الإسلام والإرهاب

Folder: 
مقالات







على الرغم من الأزمة المعرفية المرعبة التي يعاني منها الإسلام اليوم والجمود الفكري الإسلامي، لا يمكننا على الإطلاق، كما يروِّج البعضُ، أنْ نلقيَ بالإسلام جملةً وتفصيلاً في سلة المهملات ولا أن نَنْعَتَه بأنه كلُّه شَرٌّ بِشرّ.

وإذا جارينا هؤلاءِ البعضَ في رفضهم القاطع للإسلام جملةً وتفصيلاً كدين له بُعده الديموغرافي الذي لا يقلُّ حجماً عن حجم أزمته المعرفية، فما البديل العقائدي المطروح من قبل هؤلاء المثقفين على هؤلاء المليار مسلم، حيث أنَّ الإنسان لا يمكنه أن يعيش بلا عقيدة. (حتى الإلحاد هو موقف ديني من الوجود، وبالتالي فهو عقيدة ودين)؟

ولو افترضنا أنَّ 90 % من الإسلام ضلال، فإنَّ الأَولى أنْ يتَّبعَ هؤلاءِ المليارُ مسلم هذا المنهج الديني من أنْ لا يتَّبعوا شيئاً ويبقوا تائهين معلَّقين في الفضاء في عالم مادي يحتاج فيه الإنسان إلى نقاط علاّم من أجل الوصول. الأفضل للمرء أنْ يتّبع طريقاً خاطئاً من أنْ يبقى مكانه ساكناً، إذْ لا بدَّ له أنْ يكتشف الحقيقة عاجلاً أو آجلاً.

ثم كيف يمكننا أنْ نُقنِع شخصاً بفكرة أعلى من مستوى وعيه؟! كيف يمكن لطفل لا يستوعبُ أكثرَ من عمليتَي الجمع والطرح أنْ يحلَّ معادلاتٍ من الدرجة الثالثة؟

لماذا لا يقوم هؤلاء المتثـقفين المهاجمين لكل الإسلام بتقديم منهجهم الفكري والديني البديل إلى المسلمين بتصرُّف لأن عقول المسلمين مازالت في مرحلة الطفولة؟

عندما جاءت المسيحية لم تستطع أنْ تلغيَ اليهوديةَ بل كانتِ امتداداً لها؛ وكذلك الإسلامُ الذي ارتكزَ على اليهودية ظاهرياً وعلى المسيحية باطنياً لم يُـلْغِ حتى العاداتِ البدويةَ والقبليةَ السائدةَ في مكان تشكُّله بل قعَّدها وأصَّلها. ولهذا فإنَّ نقلَ الإسلامِ بكلِّيتِه إلى سلة المحذوفات يؤدِّي أيضاً إلى رمي اليهودية والمسيحية اللتَينِ انبثقَ منهما أصلاً.

فالإسلام لم يهبطْ هكذا فجأةً من السماء إنما وُلِدَ من رحم ما سبقه، فهو إذنْ ليس إلا استمرارية لسابقه. فالخبرة العلمية والروحية تراكمية. ولا يولَدُ دِينٌ هكذا من فراغ، بل كالطفل يولد ضعيفاً وتتهيأ له البيئة المناسبة لنموه. ولهذا لا يمكن بهذه التبسيطية المرعبة أيضاً أنْ نمحوَ الإسلامَ الذي تشكل عبر قرون، بل نحتاج أيضاً إلى سنين وربما إلى قرون لتهيئة التربة المناسبة للتغيير، هذا إذا أردنا التغيير فعلاً.

ثم كيف يمكنُ لأستاذٍ أنْ يقولَ لتلميذٍ في الصف الأول: "اتركْ صفَّكَ وتعالَ أُلحقَكَ بالصف السادس"، وذلك قبلَ أنْ يمرَّ هذا التلميذُ بالصف الثاني والثالث والرابع والخامس كي تتوسَّعَ مداركُه. ليس المقصودُ بذلك أنَّ الإسلامَ هو مدرسة ابتدائية والأديان الأخرى هي مدارس عليا، بل المقصودُ هو أنَّ هناك مستوياتٍ في كل دين: ففي الإسلام هناك مدرسة ابتدائية وإعدادية تحضيرية وثانوية ومدرسة عليا، وكذلك في جميع الأديان.

