المرآة

Folder: 
قصص

المرآة

نوزت شمدين

    ترجل عن صهوة نسياناته ، بعد أن أضنته ممرات الرحيل التي باتت تشاركه كل شيء . تخيل البيت القديم وذلك الدهليز المعتم المؤدي إلى باحته الضيقة والمنتهية بالمرآة ،  تلك المرآة كانت شاغله الوحيد لأنه اعتاد الظن بأنها طريق غير معبد إلى عالم آخر ..! ، الآن هو يقف قبالتها ويتأمل صورة قديمة معلقة فوقها مباشرةً تظهر ملامح أبيه وهو مدجج بأوسمة حربية مختلفة ، اندهش كثيراً فأبوه كان قد مات قبل الحرب !! .

   كان النظر الى المرآة ومحادثتها محط سخرية وتذمر الكثيرين منه ، ولكن هوسه المستفحل هذا أصبح مرضاً ملازما له بالرغم من تغير كل شيء بعد الحرب ، فالآن هو بساق واحدة ،والأخرى منحوتة خشبية جامدة لا تحس بشيء ، شعر بأن المكان موحش على غير عادته والطريق إلى تلك الذكريات ممطر دوماً ، مد ذراعه إليها _ المرآة طبعاً _ دخلت يده فيها .. ثم جسده المنحني تاركاً ساقه الخشبية معلقة في عتمة المكان أشبه ما تكون بخطوة لم تكتمل …………………………      ( الدبابات /القتلى / المدافع المحترقة / رائحة البارود .. كل شيء يوحي بالحرب والدمار أياد مبتورة / رؤوس مركونة قرب البساطيل / الزهور البرية المحترقة / الأطفال المشوهون عمداً ، لم يكن في ساحة المعركة ما يتحرك سواه _ وساد الرعب _ لكنه صوت أبيه الآمرة جاءه من الخلف :

_ تقدم ..تقدم ..

فأخذ يركض صوب إحدى الدبابات ، وبسرعة خاطفة وجد نفسه يعتلي منصتها يسعفه الصوت الآتي من البعيد ، وهو يأمره :

_ تقدم .. تقدم ..  

  هبط إلى حجرة القيادة ، لم يكن هناك سوى قذائف صفر ذكرته بأول عملية تهريب فاشلة قام بها ، العتاد يرسم أبعاد المكان ، بينما هو يتقدم ..يدمر .. ويدمر.. دون أن يفهم السبب ! المهم أن ينصاع للصوت المدوي في أذنيه ، بدأت الدبابة تسير بسرعة وتحطم كل شيء وهو غير قادر على التحكم أو السيطرة عليها ، استمر .. بينما كانت ذاكرته الموتورة تتأرجح بين الماضي والحاضر دون وضوح ، تذكر الأطفال المشوهين عمدا ، كان أخوه بينهم ؟! ، والأيدي المبتورة إنه يعرفها فهي لعائلته التي لم تستيقظ أبداً بعد ليلة العدوان .......... بان ساحل البحر ، ارتبك كثيراً ، فالسفن الحربية تتقافز أمامه ، والنار مهرجان ليس له انتهاء . تحولت الدبابة إلى فرقاطة رشيقة تشق المياه ولصوت مازال يطارده وهو يناور السفن التي تنفجر تباعاً قبل أن تصلها صواريخه ..؟ ! . تكاثرت السفن حتى أصبحت النيران المؤطرة بالدخان رؤيته الوحيدة .. ثم حاصروه ........... وحاصروه .  إختفت أصوات المعركة وما تبقى منها فقط إنفجارإقتلعه من مكانه وجعله يحلق بصحبة دماءه ........ ) .

     سقط على الأرض ومعه ساقه الاصطناعية وهي ملطخة بالدماء . بدا متعباً وصورته لا توحي بأي شيء مألوف ، كانت تبدو غريبة وأكبر منه سناً ..! .

  اكتشف في لحظة رعب أن لا وجود للحرب إلا في ذاكرته ، الوجود الحقيقي كان للمرآة فقط   لكنها هذه المرة لم تكن كما عهدها ، حتى صورة أبيه كانت خالية من الأوسمة وتنم عنة وجه مبتسم !  . حاول أن يستجمع قواه غير أن ثقلاً ما أقعده ، والصوت الآمر عاد من جديد طالباً منه الاحتفاظ بنياشين انتصاراته لأنه أحق بها . بقيت عيناه تتبعان خيط الدماء الذي كان يرسم على الأرض صورة أخرى لم يستطع تحديد ملامحها ، لكنه كان متيقناً بأنها ممر آخر لنهر طويل لا ينضب ......



1998


Author's Notes/Comments: 

موقع الروائي نوزت شمدين

View nawzat's Full Portfolio
tags: