فوضى المباحث

Folder: 
دراسات

فوضى المباحث الضيقة

غرائبية





الابداع في ادبنا العربي الحديث

كــرم الأعــرجي





المهارة الفنية في اللغة تعبير عن ألفة الواقع بمعناه الحاصل في عنصرها ، وحينما يكون الفعل الدرامي على بساط المرويات في العمل الروائي مفتوحا إلى أقصاه ، يستثار التلقي لما يدهشه من فيض المعرفة . فتتجدد الافعال الداخلية للروائي بالاستمرار في الكتابة ليكون العطاء أكبر وموازياً للطرح بمفاهيمه (الاجتماعية ، العقائدية ، السياسية) بالمحسوس الداخلي المحسوم أو دونه من شرائح أخرى يبحثها كمعبر فكري ، معبّر في اللغة ، وهذا ما يطبعه الفهم في اختيار مجازاته المسطورة ، ليبني هياكل المعنى في المنجز الابداعي ..

ان عدم فهم الإنسان لوجوده المنقسم بين الاكتشاف والمنهج الحياتي هو الضياع في فلك الفوضى (العام) والتوافق العقلي والروحي هما امتداد معرفي يخضعان للمعنى الوجودي في سر الجوهر الانساني (الكاتب) ، وهذا ما احدثته لغة البساطة الممتلئة جوف السرد المركز في  الرواية الان ،

الواقع أداة سياق الاشتغال الذهني لوعي الروائي ، يركز بانتباه وحرص في تكوين مزاياه بانفعالاته وهدأته لينسج بنية للموضوع الجامع من خلال اللغة ..

وبما ان الواقع الإنساني محسوس وغير محدود كتكوين حياتي شامل ، تكون المساحات الدالة أعمق عند مشغل (الدال) الفكري ، لذا يتوجب على (الدال) ان يعي (المعلوم) بدقائقه ، حينها يفتح شاشة المشاهدة من بصيرته تجاه (المعلولات) وهنا تتضح معالم الرؤية في الاكتشاف ، برغم الصعوبات البلاغية المحصورة في المجاز والاستعارة والتشبيه كتعبير، دون الاعجاز الغيبي كما هو حاصل في المشاهد المتتابعة لشرائح المجتمع عبر قضايانا المتشابكةفي الحياة المعاشة .

دائما الكاتب العربي الدقيق في التفاصيل يحرص من الوقوع في فخ الاحتمال المتناقض ، أي إلى حالين غير متشابهين دون الجمع بينهما ، وهذا ما حصل في التركيب الحداثي للأدب الغربي ، مثلا

(البنيويون) حبيسوا اللغة والرافضون لأي شكل مرتبط بالأنساق الاجتماعية والأنظمة في المعنى أو خارجه ، من غير الاختصاصات اللغوية . (التفكيكيون) سجناء الرفض لعلمية النقد ، وكذلك الشك في كل القوانين والتقاليد مع الاطمئنان لـ (لا نهاية للمعنى بفضائه غير المحدود) إنّها فوضى من المتنافرات .

وهنا يتيقظ الروائي بمعرفية ذاتية مبنيّة على وعي شامل ، بحيث  يستطيع ان ينظر مليا على أثر هذه الفوضى من التنظيرات العالمية .. فوضى المباحث الضيقة والافكار المحدودة في اطلاق المفاهيم نحو الفضاء الأدبي بأنواعه ، وعندما تتنامى العلاقات بحدودها الممكنة من التحديث تتجلى الانعكاسات في ذهن (الباث) ليبدأ رد فعل الانعكاس في الكتابة .. وهنا يبدأ البحث عن انتصاره الكتابي ، وهذا ما حصل في  ادبنا الحديث .

نلاحـظ الكاتب تسكنه معالم التاريخ التي وظّفها لعصرنة المألوف الآني (الحاضر الواقعي) ومن ثم الارتكاز على باطنه العقلي ذهنيا كي يرى القادم المصيري المتأثر والمؤثر ، ليخرج عماء الصدمة المرتبطة من وهمها .. نحو آفاق تتشكل أمامه بوضوح عيّناتها ، وهذا الفعل يتأتى من سيرة مشبعة بما يرثه من قراءات جذره الحافل بالمديات المفتوحة ، فَتكشفُ له أسرار المخزون التراكمي من التاريخ لينفذ بثقة المعاصر في تخليد لغته المتفردة  الحديثة ,

أية كتابة معاصرة لا تخلو من الغرائبية ، وهذا جزم حتى في السهل الممتنع من اللغة ، فالغرائبية بمعناها الغامض عندما تتخلل الجملة في النص الروائي تكون لامعة وخادمة للمعنى بكل أبعاده ، فيما إذا كان الفكر سائحاً بمعرفية تجلل تخيله من أجل الرسم الصوري عبر اللغة، الماضي - الحاضر ، ولا أقول في أغلب الحالات الحسيّة  للمبدع يتحسّس القادم كشعور اطلاقي في المتخيل .. وهنا يكون الغموض واضحا مكشوفا لدى (العين) فلا يكون للغرائبية سمة محجوبة ..

المدخل الاستقرائي لأي دلالة يطلق عليها الغموض ، بالتأكيد تجتمع فيها عيوب الفهم ، وعدم التوصيل يعني المنتج الابداعي بحاجة إلى إنارة ، وبالتالي سنبقى نلاحقها في التأمل المجهد ، وهذا طموح القارئ المنقّب من أجل كشف المرموزات الحسيّة ، ولكن لو تدارك الكاتب العربي ذاته في الخروج من التراكيب المتعددة الوجوه ، وهذا كثير في الروايات العربية المعاصرة ، ونحر التآويل على بوابة المذبح اللغوي ، لآستُلطف بوضوح الكتابة كما هو حاصل في  الرواية الجزائرية..  لتكون الرؤية أعمق وضوحا دون الانفجار الكلماتي المنمق الذي لا تحده حدود ممكنة من التصور .

العجيب في الأمر ان البعض من كتاب (الرواية ، القصة ، الشعر والمسرح)  وقد نصل أحياناً إلى المقالة ، كلهم يبحثون عن النور في المكامن (نعم) وهذا طموح مشروع ، ولكنهم يكتبون بآلية لغوية سوداء ، مبهمة ، تائهة ، منفية بفضاء آخر غير منتمي . لا يضعون بدائل تعالجهم من الوهم الساري في مخيلاتهم المرتبطة بمعجمهم الغرائبي . وهذا ناتج عن تأثير القراءة   بأغشيتها التي وارت الأحاسيس نحو المجاهيل . فكان الصراع غير محسوماً بالنسبة للذات ، لذا تاهت المدارك في تشابك الاتجاهات ..

العمل الروائي المخلص الذي ينقل احداث الواقع بأمانة وعفوية منطلقة من إرث تاريخي ، هو الذي يشمخ وييبقى أصيلا بأسطرته للمفاهيم العالية .

وكما يقول د. حسن حنفي في قضاياه المعاصرة وبموقفه المحدد من التراث الغربي

(قد يستطيع المفكر بموقف واضح ، وبأقل عدد ممكن من المعلومات ، احداث ثقافة وانشاء حضارة كما كان الحال في تراثنا القديم) .


View karam's Full Portfolio