مقالة في دلالة الصليب

Folder: 
مقالات

إذا كان الصليب عند الرومان والإغريق أداةَ تعذيب للأسرى والعبيد وقُطَّاع الطُّرق من غير الرومان والإغريق أي رمزاً للموت، فإنه يمثِّـل عند الفراعنة رمزَ الحياة والبعث بعد الموت وخلود الروح ويشبه حرف "غنخ" بالهيروغليفية ويتألف من حرف T باللاتينية تعلوه دائرة بيضوية الشكل.

ويمثِّلُ الصليبُ في الإسلام، كما في اليهودية، أداةَ تعذيب أيضاً وعقوبة للمفسدين في الأرض وهم قُطَّاع الطُّرق الذين يسرقون ويقتلون: (إنَّما جزاءُ الذين يحاربون اللهَ ورسولَه ويسعون في الأرض فساداً أنْ يُقَـتَّـلوا أو يُـصَـلَّـبوا أو تُقَطَّعَ أيديهم وأرجلُهم من خلاف أو يُنفَوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم) [المائدة 33].



أما الصليب عند المسيحيين فقد أخذ قيمتَه كرمز ديني مقدَّس من المسيح نفسه. فبما أنَّ المسيح جاء مُخَـلِّصاً بموته على الصليب، فقد تحوَّلَ الصليبُ إلى أداة خلاص وانعتاق ولم يعدْ أداةَ تعذيب.

الصليب، بهذا المعنى، ليس رمزاً للمسيح الذي مات عليه بل رمزاً للمسيح المنتصِر على الموت والحي بروحه التي لا تموت.

إنَّ كلمةَ "صليب" عند الهالكين جهالة أما عند المخَـلَّصين فهي قوة  الله وحكمته:

(الصليب هو سِرُّ خلاصنا وهو قوة الله وبه نلنا الفداء، إذْ أنَّ كلمةَ "صليب" عند الهالكين جهالة، أما عندنا نحن المخلَّصين فهي كلمةُ الله). [1 كو 1: 18]



فالصليب مثل مِبضع الجَرَّاح أداة زوال للألم وليس أداةَ ألم وتعذيب.

وآلامُ الصليب مثل آلام المخاض التي تعاني منه الأم عند الولادة إذْ أنَّها إيذان بمولود جديد أي حياة جديدة.

وآلام الصليب مثل آلام مفارقة الروح للجسد تمثِّل الانعتاق نحو فضاء أرحب.

الصليب المسيحي، إذن، رمز إلى آلام السيد المسيح وموته وقيامته، أي رمز إلى تحقيق الإنسان لألوهيته وسيادته على الموت، فهو رمز خلاص، رمز فداء، رمز محبة.



ذكرَ القُـمُّـص زكريا بطرس من بين معاني الصليب معنى "صلب المشيئة الشخصية" [في مقالته "عِناق الصليب"، موقع: (www.copticchurch.org)]:

(شبَّهَ أحدُهم خشبتَي الصليب بإرادة الله وإرادة الإنسان، فالخشبةُ الرأسية التي ترتكز على الأرض هي إرادةُ الله النافذة: "كما في السماء كذلك على الأرض"، أما الخشبةُ الأفقية المعلَّقة على الخشبة الرأسية فتُشبه إرادةَ الإنسان التي سُمِّرَتْ في إرادة الله وأصبحَ شعارُ المؤمن "لتكن لا إرادتي بل إرادتك" [لو 24: 22]).



وحتى إذا تأمَّلنا بعمق في دلالة الصليب عند الرومان والإغريق والمسلمين وغيرِهم ممن ينظر إلى الصليب كأداة تعذيب نرى أنَّ عقوبةَ الصلب بحد ذاتها تطهير من تبِعات كارمية، أي أنَّ الصليبَ يمثِّلُ أيضاً في هذه الحالة خلاصاً للمجرمين من خطاياهم بحسب قانون كارما.



أما الشكل الفني للصليب المسيحي فمأخوذ من الصليب اليهودي أي الشجرة، وهو من شجرة يُصلَب عليها المحكوم عليه بالصَّلب على شكل حرف T.



وبالمناسَبة، فقد استخدَمَت المسيحيةُ رمزيةَ شجرة العالَم ثمَّ حلَّ الصليبُ محلَّ الشجرة الكونية. وقد وصفَ أوريجينُس المسيحَ بالشجرة الكونية. [من مقالة "صُوَر ورموز" لميخائيل عيد – معابر].



بخصوص صليب المسيح، هناك سؤال – طفولي - يدور في أذهان المسلمين:

- ألا يستطيع اللهُ القادر أنْ يُنقِذَ ابنَه الوحيد – [وهُنا يتعوَّذ المسلمون من هذه الكلمة ويقرؤون سورةَ "الإخلاص"!] – ينقذَه من أيدي الرومان ويُـنَجِّـيَه من الصلب؟! ثم إذا كان اللهُ قد أرسلَ ابنَه ليُصلَب من أجل أنْ يمحوَ خطيئةَ آدم، ألا يمكنه أنْ يمحوَ الخطيئةَ دون اللجوء إلى هذه الخِطَّة وبذلكَ ينقذ ابنَه من الصلب؟!

هذا السؤال يقود إلى سؤال آخر – طفولي أيضاً - يدور هذه المرة في أذهان المسيحيين:

- ألا يستطيعُ اللهُ القادرُ أنْ يرفعَ نبيَّه عيسى إلى السماء من دون أنْ يلجأَ إلى الخداع بصلب رجل آخر مكانَه وذلك عندما ألقى شبهَ عيسى على شخص آخر (سواءً أكان يهوذا أم تيطاوس أم سرجس أم الحارس أم...)؟!



كلّ دين يرى الموضوعَ من زاويته.

والمسألة أعمق من ذلك بكثير.



لو قارَنَّا بين الآية /169/ من سورة آل عمران والتي تتحدث عن قتل الشهداء وحياتهم: (ولا تحسبَنَّ الذين قُتِلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ...) وبين الآية /157-158/ من سورة النساء والتي تتحدث عن قتل المسيح ورفعه: (وقولُهم إنَّا قَتَلْنا المسيحَ عيسى بنَ مريمَ وما قتلوه وما صلبوه ولكنْ شُبِّهَ لهم. وإنَّ الذين اختلفوا فيه لفي شكٍّ منه ما لهم به من علمٍ إلا اتِّباعَ الظن وما قتلوه يقيناً بل رفعه اللهُ إليه وكان اللهُ عزيزاً حكيماً)، لتوصَّلنا إلى الفكرة التالية:

مع أنَّ الشهداءَ قُتِلوا ظاهرياً، إلا أنهم في الحقيقة أحياء. ومع أنَّ المسيحَ قُتِلَ وصُلِبَ بحسب الظاهر، إلا أنه في الحقيقة [أي يقيناً] حي.

بناءً على ذلك، يكون القتلُ حياةً: ["... إنَّ في قتلي حياتي" – الحلاج]، وتصبح أداةُ القتل أداةَ حياة، ويصير الصليبُ رمزَ حياة وانتصار على الموت.

فالقرآن لا ينفي قطعاً موتَ المسيح. وعلماءُ المسلمين اختلفوا، هم أيضاً، في مسألة نهاية المسيح (هل مات فعلاً أم أنه رُفِعَ جسداً وروحاً أم رُفِعَ منزلةً ودرجةً فقط؟؟؟) مثلما اختلفَ المسيحيون في مسألة طبيعة المسيح.

القرآنُ، إذنْ، نفى يقينيةَ صلب المسيح كما نفى يقينيةَ قتل الشهداء.

فالمسيحُ، بحسب إخوان الصَّفا، ماتَ وصُلِبَ وقامَ وتراءى لخاصتِه.

ويحضرنا ما قاله الإمام الحلاج المصلوبُ الذي تألَّهَ:

- ألا أَبْـلِـغْ أحبَّـائي بِـأنِّـي       ركبْتُ البحرَ وانكسرَ السفينةْ.

- على دين الصليبِ يكونُ موتي       ولا البطحا أُريدُ ولا المدينةْ.

وإذا كان البعضُ ينفي أنْ يكونَ قصدُ الحلاج من عبارة "دين الصليب" هو الديانة المسيحية [الظاهرية] أو صليب يسوع المسيح، فلا يمكنُ أنْ ننفيَ أنَّ الحلاجَ كان يقصد المعنى العميق الذي يكمن وراء باب الصليب وهو الخلاص، المعنى نفسِه الذي ترمي إليه المسيحية.



إنَّ حادثةَ ظهور المسيح بعدَ صلبه أَدَّتْ إلى هذا الشك في حادثة الصلب نفسها.

فصلبُ المسيحِ، إذنْ، ليسَ كصلب إنسان آخر. وبالتالي فصليبُ المسيح ليس كأيِّ صليب آخَر. أي أنَّ صليبَ المسيح ليس كصليب الرومان واليهود صليبَ تعذيب وقتل بل صليبَ فداء وخلاصٍ وحياة.

ومهما كتَبْنا بهذا الشأن تبقى المسألةُ قناعةً شخصية.

المشكلة ليست في السؤال: هل صُلِبَ المسيحُ أم لا؟

المشكلة هي: هل سنستمرُّ في هذا الجدال العقيم وننسى ما يجبُ علينا فعلُه من أجل خلاصِنا الفردي؟؟؟!!!

وسواءً أصُلِبَ المسيحُ أم لم يُصلَبْ، هل سيُعيقُنا هذا عن فعل الخير؟؟؟!!!



إذا كان إنكارُكَ لفكرة الصلب سيزيدُ من تعلُّقِكَ أكثرَ بالشهوات والأنا الكاذبة، فمن الأفضل لكَ أنْ تؤمنَ بالصلب وتكفرَ بفكرة رفع المسيح التي لم ترفعْكَ إلى مستوى وعي أعلى.

وإذا كان إيمانُكَ بالصلب سيزيدُ من اتِّكالكَ وتواكُلكَ ولامبالاتكَ وتعاليكَ على الآخَر وإلقاءِ أخطائكَ على شخص يسوعَ المسكين، فالأفضل لكَ، على ما يبدو، أنْ تُنكِرَ الصلبَ بهذا المفهوم وتؤمنَ برفع يسوع المسيح إلى مصافِّ الآلهة.



وإذا كان الصليبُ هو مفتاحُ الحياة ورمز تقاطُع الروح والمادة من خلال الحقيقة الواعية لذاتها [أكرم أنطاكي، مقالة "درب المريد أو مسيحية الإسلام"، معابر]، فلنحملْ هذا المفتاحَ معنا ولنفهمْ رمزيتَه ولِنتمثَّـلْ دلالاتِه ولنعرفْ كيف نستخدمه لخلاصنا ولنستخدمْه فعلاً لا قولاً فقط.



الصليب هو هجرانُ الشهوات وعدمُ التفات القلب إلى انعكاسات الألوهة.

فإذا كانت الخطيئة الأصلية هي الهبوط من المطلق إلى المقيَّد (النسبي) أو هي البُعد عن المطلق، فإنَّ الصليب هو العودة إلى المطلق أي هو تكفير للخطيئة الأصلية.

الصليب هو الطريق الوحيد لعودة آدم عن حوله إلى حول الله، هو بابُ عودتِه عن ذاته الوهمية إلى الله.

الصليب، إذنْ، هو علامةُ انتصار الإنسان على المادة أو الشيطان.

الصليب هو قوة العبور       من الظلام إلى النور.

الصليب هو العودة إلى الألوهة، أو هو "ضمُّ الإنسانية إلى الألوهيَّة"، بحسب تعبير المطران جورج خضر [في مقالة "التجسُّد والصعود"] في معرِض حديثه عن آلام المسيح على الصليب إذْ يقول:

(كلُّ العملية من ألِفها إلى يائها عملية ضم الإنسانية إلى الألوهية. هذا الضم بدأ بالتجسُّد الذي استمرَّ حتى الموت، وبعد الموت بالقيامة، وفي شخص يسوع المسيح القائل لمرثا أخت ليعازر: "أنا هو القيامة والحياة" [يو 11: 25]).

الصليب هو نزعُ الخوف من الموت، هو نزع الموت بذاته.



وإذا كان "الكلمةُ-الإلهُ" قد صارَ بشراً [أي تجسَّدَ] لكي نؤلَّهَ نحنُ [بحسب القديس إثناسيوس الكبير عن تجسُّد الكلمة]، فإننا، ولكي نتألَّهَ، يجبُ أنْ نُصلَبَ.

فالإلهُ قد تجسَّدَ مثلنا لكي نصيرَ مثلَه، أي لكي يضمَّنا إلى مملكته.

فعمليةُ أنْ "نصيرَ مثلَه" أو أنْ "ننضمَّ إليهِ" هي عمليةُ الصلب نفسُها.



ألا يحق للحلاج أنْ يجاهرَ بدين الصليب وأنْ يناديَ أيضاً:

- اقتلوني يا ثِـقاتي       إنَّ في قتـلي حياتي.

- ومماتي في حياتي      وحياتي في ممـاتي.

- إنَّ عندي مَحْوَ ذاتي      مِن أَجَـلِّ المَكْرُماتِ.



بما أنَّ الصليبَ هو المفتاحُ إلى الحياة والخلاص، اسمحوا لي أنْ أُقْـفِـلَ كلامي باسمِ الصليب.



محمد علي عبد الجليل

الاثنين 19/9/2005

View mabdeljalil's Full Portfolio