شعب لا يقرأ

Folder: 
مقالات



في أحد محالِّ التحف الشرقية في دمشق لفتَ انتباهي تجاوُرُ لوحتين لِـدِينَينِ يتباعدانِ أكثرَ فأكثرَ في عصرِ تقارُبِ المصالح وحوارِ ماسحي الجوخِ أو الأحذية. اللوحةُ الأولى تُمثِّلُ آياتٍ قرآنيةً بخط الثُّـلُث والثانيةُ تضمُّ السيدَ المسيحَ مع تلامذته في العشاء السري الأخير.

فرحتُ جداً بهذه المرونة الظاهرية من جهة صاحب المحل الذي حاولَ أنْ يُثبِتَ لي بشتَّى الطُّرُق صِحةَ إسلامِه وإسلامَـويَّتِه وتسلَّلَ إلى نفسي شعاعٌ من التفاؤل الشاحب فبادرتُ إلى سؤاله ليطمئنَّ قلبي مما رأتْ عينايَ، على طريقة سيدنا إبراهيم في (أرني كيف تُحيي الموتى):

- "يا عم ما هذه الصورة؟!"

فأجابني بحماس الداعية الإسلامي أو المبشِّر المورموني:

- "إنها لوحة تمثِّل سورة المائدة في القرآن".

- "عفواً! أيَّةَ مائدة تقصد وأيَّ قرآن؟؟؟!" سألتُه مستغرِباً.

فأجابَ محاولاً الهروبَ من المناقشة:

- "واللهِ لم أعدْ أتذكَّر بالضبط. لكنَّ الشيعة -هداهم الله- يؤمنون بالأئمة الموجودين في هذه الصورة".!!!

فقلتُ مندهشِاً:

- "يا رجُل عن أية شيعة تتكلم وعن أي أئمة؟؟! هذه صورةُ السيد المسيح مع تلاميذه في العشاء السري".

فقال ببرود:

- "بصراحة هذه الصورة يطلبها السُّـيَّاح الأجانب كثيراً وبسعر عالٍ."



بعدَ ذلكَ أيقنتُ أننا شعب لا يقرأ.



وفي أحد مقامات الأولياء في دمشق أيضاً أخذَ خادمُ المقام يشرح لي أسطورةَ أبينا المرحوم آدم وصاحبتِه حواء بما يُوْقِف له شَعرَ الرأس دهشةً وبؤبؤَ العين استغراباً. فسألتُه ما مصدرُ أقواله؟ فأجاب باستغراب:

- "يا أخي يبدو أنكَ من جماعة (أبو النور). جماعة (الفتح الإسلامي) عندهم علم أقوى. كل ما أقوله لكَ وارد في سورة (النعمان). ألم تقرأ القرآن؟؟؟"

وبعدَ مناقشة، اقتنعَ أنَّ اسمَ السورة التي كان يريد أنْ يستشهد بها هو (الأنعام) أي الماشية.



وبعدها زاد يقيني بأننا شعب لا يقرأ. وفهمتُ بُعداً آخرَ للآية القرآنية: (هو الذي بعثَ في الأميين رسولاً). ربما كان المقصود بالأمي هو الذي يعرف القراءة ولا يقرأ أو الذي ليس عنده بالأصل كتاب ليقرأَه. وليس الأمي من لا يعرف القراءة.



وفي أحد السهرات وبينما كنا نتكلم عن الشاعر أدونيس [وأدونيس -لمن لا يَعلم- الشاعر السوري الفينيقي العالمي المجدِّد الناطق بالعربية هو الذي فتَحَ اللغةَ العربية على اللامحدود، ليس على طريقة الفاتحين العرب...] قال أحدُ مُدرِّسي اللغة العربية المُجازين في الأدب العربي:

- "أنا لا أعرف الآداب الأجنبية لأنهم لم يدرِّسونا في الجامعة الأُدباءَ الأجانبَ من أمثال ذلكَ الأدونيس الذي تتكلمون عنه".



وعلمتُ بعدها أنَّ الشعبَ الذي لا يَقرأ ولا يَسمح لأحد بأنْ يَـقْـرَأه هو نحنُ.

ولا أدري من نحنُ، لأنني بصراحة أنا واحد من هذا الشعب لا أَقرَأ.



العرب جميعُهم يعرفون صوت "نانسي عجرم" مثلاً، وكلُّ السوريين يعرف صِياح "علي الديك". وكل المدعوِّينَ "مؤمنين" يستمتعون أو يتمتَّعون بصوت "عبد الباسط عبد الصمد" وبِسَوط "عَمْرو خالد" وبسياط خُطبائهم في كل جمعة. وليس في ذلك مشكلة، لكنْ في هذا ما يؤكِّد بما لا يدع مجالاً للشك بأننا شعب لا يعرف القراءة بل السماع.

نحن شعب يعرف السماع ولا يَسمع، ولا يعرف الكلام ويتكلم.

وهذا ما يؤكِّد أيضاً ما ذهبَ إليه بعضُ المفكِّرين العرب (أظنُّه الشيخ المؤمن المرحوم عبد الله القصيمي) حيث وَصفَ العرب بأنهم "ظاهرة صوتية". آه! آه!!! ما أروع هذا الوصف!

حتى أنا أستمتع فقط بسماع مثل هذا الوصف.

يحيا صوتُ العرب وسوط خُطبائهم.

أما الكتب فإلى الجحيم.

إقرأ.

ما أنا بقارئ.

تبَّـاً لشعب لا يَقرأ،   أقصد الشعبَ الفرنسي!!!



محمد علي عبد الجليل

الأحد 26/6/2005

View mabdeljalil's Full Portfolio
tags: