاً، وتروعه وحوشها ويلذعه حرها، وينتجع فيها مواطن الماء ومنابت العشب، كالشاعر الذي يعيش على شاطئ بحر أو نهر. يتنسم النسمات العليلة، ويروى من صور الآفاق والأرض والناس ما لا يرى صاحبه، ولن يختلط الشاعران أحدهما بالآخر إلا إذا خرجا عن دائرة الشعر الأصيل إلى دائرة الشعر التقليدية، حق الكلمات ودلالتها لها آثار بعيدة المدى في طبع شعر الأمة بطابعها. فكثير من الشعوب - مثلا - يعتبر الخريف فصل الجدب تتج فيه الأغصان، وتذبل الأزاهير، وتخلو الأرض من النبات، ولذلك يقولون للرجل إذا بلغ أقصى العمر أنه في خريف الحياة، ويقصدون من ذلك أن ما كان فيه من شباب وقوة ذهب ولكن الشاعر السوداني الذي يصدر عن عاطفة منساقة مع شعور قومه ومعبرة عما يختلج في حياتهم من خضب ونماء لا يستطيع أن يعبر عن الخريف إلا أنه شباب الزمن وفصل الحياة والنمو. كما عبرت عنه الشاعرة البدوية السودانية فجعلت فيه (الطبيعة الصامتة) والجمال الحبيب. فهذا السحاب يحثم في الشرق مؤذنا الأرض بعودة شبابها الأخضر. أو هو قد آذنها أمس وقبله، ويؤذنها الليلة بواكف مدرار. وتلك هي دجاجة الوادي ترجع كعادتها في الخريف إلى بيضها تحتضنه لتهب له الحرارة والدفء، ونقيق الضفادع يعلو في المشارع والمناهل، وأولاد الإبل تعدو مسرعات خلف أمهاتها فرحا بالخريف واستبشاراً به) وهذا في الحق تصوير رقيق لمظاهر الخريف ومباهجه التي تسري في الإنسان والحيوان على السواء.
ولسنا نعني من شعر الطبيعة أن يقول الشعراء - فقط - في المناظر الطبيعية التي تتراءى لهم في بلادهم، ولكنا نقصد أن تكون عواطفهم واتجاهاتهم مطبوعة بطابع هذه المناظر فنجد تشبيهاتهم وتخيلاتهم مستمدة من حياتهم؛ ولست تقضي العجب من هذا الشاعر الذي يتنقل بين (دادي هور) و (وادي كتم) و (صحراء العتمور) و (حدائق المقرن) ثم لا يذكر في شعره ألا ألبان والعلم والخيف من منى ووادي العقيق.
والشعر السوداني شعران: شعر الخاصة: والشعر القومي. والنظر الفاحص في شعر الخاصة يهدينا إلى أنه كغيره من شعر الأمم الشرقية مشدود إلى الشعر العربي بأربطة وثيقة ولا تكاد تجد له استقلالاً عنه. وإذا كان الشعر في بعض البلدان تحلل من تقليد الشعر العربي القديم فإنه لا يزال في السودان حفياً به مقتفياً أثره، متتبعاً خطواته، فالشعراء يبدون قصائدهم بالغزل كما كان يفعل القدماء ويقفون على الأطلال والدمن، ويستوقفون الأصحاب كما وقف القدماء واستوقفوا. . . وهكذا
وبطبيعة الحال لا تعدم في هذا الشعر الكثير الشاعر الصادق والشعر المصور فقد يصف الشاعر رحلته على الناقة، كما وصف القدماء، ويقف على الأطلال كما وقفوا، وهو مع ذلك صادق لأنه؛ مر بهذه التجارب الشعورية، وعاش فيها حيناً من الزمن فهذا الشاعر السوداني حين رحل إلى وادي هور (وهو أسم واد غرب السودان، وحوله من الآثار ما يدل على أنه كان مثوى حضارة قديمة) رحل على ناقة لقي معها من عنت السفر أو مشقة الطريق ما لقي ولا شك أنه حين وقف على هذه الآثار فاضت عبراته. وتدفق شعوره، فصور ما وقع له، لم يقلد فيه غيره، ولم يصدر عن غير عاطفة، وهذا ما عرفناه من تاريخ حياته قال يذكر حبيبه:
لم أنسه إذ زارني ... منه خيال ما أستقر
زار الرحال وبيننا ... سير على البيد عسر
إيجاف شهر للمطى ... تخوض في كثب عفر
وسرى ليال لم تذق ... طعم الكرى حتى السحر
سبحان ربي أمين وا ... دي النيل من دادي هور
وادي الجحاجحة الالي ... عمروه في خالي العصر
وعواصم القلوم الذ ... ين بذكرهم تحلو السير
زرت الربوع فخانني ... صبري لذكرى من غبر
ما كان لي كبدا لسلو ... ولا فؤاد من حجر
بخل الجفون على ثرى الغا ... دين من إحدى الكبر
وهذا الشاعر معرم بوصف بلاده، وقد قال في كثير منها، وأشبه شعره بالشعر العربي قصيدته في (مليط) وهي مركز من مراكز درافور؛ ولا نتهمه في شعوره بل إننا نقول أنه مع هذا النهج القديم صادق الشعور.
حياك مليط صوب العارض الغادي ... وجادوا ديك ذا الجنات من وادي
أنسيتني برح آلامي وما أخذت ... منا المطايا بإيجاف وإيخاد
كثبانك العفر ما أبهى مناظرها ... أنس لدى وحشة رزق لمرتاد
فباسق النخل ملء الطرف يلثم من ... ذيل السحاب بلا كد وإجهاد
وأعين الماء تجري من جداولها ... صوارما عرضوها غير إغماد
والورق تهتف والأظلال وارفة ... والريح ترفع ميادا لمياد
وقد نجد الشعراء المحدثين يتجهون اتجاهاً قومياً وإن كان بعضهم ترك الأفق الشرقي عامة، واتجه بعواطفه وميوله وشعره إلى أفق آخر لا يستقيم معه أدبنا. وعندي أن الأدب كالدين، فمن ترك ديننا فقد كفر بالله من ترك أدبنا فقد كفر بالوطن. وهؤلاء الشعراء المحدثون ينظمون - أحيانا. . في مناظر بلادهم. وللشاعر التيجاني يوسف قصيدة في جزيرة (توني) وهي جزيرة تقع بين الخرطوم وأم درمان خصيبة التربة. طيبة الهواء، وصفها الشاعر فأجاد، ومن قوله فيها:
يادرة حضها النيل ... واحتواها البر
صحا الدجى وتغـ ... شاك في الأسرة فجر
وطاف حولك ركب ... من الكراكي أغر
وراح ينفض عينيه من ... بني الأيك حر
فماج بالأيك عش ... وقام في العش دبر
كم ذا تمازح فن ... على يديك وسحر
يخور ثور وتثغو ... شاة وينهق حمر
وألبهم تمرح والزر ... ع مونق مخضر
تجاوب اللحن والط ... حن والثغاء المسر
وهب صوت النواعير ... وهو في الشجو مر
وكلها - وهي طويلة - على هذا النحو من التصوير الناطق والتعبير البسيط.
أما الأدب القومي فهو صورة صحيحة للحياة السودانية الطبيعية، ففيه الأحاديث الطوال عن السحائب الغر، التي تجود عليه بالمطر، وعن الأشجار الباسقة من سرح وسدر وجميز، وعن ضفاف النيل. وموارد الغدران والأودية، وعن الأطيار الساجعة فوق أغصانها؛ والظباء النافرة في فتن الجبال والغابات. ولنكشف هنا بمثال واحد يصور لنا أوائل الخريف وكيف أستقبله الناس والأنعام وكيف اهتزت به الأرض وربت. سأل أحد السجناء من أهل البطانة شاعرهم الحردلو عن أخبار مسقط رأسه وملعب صباه. وكان الحردلو شاعراً بدوياً مجيداً وله في الأدب القومي شأن أي شأن (وسنفرده ببحث خاص إن شاء الله) فأجاب صاحبه قائلا:
الخبر الجا قالوا البطانة أرشت ... وسارية تجود حتى الصباح ما أنفشت
هاج فحل أمصر يصر والمنايح بشت ... ديت أم ساق على حدب الجميل انعشت
فالشاعر يجيب صاحبيه بأن الخبر الذي جاء والنبأ الذي وصل إليه خبر جميل طيب. قالوا البطانة أرشت، والبطانة المكان الواقع بين النيل الأزرق والانيرا وفيه مراع واسعة، وكانت فيه قديماً مملكة مروى الشهيرة في التاريخ، والآن ينزله أثناء الخريف عرب الشكرية والبطاحين والضباينة والجمران. والبطانة مشهورة بالخصب. والشاعر جاءه الخبر أنها أرست ونزلت فيها الأمطار. وأن سحابة مملوءة بالماء جاءت عليها طوال الليل وطلع عليها الصباح ومع ذلك فلا يزال فيها المطر الغزير (وسارية تجود حتى الصباح ما انفشت) فسرت الحياة في الأرض، ومشى البشر في نفوس الحيوانات، وبدأت علائم الخصب ونزعة الإنتاج في الأرض والحيوان سواء بسواء، فاهتاج الجمل للقاح (هاج فحل أمصر بمصر وهوت إخلاف النوق بفيوض من اللبن الحبيب (والمنابح كشت وكست الأعشاب أديم الأرض، حتى لتتعشى البكرة التي عبر عنها الشاعر ببنت أم ساق وأم ساق كناية عن الناقة وهي تكنية جميلة جداً. هذه البكرة تتعشى من الأعشاب المحيطة بالمنازل ومن عادة الفصلان ألا تتوغل في المزارع والأعشاب، وتكتفي بأن ترعي قريباً من المنزل، فإذا كان العشب القريب يكفي لعشائهم فمعنى هذا أن الخصب قد عم، وهذا ما أراده الشاعر.
ولو قيض لهذا الأدب القومي السوداني من يدرسه دراسة وافية، ويقف عند مواطن الحسن فيه لجاء الأدب واللغة بخير كثير.
****
- 8 -
الأخلاق والعادات
لست في حاجة إلى أن أؤكد هنا ما قلته مراراً من أني لا أقصد من تصوير أدب الأمة لحياتها أن يكون - فقط - سجلاً تصور فيه مناظرها الطبيعية أو مشاكلها السياسية، أو تحصى فيه عاداتها وأخلاقها وتقاليدها، وإنما أقصد أن يتأثر الأدب بهذه الظواهر في الأمة، فيجرى في أوصاله ما تعكسه هذه الأمور من شمائلها، وما توحيه إلى أنفس الشعراء من خصائصها، فالأخلاق التي توجه الأمة؛ والعادات التي تذيع فيها، والخرافات التي تسيطر عليها، كلها ذات انعكاسات نفسية، لا مندوحة من ظهورها في الأدب - أن صدق الأدب - ونحن حين ننظر في الأدب لنحكم عليه بالتخلف أو النجاح، وبالتقاليد أو الأصالة، من واجبنا أو لا أن نتفهم جيداً ما يحيط بهذا الأدب من شتى الاتجاهات والمؤثرات.
وإذا كان الباحثون في الأدب العربي يجعلون أول همهم حين يفصلون تصوير الشعر العربي للحياة الاجتماعية عند العرب أن يعدوا ما ورد على السنة الشعراء مما يعد تسجيلاً لعادات قومهم فإننا نجعل هذا آخر همنا وننظر أولا في المظاهر العامة للأدب. ونرى هل تأثرت في اتجاهها بيئتها وانحرفت عن السبيل، وظهرت فيها خصائص بيئات أخرى، ولنضرب لذلك مثلاً:
من ابرز الأخلاق التي يمتاز بها عرب السودان البطولة والجلادة، والصبر على المكاره، وقد اتخذت هذه الصفات مظاهر متعددة، وبدت في أشكال مختلفة، فمن أكبر العار عند العربي السوداني الفرار من الميدان، وهو يقاتل ما دام النصر يتراءى له؛ فإذا تأكد الهزيمة لم يول ظهره ولم يقاتل قتال المستميت بل يلقى فروته على الأرض ويجلس عليها رابط الجأش، ثابت النفس حتى يقتل أو يؤسر، كما فعل الملك جاويش الشايقي الكبير عندما تغلب عليه بشير ملك الخندق. كان فرسان الشايقة يفتخرون بأنهم يفترشون (فراويهم) إذ بدا لهم أنهم غلبوا، وكما فعل الملك نمر عندما تغلب عليه الترك في واقعة النصوب فإنه ترجل عن جواده، وجلس مفضلاً الموت.
ومن العار الذي لا يمحى، ويبقى سبة للرجل وأولاده من بعده يعيرون به، أن ينطق المريض مهما اشتد مره بكلمة تدل على تألمه، أو يبدى المضروب اقل توجع مهما اشتد عليه الضرب أو يظهر على المسوق إلى القتل اقل جزع أو خوف. وقد حدثت بأحاديث كثيرة في هذا الشأن، فقد ذكروا أن جماعة من المجموعة حكم عليهم بالإعدام وكانوا يساقون إلى المشنقة واحداً واحداً، فجلسوا يلعبون (السيجة) وهم ينتظرون نوبتهم في القتل، وكان الجلاد يأتي فيأخذ أحدهم للقتل، ويبقى الآخرون مستمرين في لعبهم دون أن يبدو عليهم أي ذعر أو خوف. . . وهكذا حتى قتلوا جميعاً.
وحدثت أن بعض الفرسان بق إلى المقصلة، وكان مكانها بعيداً، وقد أبى أن يمشى مقيداً، ولكن القيد كان من النوع المفرغ، فلا يمكن فكه، فأيئسوه من فك قيده، فطلب أن يقطعوا قدمه ففعلوا، وجعل يمشى وما رؤى عليه أي تأثر.
ومن العار أن يرفع الإنسان صوته بالأنين والتوجع في حادث من الحوادث حتى لقد تجرى لأحدهم عملية جراحية دون مخدر ومع ذلك لا يرتفع له صوت، رأيت مثل ذلك في مثقفيهم، وتأكد لي من مناقشتهم طويلاً في هذا الشأن، ولقد قلت مرة لأحد المترفين: ماذا وضربت عشرين سوطا؟ قال: أتألم اشد التألم، قلت أما ترفع بالتأوه والأنين؟ قال: لا. لا. (الكوراك) لا سبيل إليه (والكوراك: رفع الصوت)
ومعروف من عاداتهم في (البطان) أن الشاب إذا اعجب بفتاة ووقع حبه في قلبها نزعت من معصمها سواراً، وألبسته إياه، فيأخذ الشاب إذ ذاك سوطه، ويهزه فوق رأسها ويقول: (ابشري بالخير أنا أخو البنات عشرة) فإذا كان له بين الحضور منافس فيقف له حامل السوار واضعاً يده اليمنى فوق رأسه فيجلده بسوطه إلى أن يكل فيرمى السوط فيجلده حامل السوار في نوبته بما أعطي من قوة، ويقف المضروب في حالة الضرب جامداً لا يتحرك، ولا يطرف له جفن كأنه صخر أصم، ومن بدت عليه ظواهر التألم بل من بدت منه أقل حركة كهز الكف أو طرف الجفن، لبس العار، ولم يعد له في البنات نصيب.
بل قد حدثت بما هو ابعد من هذا، حدثت أن سيدة أبت أن تقوم في مأتم أخيها، أو تقف على قبره، لأنها رأت في وصيته ضعفاً وخوراً لم تحبهما فيه، رأته يوصى بان يدفن بجوار قبر ولي من الأولياء، ولا يدفن في مقابر أهله وعشيرته، فقالت لا أبكيه أيخاف من النار وأبكيه؟!
هذا الخلق لابد أن يظهر في الشعر وإلا كان الشعراء يعيشون مع قوم آخرين فليس طبيعيا أن ترى الأنين والباء والتوجع والتأوه في الشعر السوداني، وإنما الطبيعي أن ترى التسامي على حوادث الدهر، والسخرية بتقلبات الأيام، والنفور من الضعف والهوان. وإذا كان للشعراء في أي جهة أخرى أن يسهوا الليل وأن يعدوا النجوم، وأن يلطموا الخدود، ويشقوا الجيوب في سبيل محبوبة هاجرة، وإذا كأنهم أن يشيعوا موتاهم بالعويل، وأن يتلقوا حوادث الأيام بجفن باك، وقلب واجف، وصبر متخاذل، فإنه ليس للشاعر السوداني إلا أن يقول كما قال ابن سناء الملك:
ولو مد نحوي حادث الدهر كفه ... لحدثت نفسي أن أمد له يدا
فليس من الطبيعي أن نقرأ للشاعر شيئاً من هذا إلا حين يئس نفسه وقومه، كقول الشيخ عمر ألا زهري:
سلا عن فؤادي مسبلات الذوائب ... فقد ضاع من بين القلوب الذوائب
فلا سلمت نفسي من الحب قد خلت ... ولا كان جفن دمعه غير ساكب
ولا أن تقرأ للشيخ أحمد المرضى:
لقد آن أن أبكي وأبكي البواكيا ... وانظم من حب الدموع المراثيا
ولكن من الطبيعي جداً أن نقرأ للشاعر عبد النبي مرسال هذه الأبيات.
أنا أن عضني الزمان بناب ... ودهائي يوماً بفرس
وبلتني الخطوب من كل نوع ... ودهتني الكروب من كل جنس
أن لي كالحديد عزماً ونفساً ... لا تفل الخطوب عزمي ونفسي
ومن الطبيعي أن يفتخر الشاعر السوداني بالبطولة والشجاعة وأن يتمدح بها، وأن يمدح حين يمدح بها ويهجو إذا هجا بالجبن والضعف والفرار يوم الزحف، وأن تظهر عواطفه في مثل هذه الأبيات:
ألقى بصبري جسام الحادثات ولى ... عزم أصد به ما قد يلاقني
ولا أتوق لحال لا تلائمها ... حالي، ولا منزل اللذات يلهيني
ولست أرضى من الدنيا وإن عظمت ... إلا الذي بجميل الذكر يرضيني
وكيف اقبل أسباب الهوان ولى ... آباء صدق من الغر الميامين
وإذا كان أهل السودان يعدون الكرم من أكبر مفاخرهم والبذل من أحد سجاياهم - وهو كذلك - فبديهي أن تظهر هذه الحضارة النبيلة في الشعر، وأن تأخذ مكانها اللائق بها، وكثير ما نقرأ لهم الأبيات الجميلة في تمدح بالكرم، والافتخار بالجود كما نجدهم إذا هجو كان من أبلغ الهجاء عندهم أن يصفوا الرجل بالشح، وانه لا يؤدى واجب أضيافه، وكما تجد هذا في الشعر المعرب تجده في الشعر العامي، ويعجبني قول امرأة ترث زوجها.
بي عبدو، بي خادمو. ... للدهر العيش مورادمو
يكفى الضيف، ويقادمو
فهي تصف زوجها بالسيادة، وأنه صاحب عبد وخادم، تدق في الوصف، وتبلغ في التعبير وتنبل في المعنى، فتصف زوجها بالبذل والأنفاق، وإنه يعطى ما لديه، وإذا كان البخلاء يختزنوه العيش مخافة حوادث الدهر، وتقلبات الأيام، وإذا كان ظنهم في الله سيئاً فإن زوجها رجل لا يخاف إلا البخل، ولا يهرب إلا من قالة السوء، ولا يحسب حساباً للدهر والأيام، فهو لم يردم العيش ويختزنه خوفاً من الدهر (للدهر العيش المرادم) ثم تتحدث عن مظهر من مظاهر الكرم فتصف زوجها بأنه يكفي الضيف، وهذا لباب الكرم، ومع ذلك لا يقصر في الإكرام فهو يودع أضيافه إلى مسافة بعيدة على عادة الكرماء وعبرت عن ذلك ابسط تعبير (يكفى الضعيف ويقادموا) كما يعجبني رجل من البطاحين:
من منا ولى منا ... كذبوا القالوا متلنا
يكفى مراره فيسلنا ... ويصد القوم عاطلنا
فهو يفتخر هنا بنسب قومه ومكارمهم وشجاعتهم ويقول: أنه لا يساميهم أحد ومن قال أنه مثلهم فقد كذب، ويسكن البطاحين بين الجعليين والشكرية، الجعليون شمالهم، والشكريية جنوبهم، أو على تعبيرهم الشكرية في الصعيد، والجعليون في السافل، وهو يقول: من هنا والى هناك يقصد الجعليين والشكرية يكذب من يقول أنه مثلا، ثم يصف قومه بالكرم فقال: يكذب مرارة فسلنا، والفسل البخيل، ويكفى مرارة إشارة إلى العادة المعروفة في السودان وهي أنه إذا نزل أضياف برجل وكان كريما ذبح لهم، وللدلالة على أنه ذبح يقدم لهم أول ما يقدم الكبد والطحال والكرش، وتؤكل كل نيته، يرون في ذلك دلالة على نهاي الكرم، ويعبرون عن هذا الطعم (بالمرارة) والشاعر البطحاني يقول: أن يخيلهم يبلغ به الجود إلى درجة أنه يكفى الأضياف ويذبح لهم حتى يباع حد الكرم، وإذا كان بخيلهم يقوم بحق الأضياف، فضعيفهم يصد الجيش المغير، وهذا نهاية المدح والافتخار.
والحق أن شديد الإعجاب بهذا الشعر البدوي، وهو عندي أصدق لهجة واقرب إلى الواقع من الشعر المعرب.
أما تسجيل الشعر للعادات، فالمطلع يجد كثيرا من هذه العادات في الشعر السوداني، ولا سيما العامي منه، وسأقتصر هنا على بعض تلك العادات؛ فمن العادات الشائعة في السودان أن يلبس النوادب لباس الحرب الميت ويحملن آلاته التي كان يستعملها في القتال، تتقلد واحدة من قريباته سيفه وتلبس أخرى جبته أو عمامته، ويدرن باكيات في ساح الدار، ولا يعمل هذا العمل إلا للعظماء من الرجال ملوكاً كانوا أو محاربين، وقد يستمر هذا خمسة عشر يوماً، والشاعر السوداني يذكر هذه العادة في معرض الحسرة والألم على ما صارت إليه حال قومه، فهو يبكى على زمن مضى كان السيف فيه في يدي البطل يدافع به عن حوزته ويدفع به في صدر عدوه، فعدا الزمان وسلب السيف من يديه ووصفه في يد الناعية، فأصبح لا يرى إلا في يدها، والخوذة ويسمونها (التربك) لا ترى إلا على رأسها:
كأن الزمان برغم الزم ... ان أمسى تبيعا لسلطانيه
غفرت له وهو ذاك العتي ... فكم ناشئ بيد عاتيه
عدا فاستباح دروع الكما ... ة فلف بها رمما بالية
وخلى التربك وهز البوا ... تر حبساً على الغادة الناعية
والشعوذة والدجل، وضرب الرمل، وطرق الحصى، والودع كثير في السودان، والناس يؤمنون بكثير من هذه الضلالات، ولا يفوت الشعراء أن يحدثونا عن صاحبة الودع، وأن يصفوا لنا ما يفعله الحاوي، ويجرى على ألسنتهم ذكر التعاويذ والتمائم، ومن ذلك ما يقوله التيجاني يوسف:
عوذوا الحسن بالرقى وخذوني ... أنا تعويذة لكعبة روحي
قربوها مجاماراً أنا وحدي ... عوذ للجمال من كل روح
احرقوني عل يديه وشيدوا ... هيكل الحب من فؤادي الذبيح
واعصروا قلبي المفزع للحسن ... أماناوعوذوه (ينوح)
وللمجامر في الحياة السودانية شأن أي شأن، فليس يخلو منها بيت من البيوت، ويوضع فيها البخور حيث تتطيب به النساء والتيجاني يشير إلى ذلك حين يقول:
وليلة من جمادي ... في مثل روعة شهره
درجت والحسن حولي ... إلى خبيئة سره
ورحت احرق نفسي ... على مجامر عطره
أذبت من خمر روحي ... على يديه وثغره
بقية من ربيع ... شقيت وحدي بزهره
ومن عادة الزوجة في السودان إلا تخاطب زوجها باسمه بل تدعوه بأسماء أخرى تتحاشى طوال حياته أن تناديه باسمه، والشاعر يسجل هذه العادة فيقول:
ما أنس لا أنس إذ جاءت تعاتبني ... فتاته اللحظ ذات الحاجب النوني
يا بنت عشرين والأيام مقبلة ... ماذا تريدين من مرءرد خمسين
قد كان لي قبل هذا اليوم فيك هوى ... أطيعه وحديث ذو أفانين
ولا منى فيك والأشجان زائدة ... قوم وأحرى بهم إلا يلوموني
في ذمة الله محبوب كلفت به ... كالريم جيداً وكالحيروز في اللين
يقول لي وهو يحكي البرق مبتسماً ... يا أنت، ياذا، وعمدا لا يسميني
علي العماري
مبعوث الأزهر إلى المعهد العلمي بأم درمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مجلة الرسالة/العدد 787/ بتاريخ: 02 - 08 - 1948
2- مجلة الرسالة/العدد 790 | بتاريخ: 23 - 08 - 1948
3- مجلة الرسالة/العدد 795/ بتاريخ: 27 - 09 - 1948
4- مجلة الرسالة/العدد 799/ بتاريخ: 25 - 10 - 1948
5- مجلة الرسالة/العدد 808/ا بتاريخ: 27 - 12 - 1948
6- مجلة الرسالة/العدد 811/ بتاريخ: 17 - 01 - 1949
7- مجلة الرسالة - العدد 889/ بتاريخ: 17 - 07 - 1950
8- مجلة الرسالة - العدد 898 / بتاريخ: 18 - 09 - 195