المطلوب إذنْ من المثقفين اليوم ليس أنْ ينقلوا المسلمين من مدرسة الإسلام الابتدائية إلى مدرسة ثانوية أو عليا أخرى مغايرةٍ تماماً وغريبة عنهم لا يفهمون لغةَ تدريسها ولا مناهجَها، بل أنْ ينقلوا المسلمين من مدرسة الإسلام الابتدائية إلى مدرسة الإسلام التحضيرية فالأعلى ثم الأعلى.

إنَّ التجارب الروحية العظيمة لكل من الحلاج وابن عربي والسهروردي القتيل والنِّـفَّـري البليغ والجُنَيد وأبي يزيدٍ البسطامي وغيرهم الكثير لهي تجارب تستدعي الانتباهَ وتكاد تفوقُ تجاربَ كثيرٍ من أبناءِ المدارس الأخرى.

ثم إذا كان البديل عن الإسلام الحالي المتآكلِ البُنيان هو الديمقراطية فإنَّ أوَّلَ الطريق لتطبيقها هو أنْ يَـتَـرَوَّى هؤلاءِ الناقدون قبل هدمه ويوجهوا طاقاتهم وإمكاناتهم لصياغة المنهاج البديل الذي من شأنه أنْ ينقلَ هؤلاءِ المسلمين البدائيين إلى مرحلة أعلى. وحتى إذا لم يَرَ هؤلاءِ الناقدون أملاً في تطوير المسلمين وتحضيرهم فمن الأَولى أيضاً الكَفُّ عن نقد أناس لا أملَ منهم.

ومن هذا المنطلق فإنَّ عليهم، لكي يعالجوا مسألةَ الإرهاب، أنْ يتعاملوا معه ليس على أنه فيروس إسلامي بل على أنه فيروس ديني بشكل عام، أي يجب أنْ يفكّوا التلازمَ بين الإسلام والإرهاب وأنْ يربطوا الإرهابَ بالدين والمجتمع... وبذلك يمكننا رؤية المشكلة من منظور بانورامي شمولي غير جزئي، لأنه لا علمَ إلا بالكليات.

لقد حدَّدتْ الآيةُ /62/ من سورة البقرة ثلاثَ شروط فقط للنجاة (أو الخلاص) هي:



1- الإيمانُ بالله

2- الإيمان باليوم الآخِر

3- العمل الصالح.



ففي هذه الآية لم يَرِدِ الإيمانُ بنبوَّة محمد كشرطٍ من شروط الخلاص. تقول الآية: (إنَّ الذينَ آمنوا [أي طائفة محمد: المسلمين] والذين هادوا [اليهود] والنصارى [إحدى الطوائف المسيحية في عصر محمد وربما هي "الأبيونية" وغالباً ما تُطلَق هذه التسمية على المسيحيين بشكل عام] والصابئين [المندائيين] مَـن: (1) آمنَ باللهِ (2) واليومِ الآخر (3) وعمِلَ صالحاً فلهم أجرُهم عند ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون).

وبهذا فإنَّ المسلمين واليهودَ والمسيحيين والصابئين ناجون بشرط أنْ يستوفوا شروطَ النجاة الثلاثة. وهذا ما ذهبَتْ إليهِ الآيتانِ الأخيرتانِ (7 و8) من سورة الزلزلة كقانون كارمي صارم وعام لا استثناءَ فيه لأحد: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

ولهذا، فإنَّ أملَ المسيحي الذي يعمل صالحاً ولا يؤمن بنبوَّة محمد أملَه في الخلاص أكبرُ بكثير من أملِ المسلم المؤمن بنبوَّة محمد ولكنَّه لا يعمل صالحاً.

ليتوقَّفْ المسلمون إذن عن إدراج المسيحيين في فئة الضالين.

وبديهيٌّ أنَّ القتلَ والإيذاء (اللذَينِ هما أساسُ الإرهاب) ليسَ عملاً صالحاً بحسب معايير جميع المعتقدات والأديان.  أما الآياتُ القرآنية التي تحرِّضُ على الجهاد فيجب، من أجل فهمها، وضعُها ضمن إطارها التاريخي والسياسي.

وبحسب قول المسيح المرسَل على الإطلاق: (مَن آمنَ بي وإنْ ماتَ فسيحيا)، فإنَّ المسلمين الذين يؤمنون بيسوعَ المسيح (وإنْ بطريقة مختلفة) كركن أساسي من أركان إيمانهم لهم أيضاً خلاصٌ خارجَ المؤسسة الدينية المسيحية التي قيَّدَتْ قولَ المسيح والمسيحَ أيضاً وجعلَتِ الإيمانَ به مرتبطاً حصراً بها. فهذه الآية لم تذكر طريقة الإيمان بيسوع المسيح.

ليتوقَّف المسيحيون أيضاً عن إدراج المسلمين في فئة غير المؤمنين الذين لا خلاصَ لهم.

الخلاص إذنْ مسألة إيمانية شخصية بحتة بحسب جميع المعتقدات والأديان.

لماذا الإرهابُ إذنْ ؟؟؟!

الإرهاب ليس إلا مسألةً سياسية تتستَّرُ بالدين.

كلّ قتل باسم الدين إرهاب.

هل تاريخُ المسيحية أنقى من تاريخ الإسلام؟

هل الحروب الصليبية أقل دموية من الفتوحات الإسلامية؟

وهل محاكم التفتيش المسيحية أرحم من اتهامات التكفير والزندقة في العصور الإسلامية؟

وهل –مثلاً- إدانةُ "غاليليه" (الذي أجبرتْه الكنيسةُ على إنكار اكتشافه لكروية الأرض) وحرقُ القِس "غيوردانو برونو" في ساحة الورود في روما (والذي أثبت صحةَ فكرة "كوبرنيكوس" في دوران الأرض حول الشمس) يختلف كثيراً عن صلب "الحلاج" ونفي وتكفير "ابن رشد" وتقطيع أعضاء "ابن المقفع"؟؟؟!

وهل التعصبُ المسيحي بأقلَّ من التعصب الإسلامي بمختلف طوائفه؟؟؟

وهل قرارُ البابا "إينوسنت" الثالث بإبادة "الكاثاريين" الغنوصيين بتهمة الهرطقة يختلف عن فتاوى ابن تيمية بتكفير الطوائف الباطنية (الغنوصية أو العرفانية)؟؟؟

لا داعي لذكر ديمقراطية "بوش" الأصولية في مواجهة إرهاب الأصولية الإسلامية.

ثم ماذا نسمّي دعوةَ القِس الإنجيلي الأمريكي "بات روبرتسون" إلى اغتيال الرئيس الفنزويلي "هوغو شافيز" حتى وإن اعتذر؟؟؟ وإذا كان عذرُه أنه كان محبَطاً عندما أطلقَ دعوته هذه، فإنَّ "الإرهابيين" الإسلاميين الذين قاموا بتفجير برجَي التجارة العالمي وبعمليات أخرى كانوا على الأغلب محبَطين.

ألا تشعرون أنتم أيضاً بالإحباط عندما ترونَ أنَّ الوضعَ العربي والإسلامي الحالي كلُّه إحباطٌ في إحباط وعندما تسمعون أيضاً مثل هكذا دعوات للقتل من قبل رجال دين يُفتَرض أنهم دُعاة سلام؟؟؟





يبدو أنَّ المسيحيين قد مسحهم "بَـعْـلزَبُول" مسحةَ الرضا بينما أسلمَ المسلمون أنفسَهم له.





لقد تمَّ ربطُ ثور الإرهاب بهلال الإسلام كما سبقَ ربطُه بصليب المسيحية.





كي لا ننسى أنَّ "جلبابَ" الإرهاب المعلَّق حالياً على شماعة الأصولية الإسلامية غير البريئة  منسوج بخيوط صهيونية وصليبيَّة.







محمد علي عبد الجليل

29/8/2005  









تعقيب:



إنَّ آياتِ وأحاديثَ الجهاد في الإسلام لا تدعو في الحقيقة إلى العنف إذا ما فُـهِـمَـتْ على وجهها الصحيح. فمقابل آيات وأحاديث الجهاد هناك آيات وأحاديث تؤكد على المحبة والتسامح والرحمة (مثلاً: فكرة "مَن قتلَ نفساً... فكأنما قتل الناسَ جميعاً" وفكرة "مَن لا يَرحَم لا يُرحَم"، إلى آخره...).

تحضرني حكمة علَّمني إياها أحدُ البوذيين الفرنسيين تقول:



(Une méthode juste appliquée par un homme de travers donne des résultats de travers.)



أي أنَّ المنهاجَ المستقيم إذا طبَّقه إنسانٌ غيرُ مستقيم يعطي نتائجَ غيرِ مستقيمة.

فالقرآنُ، بحسب رؤيتي المتواضعة، يشبه تمثالَ مُحارب "الساموراي" الذي يَحملُ في يده سيفاً وفي الأخرى شمعةً. ليستْ غايتُه من حمل السيف أنْ يَقتلَ بل أنْ يحميَ نورَ الشمعةِ من الانطفاء.







مأساةُ المسلمين اليوم أنهم قاموا بتفعيل السيف وتعطيل الشمعة.







ملاحظة: ليس هذا دفاعاً عن عنف الأصولية الإسلامية، فهي بالتأكيد غير بريئة، بل محاولة لفهم أسس العنف في الإسلام لا أكثر.







تعقيب ثانٍ:





إنَّ العنف الإسلامي يستند بالتأكيد إلى منقول مقدس. فآيات الجهاد كثيرة، وحديث محمد: (أُمِرْتُ أنْ أقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا أنْ لا إلهَ إلا الله وأنَّ...) يدعم وجهةَ النظر هذه. ربما لهذه النصوص ما يبررها. ليس المقصود هو أنْ نبرر العنف، بل أنْ نحاولَ فهمَ الظرف الاجتماعي والسياسي الذي أدى إلى نشوء هذه النصوص الداعمة للعنف في المنقول الإسلامي بينما تكاد تخلو المسيحية والبوذية مثلاً من نصوص تدعو إلى العنف.

فمثلاً حديث: (من بدَّل دينَه فاقتلوه) يتعارض صراحةً مع الآية: (لا إكراهَ في الدين). ومهما حاول علماء المسلمين التوفيق بينهما فلن يفلحوا. نكتشف أنَّ الحديثَ هو نص وُضِعَ في العصر الأموي لأسباب سياسية من أجل الاستناد إلى نص ديني يشرِّع قتلَ المعارضين للخلافة آنذاك. فالمنقول الإسلامي يختلف إذن عن المنقول المسيحي في مسألة العنف لأنَّ ظروف نشأة الدينين مختلفة.

فالمسيح لم يكن يخطط لإنشاء دولة أو لتوحيد شعب (كما كانت مهمة موسى ومحمد، ولهذا نرى تشابهاً بين الشريعتين الموسوية والمحمدية)، بل كانت مهمة المسيح خلاصية روحية (مملكتي ليست من هذا العالم). بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت مهمة محمد قومية عربية (بدليل أنه في بداية دعوته كان يقول للقبائل العربية: "كلمة تعطوني إياها تدين لكم بها العرب والعجم: لا إله إلا الله..."). ثم إنَّ محمداً كان يسعى (ونجح) إلى توحيد الأميين أو القبائل العربية التي ليس لها كتاب سماوي. لذلك يجب أنْ نضع النصوص التي تدعو إلى الجهاد أو القتال ضمن إطارها الزمني والسياسي والاجتماعي.

علماً أنَّ محمداً كان يؤكد على أنَّ الجهاد الحقيقي (الأكبر) هو جهاد النفس (أي صلبها) وهو ما يتلاقى مع دعوة المسيح إلى الخلاص بالصليب.

لكن ألا ترون معي أنَّ رجال الكنيسة عندما لجأوا إلى العنف باسم الدين قد استندوا، هم أيضاً، إلى نصوص مقدسة أو بتعبير أدق إلى تأويلات ملتوية لنصوص مقدسة. إذْ لا بد للقرار السياسي من تغطية دينية أو شرعنة دينية. إنهم تحت شعار تحرير القدس قتلوا مئات الألوف، أي في سبيل الحصول على جدران وحجارة وأوثان قتلوا الإنسان، على الرغم من أنَّ إلههم إله محبة ورحمة!!! فعلى الرغم من أنَّ المسيحية (شأنُها شأن البوذية) من أكثر الديانات دعوةً إلى اللاعنف، فقد كان تاريخها دموياً أيضاً.

إنَّ المسألة مسألة تأويل ولَـيّ [أي فتل] لعنق النص المقدس ليتماشى مع المصالح السياسية والشخصية.



ولهذا فإنَّ على متنوري الإسلام ومثقفيهم مهمةً شاقةً للغاية. يجب أنْ يؤكدوا على جانب التسامح والمحبة في الإسلام ويربطوا آيات الجهاد بزمنها فقط. وقد وردَ في الإسلام أنَّ هدمَ الكعبة أهونُ على الله من كسر خاطر مؤمن.




View mabdeljalil's Full Portfolio
tags: