زوجتي . . زوجته العزيزة

زوجتي . . زوجته العزيزة !





تأليف : جمال السائح



  

جمال السائح



( 1 )



كنت اذكرها كثيرا •• بل كنت أحن اليها اكثر ، وكان حنيني اليها يسطع كلما كنت اشعر بحاجتها الي •• ثمة حديث كثير يحفوني بمجده ، ويدفعني للتسلي بذكرها •• هذا ما كنت احسه تجاهها أيام كانت مقترنة بزوجها وذلك عبر تسقّطي لأخبارها , وتطفّلي على أحداث يومياتها ـ الذي ما كانت تألف العيش معه تحت سقف واحد ، الا لغاية واحدة ، وهي ان الاقدار شاءت أن يتم هذا العقد ، وكفى !

هذا ما فهمته منها فيما بعد . . غير اني توصلت بالتالي الى حقائق اخرى هي انها كانت تحاول العبث بحياتها ، ريثما تجد الطريق الذي يبتعث فيها أسى معين ، يدور بها على رحى الاجترار الممتدة أقطاره فوق رقعة نائحة كامدة ، تتراقص معاقلها كلما نشدت الحنين الى ماض غرير ، غيبته الدهور فى طي اللحود ! وتقاسمته السنون في مواسم عنكبوتية ، وذلك حينما ندبته كحلم وردي لكل بنت غضة معطاء ، مسح الجمال عليها من نكهته ، فحفاها بصبغة أفعمتها رغدا ، وطبع الحياء في مبسمها كل ما ادخره لها من وحي انامله ، واستقاه من ريع بذله! بل انها كانت تغامر وتحاول ان تلعب دور الام ودور الزوجة كيفما اتفق لها وشاءت لها الايام .. من دون ان تعي حقيقة اللعبة وانها ربما اشتملت على اشياء كثيرة واشياء اخرى لم يعهدها فهمها البسيط للحياة بعد !

كانت منتشية بروع صباها ، وفخم رياضه، تسبح بين مرابع طفولتها كريح صافية ، زاهرة بمجدها الذي آلت على نفسها الا ان تصنعه بيدها ! فحيثما سنحت لها الفرص، كان يجتمع لها وقع غايات لائحة ، كانت تتراقص بين احلامها كالقطوف الدانية ، فشاءت لها ان تختال رائدة في ضمن مواكبها العرائسية . . كيما ترفدها بكل معين ودفيق من ألحان صباها ، والرافلة بكل ما يبعث الغنى في حقولها الخصبة . .  حتى تصير تضع الحجارة والطوب . . الواحدة في اثر الاخرى ، كيما تشاد لها مرتعا وارفا ، تتمثل فيه كل أمانيها الشادية ، ورياحينها الباسمة وهي لا تفتأ تلاعب نفسها بظرافة من تنسمت الشوق الى صباها . .  في نفس أيامه ، كمن راح يحلم في ازمنة احلامه نفسها . . وفي نفس تأريخ منامه !



(  2  )



غير انها درجت على ما ارادت هي مشيّتها وبالذات لنفسها ، حتي جاءت اللحظات التي اجترأت فيها الاقدار ، كيما تتعالي عليها بيد من المطاولات المهولة ، والمناوشات الصائلة . . تجيل بها بين نفخات الموج العباب ، وهناءة السراب المفجعة . . حينما  تقدم اليها أحدهم ، ممن يُحسبون على من يفتتنون بمعاني الجمال ، ويظلون يبحثون عن تحف يندر أن تقع عليها عين بشر . .  كمن راح يغدو من ذوي الاهتمام بخلاقية الفنون وبديع الافكار ، وهم ما كان بوسعهم ان يمتلكوا نفحة من  ذوق ، أو طيف خلق سام ، ولا حتى سنا رعشة ، تشدو عند شذى قنّة زاهية ، أو قبة فرقد لامعة ! وما كان من كيدهم ان يصيبوا من غزل العيش ، ونغم التشبيب ، الا ما كان يفوح منه ريح البغضاء والعداوة لكل ما لم تزل أوراد وجناته، تحفل بكبرياء لا يشده الى كل رفعة وسمو ،  سوى اريج برق حان ، وضمير وعي لا يقفل حبل غيبه عوضُ . .

ولا ابالغ في الكلام ، ان قلت انه ما كان الا ممن  يساقون تحت لذع سوط المطامع ولهيب جشع لا يغني من جوع ! فلا يكاد يطيش عقلهم، وتطير ألبابهم حقدا وتأليبا ، الا على كل من انتفض بين أكنافه من نسق المحبة ما وافق محاله، فالتأم بين أحنائه جميل ما اتفق له ان يغذوه من رحيق أعطاف متيّمة ، لم تكن لها أن تتعاطى الحب الا بين طرائق عذبة ، تشوف فيها العشق كل وسن ، غفت عنده البراعم بين آيات من الصبر ، وآمال من العمر الاتي ، بكل ما يوحي للفؤاد الكسير بلطف رفيق مقتدر ، لا تعتري خصاله  الا كل رحيب صدر . . حتى انه ما دهمت صفاته احدهم ، الا كان منعوتا بصاحب القلب الكبير ، ممن لا تنأى ملامحهم عن قسمات ذوي الفيوض الموعودة والحنان الموجد . .

لذا ، ما كان لها ان تعي ما لم يكن بامكان لحاظ القلب لديها ، ان ترى الى ما يشفّ عنه كل ما خطر على أيامها ، أو باغت لياليها ، لتلفيه جزءا من حظها الذي لا يتجزأ عنه ! فما كان لها ان تلمس امواج لطفه ، أو تتميز سحنة بهائه . . وما كان لها ان تتبين حقيقة الرعب الذي بامكانه ان  ينقضّ عليها غفلة ، تحت جنح عباب من حنادس الليل المغيمة ، والمغيّبة أسجافها تحت مطاوي أغشية من ظواهر حبيبة ، ومعارض حييّة لا تكشر في الباطن الا عن انياب ساخطة ، وبراكين خادعة ، لا تترامى الا خلف ستائر ماكرة ، ومدائن آفنة . . فلا تنبىء لرائيها الا عن طلاقة وجه بسام ، وبشارة محيا بشاش . .

بينما ما كانت دفائن الايام لتستتر وتتوارى الا خلف وحش كاسر ، يخبىء في مكامنه جثمان قلب حاقد . . فلا تنطوي دخليته الا على سريرة ذئب غاشم ، وخبيئة ريح سائمة !

فما كان يفترض بازمان أن يغزل لها وفي كل لياليها التي اقتضتها مروءته ، الا ما يمكن أن تنتسجه لها عفوية قلبها ، وبكل لحن يُغتزل من نول الافئدة ، كيما تلفح نسمات أشعاره مطالع حسان غيد ، ما كانت قد جاست ديار مراياهن ايما لحاظ من عين أو حدقة ، ولا كانت أطيافهن لتخطر ولا لبرهة من زمن على قلب أيما جنس من البشر !

. . غير انه ما كان ليغزل لها , الا كل ازار , حاكته لها يد الغدر , من حرير كل بؤس .. كان حدب على امره حولا حائلا ، ومن كل شؤم صوّب بغيلان تميمته نحو المرابع من حوله ، فأصابها من حيث أشخص بأجناد بأسه الى كل مرتع ومعين ، فما تركوها حتى أورثوها الجدب والغيض ! وما خلّفوها الا بلاقع مقفرة !

واذا بها تصحو ذات ليلة وترى الى نفسها ، وهي التي ما رأت في معدنها الا لونا من الوان الاشياء التي لها ان تتمم جوهر السعادة الانسانية، والفاغمة تجذّراتها في قوالب ذائبة ، لطالما كانت قد هفت بروحها الى سيب أنفاسها الطفولية .



(  3  )



ولقد امعنت بعدئذ في كل ما جرى عليها ، حتى انها لم تفق من تأملاتها الا بعد ان تحققت من انه لم يصبها الذي اصابها ، ولم يلحق بها الذي لحق ، الا بسبب من حسن ظنها بكل من دار حولها ، فما كان ليقرع ذهنها أيما قارع ، أو يعرض لافكارها أيما عارض ، مما هو لم يطف بعد في مخيلتها . . او يدور في بالها الذي ما رأى الا كل خير ، فما انقلب ظنها بالعالمين من حولها الا جميلا ! وما انغلق نعتها لكل الاشياء المطرقة منها اليها ، وغير المجيلة بطرفها صوب جيدها وطرفها، الا عن اهتمام ساخن بعيد هو كل البعد ، عن كل ما يمت بصلة او طرف خيط الى ملمح تظنّن, أو منبت تشكك !

هذا بالاضافة الى ان هذا كله ما كان ليعكس في جنبها ، الا لطيف شمائل وجميل مناقب، من حيث استئثار الاخرين بكل ثقتها الوفية . . ومن حيث ايلائها اياهم كل عناية واهتمام لا تنبع مقاصده الا من قلب غرّ ، لم تعرك مذاهبه الايام بعد ، ولم تشد عراه التجارب بعد ! ولم تشذب المواقف طرائقه بعد ! فلم يتفتق عن فلذات الزمان ، ما له ان يترافق مع كل لحظة من لحظات بعده ، أيما بُعد بصيرة معجلة ، أو أيما مدى لحصافة نبيهة كان لها ان تستبق عمرها ، . . فتغذو السير بحول عامها في ازاء اليوم لدى قبيلها ، وسبات الليل لدى نحلتها !

وبعد ، فما يكون قمينا بمشاعر فؤادها الطيب وقلبها النقي أن تتحسس المعاني بشتى مظانها , ولكل ما ينقطع الى ما له أن يبعث في نفسها سوء الظن ، أو ان يدفع اليها ما يبغي مداخلتها بشيء منه أو من أقرانه !

وهذا كله ، هو ليس ذريعة للتسليم بسذاجتها والى كل هذه الدرجة . . لانه كان لها ان تفهم الخير والشر ، وتعرف مذاهب الاول ، وليس لفرق الثاني ان تخفى عليها معالمهم الواضحة ، وغبرة تطلعاتهم ، وسوء نياتهم ، وخبث سرائرهم ، لانها تتلمذت ، وخالطت ، وتقاسمت ساعات ايامها مع من قاسمها اياها . . غير ان ما اردت التأكيد عليه ، هو ما تحققت منه، ذلك انها لم تكن لتتورط لا من بعيد ولا من قريب , في النزوح الى الاشتباك مع ايام كالحة ، او الانحدار الى مساكن الجراثيم والعناكب ، أوالالتصاق بمواقع الهوام , وأوكار السعالي البشرية , أو حتى بالنشور في فلاة جامحة بكل افلاكها ، والتائهة ايامها في قعر جحور تلك الغيلان الآدمية , فضلا عن مهاوي الحفاة, والتعرف على يومياتهم عن كثب ، او حتى الدخول في عالم من الشبهات الحياتية ، او الصداقات غير المأهولة مفارقاتها بنكبات مختلفة . .

فما كان لها من يوميات تقارع بها كل تلكم  السيئات ، ولا حتى التعامل مع ربيبات السوء ، واحلال مساعي التقارب محل التباعد مع أسر مشبوهة , وعوائل خطيرة في نوعية افكارها الاجتماعية , وطبيعة التزاماتها العرفية والثقافية , التي يمكن أن تشتمل عليها عُلب رؤوس أفرادها وجماجم اصحابها . . وكما أنه ليس لها في العير والنفير ناقة في كل ما مضى , فانه ليس لها أيضا اي باع ، ولا حتى في اقتحام حلبة المواجهات الساخنة ، مع أيما نوع من أجناس البشر , ولا بأي صفة من صفات الالحاح الاكيد ، ولينسحب مثله على كل الاصعدة المشتركة ، وفي مختلف المجالات اليومية !  

لذا ، فهي كمن سمع عن الشر ، ورآه في التلفاز ، وانصت اليه في المذياع ، الا انه لم يدع نفسه تسف نوعا من الاسفاف المستحب غير الممقوت ، كيما يعاين انواعه عن كثب ، ويخبر اصحاب الخير واقران الشر ، ما استفاق بين عينيه عن كثب ، فيربو عن المطاعن ، ويحد من شكيمة نفسه ، وصلابة بأسه، ليغدو رابط الجأش ، ثابت العزم ، قوي البأس ، لا تهزه المواقف . . لان في تجاربه خبرة يستعين بها، ومنهلا يستقي منه ! فلا تخوفه المهوّلات ، ولا ترعبه المنغّصات، بل هو في امره كمن راى الجنة والنار ، فسبر غور الاولى ، فاستبان له خيرها ، وكشف عن مبطّنات الثانية ! فعاين أهلها وما وقعوا فيه ، وعرف مراوغاتهم وحبائلهم ، وفهم حيلهم وظلم أعتدتهم ، فعاد يتدبر في أمره ، ويتفكر في شأن أهله وذويه !

واذن ، فهي كمن تسّمّع الى الشر وحكاياه، وتطّلع الى اهله في التلفاز ، ولكنه . .  لم يساكنهم ، فيقع على دخيلتهم وجها لوجه ، او يختلف معهم فيتعرض الى نقمتهم علنا ، فيخاصمونه ويضطر الى الاصطدام معهم , حتى يتعالى على جبنه , كيما يخاصمهم هو الاخر ، او ينيف على قعوده ، فينهض ليناجز اهل الطغيان ، او ينازل أرباب العصيان ، ولم يقع في مخمصة او اختلاف مع أبطاله . او تفرده الظروف يوما ، بعدما تعامل معهم من قبل، ولكن تحت عناوين صديقة لهم . . فاذا ما انتأى عن مسلكهم ، او عارض مشربهم ، واذا به يصير امام فتك تعريضاتهم ، وغمز تصريحاتهم التي غابت عنه ، او انها بالاحرى لم تغب عنه . .  

بل انه ما كان خطر في باله يوما ما ان يضع نفسه في موضع من كان يراهم عرضة لنهب سهامهم ، او وقع قبضاتهم الثقيلة ولعناتهم الطائشة ! حتى يصبح نهبا لسوط احداقهم اللاهبة ، او غرضا لسيل قدحتهم الشزراء ، فضلا عن مطالباتهم الظالمة ، او ثأراتهم الواهية ، او وعودهم الخائنة ، لا سيما عهودهم المتسافلة !    

واذا بها ذات يوم ، تحط فوق كل زائف من الامواه ، وكاذب من الافواه ، فصدقت الرؤيا ، وصحت على نعيب غربان كالحة ! وعواء ذئاب سارحة ! حتى استباحت بعدئذ التفكير عمليا ، وفي كل مواضي الشرور الكائنة وأوكار السيئات الماثلة . فصارت تنأى بنفثاتها صوب كل ما التصقت عقائده  بمعاقل الحقد واللؤم ، وتحاذت مدارج مذاهبه مصبّات البغض والشنار . .

فاستفاقت وجناتها محتقنة ، وتراقصت حبات العرق المتفصدة في جبينها بصخب ، واذا بها ترى الى أيامها الذاهبة بكل لياليها الماضية ، والى أزمنتها الغابرة بكل معانيها الدافقة ، فما كانت لتبصر بيوميات  أنفاسها الذائبة على أعتابها ، الا كما تبصر بغرة من أعواد الصبايا وأذناب الفتيات ، دفعهن سيل الحظ الى مرامي سبيل ، كان لا بد من التيه بين فوّهاته المدلّسة ، وأحراشه المذنّبة ، حينما ظلت مرتفعاتها المتدافعة بعذاراتها الغائرة في لجة السماء.. موشحة بلون الفراق ، تسارّ انواءها بكل لواعج القلب الذي غادره أهله ومحبوه ، وبقي هو هكذا وحيدا خاليا ! الا من محاولات التعتيم على ما اندثر من اوهام حقيقية ، ما زالت تلتهم احشاءه بين الفينة والاخرى . .

ولقد كان لمثل هذا الفؤاد ان ينزلها منزل الاتهمام والطعن عليها ! لانها كانت في نظره  متلبسة بكل انواع السخام الذي له ان يفقأ لون الاشياء الفاقع والتي لها ان تثير مساحات السعادة ، وأحجام الهناء ، بين مثابات ومفاوز كل المعاقل التي وطأتها . . أم لم تطأها قدم انسان . . .





(  4  )



وبذلك آلت الي ، بكل ما آل اليه حظها الذي حاكته لها يد السنين العجفاء ، الخاوية من ايما تجربة واخري ،. .والخالية من ايما لسان ناصح او يد ناجدة او حتى نظرة مائزة ! وهي التي ما كانت لتحلم بجرأة الاقدار ، حينما يكون لها ان تتطاول عليها . وهي التي ما كانت لتحلم بميقات ، ينعم صاحبه ومن خلاله بعذب المثول بين يديها ، والعبّ من رحيق مشهد محياها الرائع وطلعها البهي ! الا  كل من كانت له الهامات بطل رشيد ،  يمتاز بمروءة الشجعان ، وحلم الفرسان ، تجلله عظمة الواعين ، وتحفّه اريحية البسطاء ، من ذوي الاقتدار والتواضع معا ! فيشق على كل من ناجزهم بقلبه ان يقع على سر فوزهم بحسان الدنيا والاخرة ! حتى صارت لا تقوى ان تستعيد مجد طفولتها الغض وعرس ملاعبها الصبيانية ، الا في الاحلام ! حينما تهجع القلوب، وترقد الابدان ، لتصير  عند ذاك العيون حالمة في افق ، لم تزل تسكب الاحداق عنده كل انين وعبرة . . كيما تنبت شجرة ، أو تزرع غرسا  ، يقلّ روحها صوب ماض ، كان قد انعتق من بين أحضانها قسرا . .

وهي التي ما كانت بآسرته ، أو بالقابضة عليه . . ان هي الا تلفيقات حاقدة ، سوّلت لناهبيها بعثها من مراقدها النائية ، ووصمها بها كيما تغالي في انامل صدرها الغائرة باضلاعها عبر جراح غارت في احشاء عمرها ، قبل ان تسبر غور السنين المجحفة . . بعد ان صودرت لوائح ماضيها عنوة ، وغودرت أيامه رغما عنها ، ورغما عن كل نعوت كبريائها ! فلم تحتمل عبء كل هذا الاجحاف الذي التبس ثوب القدسية الغيبية ، وأثقل نفسه بمعجم الممارسات اللاهوتية ، الا قسريا ..

وذلك تحت طائل كل سوط ونير كل نصل ، ظلّ يهمج في الغي والعدوان، ويلغي في حقائق تأريخها ، لتغدو من جديد ترتقب احلام حب ، كيف تصير الى مقلتيها، ترفق بسهادها ثانية ، تداعب في أجفانها كل وسن علق بأهدابها ، وغفا عند اجنحة صمتها المطير بأشتات ولع ، لا تغمز به الريح الا اجنحة شيء من الطير . . لينزلق عندئذ طرف محياها ، ينحدر صوب أفياء ماض تليد. . اذ ما زالت تتقلب في وعي خالد ، ظل غائبا عن الابدان ، عائشا في ظل أحداق أنفاسها، حيث أثيل مجد ، لم تنتدبه السوابق بملاحاتها ، حتى لاحت في الافق بوارق تنتعي قوادم الايام التي غدت ثكلى بغيابه ، فانقلبت أيّما ساهرة .. مسهدة بفعل رحيله !

الا انها ما زالت ترقب تلك الاحلام الوردية، كما لو كانت ظلالها وللحين ، ما فتئت تراقص أفنان الورد المخضلة بشموع الفجر ، والذي ما برح خيلاؤه ينضح بصبر سهيم ، تشتتت اشلاؤه على حين غرة . . في كل حاضرة ومصر ! غير ان ندى الدمع الذي ظل ينسال ما بين اعناق البراعم ، كان قد ظل يمتاز ما بين أغصان خضر ، جعلت تنتقيها ملامحها التي ادخرتها لنفسها مذ كانت ايام زمان ، تداعب فيها ارواحا اجتمعت بين مطاوي سرائرها ، المنحبسة في ظل صمت وقصب وغرس وكتاب..

فراحت تلتمس هيفاء الوجد من ملاعب صباها ومدارج افنانها الغناءة ! بينما لاحت لها نفسها ،  كائنة ترفل بغلالة ظل ، تتشح بفيئ رونقها الراقص بين لالىء البحر المائج بكل خرائده الساحرة وفرائده الوافرة ! لتنقلب صائلة لا تني ولا تهدأ . . تنتقل من اصبع فنن الى اخر ، ومن ذراع غصن الى ثان ، تمرح كما يمرح الموج فوق أديم البحر ، وتلعب كما يلعب الضوء فوق سابحات الفلك ! بل جعلت تسبح عارية تحت هطيل مطر ترامى بين آماق احلامها الندية , فتساقطت قزعاته فوق معاقد أيامها الخاليات !



( 5 )



وفي لحظة من اللحظات ، ويوم من الايام ، وجدتني الفاها لوحدها بين عود وناي ، ولحن غاب عن معقل الوعي في قلب الزمن الحاضر , حينما غدوت عليها وهي قائمة بين الباب واريكة, كانت أعدّت لها مجلسا ومتكأ  . كانت ثمّة تناغي رقصات أنغامها السابحة بين سحب أوتار قيثارتها العتيقة , ولمّا تزل تسابق ريحا , امتطت ظهور جيادها العائمة فوق أحاديث سمرها, والمنعقدة عند ريف أيامها الهائلة بطوافها حول كعبة موسيقاها . لتدور فيها وحدات مصابيح نوتتها النغمية على وقع ارتجاج تلك البيانو التي ظلت أصابعها تلاعب مسارح ألواحها الصقيلة .  . حتى شعرت انها لم تلتق بي الا في مهد صباها ومكمن ماضيها.. في زمن ارتحل عندي على عجالة من أمره ، ونأى عنها حتى صارت تقصيه عن نفسها طولا وعرضا ! لاصير بعدها كمن يسائل نفسه :

ـ  وهل اني . . أنا التي صادفتها ، أم انها هي التي ألقت بضوء عينيها على وحي خيالي ، فأخرجتني انا الاخر من عزلة خمائلي الساكنة الدوح ، اذ كنت ثمّت أعيش فيها كالموتور السابح في مدافن عصيان كل سني اندحاراته المتكالبة . .  ولربما كان لها ان تكتشفني ، كما يكتشف المخرج أحدهم ، فيعمل علي تنمية مواهبه المتعددة وشحذ طاقاته المتنوعة ، ليصبح فيما بعد . . فنانا بارعا في الكيفية والاداء ، ذائعا صيته في مختلف  الارجاء !



( 6 )



اقول ، ولا يُحمد من يعتدي على نفسه ، بقولة تثخن الجراح في احشائه : فليت أنها ما غابت عني وقتما الفيتها تجمع شتات شملها . . بل بدرتني :

ـ  انه يريدني الان •• يريد العودة اليّ •• ويطلبني ثانية ، حياته عبر عنها لي ، بأنها غدت لا تطاق بدوني.

فقلت لها :

ـ  وهذا ما كنت تنتنظرينه منه طوال كل هذه المدة ؟

حملقت فيّ للحظة ، ثم كأن صمتها قد انفض ، منتبها من قسورة :

ـ  كيف تقول هذا .. ان كان ثمة ما ابوح به ، فهو اني ما عدت اطيق النأي عن اولادي . . انهم فلذات كبدي . . ولو اني كنت اراهم بين الفينة والاخرى ، غير اني الان ما عدت اطيق الحياة بدونهم !

ـ  ولكنك الان زوجتي ؟ !

ـ  من اجلي ومن اجل اولادي تخلّ عني كي احتفظ لك بكل حب وبكل هذا الجميل .. ساظل وفية لك وسوف لا انسى عرفانك هذا ابدا !



(  7  )



غامت فوق رأسي بحيرة من سحابة افكار ، سرعان ما عامت بين اوراق ما زلت استشف رسوم مساحاتها • • فما عتّمت حتى عدت اليها مصلتا سيف الحب فوق رأسها ، فبدوت كقائمٍ أصلّي بين يديها ، أقنت لرب عبدناه معا ، فحدث ان حملنا الذكريات كما كنا شئنا ان نتبتل له .. سوية ، حتى بدت كمسحة خيال ، انتصبت بوادر طعناتها ، كسحب هاتفـة ، صائلة بعنف أوداجها ، حينما راحت تدمّج وعي السنين الضاربة في الازل ، في محافل من الغيم المبثوث ، من الذي ليس له أن  يبارح سحنة السماء قط ! ولا ان يزايل كبدها الموجعة بلهيب المواعيد ، والذي ظل يوغر مزيج الاسى في جيدها المسبي ، منذ اعتقال أيامها الدفينة في ظهيرة . . موخزة بنبضات الالم والسهاد !

كانت قد اكتسحت وجهها حمرة ، ظلت تتشدق بشبق غريب ، شفّ أديمها عن تورد عجيب . . كأنما لبث ردحا من الزمن يحدب على صبغ وجنتيها . . وذلك  اثر اعتقالي لسكنات نظراتها المتناصبة ، والمتطلعة الى فيئ ملمحي في نبرة من نبرات مشاهداتها الطفولية •• ولكنها ومضات ظلت تنطفئ ، كلما جعل اللمعان فيها يتراجع ، بوضح من انحسار صفائها ، كما لو لاحت بارقة في افق محياها المهضوم ، والمنطوي خلف اعباء سنين خلت  . .  خلّفتها وراءها كما لو راحت تخلف عناءات سعدت بالانتشاء في ظل مرابعها الفيحاء . . غير ان مرارة لاعجة ، اثر مضي تلك الانامل في تسابق مع شيء من قصاصات الزمن ، والتي رسمت ألحان ذكرياتها فوق ظهور جياد ايام ، كانت قد ارتحلت عنها .. غداة كنت قد ودّعتُها عند مفترق أرض وسماء . .

ظلت سحابة تلك الايام تكنّ لها بالحب والوفاء . . فما كان منها الا ان راحت تذود عن وطن قلبها ، كلما حطّت سفن مرائيها عند لحاظ آماقي المعاتبة •• وهي تنافح عن جيل ، طالما سعت جاهدة في ان تضحي ومن اجله ، بكل ما تحمل في قلبها من تداعيات طافحة بصبا وشباب , واحلام غضة كان ظلّلها وسن قطرات تملّت ولهنيهات من الدهور الوان حيرة .. هي ما زالت عالقة في رحم السماء ، تثخن في كبدها بعد ان راحت تئن موجعة تحت صهيل مطر الليل ، حينما يظل يرقص بنقراته فوق ورق الشجر ، او على سطوح زجاج النوافذ المسدلة على أروقة تعبّأت واكتنزت بأطيب الاماني واحلى الامنيات ، وان كانت توحي بانها لم تعد تعبأ باصحاب لها ، كانت أيامهم  الجميلة قد اوغلت بالقدم !! . .  

فما زالت اذن ، تكابد في التضحية من اجل نسل ظل يغذو البسمات من لحن ماضيها الخالد.. كان ذلك ولما يزل . . حتى ولو كان على حساب سنيّ حبها الاثيرة وردح من زمانها الاميري  •••

وللحظة واحدة ، شعرت ان نظراتنا باتت تلتقي متواثبة ، برغم كبوات صراع الدهر الذي يحاول الان زرع بذور كل سمات التفرقة ما بيننا ،  ليجمع في نقطة اخرى شمل قوم آخرين ! هل ان ما يسمونه التضحيات لا يكاد يعدو هذه اللحظات.. وقع من الهمسات سجل حنينا غادرا، جعل الدمع يثب دون ايما ترنّح في مقلتيّ الحزينتين .. كان لحن صبابة فتيّ . . ربما لم يشتعل أوار قيظه الا في الحين .. ولم تلتهب هواجسه الا الساعة , دون كل ما سبقها من غيث نبعٍ كان يجيء في غير اوانه ..

ظلت يداها تسعّر في جسدها كل أواصر الحب التي ما زالت ترعد بين جلبات ذراعيها السائحة في كل هوى ، بعد ان تركتهما يستلقيان دون تثاؤب فوق تلك الموائد الراعشة ، والتي ما فتئت تسبح بين ظلال اعناق الوجَل الكاسفة خلف أعذارها ، والتي خالها القدر سُبحات ظلت تشرئب بما تطاولت به حتى علقت ما بين الشمس والقمر . . ما بين القلب واللسان. . ما بين صدرها ورحمها الذي يعود الان . . ليفي بعهد ايام خلت ، لكل من كانوا يوما ما  في أكنافه يرتعون ، وبين انغامه يتقلبون ..

ولكن ما مصير ذلك القلب الذي لم ينم الا حين يهدأ صدرها النابض بنهديها الفتيّين . . رغم أني ما كنت أحن اليها ، الا حينما كانت تحتاج الي . . لقد كررت هذا . . ولا اقصد من ورائه الا اني كنت اصانع التمرد فيها .. وامالئ التعنّت لديها ، ليس الا ! . . بيد اني كنت في كل الزمن الماضي لا ارجو الا حبها ، ولا احنو الا على ساعدها ، اغذو الحب من عبء السنين الذي ترزح تحته كل آمالها ••

اما الان وقد انجلت الغبرة وذوت شجرة اليأس حتى فارعت نيافتها واستطالت أفنانها ، وغدت كالدوح الظليل ذو طبع رفيق ، فكيف لها ان تساجل بعد الان بكل ما لديها من ثروات كامنة واوراق حية . . وبكل ما ناء به جسدها الملتهب تحت وطأة جملة من الدهور . .



( 8 )



واذن .. فهي الان قد انصرفت عن المنافحة, واسترسلت في دعة حالمة .. بعد ان نبذت كل الوان الطغيان ، وتركت متاهات الحرب تسترسل في وضع أوزارها ، وتحط من اثقالها ، حينما ودعت كل اسلحتها وألفت اشتياقات الحياة تذروها جانبا .. لا تتفيأ سوى اوراق حمضيات او تين وزيتون .. لانها كانت تنظر في اعماقي وتخاطب سرا موعودا في داخلي.. فهي تناشدني دون ان تنبس بلحظة اشفاق يمكن للغبش أن ينطق في خللها ، من دون ان تبيح لارتعاشة الشوق العكسي ، او انتفاضة الوان سحنتها الشائقة بجدية مراهقة .. ان تستبيح للوجد مساحة تنهل فيها اوجاعه التي جعلت اللهفة تستشرف قسماتها ، ومن دون ان تكابد في صنع ذراتها التي اخذت تشع مستغرقة في استطراقها غير المسترشد الا بكائنات من مرايا سابحة ما بين الفصول ، من التي ما عادت تحفل بها سوى ابراج ، كانت عششت في ماض وحاضر تليد ، وما بينهما جعلت الاستكانات تتهامى كالهجران بحد ذاته :

ـ  سيكون لك في جسد غيري سلوىً عن هواى .. ولو انك سوف لا تنسى حبي بمثل هذه السهولة .. ولو ان الجسد الذي ظل يغرق تحت طائل اثمك ، ما كان ليحمل أيما برعم من براعمي ، ولا كان ليجمل به ان يهدأ تحت صخب ثأر أيما نهد من نهودي المجتمعة في حلقة نهديّ الاثنين .. ولا أن يهزأ بنائرة أيما رائحة من روائح بشرتي الرائجة ..

لانك تعرف لون صمتي الذي يفعم جسدي .. ويثير التظنّن بنشوته التي طالما اسكرتك برغد عناقيده المتدلية ، والتي تطاولت رعشاته بين احضان العشق الذي كانت لحظات الامس عندك ولما تزل تستغرقه .. وذلك كلما كانت تأوهات سعفك الظليل تنتهك خلوة بلابلي المتلاقحة ، وتقوض هدأة حنادس ليال سقمي . .

فلربما اختلجت شفاه سراتها وهي تمضي صعدا نحو كاهلك . . حينما كان ثغرك يطبق على جسدي ، يقرع فيه كل معقود ، لينضو عنه كل مألوف ويكشف فيه عن كل مسكوت !

ولقد جعلتَ تبغتني , حينما أنشأت تلفني بخمار هواجسك ، وتغشاني بعناد قبضاتك الحانية ، كلما مررت بأصابعك المنفتلة على كل غضّ من جسدي ، أو انتويت ان تستشف كل ما لدن منه وتغنج ، حتى كان الوجد فيك يعتصر من احشائي غمرة ما ارتقبته من سحابات الغم ، ونفثات الهم العالقة بين اضلعي . . والجاثمة أمام قربوس مراكبي . .

آخذة بعنان غرائزي صوب كل زمان تولد معه سنّة الاخذ بالاعناق ، حتى كان لِقَيدك ان يهتصر طراوة صدري ، ويخبّ بحوافره فوق نهديّ ، ليصير كثالوث يفتضح خليلته ، حينما يعتوره المسّ وينتهبه شبق أخرس ، فيضحو لا يبالي الا باشتيار عسيلة قدحي , غير العابئ باختماره الماجن , ودوار مخّه الصاعد بين أحداق وعيه , المغيّب خلف كثبان تلك القضبان التي انحدرت الى ما ورائي ، لتخفي كل لُجَينٍ مغيب ما بين اشفار عمر ماض وإغواء سنيّ ملتهبة ! . .

وذلك بعد ان تفحص بعيون صدرك كل خلجات انفاسي ، وتجأر بكل اوهامك كيما تفتش لها عن مدافن ومراقب ، لها ان تنكمش وتنبسط ومن دون حياء ، وان فعلت فلها ان تمد بعنقها افتعالا ، أملا منها في اعتناق سورة شوق وخمرة دهش ، يسود غليان وطرها ظل كل ليال الشهوة وشواهد الغدق المملول في ظل صرخات اللذة المتخمة حد الاعياء ، غير الواعية بمدياتها النافرة بين احضان الدهور المنغلقة على اوتادها .. المثخنة بالقدم دون الانكفاء على اوتارها اليافعة .. والتي كانت تتفجر بين دفعات نزعاتي المادية وصرخاتي النارية . .

اذ ما وجدتها تروم سوى معالجة ما انبجس من صهيل تلك اللواعج الدافقة ، ومطارحة ما نما اليها من جسيم الوقع الغالي في دخائلي ، وحميم الصوت الهادر في أعماقي . . وذلك كلما استكانت شفاهك ، وهي تحط فوق رسم العناقيد الحمر ، وعند شفاهي الغضة.. كما لو راحت عوالق الايام لديك ، تجتر كل شهد سرقته أنفاس السنين القانية حتى ابتعثته دهور خلية ، حينما اعتلجت دفقاتها غاشية ، تعبر بمساماتها مجامع فراقيد الاكوان التي ظلت تتطلع رانية صوب فراش يبحث عن صاحبه ، تتحسس الدفء بين أهدابه.. فتحاول اللياذ به ، كيما تأخذ بتلابيبه ، وتستقي النفحات عبره ، فتعبّ من الحب السامي ، وتنهل من بطولات العشق الذي لا تقع في سمائه شمس غاربة ، او وطن مهاجر ، حتى تنسل من خلال شطآن أغرابه اللائحة . . لتلوذ بأرض تعمرها البسمات ، ولا تثكلها النقمات . . فبربّك ، كم هو مقدار الحب عندك, وما حجم رقيّته ، بل ما المسافة بينه وبين نتوءات الريح التي ظلت تسدر ما بين مراقباتك العائمة خلف ابصارك الداجنة ، وما بين النأي الذي استفاقت وراءه كل مناماتك الدارجة .. كانت ولمّا تزل : دافئة هي ملامحه ، عذبة هي لياليه ، مسهّدة هي رحلاته الجوّالة ، وزيارات أطيافه الخجلى من عنت الصبية والصبايا . .

فكم هي حلوة أماسيه , وكم هي مبكية لياليه .. تلك التي تتطاول عاليا , كيما تعتنق لثمات محبيه ، لا سيما عندما تسكن أنفاس الموجودات من حولنا ، تلك الانفاس الخابية تحت جمر من الاهداب الباردة المثلجة . وحينما تنحسر اشلاء سدولها فانك لتجد نأمة البرازخ الراقصة ، تجترها أهواء النهارات الصاخبة ومن دون وعي لعبير او سلطنة ثدي .. وذلك في غمضة عين ، ورقصة نهد ، فلا تستفيق بعدها أيما صورة من بقايا صمت مثقل بالكآبة ، ولا نأمة من آي التقشف الذي ينأى بنفسه عبر آخر دورة من دورات استحالته التي تعبر الافق ، موتورة بفعل كدمات غيب نكوصها بين غالب مناحيه ، وذلك عندما تخمد ثورات القلوب الشائقة ، وهي تنسج فتيلها الموصول بشراراتها النازفة فوق ومضات وعي كل الشفاه الملتاعة ، ولما تزل بعد .. تخضّب كل خلجاتها الوفية بنول رشيق ، تسبغ عليه جهدها ، كي ترتق خلاله شهد أنفاسها ، وشغف اشتياقاتها الجنسية ، ووحي ممارساتها الغرائزية . . والثاوية بدورها خلف بريق نعت ساحر ، ما برح يلهج بنهج عطر ماجن !



( 9 )



بينما راحت تردف قائلة :

ـ  ولربما ما كان ليتفتق وحي كل هذا الايمان , الا حينما كانت أنغام الجسد الشبق تتداعى تائهة بين أوراد , ظلت تفتش لها عن غيران ، تبيح فيها كل السنن أي سبيل واخر ، لانفاذ وحي رغيب ، رهيب في كل ممارسات الحب ومناظرات الجنس المتئدة ، وهي تتأدى الى رحيب الافنية وعتيق الاقبية . .

وتصمت برهة لتعاود كلامها :

ـ  كم أردت ان ألتذ بحبك ، وانت تأخذ بعناقي عند قارعة طريق ما . . كم طاوعتني نفسي ازاء نزواتي التي كانت تلهمني أن أعيش معك الجنس ليل نهار ! وانا التي ما كان احد أشد نقمة عليه منّي ! فانظر كم غيّرني الزمان ، بل قل انا التي غيّرت الازمان بعينها . . أو قل انه انت الذي سوّلت لي صنع ما لم توافقه أفكاري ، وابرام مواد القرار في مجالات اسقاطاته ، وفي دائرة حلبته الذهبية . اذ ما كانت مدافع القهر تروم أحدا سواي .  . وما كانت تطلب غاية وتلحف في قصدها ، وما كان احداً سواي هدفا ، مثلما كنت انا الهدف الذي يُرام من وراء بلوغه : الهاب كل مبادئه ، وبكل ما وسع المهاجم من قوة اقتدار في انقضاض . . ومبلغ سرعة في نسخ وابدال . . كيما ينتفي وهج التصويت لدي وفي مكامن دخيلتي على ما كان يخاتلني في قرارة ذاكرتي مما لم يكن بميسوري التفكير ولو للحظة واحدة قط ، أن خلافه سيخامرني في يوم من الايام . . وها أنذا اصدق اليوم وفي حاضري ، ما لم تخاله فطنتي في الامس!

مردفة مسهبة :

ـ  فكم استلبتني بنظراتك ، وهي تحاول ان تسترق مني كل عضو جنسي فتيّ .. نما ، ولما يزل يحدو حدوه التكويني في جسدي . . ولو اني لا اذكر على وجه التحديد ، ان ما كان يدعو للاثارة والقهر ، هو ان كل عضو في جسمي ، كان وبحد ذاته يحمل لونا خاصا من الجنس ، غير الذي يحمله الاخر ! . . بل كان الجسد ينتفض ، ولما ازل امقت ثورته ، وأشجب غريزته ، حتى ألعن مقبّلاتها ومثيراتها في اعماقي ، وصولا الى احتقاري لاهل الجنس الذين ما كنت اراهم ، حتى كنت أخالني أرى قوما , يئنّون ويرزحون تحت أعباء أيام مردت على سنيها ، بل يرسفون في ظلال مخضلة بفيء من النعوت والاشتياق !

ثم تنهدت ملتاعة :  

ـ  كأني صرت أبغي الثأر لأيام الجنس . . أيام كنت اكره الجنس ، وامتعض من كل ما يمت اليه بصلة وقول . . بل ما كنت انطوي الا على جفاء لكل شعائره ، لاني كنت قد تلقنت هذا من حكومة وعرف ، ومن شارع وشرع ، ومن فقه زائف مستنسخ طبق الاصل في عناوينه ، وغير الاصل في اللون والجنس والطعم والرائحة ! حتي اهتديت اليك  ، حينما استاقتني قدماي المنتويتان الرواح صوب مرافئك ، فرست قواربي في حضن موانئك ، تستَندي طهارة تلك الاضواء .. التي لاحت مشعة بفيض جداولك ، إذ ما برحت تداهن نوارس شطآنك ونقاء سريرتك !

فصرتُ عندئذ أهوى الجنس ، واشتاق الى لعبه ، وارسو ما بين سحائبه ، كي اجلو صفاء غدرانه ، وامتحن قدرات مخلوقاته عند استطراقاته ! بل كنتُ قد وجدته يتصالب في عنان عمري ، كما تتنامى خيوط تيار جارف ، يترامى وراءه انعقاد وصلها ، كيما تصيب وعبر اعتصام بعضها بالاخر ، أسباب البعث الهادر والتي تنوء باختلاق كل هدآت الموج السافر ، فتعلق بها عندئذ .. مجذوبة الى مساقطه ، وبكل ما يمكنها من قوة ، تؤهلها لكي  تندفع كالاندلاع في وسط القائمة من الاعصار والعصف التدريجي .. فتندلع مورقة بكل ما يدلق سحابات ألسنتها المبحرة ، صوب احلام ظلت وللحين مؤرقة بسهادها الخاوي الا من كل غرام اجوف ومغامرة دهماء .. فكانت هي ولما تزل السطوة الغائمة والخابية وراء اسقاطات عزلاء .. ما برحت تسجل في مذكراتها كل عناوين الخيبة المكتظة بمحفوظاتها في قوارير من الفناء والعوز !

( 10 )



وسرعان ما لاذت بصمت كئيب . . فما عتّمت بعدها حتى عادت تصف احساسات حادة ، انعكست وبقوة فوق جدارات وحيها الذاتي . . فظلت تروم استنباط معانيها بكل ثلمة من ثلمات حياتها التي افتدت الصمت عليها ، بوعي لحظات ، واستكانة منطق ، وخشوع استلمام ، فاستدركت وهي تقول بلهجة حاسمة، ندّت عن فيها بشيء من التوكيد :

ـ  ولقد تبادر الي ذهني وقتها او فيما بعد.. ان كل مشاعري  كانت موتورة . . التصقت بهويات جنسية . . قلت لك كم وددت في ذاتي ، ومن اعماقي .. ان تمارس معي الجنس عند مفترق طريق ، او في حديقة عامة . . يمر بين ايدينا كل الرفاق والصديقات . . وصبية وصبيات يتمثلن لون العتق عبر مقارعة النظر وتبادل الدهشات . . وعجائز يتحسرن علي كل لحظة أذابها العمر عبر لحظات زمن ، كان قد استنفد اغراضه ، وولّت مساكنه ، حينما آذنها بالفراق ووحي الرحيل ، غبّ ذهبت بمقاديره نعرات تلك الايام الغابرة : اذ كيف انهن لم يغتنمن فرص الحب ، ولم يستثمرن غنائم الجنس ، حينما كان لهن اجساد بضّة ، واعضاء ناعمة ، بل قل أعواد لا تفلها الا حرارة ، تنبع من اعضاء ، تتسم بكل الجلال والحياء معا .!

ولربما كانت تهدأ الالحان ، فتعاكس لون بشرتي الفاقع ببياضه نظرات آثمة ، تنبجس من قلوب خوت من لهيب الحب ، بل هي الي المقت اشد . . وذلك لشدّما ران عليها ، حتي انجلت وقعات سيوف السنتهم، وتراجع أسل نظراتهم الشزراء كل القهقرى ، حينما وصمتنا غرائزهم العلمية بالعار والشنار ، وتطاردنا بتهمة الخروج علي الدين ، ومحاربة الرب العلي ، والتمرد على صالح السلف ، والتعرب المستهجن من بعد الهجرة الى وحي الملكوت . .



( 11 )



ولقد عدت أراها تسائلني . . تواصل الامعان في الهاماتي ، تركز النظر في كل ما حولها ، مما يمكنني ان احيي في جنباته صرخة من صرخات التغيير والتقليع . .  وانها لتصير الى الاندهاش والتأمل اكثر من ذي قبل ، حينما تبتغيني بحياء وكسوف ، كيما تندبني لخوض غمار لسانيات المعارك التي لا يفلّ لها حد ولا يُكسر لها سنان . . بل لا يُقطع لخيلها عنان ولا لجام ، ولا يُشقّ لها غبار ! . .

كما اني كنت أراقبها حتى صارت هي التي ترقبني بطبعها الساحر ومفاتنها الساخرة ! فوجدت كل شيء فيها يستصرخني ، ويستثير في نفسي لواعج الصولة والذوبان معا ! وبكل مفرداتية الصخب، ولاهوتية التظنين ! حتي لكأنها حينما تمر على الكلمات ، كنت احس معها بلون كل عضو من اعضائها الباسقة ، وحرارة كل شبر من أشبار جسدها اليافع ! ليعود ضميرها وفي اثرها يراقبني على مضض ، كأنما راح يتشبع بشيء أنفذ الي قلبي من اشتهائه ما لا اطيقه . .

حتى انه وكلما نفقت لدي الرغبات وغاض معينها ، صرت الى الاحساس بالانتهاء من لون ممارسة حادة ، أشبعتني نكالا ، واوغرت في أحنائي صلب المعائب . . حتى كنت أظنني أنا الذي زرعت في دخائلها كل الحقد على اهل زمانها ، لأني كنت قد ايقظتها ونبهتها الى اشياء عدة ، كانت لديها في عداد المرسلات المنفيات ، حتي صارت تصب جامّ غضبها على ولاّة عصرها من السادة المحترفين ، لا سيما من الذين وظفوا كل ادوات الدين والدنيا لغرض منافعهم الخاصة ومصالحهم الشخصية . .

فضلا عما كانوا قد اورثوه لشعوبهم من التقشف في الوان دنياهم ، غرضا منهم ، ومن دون أن يشعروا للدفاع عن آلياتهم الحياتية ، تحت عنوان الذود عن حصون الدين وثغور الرب في أرضه . . فما كانت اغراضهم لتتهددها ايما جائحة حتي يهبون يستنفرون العواطف ، ويستنهضون سياحة الوجدان في محاولة ثأرية ، وللاخذ بأهدافهم المستأخذة تحت ذرائع سامية ، بغض النظر عما يمكنه ان يحصل ـ خلال ذلك ـ من حالات التهاب في الوجدان ، وعصف في التسلط على ضمائر الشعوب العاطفية . .



( 12 )



ولقد كانت تصير الى القول وهي تشكو غلب الزمان ، وتنعي آمالها المدفونة تحت اشلاء نعوش ، خلّفتها اوثان ارضية ، سمت في ان يسطع سنا ضوئها دون هوادة . . الا انها حسبما كانت ترى . . فان ذلك ما كان ليزيدها الا تسافلا ، حتى  صارت انعكاساتها الراعبة تسفّ بها اسفافا ، بسبب مما اورثوها اياه ، من خيبة امل واندحار صيت في حياتها الزوجية الاولى ، وتجربتها التي تجرعتها على مضض ، وبكل مرارة وألم مدقع . .

فما كان لفقراته الا ان تندس دوائرها خلسة ، ما بين الفينة والاخرى ، في كل نواة من نويات لطائفها الحياتية ودقائقها المعيشية.. ذلك ان للعرف دوره في التقليص من بعدها العاطفي ، حتى كان له الاثرالفاعل  في تحجيم كل شكل من اشكال الحياة , الناضحة بمختلف مباهجها الثائرة . .

مع ان نصوصها الاباحية كان لها ان تراجعها في كتبها المختصة ومصادرها المعنية ، حتى كانت بين الحين والاخر تراجعني وتخبرني . . فتقول انهم حكمونا بفلان مورد ومادة فقهية . . وهنا ، في مراجعنا ما أجد الا خلافها . . وانهم يجعلونها كقانون او دستور دائمي لحكم الدولة ، ينصون على موادّه بعد التصويت عليها . . ثم تجدهم لا يعملون بها ، أو ان ما يتمسكون به ما يكاد ان يكون الا قليلا نادرا ، وهو مما لا يختص الا بمنافعهم ومآربهم الخاصة دون مصالح عباد الرحمن !  



( 13 )



في حين كنت أراها في كل وقت واخر  تبسط بسماط همومها بين يديّ ، وتبوح لي ما بين الليلة .والاخرى ، لتخبرني بعدها ان تجربتها الزوجية الاولى ما كانت لتتعرض الي الفشل المبرّح والاندحار المشين ، الا من خلال تلك الافكار والايديولوجيات التي تحمّلتها على عسف ومرارة ، ومن دون ان تشعر بعواقب لهيبها الخانق . . بل كانت وقتها تحس بأنها تحسن صنعا . . وانها ما تزال تطارح العيش بوارف من ظلال الغنج والدلال ، وتمالىء ملاعب الندى بريع من الخيلاء والتندّر . . لانها بذلك , كانت تظن انها تعمل وفق مساعي الرب , ومدلولات الرسالات السماوية . . وانها بعد هذا كله , ستحقق مشيئة الخالق في استخلاص غرائز العفة واماني التقوى ، والتي ما كان لها ان تشتق صفاتها الا من نعوت مقررات ، كان أرسلها على عاتق سليقتها العقلية ، كلّ من سعى سعيه في القاء تبعات المسؤوليات على كاهلها وكاهل امثالها ومثيلاتها . . غرضا منه لتحقيق نوازعه الدنيوية ودوافعه النفعية !

كل ذلك كان يحصل ، ومن قبل أن تستفيق على نوازع عقيدتها التي ألفت فيها  التوأمية ما بين الدين والدنيا . . لانها كانت تضن على بعلها الاول بحفنات من الجنس ، خوف ان تفقد عفتها بمرور الزمان ! فتعتاد ومع تقادم الوقت صنع ما تصنعه بائعات الحب !

كما أنها كانت تستهجن الحاحات زوجها الجنسية ، وتحطّ من حظه في ألوان متطلباته الغرائزية . . وتنسى أن تلبيتها هي جزء لا يتجزأ من وظيفتها الزوجية والحيوية ، والكافلة لديمومة تواصل ديناميكية مساعيها الذاتية والاجتماعية على العموم . . لانها وبخلاف ذلك سوف لا يمكنها ان تصل الي نتائج نزعاتها الحيوية ، أو أن يصير بوسعها تحقيق اربها اللاّ مفضولة عندها .. تحت أيما حدّ من حدود التجارب . .

الا انها ، وبتمنعها عن توفير تلك المتطلبات اليومية ، كانت بذلك تسعى ومن دون ان تشعر، لتعميق مساحات الهوّة التي بدت طلائعها ـ وعلى الظاهر ـ  تنسحق اكثر فاكثر بينها وبين ربيب حياتها ، والذي كان قد اقتحم عليها عنوة . . جلّ خلواتها الدافئة ، حينما كانت تستعذب حياتها العزباء المدللة ، في ظل نشوة الصبيانية والفتياتية ، والحالمة بكل تشوّفاتها ، المتعوّمة فوق سطوح موج تلك الملاعب ، المختالة بكل ألق الصبا ونضارة تلك الرياض الغناء . . والمفعمة بأنيق مجدها البطولي . . أيام زهو طفولتها الغضة . . والفاغمة بنضارة ، قلّما يمكنها التعويض عنها . . الا بازجاء مثل هذا الحب الذي تأبطت حمله كل هذه السنين ، وادخرته لسيرورة مجد آخر ، عبر صيرورته في تدفقات اخرى ، لها ان تنثال الوان شفقها بأصباحها المتجائية ، كلما كانت تتطلع الي سحنة وقسمات اولادها وبناتها ! وبذلك اذن. . كانت قد أشفقت على نفسها ، وعيش . . هو لا يحمل معاني صورتها ولوحدها فقط ! انما كان  لها ان تعتاد التفكير بآخرين ممن توالد عشقها لهم حال انجابها لهم، فصاروا لها رمزا لطفولتها الغاربة، وصباها الآفل . . في ظلال حمية من حياة زوجية ، ظل الاقتران ديدن تواترها ، حتى انه ما كانت تمثل وبالنسبة اليها ، الا المرحلة المستجدة من عمرها التليد ، والمشهد الثاني من فصل مجدها المخلوع . .



( 14 )



ودواليك . .  كانت تسعي بها الافكار . . الا انها ما كانت لتكفر بمعتقدها ، وتصب باللائمة فقط على شخصها بالذات دون الاخرين من حولها ، بما في ذلك زوجها وعميدها الذي كانت لا تراه الا مجنيا عليه بسبب منها لا غير ، إذ كانت هي المقصرة في عدم هبته الجنس ومنحه الجسد ، وتمكينه من نفسها بالقدر المستطاع او الحجم الذي كان يطلبه منها . . لانها ما كانت تراه يستحق ان يمتطي ظهر قطة فكيف ظهرها ! ولا حتى ان  يقحم آلته في فرج بهيمة من البهائم ! لانه ما كان يتمثل في نظرها ، الا رمزا حرجا لكل الازمات في العالم . .

لقد غدا عندها رمزا للقهر والاستبداد . . لانها كانت مطمئنة في حال أن لو كانت أولته عنايتها الجنسية ، فانه ما كان ليكف عن التطاول عليها ، ومواصلة تعذيبها بدنيا ، او التنكيل بها جسديا ، او تجريحها في نفس عنوانها او مجمل عناوينها ! أو ان يتنازل عن روحيته العدائية في ضربها وشتمها ، وغصبها لابسط حقوقها الانسانية ، والتجاوز على حدود آمالها الشخصية ، وممارسة كل اشكال العنف معها ، والتوسل بأشد أنواع الغلظة . . لحقن أعصابها المصخوبة ، بألوان الانهيار والتداعي !  

وما كانت لتحصل وقائع كل تلك البيانات الا على مرأى واضح من أعين بنيها وبناتها ، بل على مشهد مشهود من القريب والبعيد . . ومن دون ان يراعي قوس المسؤولية ازاء ما يترامى شأن عمرها وقيد عمره . . ومن دون ان يرعى لها الاّ ولا عهدا ، ولا وفاء لاسرتها وابيها الذي ظل يوليها عنايته ، وتواصل على ذلك العزم كذلك من بعد ان فقدت حنان امها ، وأعز مخلوق ، كان ظله الواشع يختال نضرا بين تواشيح ناظريها ، والتي ظلت الى جانبها حتى بعد اقترانها بهذا الوحش الراعب والزائف ، بكل عواطفه المرابية وأحاسيسه المخادعة . .



( 15 )



هكذا كانت ترى الى رفيق كل جديد وغريب . . من عمرها ، وشريك حياتها الذي هو فوقها ، والتي هي تحته ، والواقع اذن عليها من دون ريب . .  اذ لم تكن قد وقعت عليه بل كان هو الذي وقع عليها ! وكذلك كانت تبصر كل عيون الحكم والفقه من حولها ، بكل رجاله وعوالمه حتى صرت أنا زوجها الثاني ، أحاول وبكل ما استطيع بلوغه من درجة ، أن أكفكف من دمعها ، وأحدّ من سيل عبراتها . . قصدا مني في أن تغير من نظرتها القاتمة الى الحياة ، وتبدّل بالتالي مجمل تصوراتها الغائمة عنها . .

فرحت اُخبرها ان علماء السوء لو اساؤوا تكييف الدين للناس ، وأخفقوا في ايضاح شرعته للجمهور ، على حد الاعتلال والتعذر ومن قبلهم كافة . . وذلك من خلال التأكيد على أن هضم مواده ما كان ، الا وعلى حسب الامكان المتقدر ، والاجهاد المتصل . . والذي ما كان ليغدو من الممكنات المتيسرة  الا لافرادهم وقطاعاتهم وحدهم ، بل للنخبة والكوكبة من طلائعهم القهارة ، بفكرها الآسر ، وقولها الآمر !

أما الحقيقة الدامغة ، والصورة الخافية ، فهي ان كل ممكن لديهم ( وحسب نظرتهم الزمانية وتصورهم المكاني ) ما كان في الواقع ، ليضمر الا وعيا جزافا ،  لم تستقه افكاره المنطقية المنطلقة عن مقاييس الشرع الحقة ، بل انتزعوه نزعا أخّاذا من صفات أمزجتهم العقلية الخاصة ، ولم يتداركوا حبله الا وفقا لاستنباطات عوراء جافة ، وتصورات عجراء جوراء ، لم تنبت صواريها المتهالكة الا في بيئات نفسية بائدة ، بل قاسية شائكة ! . .

وبعدئذ ، أرادوا تعميم الصورة ، بالرغم من عقول الاخرين ، وفرضها على تفكيرهم قسرا وتعبيدا ، لانهم شعروا انهم وحدهم الذين يفكرون ويعتقدون ، وليس بمستطاع ايما احد من الاخرين ان يستنبط احكام الدين سواهم ، ويتميز نبراس الهداية . . لانهم هم الفريق الاوحد في الساحة ، الذي يمتلك الكفاءة الغنية ، والتي تؤهله لتصّدر قائمة المرشدين الروحيين ، الذين بوسعهم ان يلقموا تعاليم الدين والسياسة أذهان البشرية جمعاء ! . . واذن ، فليس ثمة أيما حق لاحد سواهم في تبيينها للناس ! لان غيرهم يخطىء ولا يصيب ، وهم يصيبون ولا يخطئون ! لانهم الفقهاء دون العالمين ، من اهل الملة والنحلة!

وما كان ذلك كله ، الاّ لأنهم ضنّوا على الاخرين في التعبير عن حقهم في تفسير الدين وشرح الحياة المعاصرة . وبالتالي صادروا حقهم في تفسير الدولة ومتطلبات الحياة الاجتماعية ، بنفس المهارة التي صادروا ومن خلالها اوامر الله, وجعلوها حكرا على انفسهم ، حينما امتدت اقلامهم وافواههم تخبر بان الله اوحى لهم : انهم شعب الله المختار ، وان ليس لغيرهم ايما حق في حكم العالمين ، وبذلك اساؤوا الاستفادة من حسن ظن الله بأحبار الدين وربيّينه ، ذلك ان الناس تنظر اليهم ، بنفس المنظار الذي نظر الله به الى اوليائه ، حتى تستّروا هم الاخرون تحت قباب هؤلاء الاخيرين ، كمحاولة منهم لايهام الرأي العام ، بحسن سلوكهم وصواب سريرتهم، وجلب توجهات الناس الى صحة آرائهم ! وصنع الاتباع والجند غير المجندين لهم دون اجر او عطاء ، لانهم اصحاب الرأي الصائب . . والنظر القادح ، وبذلك تستولي قوائمهم على سدّات الحكومة ومقاليد الامور بالرغم من انوف الاخرين وبأقل العناءات وايسر السبل الممكنة ، وبذلك يثبتون لانفسهم أوّلا ، ومن ثم لمن تفهّم سوء حظهم من الاخرين ممّن حولهم ، فيعربون وبشكل غير مباشر عن حقيقة مفادها : انهم لأشدّ بأسا من الذين كفروا ، اذ يكيدون الدين سرا ، واولئك يكيدون علنا ! لانهم ارادوا فرض الدين على الناس وما فرضه الله عليهم الا اختيارا وبفعل اراداتهم الحرة، القائمة على نبذ التعصب والتحجر ، والاشادة بمنطق النزاهة والحرية !

ذلك انهم ارادوا الرجوع بالناس الى عهود طفولة القرآن ، فابتغوا مخاطبة القرآن وفهمه من حيث جعلوا يخاطبونه اليوم كما يخاطبه القوم بالامس ! وهو الخطأ البليغ لان القرآن كائن حي ينمو ويكبر ، فمتى تكلم الناس مع الشخص الراشد بمثل اللغة التي كانوا يتكلمون به معه أيام كان رضيعا , أو طفلا يحبو, ولا يفهم من الحياة سوى مظاهر واشارات واخطارات !

وبمثل هذه الصيغ تقنن الناس بتراجم الدين. ما فرضها الله على زمانهم ولا مكانهم ! حتى كأنهم يصنعون بالدين وقرآنه ,  ما صنعه قدماء الصين ببناتهم ، حينما يحبسون اقدامهم ومنذ الصغر داخل قوالب صغيرة ، غرضا منهم في المحافظة على أحجامها الصغيرة حتى ولو كبرت أجسامهم ، وتضاعفت سني اعمارهم ، لتبدو قدم الشابة ذي العشرين ربيعا ، ومن بعد كل هذا العسف والجور ، قدم طفلة صغيرة لا تحمل من العمر اكثر من خمس او سبع سنين !

ولقد بخسوا بذلك الناس اشياءهم ، حينما استلبوهم حقهم ، واعلنوا بشكل غير مباشر انهم وكلاء الله فوق ارضه ، وخلفائه دون العالمين ! وما كان الله يولي عنايته احدا ، الا أولياءه الصالحين !

ولا أعني بعد هذا كله ، بأني لا احسب رجال الدين من الفقهاء ، أو ان بميسور كافة او اغلب المثقفين الاخرين من القطاعات الاخرى ، ان يطيقوا التسلط على ادوات الاستنباط القرآني والتفسير الاخباري فضلا عن التمكن من التحكم بمواد الفقه الشرعي وقواعد الاصول!..

ولكن ما عنيت ، هو ان الفقيه ، ما كان ليُعنى به ، الا من ادرك الناس علومه ، لا سيما في الميدان الالهي ! من حيث لا يُتّهم في رأيه ، والا فان العدالة المفترضة في الفقيه ، ما كانت لتنسف عمل حتى المنافقين منهم . . ولو ان ما يفسدونه هو اكثر مما يصلحونه ! ذلك ان الحكمة ربما كانت ترد علينا من لسان منافق او مجنون او عالم! بل ان الفقيه ما كان ينسجم التعبيرعنه ، بكل من وفد علينا من حوزات الدين ، وحسب ! ليصير الدين بعدئذ ، آلة حكر على شريحة لا تمثل سوى رجال الدين !

وبذلك كان لهم ان يعتقدوا وليس على سبيل الفرض ، بل على سبيل القطع ان الحكم ما كان الا لهم ! وهو قيد الهي ووثيقة مقدسة ، لا يخرج عن نطاق أعناقهم المفترض عليها حفظ مبادئه العامة وأسسه الخاصة . . وان دفته لا تدار ، الا من حيث تقبض عليها أذرعهم العقلية وسواعدهم القلمية !

هيهات ثم هيهات ، ان الثريا لهي أقرب اليهم من هذا ! لان الله ما كان ليقتصد في افهام الناس معنى الفقيه عبر رسله الذين ارسلهم اليهم. . لان بوسع كل متقي ان يصبح فقيها طالما يستحث امكاناته لنيل ما ادخرته الاقدار العلمية . . وليس لاحد ان يغلق باب الاجتهاد في أن ليس له الحق في اثارة مسائل دينية او دنيوية ، أو ادانة احد الفقهاء , او غيرهم من الساسة ! ان كان ذلك الشخص قد جاء بتقاريره التفصيلية بوضوح شفاف ، ودلف بعلميته المنطقية من باب علمي واسع ، وذلك بعد ان انتقى له سياق النقد البنّاء غير الأخّاذ ، أو الأفّّاق ، كذلك غير الطاعن - عبر منافذ وحيه - على العلماء والاخرين ، عن جهل أوكناية ، أو نيل من احد منهم بدافع الهوى الشخصي . .  

فالدين اذن ، ليس حكرا على احد ولو كان هذا الاحد : استاذ جامعي ، والسياسة ليست حكرا على احد ولو كان هذا الاحد : رجل دين . . وليس للاخير ان يضيّق على الناس فهم دينهم , من خلال ضيق نظرته ، وليس لرجل الجامعة هو الاخر أن يكابر بعلومه , ويشمخ بمعارفه . . ثاني عطفيه , فيفتح على الناس ابوابا هم في غنى عن الولوج فيها ! بل ربما كان الوقوف عند بعضها أبسط حيلة , وأيسر عاقبة , لان في كلتا المسألتين ثمّة معنى خطير للافراط والتفريط !

فرجل الدين ليس له أن يغدو وصمة سوء في جبين الدين ، لان في ذلك اساءة للدين ولسمعته بين اوساط الناس والعامة ، والاسوء من ذلك استغلال الاخيرين وضعاف العقول , للهيمنة على عواطفهم , وتسييرها وفق ما يشاء رجل الدين . . حينما يود تجنيدهم لخدمة اغراضه الشخصية وارائه الخاصة ، بحجة الدفاع عن المقدسات والهاب مشاعر العامة المذهبية ، وبالتالي استغلالها وبأشد المظاهر بعد محاولات الضغط على عواطفهم الانتمائية . . لان في متأدى ذلك كل وصمات العار التي يمكن ان تلحق بجبين هؤلاء الوعاظ والمثقفين الرعاع . . ممن اساؤا الاستفادة من الدين ووظفوه لاغراضهم . .

وان كنت أوضح لها سر فساد الحياة الاجتماعية ، ما كنت لأقصى الاهتمام بمغبة ايلاء كل الثقة للقطاع الاخر ! فلو اجترفه التيار هذا الاخر ، كان سيكون اشد عنادا من رجال الدين ، لانه يتمسك بأهداب الحياة بشكل اخر، لا يعي خلاله ايما فهم لاي نظرية بامكانها ان تعمل على شلّ حركته او ابطال فعالية مشاريعه !

فهو لا يسمح لايما احد ان يشجب آراءه او ينسفها . . لذا ، فلو افرط هذا الجناح هو الاخر، فما كان ليجتمع لدينا الا استبدادية دينية، اقتادت الاخرين فيما بعد الى استبدادية علمانية ! وهما امران شائكان . . امرهما على المجتمع ذا وقع ثقيل ، فما من مهادنة أو تماهل في الرد عليهما , أو التصدي لهما! لان بوسعهما لو تنفّذا ان يذيقا المجتمع الامرّين . .

وعليه ، فما كان لدينا من حل سوى اقتران تآلفي ما بين الدين والعلمانية ، ما بين ديمقراطية الدين ، وديمقراطية العلمانية ، لانه ليس للدين ان يحيا بدون تقاليد العلمانية ، وليس للاخيرة ان تتخلى عن شرف الحياة في الانقياد لخالق واحد ورب أوحد ! فليس لمياه البحر ان تزحف على السواحل ، فتجرف رمال الشواطىء ! وليس لليابسة ان تمتد , فتكتسح أمواج المياه ، كيما تصنع فيه الجفاف ، وتعرّي البحر من ثوبه الازرق !

غير انه يمكنني القول وبعد كل هذا ، ان الامر ما كان ليتم بهذه السهولة ، اعني ان احاول تفهيمها ما ابتغيت الاطالة فيه . . لان زوجها الاول ما كان الا حلقة وصل بينها وبين عوالم هؤلاء الروّاد من رجالات المذهب . . لانه كان لوحة يرسمون فيها ما يشاؤون ، بل كان مشجب يعلقون عليه ما يحبون من أمجاد ومبادىء ! فظاهر بعلها في خارج المنزل ، لا يكاد يجّاوز حدود الملائكية والملكوتية ، لحسن ظاهر خُلقه ، وغلالة نقاء سريرته الذي كان يفرط في عكسه . . بل كان يستميت في ان يظهر بمثل هذا المظهر اللاحب . . مع ان ما تراه منه هو عكس هذا . . حتى ايقنت ان غالبية من يختلط بهم من رجالات الدولة المتفننين في صياغة قوانينها وادارتها ، بحكم الدين والعقيدة ، هم ما كان بوسعهم ، أن يصوغوا قانونا انسانيا واحدا، يكون بمستطاعهم بعدها . . ومن خلاله ، ان يدمّجوا الحياة الزوجية بالرحمة والعاطفة والانسانية . . أو الحياة الاجتماعية عامة !

واذن ، فمن كان يدير دولة ويقنن لها ، وليس بميسوره ان يحفظ حرمة حياته الزوجية والعائلية بنبل وأدب وكرامة خلق . . فكيف يصير بوسعه ان يحفظ حرمة أمة ، وعهد شعب.. وكرامة تاريخ , تعاهد جمّهور أبيّ على صنع مجده!



( 16 )



وما كانت تراه وامثاله ، الا كما تراه وأشباهه ، فما هم لديها الاّ من الذين عصفت بهم مذاهب الحياة المادية ، فأحالوها وبالا على العالمين ، حتى اعتصروا لون الظاهر ، وهضموا مجنة الباطن ، فما كان سواهم وغير قبيلتهم -  ممن عمد أفرادها على الدوار في أفلاكهم - ممن حملوا بالنقمة الى فصائل هذا الشعب ، وما كان غيرهم من أركس مختلف قطاعاته في مغبّة الانسحاق والذل . . بل غيّبوا لحن ثوراته ، وآي آثاره ، بين تلال عطنة ، ومقابر موبوءة ! لانهم ما كانوا حملوا سوى ظاهر الدين ، وما اعتادوا على ممارسة شيء ،  هو أشد وقعا على الاخرين ، مثلما مارسوا التعاطي مع ظواهر الشرع , حتى صار ديدنهم تمثّلها على الدوام ، وبأحسن أداء وترجمة ! فتركوا روحه , وغادروا جوهره , حتى أهملوا معدنه . .

فما كانت النتيجة الا ان لحق العار والخزي بكل منزل ، وحاق الدمار بكل عائلة ، حتى ان افكارها كانت تترى علي وبالتوالي ، وما بين المرة والاخرى ، ولاكثر من الاول . فلقد كانت تحفظ لي آمارا واحصائيات عجيبة ، تتحدث فيها عن نسب وأعداد المطلّقات ، او حالات الهجر والعذاب . . انها في تزايد مطرد ، وان خطوطها البيانية هي في اطراد متواصل وارتفاع مضطرد رهيب !

وهذا ما كانت توعز بأسبابه الاّ الى أمثال زوجها واربابه واقرانه . . ممّن يكنّ لهم كل الاحترام ، فهو ذليل خانع بين ايديهم ، ووحش مفترس بين يديها . . وما كان ليُقبل عليهم الا ببشر حسن ، واهاب طلق ، ووجه بشاش . . بينما ما كان ليفد عليها في كل الحالات الجنسية وغير الجنسية الا بسحنة غائمة ووجه عبوس ، وقسمات متلبدة بكل ما يكبل مشاعرها ، ويحطّ من قدرها ، ويزيد من أزماتها ، وينغّص عليها عيشها السليب . . حتى كأنه صار يمعن في كل هذه الاساليب , امعانا لا يعكس سوى عقليته  المتحجرة , ونفسيته التي لا تنضح بين الحين والاخر , الا بوجه من وجوه اللؤم والخبث التي لا تبسط لصاحبها الا مزيجا من نفائس صور التسلط والسطوة !



( 17 )



ولقد بدت تكره كل ما كان لها ان  تألفه وتهواه في الماضي . . لانها صارت بذلك تكره كل شيء حولها ، حتي أبغضت كل ما كانت تحب وتألف ، لانها شعرت ان الحياة قد صدّت عنها وصدفت . . وان الله قد تركها لعسر هضم مشكلاتها ! وانها قد صارت بعد العز مذللة ، ولقد نزلت منزلا لو ان لأبيها وأمها الراحلين ، أن يبصراها أو يرياها على هذه الحالة التي صارت اليها في مثله ! فانه ما كان لاحد ان ينحي عليهما باللائمة ، أو يصلت فوق جمجمتهما سيف المظنة والتهكم ، وذلك في حال انهما شهقا اثرها شهقة مميتة , حتى غصّا بها وفارقا الحياة ، بسبب من عدم احتمالهما على مشاهدة ما يحصل لابنتهما , والاطلاع على أوضاعها البائسة , وما هي عليه من حال مكروب ووقع مكلوم ، تعاني خلاله من ضروب القهروصروف الضيم، لتتحمل بعدها جور العدوان ومرارة النزق . .

ومع هذا كله ، فانها لتأخذ على نفسها مرارا ، بأنها لو كان لها ان توفر في الماضي لزوجها . . كل ما كان يحتاجه جنسيا ، كان أيسر لها وأكثر قناعة ! كيما لا يبقى لديه أيما مبرر للتهافت عليها ، والسخرية منها ، بل والاساءة اليها وعلى أشد ما تكون ـ مع ان الوان اساءاته هي ما كان لها ان تتوقف قط ـ  أو انه ما كان ليبقى لديه أيما عذر واه، أو حجة متصاحبة , يمكن ان يتخذ أيما وجه من وجوهها كذريعة لرفع عقيرته ، والتلويح بسبابته وعلى الدوام ، حتى يصدح قوله المأثور في عقب مفتعلاته تلك :

ـ  ان تمنّعها الجنسي ، كان هو السبب المباشر في انحطاط وضعنا العائلي معا !

ولينتهي بذلك الى معرفة وجهته التي يحسن ومن خلالها ، كيفية توجيه الاتهامات اللاذعة والمطاعن اللبقة ، حتى يصطنع في ذات الوقت مختلف التمريرات لنفسه . .  وهذه سياسة ما كانت لتجهل مصدرها ، ولا من اين كان يستقيها بعلها ، وأين كان يتبلّغ بجرعاتها، ويتغذى على مشاربها ! لان منبعها ما كان ليخفى عليها ، ولا كان ليغيب عن بالها مغترفُه ، وهي التي جعلت ـ وبمرور الايام ـ تخبر الزمان واهله ، وتعرك الاحوال فتقف على التجارب تلو الاخريات ! فما كانت مناهل غيث زوجها  وعارضه ، لتعدو اقرانه من رجالات الدولة ، من الذين تتصبب لحاهم عرقا ، وتتفصد جباههم من حباته , فضلا عن أصحابه وأربابه من الابطال الاشاوس ، من الذين قهروا الاعداء في سوح المكر والخديعة ، حتى حال عليهم الزمان وطافت بهم غدواته ، وقد بدوا من آحاد المغامرين في عصر ، غلبت عليه الوان الممارسات العنيفة ، والتي ما كان ليروّج لها سواهم أنفسهم . .

وهي ما كانت سوى يوميات رهيبة ، وبؤس شنيع من مواد الحيل الشرعية ، كان قد غالى الزمان في التعريف بنواة جلّ تقاليعها ، والتي ما كانت لتعدو ألوانا من ممارسات عرفية بالية ، وتملقات قاتلة ، ملؤها الدجل والزيف ، ولسان عرفها المكر . . ما درّت عليهم معائشهم ، فيحلو لهم ان يتساقطوا عند قدمي أيما أب روحي ، كيما ينقلبوا حاشية من حواشيه ، فتحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ، يقرب كل منهم النار الى قرص عشيرته وأهل مصره وقوم حاضرته !

أما ما خلا، فليس لهم سوى فتات ما يسّاقط من بين شدقي ذلك الاب الروحي ، هذا ان لم يتركوا فضلات مائدته تتداعى في احضان ثيابهم المهلهلة الفضفاضة ، كيما يلقموها انفسهم وأهليهم ، فلا يصل منها ولا من ذيك ، الى ايما احد من المساكين والمستضعفين والفقراء ، أيما ذرة منها ، يمكنها ان تعدل مقدار حبة من خردل ! هذا ، ان لم يصل اولئك الصعاليك ردود الفعل العنيفة، وزجر الكلام ، وغليظ التعنيف ، بسبب من انهم قد تركوا الكد والعمل ، واتكلوا على نصيبهم من الخمس والزكاة والصدقات !

وحينما يكون للاب الروحي ان يغيب بشخصه ، فانهم ما كان لهم الا ان يلتمسوا لانفسهم اشد مظاهر الحفظ له في غيبته ، حتى اذا ما خلو الى شياطينهم ، تراهم يتلامزون ويتغامزون في طعنه ، وبمختلف الحراب التي لها ان تسلق بألسنة من حداد ، وفي أعتى المنازل من ظهره ، بل يتسابقون لنبذ الزمان والأخذ والطعن عليه ، لانه لم يتكفل بالتعجيل في صنعهم ودفعهم لتسنم مثل سنام هذا الرجل الجحجاح !

أو لعدم اشارة الزمان او تلويحه وبمختلف الاشكال ، وطمأنتهم بأنه ما كان قد ادّخر , ولمثل هذا الشرف , في يوم غد . . أيما أحد غيرهم ! وما كان قد اشرأب بناظريه يستشرف المواقع الا اليهم ، او أنه ما كان قد تطاول بحدقتيه في يوم من الايام ، الا بغية منه في ادخارهم لمثل هذا الشرف الرفيع والثراء المقيم ، فضنّ على طاقاتهم من الانفاق والتبديد ، فطفق ينصح لهم بتوفيرها ، كيما يبذلوها وفي آت من الساعات ، في مثل هذه  المكانة العلية والهيبة السنية !

وما كان يشهد الزمان منهم كل هذا ، الا لانهم تعاودوا مثل هذا المكر والسخف ، بل تطبّعوا على تنفيذ مظاهر الواجبات من دينهم ، وما كان لهم ان يؤمنوا بها ، فيذعنوا لها ، والاّ ما كان لهم ان يؤمنوا ايمان عادة ، بل كان عليهم ان يلتزموا ايمان قلب نابض بالحب والايمان ، وعقل لا يصحو الا على لمسة الحق والعدل . . واذن واعية ، تعي ما يسمع قلبها لانه اسرع اليها من سماع صماخها !

فما كان منهم الا ان يسّابقوا الى تقبيل النعل قبل صحاف الطعام المعبأة بما لذّ وطاب ! لأجل ان تتمادى ايامهم في غيّها قبل النزيف ! ومن قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا شراء . .

والا , فليكن بعد مضي أحابيلهم تلك , كل ما يمكن أن يكون ! وليحكم من يحكم ، وليتصدر حلقاتهم من يتصدرها ! لانهم ما كانوا الا أذن ناعقة، تردد كلام كل من يرتقى سلم المنبر ، ويتربع على كرسي حلقاته التي لا تُدار الا بفكّيه التقليديين !

بيد انها كانت تلمزني بنظرات تثير السؤال ، فكنت اسارع حينها الى الجواب :

ـ  اني لا أعرّض بهيبة وجلال كبارهم من الذين يرجعون اليهم ، ولكني اعرّض بسياساتهم التي أشبهت سياسات النيام ، الذين يلقون بحبل امورهم على غاربها ، فيكلون البتّ بقضاياهم الى حواشيهم من اهل التهافت على فتات الموائد ، من اهل القلوب القاسية ، والاحداق الجامدة ، ذوي الصدور الخاوية , والوجوه ذوات العيون الجاحظة ! فلا يدرون ما الذي يحصل في الخارج, الا من خلال قنواتهم الاذاعية والمرئية من فصائل البشر الذي تتقاطر أسرابه اليهم , تطّوّف حول هالات وجوداتهم النقدية ، ذلك انهم يثقون بهم كل الثقة العمياء , ويصيرون اليهم كلما دهمتهم الخطوب ! وينقلبون عندئذ يتغامزون . .

فلا يرون الا ما تراه حواشيهم من بطاناتهم المثخنة بسموم التخمة الجسدية والبدنة العقلية ، لانهم كانوا يفتعلون كل ما يتناسب مع طبيعة أفكارهم ونظرتهم الى الامور , فيزيّنون لهم كل خبيث من المعاني ، ويشوّهون كل طيّب من مليح الصور !

      ثم كنت اردف لها الكلام قائلا :

ـ  ثم انهم ما كان لهم ان يعيشوا ذهنية اهل زمانهم ، فبقيت ارواحهم وابدانهم تعيش واقع ما سلف من ماضي ايامهم السحيقة ، فألفوا انفسهم بعدها في حجر محجور . . بينهم وبين الناس ألف ألف من السنين . . اذا خرجوا الى العالمين ، اكرمتهم انظار الناس من حيث يرون فيهم ريح تأريخ تليد , فيعودون يحملون فوق ظهورهم كل صور الظنون التي تحمل اليهم أعطاف خيال لا لبس فيه , ان أيام ذلك التأريخ ما كانت لتستبطن سوى صيت ماضيهم الاوحد, هم فقط لا غير , فرجعوا الى الناس هاهنا ثانية ليقولوا لهم : واذن , فما من احد غيرنا له ان يصول بكم في سوح الميادين والوغى ! !

فاذا ما انصرف القوم الى اعمالهم اليومية , وقفلوا يجترّون وقع ايامهم الحديثة , ينفضون عن عاتقهم بهرجة الشموس التي تعشي العيون , فيقفلون عائدين الى واحات منازلهم , يستوحون صور الفيء المعشبة في أذهانهم الوليدة, كيما يشحذوا في أنفسهم لوحات البطولات التي لم ترتسم بعد فوق أرض الزمان الاتي . . لتعود بعدها أعينهم الدامعة تكتحل بشحنات حياتهم الطبيعية المعاصرة !

وهنا كانت المفاجأة غير السارة , بل غير المتوقعة ! فاذا بهم يقتحمون قيظ اللظى دون أن يكون ما اُخبروا به من قبل , ولا ان يلوح لنواظرهم انه رسم ذلك اليوم الموعود الذي كان قد طال عليهم انتظار صحوة أقماره وطلعة شموس أيامه . فاذا بآلات آياتهم تصطدم بمشكلات ومعضلات رهيبة , هي  ليست بالمستحدثة , كيما تتطلب منهم جرعات صبر يحتبسون النفس عليه . .

ولكنهم ووجهوا بألوان عتيقة , ولما تزل تصرخ في رؤوسهم وجماجهم . ولقد ظنوا بها قد ذهبت أيامها الغابرة , وولّت بلياليها الظلماء , الا انهم ألفوها تأبى المغادرة كما  تأبى آلامهم الحاضرة أن تقع على ضالاتها , فتوقف قادات جمهورها على أنجع الحلول التي تدفع بهم جميعا نحو رفاه دائم وعيش كريم . .

واذا بالزمان ينفق , والايام تغدو كالعوانس, وارواح الفرج ترحل مزهقة ، وأنغام الامس تعود متراكمة , تفتش عن أيامها الضائعة كالموتورة ! فنرى حينها الناس يـأخذون على أولئك الآباء القادة ، وينحون باللائمة عليهم ، ذلك انهم هم اساس هذا العناء , ونواة هذه الفاقة التي وجدوا انفسهم محبوسين في قواقعها المقفرة , وصوامعها المجدبة , والجادة في الحاق ضروب الاذى بهم , تسومهم لوعات المكابرة , وتذيقهم من شحنات العذاب ما يخلّف في قرارات أنفسهم مرارات كل الاعمار الحاقدة . . تلك التي اعتصرت ضرع موجاتها ليال كان سلّها القدر الحالك آنذاك ! ورعشاته للحين ما فتئت تقظ مضاجع الاجيال .

كل ذلك , أخذ في جريه كالامر المعتاد , ولما تزل  بعدُ ,  قوانين الحزن الغابرة تعرش في أذهان كل طبقات الشعب الكادحة وبمختلف قطّاعاته الفرقية المضحّية . فتصير أشباح الامس تعاود تخويفاتها التهويمية , تشبع الصغار والكبار معا بأحاديث غابرة , تصيب فيها أخبار , تصير بأنفاسها ذاتها , تخاف التسمّع الى حكايا وأيام ذلك الرعب الجائر والحلم المفزع بكوابيسه المخيفة , وأعاصيره المقضّة للمضاجع . .

حتى يصير ليل الامس الذاوي , يتعاود بصمته المسكون بالارواح الخبيثة , كما لو انه لم يمت او ينكسف بشموسه الخائرة ! مذ خسفت أقماره وخفت أنوار نهاراته الأليمة حتى ذهب ليله العادي , ليعود هؤلاء يقصّون علينا حكايا الماضي التي كانت تغشاهم بفقاقيع كالحة , وأنغام راعبة , كيما يرهقوننا بها صعدا ومن جديد , وكأن بها لم تذهب ولم تمضي الى غير ذي رجعة . .  

ليتركوننا نتقلب في مهاوي احلامنا الخبيثة من جديد , نتلفّت نخاف رسم الظلال وصور الاشباح التي كانت تتسمع بالامس الى كل ضربات قلوبنا وخفقان النعل لدينا , حتى كان لها ان تترقب اضلعنا , فتحصي علينا عدد الانفاس الصاعدة والنازلة , فصرنا عندها نترحم على كل من ذهب من العتاة السابقين والجبابرة الماضين , فننقلب ننعى أياما غابرة , وساعات جميلة , كنا نخالها سنينا عجافا , مرّت كما يمر حلم لذيذ , حنا بأعطافه على كل مجدنا وكأسنا, دون أيما روع زائف , يتجشم الارتشاف الكليل من كأس البأساء , والتجرع المغيظ من أقداح السّموم ! فغدونا نبكي ماض . . كانت لنا فيه ذكريات , تنسّم الندى طلعته بين ظلال الدوح الحالم , أو عند اصيل الاجمات العاشقة !

بينما كان للاعوان المهيمنين في الساعة , أن يتسامروا اليوم بهزّات بطون كل تليد من أمجادهم المأفونة والزائفة , والموضوعة أحاديثها بكل صدق واباحية , كيما يقامروا ومن جديد بألوان مصائر ضحاياهم الطحلبية , فيصطادوا لهم المزيد من نوائب الزمان وجوائح الدهور المعبأة بشعارات تحمل المجد والجلال فوق أغلفتها المدهونة بأنواع الطلاء الفاخر , لتصول طلعاتهم بعدئذ بلحاظ أقمار أقوامهم , كيما يلقون بهم من شاهق , ليخلّون بعدها بينهم وبين الفوز بمعايشة تباريح الامراض النفسية المختلفة , والركون الى صمت فقر مدقع , لا معدّى عنه !

مع ان هذه الاقوام البائسة كانت وللحين صادقة في كل تضحياتها وبسالتها من اجل الفوز باحدى الحُسنيين . . لان اعتقاداتها , وان تخلخل مجد انتماءاتها لدى الغالبية منهم , فان لها في صدور الصابرين غورا ومرتعا لا تذوي خضراؤه أبدا ما حيا فيهم البأس والقلب . . فان اعتقادات ابنائها , ما زالت تحتفظ بصدق انتمائها الحقيقي , والذي لا يعرف افراطا ولا تفريطا , ولا يفهم للدين لغة التهريج والتهويم , بل يفهم له لغة انفتاحية عارمة , تهبّ على القلوب دون اقتلاعها من أزمنتها التي تعيش من أجلها , او دون ان تفكر في انتزاع مشاعر الانسانية من أحشائها . .  ومن دون أن تسعى الى زرع أغراس الحقد في أعماقها , من التي لها أن تمتّ لبراهين الصلة بكل فاحش من الارهاب, والوان الضغط السالبة وبمختلف أساليبها الهمجية ومناهجها المتعنّتة , والمتمازجة بعد كل هذا وذاك بكل أفانين الرجعية المعقدة .

انهم بذلك ما كانوا صنعوا الا ان خانوا الامانة التي عهد بها اليهم الجمهور , من حيث صانعوا مبادئه , حتى اذا ما تسقّطوا الانصبة من الكراسي , عمدوا الى الكيد لكل المُثل العليا , احتسابا لديهم , من شأنه ان يعلي من ربقة الدين , ولكنهم ساؤوا فهم الاشياء بمعادلاتها , فعدوا يعلون من ربقة سيماهم , ظنّا منهم ظن السوء انهم بذلك يشدون من عروة المعتقد والمذهب ! حتى ربطوا انفسهم بنسب الاسلام , وصاروا له اوصياء مستحفظ بعد مستحفظ , دون من وكلهم الله بنفسه لعصمة دينه , وحلفاء لنهضته !

فطفقوا يشيعون ان وجودهم وجودا للدين , وجلاؤهم عن العرش جلاء سليمان عن عرشه ! وان ما يتهدد مكانتهم يتهدد شرع الرحمن , وما يومىء الى كرسي سلطانهم فانه يومئ الى كرسي الرحمن ! وما ينقض نظراتهم ويفند آراءهم . . غايته نقض الدين وتفنيد كلام الرب !

فليس لاحد ولا حتى حق التلويح بالكلمة ضد ما يصرّحون به ويعتقدون . . فليس من خطط سوى خططهم الخمسية . وليس من تفسير للايات وتنظير للاخبار والروايات سوى ما يصدر عن أفواههم . . فما كان لاحد ان يتقلد مناصب الاجتهاد سواهم , وما كان لغيرهم ان يتصدر منصّة الفتيا . . وصولا الى المصادرة على كل حكم سياسي او عبادي  يستطير من بين شقوق أشداقهم , بأنه نازل من لدن العلي الاعلى , وليس لاحد نسخه , او التوقف عنده قيد التبصر والتمعن ! وان ما وقف عنده الاوائل ليس لامرئ ان يقول فيه غير الذي قالوا !

فما كان للحن اغنية ان يرتسم فوق الشفاه ، الا عرضت هذه نفسها لأشنع العقوبات ، حتى ولو كانت كلماتها وانغامها لا تتعارض مع لحن الشرع وانغام الاله ! ففي دائرة رؤياهم ليس ثمّت من مساحات مفتوحة . . وكأن الرب الجليل قد حرّم النكاح كله , ولم يحرّم الزنا منه فقط ! أو انه قد منع من البيع كله , ولم يقتصر في سياسة التحريم هذه الا على الربا منه ! وكأن به حرّم الغناء لنفسه , ولم يحل منه ما لا يفسد الذوق البشري , بخروج أصحابه عن قواعده الانسانية بما يكون في ثناياه , أو  يصاحبه !

لأن الغناء في قديم الايام كان عنوانا لنصوص عدة تنضوي تحته ، لان كل ما في الحياة هو غناء يطرب وبعضها لا يطرب ، فهو كالطرق على الرؤوس ! فغدا هؤلاء يتربصون بكل مطرب من قول اللحن ، لكي ينسفوا فيه نقاط الحلية ، فلا يدعو دياره الا بلاقع من الطلل ! ونسوا ان الانسان ملمح من ملامح الحب والبطولة ، وان تواصل عيشه يحتاج الى صولة واستمتاع ، والغناء ما كان الا احد تلك الافانين من الاغصان المكتنزة باحلى الثمار لا مرها وفجها .. بينما ان كل ما حولنا له ان يطرب ، وان الغناء المسكين ما كان كذلك الا ظاهرا للعيان والحواس وبتلك المعاني والسجال اكثر من غيره !

وغاب عن بالهم ان ما حرّم من لهو العيش ، ليس الغناء ، ولكن ما يمكن ان يتسبب به الغناء وامثاله لان هذا ما كان الا ضرب مثال لا غير فعمدوا الى ظاهر القول واحتسبوا تأويله واعتمدوا صبغة الشك والترديد بكل صناعة فنية تمت بصلة الى الغناء ، لاني ما وجدت احدهم يكفر يوما بسبب من غناء ، بل كان الغناء ولما يزل بالحانه الطيبة احد اسباب تواصل العيش الكريم والاستمتاع بلذة الحياة ..

لكن لو حدث ان اصبح الغناء سببا لخروج المرء عن طبيعته الانسانية وانقلب سببا يمنع الشخص من تولي مسؤولياته والاصغاء الى وعيه او ان يصحب مع الغناء ما وعلى سبيل المثال ، يمكن ان يتسبب به اخر من الاشغال التي تشغل الانسان وتطربه كما الحديث ولهوه ، والكلام وجرّه ، ومشاهدة الافلام ولعب كرة القدم ، وحضور الحفلات والمجالس ، وارتياد المقاهي ، وحتى العمل الزائد عن اللازم ، او .. وما شاكل ذلك من اي من الاعمال التي ينشغل بها البشر كل ليلة ويوم حتى النوم لو زاد عن حدّه كان يحسب من ضمن ما تعنون تحت الغناء الذي يطرب ..

لان الطرب بالنوم لا يفرق عن الطرب بالغناء لكن لو زاد عن حدّه بحيث ترك الانسان الكدّ على عائلته وكسب قوته لاجل النوم او متابعة الكرة والالعاب والانشغال عن مهامه الحياتية او القيام بمسؤولياته المناطة به او الملقاة على عاتقه .. كان كل هذا ليحسب على الغناء يعني على ما اطلق عليه بالغناء ، اي ان الانشغال به والاستمتاع كما الانشغال والاستمتاع بالغناء نفسه ..

هكذا اراد الله ! لم يرد الغناء نفسه ، وانما لو نادى الاب على ابنه ، وكان منشغلا بمتابعة نقل مباشر لكرة القدم ، فاعجزه ان ينهض لتلبية متطلبات امه أو أبيه ، كان هذا لهوا يحيل الى سيئات من الفعل ، ومن ثم تتحدر الى قول الزور ، لتصبح مصداقا من مصاديقه ومعيارا لولاء الانسان لما آمن به وصدق من قبل ..

لانه ما قام بما يجدر ان يقوم به ، ولا صدّق فعله بما صدق به قوله وادعاؤه من قبل ، فمتى ما دُعِي الانسان الى اثبات ايمانه وما سلّم به قلبه ، وجد فيه تراخيا بل نكوصا وعصيانا ، لهوى جرى في نفسه او مشيّة خالها أنسب ، في لحظة من الاشتهاء والخيلاء .. ذلك انه كان دائم الترديد بضرورة سماع كلام الوالدين ، وان ما بدا من سريرته ما كان ليخلف هذا الادعاء ..

لكنه حين العمل تراه ينكص ويتراجع تحت ضغط الهوى النفسي وتفضيل اللذة الشخصية على تصديق الادعاء السابق وهنا يحصل ما يمكن ان يطلق عليه بقول الزور .. لان الانسان يؤمن باشياء ، يقول بها ويدّعيها..

الا ان المرء يتراجع عنها حين ينبغي له أن يذعن لها عمليا ، وما كان تراجعه عنها الا بسببٍ من فرض الهيمنة النفسية والشهوة الذاتية عليه المنضوية تحت حين من الدهر كان استحوذ فيها على كل مكمن من مكامن حواسه الحس الشخصي والدافع الذاتي والنفسي . . من مثل الاستمتاع او الارتخاء ، او ما يمكن ان يحصل في اشكال اخرى حينما يرى الحق ماثلا امام عينيه لكنه خوفا من ان يغضب احد الذين يكن لهم بالمودة ، فهو يسكت عن النطق بلغة الحق ، او حتى التلويح بلحن من الصدق الذي له ان يجري على لسانه ، او فوق جوارحه ، وبدعم من حواسه وانماط التحرك لديه .. لان ثمة طربا خاصا يعمي حواسه عن الاذعان الى مسلمات كان آمن بها من قبل وسلّم لها قلبه !

ودواليك .. فما اكثر الامثلة على هذه السلوكيات والاشكال من تطرف العيش ومصاديق الطرب والاستهواء بلذائذ النعماء من آي الغناء القولي والفعلي مما يمكن ان تنسحب على كل هذه الانماط والصيغ الحياتية واليومية .

لذا ، فانهم كانوا قد نسوا ان كلام الزور ، ما كان الا وعد القول غير المشروط الا بصورة الفعل ، وما كان الا حكيهم فوق المنابر دون تطبيق من قبلهم باصغر شكل من اشكاله ، وما كان المحرم من الغناء الا بطرهم واستهتارهم واستكبارهم ، حتى اصبحوا وبصورة واخرى يملون على الاله ما يشاؤون من نظرياتهم وافكارهم ، بل ان كلام الزور المحرم والذي ما وجدوا غير الغناء الممتع يلصقونه به ما كان سواهم ، لانهم اعتادوا ان يخرجوا الناس من دين الله افواجا ، كما اعتادوا ومن قبل ان يدخلونهم فيه افواجا وذلك بحلاوة السنتهم المطربة ، والفاقدة لكل معاني العمل ، والخلوة من كل  سمات خارجية يكاد الواقع يتنفس شيئا من ملهماتها ..

لانه لو صاحَبَ الغناء ما يدع المرء يخرج من صدق وعيه للاشياء من حوله ، لكان لذلك الغناء وفي ذلك الوقت (وليس لكل الغناء) ان يعتبر عاملا من عوامل السوء والإجحاف . ولا اعني مؤثراته الفنية او مقبلاته الفعلية التي لها ان تصاحب الوان الفنون سيما الغناء ، ولكن ما يتسبب بالمرء للانقياد الى انانيته المشبعة بالغرور ، فلا يعد يسمع بعدها نداء اي كان من حوله ، سوى نداء ميوله الخاصة وغرائزه الشخصية التي تنبعث بفعل انانية مفرطة وامعان في الافراط يقتاد به الى كل نوع واخر من انواع التفريط بسبل عيشه الطبيعي والسليم ..

كما يعتبر كلام العالم والواعظ فوق منبره ، فضلا عن حديث كل مفكر واستاذ ، كذلك !.. إن لم يتصل بمصاديقه التي لها ان تلازمه ، من مثل حصول الفعل ووقوعه ، بل حدوث العمل الذي يثبت مقالته على وجه الواقع ، والتوكيد منه لكل ما انطوى عليه قلبه من ضميره لما يحكي ويدعو الناس اليه .. يعني إن صاحَبَ كلامه خيانة قلبية منافقة كان كلامه غناء محرما من الذي يطرب به الناس ولا يسمح لقلبه ان يطرب به حقا ! خلا ما يكون من مثله من الملحات التي يضطر معها المرء الى ان يعلن لمن حوله عن خلاف ما يبطن ، او بظاهر من لحن القول يتعاكس مع باطنه ! هذا ، ناهيكم عن ان نفس كل امرئ ما كانت الا مهوى لكل المتناقضات والمتضادات ..

والا فلو حرّم الغناء حقا ، لكان للعيش كله ان يحرم ! ويخطئ اذن كل من يفعل ! ويحذف كل مقبلات العيش من هذه النزهات في عيش الله الكريم .. حتى الرقص لينسحب على كل هذا وبجلّ ارقامه .

كذلك المرأة . . فما كانت الا وجه الله في ارضه ! اذ انها رب الجمال ! وما كان عنفوان حب الاله ليتأصل , الا من حيث تتأصل سياسة التعلق بأهداب جمالها , بعد التقيد بشرط بارئها وشروط صانعها . . فان بغت خصلات ضفائرها او أمواج خيوط شعرها المرجّل على قلب عبد من عباده , كان له ان يعشق فيها لون الاله , ويبغي سبيل القرب اليه من خلال الاستشفاع بعناء حبها وما يلفحه من نصب جرائه , وذلك عند من كان السبب في تقويم خلقتها , في أحسن صورة ما شاء ركّبها ! في حال ان يكون حبه لها في سبيل المعشوق الاول والاخير . .

ذلكم هو ما وصى به الله ! فلا يعتدي على من يحب , ولا يتحامل عليه ان هو صدّ عنه وأعرض , ففي ذلك كفاية في التنحي عن سبيله, والتخلي عن حبه لغيره مما يود ويعشق ! ولا يخون الامانة الالهية ان مال الحبيب اليه ! فليس له ان يحتسي من شهد عسيلته الا باذن من منحه القدرة على اختيار من يحب ويهوى . .  دون ان يتناسى بعشقه هذا عشقه لامه وابيه , اذ في التواصل على الارتشاف من منهل ودّهما والاحسان اليهما , سيماء شوق من الرحمن الى طهر أرواح عباده ! والا ما كان للمرء أن يوفّق في عشقه لفتاته , وان رأى منها ما خاله حبّا مستميتا , تكاد تزهق الروح في سبيله فيما لو أحب وشاء !



( 18 )



ولقد صرنا بعد ذلك الى موضوعنا المباشر ، اذ ما كان جيلها الذي انبتته من صلب زوجها الاول ، الا سببا هو على مبلغ من الاهمية ، بحيث داست على كل مشاعرها ، وافتدت عمر نسلها الاتي بكل ما تملك من ذكريات وآمال وامنيات ، بل انها اشترت ودّهم واعمار مستقبلهم بكل ما كانت قد لمسته وشاهدته رأي العين من ذل وامتهان وعذاب .. سوف يعود عليها من جديد بفصوله القاتمة ومشاهده البائسة !

وبذلك كانت قد قررت الرجوع اليه ، بعد ان نفحها وعودا ، تعلم علم اليقين انها معسولة لا تغني ولا تسمن ، لان مرذول طبع الانسان من الذي لا يهتم هو شخصيا وبدافع ذاتي ، بنفي حالة التعود عليه ، فانه بذلك يكون قد حكم على نفسه ، ان لا يغير منها الا بقدر ما سوف يغيره الموت أو الزمن . .

كنت قد احببتها ، ومن ثم استرقها مني في ذات ليلة وحبلت منه وانجبت ، حتى كثر اولادها ، الا انهما انفصلا فعدت ارتمي عند قدميها حتى عدنا كما كنا .. الا انها اليوم جعلت ترتمي بين قدمي كما لو أنها جعلت تستأخذ مني كل تلك المشاعر التي كانت اهدتني اياها طوال كل تلك السنين ! ما اسهل التضحية بكل تلك الايام !

فلقد أصبحت تتراجع لأجل كل احلامها التي دفنتها في دخائل امومتها التي ما زالت تدخرها لفلذات كبدها ، فهي لا تعود الا غاية منها للتشرف بلثم تلك الصباحات التي ولّت من ماضيها ، والتي لم تعد تتوقع رؤيتها الا في أعين أولادها ! فهي اذن أمّ مضحية ، وبكل ما ملكت يمينها . .  وما كانت لتبذلها ، الا لاجل مقاطع اهم من طفولتها الغنّاء ، وصباها المنتشي ، والتي ما عادت تفكر في ان الفرص ستسنح لها بالتعاطي والتعايش معها من جديد ، الا حينما تكلل طلعتها ببهاء مصافحة وجوههم النضرة . .

وهكذا ، فما كان لها من كلام تواصل تكريره والدوام على استحضار معانيه ، الا أنها ما كانت تضحي بمثل هذه السعادة التي ازجيتها لها ، وأخلصتها لها ، حتي ولو كانت على حسابي . . الا من اجل مستقبل اولادها ومصائرهم التي يحتضنها الغيب . . لانهم كانوا في نظرها أمة متكاملة . . أمة برمتها ! . . فكانت تقول لي وتظل تخبرني بمثل هذه الاخبار:

ـ  أما الان ، فانه لا يعوزك بعد اليوم أحداً يبقى الى جانبك ، كيما يسهر عليك . . لانك قد غدوت سفير الحرية والانسانية . . سفير الدين المتين والعقيدة الحقة ، لا دين هؤلاء ولا صبغة عقيدتهم ! ! فانت لا تغيرك الازمنة ، ولا تعتورك الملّمات ، الا بالقدر الذي تزيدك فيه اباء وشموخا عظيمين . . فهي تشذّبك بتجاربها الصعبة ، وتشحذك بكل ما تنفحك به من ثمرات عناءاتها التي تصهرك في قوالب لا تتنسم سوى رشحات الهمم النبيلة والقيم العالية .

كنت اجدها تشطفني بثنائها وتمسحني باطرائها كي تصل الى غايتها .. ولقد جعلت تدوس على كل رياحين الايام السالفة بما فيها الحالية من اجل ان تبتغي لها سبيلا بين كل هذه الاحراش لكي تفد على من تحب من اولادها ..

ثم تنسل في حديثها ، نحو استرسال مفعم بالحزن والالم :

ـ  فانا لا أخاف عليك . . ولكن أخوف ما أخاف عليهم هم أولادي . . وفلذات كبدي.. فانا اشكر صنائعك ، وايامك التي قضيتها معي ، وكل ما أنفقته من عمرك واحلى لحظات حياتك ، فداء لي ولسعادتي ، وكل ما علّمتني اياه ، فضلا عن جزيل نصحك لي . .  ومغالبتك نفسك في تحمل اخلاقي النكدة وطباعي الفظة . .

هذا ، بالاضافة الى تحملك سيل مشاكلي التي زوّدتك بها ، ومؤاخذاتي التي طعنتُ بها عليكَ . فما كنتُ صنعتُ الا ان أثقلت عليك ، وأضفت عبئا فوق ما كان لديك من أعباء . . والتي ما كان لها الا ان تزيد.. وتضاعف من معضلاتك أنت الآخر . . لان ما كان لديك ، اعتقد انه كان يمثل الكفاية بالنسبة اليك !  



( 19 )



بينما بدرتني ، فجأة :

ـ  هل لي بسؤال . .

ثم :

ـ  اني أسائلك يا رفيق. . بل اني لاستجوب ايامك يا حبيب :  أوما كنت تملأ يافوخي حد النخاع بأفكارك التي كنت تحدثني بها . . أوما كنت تخبرني بان الهجرة الى الله لا تمر الا من خلال جسدي ؟ والمساعي للوصول الى الهدف المطلق لا يمكنها أن ترى نور الاشراق والاتمام ،  الا بعد العبور من فوق مسامات صدري ، الغافي تحت ظلال وحي الايام ، والمثقلة بحزن الجنس ! أوما كنت توعز الي انه حينما لا تهدأ انفاسك ، الا بين أعطاف نهديّ المنتفضين ، وعروسيّ صدري العاجي ! سيكون لنا بذلك . . عهد بعدم التنائي ، لبلوغ غد زاه . . يقربنا من الله . .

أوما كان في كل هذا سلوى عن كل البشر . . وفي ذلك ، كانت الوحدة والاستئثار بجّل المواقيت ، للتأهب لتلبية مقدسة، دانية هي قطوفها . . عند رب كريم ، يقرّ بمعاني الجنس لدى من خلقهم من أحبابه . . لان للجنس عند الرب ألف معنى ومعنى ، هي اوسع مما عند أخلاّئه من ألوان البشر ! أو ليس من الغدر ان يبيح لي رب العمل صنع ما يحب ، ويعارضني في الاتيان به أيما عبد من عبيده ، ويمنعني من صنعه كل من هبّ ودبّ ، وكل من له ان يتلقى الامر من ربي نفسه . . ربي الذي فوض لي امر اباحته ! حتي لتصير أفكار ذلك العبد تصدر اشتاتا ، كما لو كان هو الرب ، او ان الرب لا ينطق الا عنه !

بربي ما كنت علمتني ،  الا ما كان حيائي يمنعني من السير في اثره ، ويصدني عن تنكّب جادته ! وما لقّنتني الا ما خوّفني منه كل الاحبار والربّيون الذين تلبّسوا بثياب القديسين ، وتنسّكوا وبتّلوا بمناسك الروحانيين .. فانقشع عنّي الحجاب ، وزايلتني أساور الشكوك ، فآبت اليّ حينها نجوم العقل ، بعد ان كنتُ تحققتُ من ازارهم ، بأنه ما كان الا وزرا ، واهابهم ما كان الا خطيئة ، احتبس وراءهما ابليس كل انفاسه ، وهو يفر بضحكات جنده المنسكبة خلف ثكناته ، حينما ودعهم يعبّون من خمر ، ظنوا بها تنبع من معين الجنان . .

فما شعروا بأنفسهم ، الا وهم يتجرعون من عين تلك الكأس التي جرّع أسلافهم منها . . وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا ! ! ويلحّون في نبذ سكنات الجسد وارتعاشاته ، والنأي عن صبوات جنسيته ، وذلك حينما يلوّحون بأكفّ الرفض في وجهه ، ويكثرون من الصيحات في اثره . . وهم أقرب اليه في الخلسات ! تتعاهده أهواؤهم ما درّت عليهم صبابته ، ويتداولونه ما دام القطا نائما من حولهم ! !

لكنهم ما كانوا يشعرون أيّان يُبعثون ، كيما يبلغوا حدود الغسق في الرؤى ، فينتبهون بعدها ، الى انهم ما كانوا في معزل عنه . .  واذا ما لحقت بهم الوساوس التي لها ان تثبت ادانتهم ، وتجلد ظهورهم ، ترامت لمزات الكتمان بين احداقهم ، تسعى بين أيديهم، لتعينهم بعدها دفائنهم . . وبكل ما وسعتهم الحيل . . على التلمظ ببقايا سحاب ، لم يدعوا قطرات مياهه العذبة تسّاقط فوق مرابع الخلق وحسب ، بل تناهبوا قطره، واسترقوا زلال أمواهه ، فراحوا يستسقون ماء فراته لأنفسهم ، دون مذاهب الورى ! حتى كأن بينهم وبين الرحمن نسبا !



( 20 )



ثم كانت تردف كلماتها مستعبرة :

ـ  هكذا غيّبوا لدينا كل نفَس يحمل عنوان الحب ، وكل صوت يلتمس للجنس هوية، تمتّ بكل الصلة الباتة الى هوى النفس الراضية ، وبشتى القرابة والوجاهة . . حتى اننا ما كنا نفهم معنىً لكل نفس مطمئنة ، الا من خلال الشعور بالعيّ والبطلان ، ازاء كل معاني الانشطار عن مبادئ الجسد والحب ، والتعالي على فرائد الجنس الاولية ! فضلا عن التنصل من كل صفات للبشر ، لا سيما فطرة الانسان الحي ! والتي ما كان لها ان تلهج أول بأول ، الا بلغة الحب ونكهة العناق الحيتين !  

ولكن الاغرب في كل ذلك ، أنهم لم يغيّبوا هذا كله ، وحسب ! بل ادّعوا انهم هم الاخرون . . مظلومون مثلنا ! ! هم الاخرون محرومون من نعمة تطبيق الشريعة والدين ، وذلك على حسب ما جاء به الرسل . . لان كثيرا من الناس ليسوا براضين عن تطبيق الشرع بحذافيره ، ولا التنحي عن كل محاذيره ، لانهم وفي مثل هذه المقامات ، يرون للعرف مقاما أوجَه من الشرع ! . . بل ان ذلك مما له ان يثير حفيظة التعفف والاتزان في خلق الانسان الرشيد ! ومن ثم له ان يشيع الفاحشة في الذين آمنوا ! ويعمل على نشر الإكراه على البغاء ، فضلا عن تعميم روح الفساد في الارض !

والاعجب من هذا ، انهم يتذرّعون بحجج واهية أكثر من هذه ، حينما يحتجون بأنه وفي حال تطبيق مواد الشرع واحكام الفقه كاملة ، من مثل اعطاء الحريات كافة للمرأة ، واطلاق يدها في التسلح بانواع اسلحتها ! سيما حريتها الجسدية منها ، ولا غَرو ان تكون اولاها ومن ثم ما يلحق بها من اقامتها لمختلف العلاقات والسنن .. كذلك ان يترك للرجل مساحته العاطفية المعقولة في الحب وهواه ، فيسترسل بتؤدة من دون نعته بخيانة واخرى !

نعم ، فانهم يحتجون ويتذرعون ان حدث مثل هذا ، فانه سيكون مدعاة حقة لنقمة مرضى القلوب على الدين ، وهم انفسهم ما كانوا الا من الذين مردوا على النفاق ، ممن يتربص بقواعد الشرع واهله . بل ان شغلهم الشاغل ما كان ولما يزل الا تشمّم ريح الفتنة ، والتماس روح الإعوجاج حتى لو كانت مدسوسة في جُحر ضبّ ، ومدفونة فيه تحت كل حَجَر ومدَر . فانهم ما كانوا ليترددوا في نبش رفاتها , وسحب أمانيّها , ومن ثم تثوير نيران فتيلها ، وتحريك أوارها ، من أجل تعميم طاقات وبائها ، ونشر آثار وبالها في أكبر رقعة ممكنة !

لقد انتصبوا ولأشد من ذي قبل ، كيما يكيدوا على الدين واهله . . وذلك عن طريق التستر بنفس موائد الدين وقواعده ! غير أنّا ما كان لنا الا أن نصمت ونصبر على ما آذونا ويؤذوننا ، فنلبث ريثما تتاح الفرصة لكل صور الحياة وألوان العيش النبيلة ، كيما تضع أحمالها وفق التفنن في مناح الاصول والمواهب ، حتى تنيخ برحالها ، وتقوم لله جميعا ، قانتة متبتلة . . هاجسة غير متوجسة ، وبكل ما اوحي لها . . فيفرد لها الربّيون فصولا وابوابا ، تتهيأ لها ومن خلالها كل مستلزمات الوقوف على القدمين ، وكما كان قد اراد لها خالقها وبارئها ان تصمد وتهدي ناوية للتي هي أقوم !

انهم والله ، ليقتلوننا في اليوم عشرات المرات ، ثم انّا لنراهم يبكون على قتلانا ، ليعودون بعدها، يُعملون فينا كل جوع وتشريد ، ويسهبوا في التنكيل بأسرانا ، بعد ان يكونوا قد ذبحوا رجالنا ، وأسهموا في الانقضاض على اطفالنا ، يثيرون فيهم كل احاسيس اليتم والجهل ، بعد ان يكونوا قد رمّلوا في مضارب قبائلنا كل امرأة واخرى ، من اللائي لا ينقطعن عن العويل ، فيصنعون ريحا تغمر ايامانا الناحبات ، بعد ان يثقلوهنّ بوجيع النوح وسورات الثّكل والتفجّع ، فلا يتركوهن الا ونشيج العبرات يلهب آماق كل الاحداق فيهنّ !

ومن بعد ، لتراهم يتنادون نادبين قتلانا ، كأنما ثكلوا بنصيبهم هذا دون غيره ! وما قتلنا احد غيرهم ! وما سلبنا أحد سواهم ! وما ألقانا في غيابة الجب أحد غيرهم ! لانهم ليسوا ممن يهتموا بسرقة بيوت أموال الشعوب ، فيتركوا أهليه بعدها كي يهنأوا بما يمكن أن يصيبهم ولا حتى من فتات موائده المستباحة . . فيَدَعوهم ينعموا ، بما غنموه . . دون أن يستلبوهم اياه !

انهم ليسوا من هؤلاء ، ولا يمتّوا اليهم بأيما صلة ، بل هم أحطّ منزلة , وأخسّ قدرا ، لانهم وضعوا انفسهم ، ولم يرفعوها , وما استطاعوا ان يرقوا بها , ولا حتى الى مصافّ السرّاق من ذوي النسب ! وذلك حينما تدافعت أغرابهم ، تنحت لها قوائم وأضلع، كيما تحمل على حوزات بيت مال العباد ، فتنقض على خيراتها ، وتسطو على مقدّراتها ، فتصير هي الرب الذي يقضي في مصائر تلك الغنائم والثروات العامة . . ليمنعوا بعدها الرفادة والتزكية والعطاء ، ويحتكروه لانفسهم واعيانهم وحواشيهم ، ثم ما يلبثوا أن يطعمونه لاولادهم ويسقونه أحفادهم . . كيما يربُون على هذا المنوال ، ويشبّون على هذه الخصال ! فلا يشذّون عن مشارب آبائهم وأسلافهم ، ليصيروا عندئذ : خير خلف لنعم سلف ! ومن ثم ، فانهم ليعملوا على استلاب كل ما تجده اطماعهم ثاويا في حوزة الاخرين ، أو جزءا من أموالهم الخاصة التي لم تفد عليهم الا بشق الانفس وعرق الجباه . .

واذن ! فلا هم أعطوا حق الناس وحقوق مواطَنتهم ، ولا تركوا الناس تأكل من جهد سواعدها ، أو ترتوي من كدّ مواجعها . . بل ان عيونهم الجشعة كان لها ان تمتد الى ما عند شعوبهم فتستلب الذي تناله اعينهم ، مما يقع في حيازتهم ، او لا يعدو ان يكون الا صورة من عينّات ممتلكاتهم الشخصية !



( 21 )



ثم انتبهت الي .. اكثر من ذي قبل ، وجعلت تمعن فيّ التحديق ، وكأنها كانت تراني للتوّ أقف بين يديها ، وأمتثل لمفردات بيناتها ، وانا ما زلت أضع نفسي بين أحضان صومعتها المتشحة بصليل المعاني ، ورحيب الهياكل ! فأكّدت من حيث تشاء ولا غيره ، حينما استدركت القول :

ـ  وانت أيضا ، انت الاخر ، ممن لا يمكنهم ان يتناسوا ما صارت اليه انفس أولئك. .  الذين اعتمدوا سنن القديسين مظهرا وملبسا ، بل اتخذوها مغنما ، ناصع الحدس ، كيما يفترضوها جزءا من مواريثهم الشرعية ! حتى يصيروا بعدئذ يتخذون من فجاج المتألهين والاشراقيين مسلكا ، لا يخطىء مطامعه المكشوفة، ولا يصيب في الواقع غير ركام الحطام. . كيما يلتمسوا الدولة عند الرب نفسه.. ويطلبوا الحكومة عند الاله عينه !

فكأن الحب الالهي لديهم ما كان الا ثمن ريع ، ليقع قهرا على الخالق نفسه ، ويصيبه خلسة ، فلا يستطيع الفكاك من مطلقا ، أو حتى التحلل منه قط ! فيهبهم وبالتالي في إزاءه ضريبة انفاذ عهد ، يولّيهم وطبقا له سلطات التسلّط على مقادير البلاد وحكومة العباد ! وبكل ما يشتهونه ويبغونه . . حتى اذا ما خوّلهم ، وفوّض اليهم مثل ذلك ، سألهم عما يبطنونه ! . . واذ ذاك سيبدروه : ان ذلك ما كان قد تقيّد في عهدهم معه ! ان هي الا أسماء سميناها معا . . ومن ثم نرد اليك . . وأنت الخليق بك ان تكون الرحمن الرحيم بنا ، وأنت القمين بك ان تصير الجبار القهار على أعدائنا . . أوّاه ، المعذرة .. كنا نقصد أعداءك !  و . . أعداءنا معا !

ولقد كنت تخبرني انهم ما فقهوا من الحياة شيئا ، بقدر ما تفقهوا في علم كل ظاهر فيها ، حتى فطنوا لكل ما بدا منه . . بل انهم ما يعلمون من الحياة الا ظاهرا منها ، وهم عن الاخرة غافلون ! وما ارى الاجيال التي تتربى في حجورهم الا القطب السالب النافر عن قطبي وقطبك ، والنافرين بدورهما عن القطب السالب الاخر . . اذ انك كنت تخبرني أن هذا القطب الاخير ، ما هو الا نفي الدين ! فكلا القطبان اضاعا الطريق ، حينما اختار الاول الاخرة دون الدنيا ظاهرة ، واختار الاخر الدنيا دون الاخرة ، وما علموا ان الاولى هي رضيعة الثانية ، والاخيرة ما كانت الا قرينة للاولى ، وما كان لأيّ منهما أيما معنى دون الاخرى !

فلا علمانية ـ من التي لا تؤمن بالتحرر من المحظور الا بشرطه وشرائطه ـ دون  دين ، ولا دين دون علمانية ! لانهما كمّا وكيفا ما كانا الا متزاوجين ! ولا يمكن للّقاح ان يبلغ حالة الاتمام وفصل الخطاب ، الا اذا اجتمعا ! وبافتراقهما يذهب الانفصام بكل ما يمكن جنيه من ثمرات ! وعندئذ فعلى الدنيا وما فيها . . العفا ! خلا ما بقي فيها مما ارتضاه داحي أرضها ورافع سمائها !

وعندئذ سيرضى هؤلاء لنا بدنيا لها ان تعود بنا القهقرى الى عهد أبوينا : آدم وحواء ، كل بقاع التأطير المتنامية داخل أقطار العقل النابض بالوفاء . . للانسانية ، والاخلاص للبارئ المنان . . ومن قبل ان تعود هي بهم كذلك ! حينما غيّبت شياطين شعوبهم كل مساحات التنظر ، وأسدلت أسجافها فوق وانهم حتى لو توهموا أن أبواهما ما أخرجهما من الجنة سوى حبّ الجنس ، والتفنن في نسج الحان الهوى ، حتى ولو كان صادقا نقيا.. فانهم وفي قرارات انفسهم ، لسوف يدحضون ما يعلنون وبدون ايما قيد او شرط !

لان براهينهم ليس لها ان تصمد ولا حتى بدهيا امام حقائق الفطرة التي لا تنبىء الا عن أنه .. ليس ثمـة من شيء ، هو بامكانه أن يصمد أمام كل المصاعب والمعاناة سوى نبض أنفاس الحب الصادق ! لانها ما كانت لتظل الا عالقة بأضواء سحبها المطيرة ! والتي لها ان تسّلّق عنان مطالع الطرق ، وقوارع الازقة . . الحالمة برعشات جنس فتيّ ، وهمسات عريّ ، لا تخمد فيه جذوة الحياء قط . . ذلك الحياء الذي علمني : كيف اختزن صوت الشهقة , وأغير لون العبرة التي لا تعرف للّون معنى . . والذي علمني كيف اختزل لسعة الاهات , وأنقل أحزانها الثاوية خلف تلال الغرائز الواثبة والاحلام الوردية السابتة الى كل معقل من معاقل الزمان الذي صدق الانسان فيه وعده لربه !



( 22 )



وأخيرا ، فاني كنت قد أيقنت انها ما انتوت هجري ، إلا لأجل اولادها . . غير اني رحت افكر بهم ، وبهذا الرأي الذي أقرّت ضميرها عليه ، اذ كيف تنتصب دلالات بيناتها هكذا ، ومن دون ان تسّلّح بما يمكّنها من الصمود ازاء النقد والطعن ، فأولادها ما كنت اراهم الا الذين كانوا قد بلغوا من العمر ما بلغه زمن يُعتدّ به . . فلقد شبّوا عن الطوق ، وامتازوا عن سني الصبا والطفولة . . بل خلّفوها وراءهم منذ ردح بعيد ! . . وهم الان ، ليسوا بحاجة اليها ، كما كانوا بحاجة اليها ، وقتما افترقت عن صاحبها. . وتخلت عنهم بالرغم منها !

ولكن لماذا الان . . أيمكن ان تعتبر دعوة زوجها لها ، مجرد ذريعة مبسطة . . كيما تعود الي حضنه ، لتعود وبذلك كل المياه الى مجاريها القديمة ! أم ثمة دواع اخرى أو اسباب متعددة ! ومع كل هذا ، فلم أكن لأنسى بأني أنا الاخر , ما كنت الا زوجها الثاني ، ولقد التمستني تحت هذا العنوان ، وطلبت مني اثبات الانفصال ، وانفاذ مواده وتسجيل حكمه في دوائره المختصة . . كيما يتيسر لها العودة الي زوجها الاول . . فرضختُ لها على مضض ، وذلك بعد اصرارها المتزايد وتوكيدها المتوالي والمكرور . .

حتى جاء اليوم الذي أخبرتني فيه ، بأنها ستفارقني في صباح الغد ، وانها تلتمسني الاستجابة لمطلبها ، ولم تفعل الا لانها تعلم من اكون ، وكيف اني ما عشت معها الا لاجل سعادتها ، واني لا اضن عليها بما يمكن ان يسعدها .. لذا ، فهي كانت متأكدة من صدور موافقتي .. وتبتّ في امرها كما لو كنت ارفقت بها وأذعنت لمطلبها .. وبالفعل ! حدث ما كانت تتوقعه مني ، فرضخت لمسعاها ولبثت اسلّم لها ، وحرقة من الالام تمضّ في داخلي .. وتحدق بي في كل الاتجاهات .. غير اني اعترف انها كانت حزينة ، ملفعة بثوب الهم ، مشفقة على وضعي من بعدها لكنها كانت قد اتخذت قرارها دون رجعة !

ولكني عدت أحذّرها من كل ما يمكن ان يشوب الامر . . ويعتري مسار القضية ، وان صاحبنا ما هو الا نفس متقلبة ، ومشاعر متذبذبة ! بل انه شخص لا يمكن الوثوق بوعوده المعسولة ! لان له شخصية متلونة ! لا تروم هي ولا مثيلاتها ، أيما حقل لدواعي الثبات ، وعلى ذلك طفقت تسعى ، ولمّا تزل تروغ  . . وكأنها تعاهدت التعاطي مع سياسات النفاق والمراوغة في كل سنيّ عمرها ، وما برح ديدنها على هذا المنوال يختط له السبيل..  ما حيت أبدا !

الا انها لم تقنع بما قلته لها . . فلبثت تروم الحياة الى جانب اولادها ، ولو كان ذلك سيفرض عليها وبالقوة ، نفس الشخص الذي ما كانت تنفست الصعداء بالامس , الا حينما تحرّرت من ربقة زوجيته ، وتحلّلت من كل عهودها ومواثيقها الشرعية ازاءه ! بعلها السابق ، والذي لا تطيق تحمل العيش الى جانبه ، ولا للحظة واحدة ! أو حتى مجرد التطلع الى صفحة وجهه ولو لثوان معدودات ، ولو أن من كان هذا شأنه ، سيقاسمها الحياة تحت سقف واحد ، ويواصل الحياة معها عبر قطارات العمر وعلى الدوام . .

مع انه لم يطلبها الا لانه شعر بالوحدة ، والغربة والعبثية ! وهذا كله مبعث انانية في حد ذاته ! مع انه مدعاة لنبذه ، ووصمه بالطمعية والانتهازية ، بالرغم من ان جزءا لا يتجزء من مقوماته ، او مسوغاته ، لا يقوم الا على افتقاره الى زوجته ، واحتياجه اليها ، لا سيما في هذا الوقت بالذات ! وانه قد اكتشف ان الحياة من دونها ما كانت لتغدو الا هباء في هباء ! فعمد يتذرع بنفسه قليلا وبالاولاد اكثر وحاجتهم اليها في ان تكون الى جانبهم اكثر من الاول .. وان التضحية بحب وزوج بديل ، لهو اسهل من تضييع فرصة العيش مع فلذات الاكباد !

وليس هذا وحسب ، بل انه راى ان التخلي عن المطالبة بها ، ما كان الا لونا من الوان الخبال ، ولا يعدم صاحبه ان تصيبه لوثة من لوثات النكد ، القائمة اسسها على انقاض حب مفقود ! والمتناصبة أساطينه بدورها على صروح ماض ، مشتت الانواء . . ضائع الاوصال ، وذلك مذ تاهت الطرق المؤدية الى تلك الزوايا التي تحف بأشلائه المنفية !



( 23 )



وفي صبيحة اليوم التالي ، كنت أنا في انتظارها ومن جديد ! ! كنت انا الاول والاخير في حياتها ، ولو ان للمرء ان يحب ويهوى بعدد نجوم السماء . . وليس هذا اعتبار مجازي ، بل ما كان ليمثل هذا سوى عين الواقع الماضي بأمره دون التثبت من طرائق وقع المحال ، أو حالات التشكك الخاضعة لدورات من الحدس ونوبات من التظنن . . عندها كانت تستغرق معي في لحظات من النشوة . . وهي التي كانت قد غادرتني بالامس ، فما كان منّا في اليوم . . الا أن أفترش كلّ منّا جسد الثاني ، يهزأ بما حوله من البشر . . لا يهمه في الحياة سوى ما عقله وجدانه ، وتنشّقه ضميره من حسّ بديع ، وصبر شفيف !

كنت أكوّر ما انتفخ في صدرها ، وجعلت اهضم نواة ثماره المعلقة فوق قبابه ، وبتّ أظن بكل شيء حولي يميتني من هول الحسد ، حتى الجدار بات يسحق في أعماقي كل شجن قديم ، أورثته ايّاي ارتعاشات الايام في أمس , كانت تجلّت لمساته لي بعنف ، حينما كان ظمئي يسبح بين عناقيد خميلتها النافرة ، اذ ما زلت أعضّ على شفاه ثدييها ذي المحيطات المعذبة , والمكتحلة بألوان السحب الداكنة . .

كنت ما زلت انتظر سقوط المطر ، حينما ظلت تعانقني , لا تفتأ تحدثني عن مغامراتها في سني صباها . . وخبايا الطريف من نوادر تلك العهود التي تصرمت بعجالة ، كما لأيام الطفولة الزاهية ان تنصرم دون ميعاد ، تلتئم مصباته في مثابات نائية، وذلك حينما تزحف أذرع السنون بأكفها المعروقة ، فوق حلبات الرؤوس بحليّها المنفوشة ، والتي ما كان قد وخطها سوى الشيب المحارب ، والذي ظل يناوىء ،  بل ما زال يناهض كل الوان الاحتلال . .  والتي ما كانت تضنّ عليه ، ولا حتى بأوراق خريفه البيضاء ، اذ راحت فلول الزمان الغاشمة تختلسها عنوة وبالرغم من أغصانها الخاشعة ، ليرسم بعدها الدهر رقعة احتلال ، نضب فيها كل أمل ، وغاض فيها الماء. . فغدت أرضا بلقعا ، خلت من ظلال أسلاكها الشائكة ، فأحالها القدر عندئذ الى رميم باهت من بقاع ، ما فتئت والى اليوم ، تنتدب ناحلة مسحات راحلة ، غيّبتها سيوف القضاء المرهفة!

وفجأة صحونا من جديد ، وعدنا نختلس شمائل الوقت ، كيما أعود الى ماض عريق ، زها بألوان خطانا معا . . اذ ما كنت ارسم من نقوش الآثار ، الا تلك التي كنت أجد فيها شيئا من خصالنا . . بل كنت ألفاها مشبعة بصمتنا المتنسّك . .

فلقد كنت أحظى برؤيتها قديما ، وذلك في أيام زمان ، مذ لم يكن لأحد أن يهتدي او يعرف الى جيدها ايما طريق سوى رحلات أشباحي التي كانت تخطر ببهاء ، وهي تجوس ديار أخيلتها ، مثلجة معابر الخطر ، كيما تترك آثارها الموشاة بمسابح العناق فوق ملاعب الدهر !  

وذلك حينما يحاول كل خصب من خيال الماضي ، أن يشيح بنظراته الملتاعة ، عن لون تلك الاشباح التي هفت الى قلبها ، من دون أيما تهاون ، تحاول ان تميط أسوار السحاب على حنايا غلالته ! وتسدل ملاءاتها الداكنة فوق غشاءات أحنائه ! تظلّل شباب فؤادها بكل أسجاف الهرم والعجز المنزلق أديمها تحت ضغط زخّات هطول ، راح ينهمر قطرها ومن قبل الأوان ! !

وما كنت حينها الا قلبا مشبوبا ، يهفو الى كل عذب ، ينبجس زلاله من معين الصبّ ، ولو كان لغدرانه ان تحفها الاهوال والعقارب ، وتحيطها الازمات والافاعي ، فما كان لي عود ، يتحتم عليه ان يذبل حين لقاء الاعداء ، ولا كان عندي طير هاجس ، له ان يتداعى منخسفا تحت طائل الضربات والعنت . . ذلك ان لي نجوى من عشق أمل ، اغذو منها كل ليل ونهار !

وجاء اليوم الذي لم يسبقني فيه اليها أيما أحد ، فلم يخاطر في خطب ودّها أيما أحد غير قلبي الذي ظل يقبّل نقاط الحلم في رأسها , ويقتفي أثر الطير الوسنان في عنان سماء أفكارها ! ولقد كنت اغلقت كل البوابات الى قصرها ، بكل ما كانت تواجه خطّابها والمتقدمين اليها ، بمختلف ردود السلب المنفية ! وهذا كان سلاحي الاوحد ! فلله درّها من عصبة لعاشق لم يأفل زمن عشيرته بعد ، ومن قبل ان يولد افرادها الاشاوس !

ولقد تقدمت اليها ، وخطبتها من أبيها ، وزارتني في الحلم ، وعانقني طيفها من قبل ان تحلو لي خلجات شفاهها العذبة كلما اطالت التحديق في عيني ، وهي تمازحني بجوابها مقلتيها الذي ما ضنت به علي . . ان كانت هي خلسة ، افترصنا السبيل اليها ، فعانقتني بعد ان جذبتها الى صدري ، حينما احتبس فيها كل حرف ، اراد لسانها ابتعاثه من قلبها ، وما أدراه ان قلبها كان قد أسدل جفونه بين أحضاني ، يبيت في سدرة عشّه ، زائرا يحلو له المقام ثمّة , كيفما تنامت شواطىء مشاعره الغضة . .  فصار لي ان أعلمها كيف يعلق ثوبها . . بأهداب هذا الحب المعتّق ! ويترامى مجده بين ذوائب أفنان ، ما زهت براعمها الخلاقة ، الا فوق قنن مسارح ، ما برحت تلوذ بعباب سنين عطشى ، تقادحت فيها شرارات سرب ، ظلت تحف بها طيورها الجذلى ، برفيفها المحلّق فوق سحاب ذرى مرتفقة!

وما عشنا شيئا ، كان أشهر من أشهر العسل . . اذ لا نعدّها واحدا ابدا ! ولا نحسبها في اطار الآحاد قط ! ولربما كنا عددنا السنين بالاشهر والساعات . . ولربما كنا نحلم بأولاد وذرية وحفدة . . لا يشتهي كلانا أيما انصراف عن العناية بأمانيهم ، وتحت ايما ذريعة . . ولقد منّينا النفس ، بعدم الانفصال في أيما يوم من الايام ، ولا في أيما لحظة من لحظات الغد ! لان انطلاق الغرائز هو اقل حدّة من الطلاق نفسه ، لان فيه انطلاق الانفس الي ما لا نهاية ! بالرغم من صحة بعض حالاته ، وسقم حال المرء في بعض المواضع ان هو لم يمتثل لأمر الطلاق نفسه.. اذ فيه الراحة ويعمر في أكثره الالم !

كل هذا ما كان الا بعد ان انفصلَت عنه ، حينها كنت اتخيلها كما اشاء .. اراها كما لو كانت بنتا لم تعهد بعد اي رجل في حياتها ، وذلك على مستوى العقد والنكاح ، فصرت اراها كما لو لم يكن قد نكحها احد من قبلي ، لا من الانس ولا من الجان ! وهذا ما كان يعني لي ان احتكر عواطفها ، فلا ادع لها طرف يتحرك .. لان مشاعرها ما كانت الا ملكا لها .. وان الفتاة لتحيا بها وانها تعيش الحب عشرات المرات ، لكن ما ينعقد عليه قلبها سيكون الفائز بالحظ الوفير . غير اني احدث بما يمكن ان الحظه في نفسي .. وبما كان قد انطبع في مخيلتي انذاك .. مع اني كنت احببتها ومن قبل ان يتزوجها هذا .. الا انه كان حبا خرافيا فيه بعض الوهم ، الا ان الايام جعلت تنفق على توطيده ، وتعمل على تنشئته احسن النشأة ، حتى صارت فصول السنة الاربعة تعمل على تمتين روابطه ، والشد في اوتاده .. وظللت هكذا حتى في ايام عهدها بزوجها هذا ، والى ان انفصلت عنه .. ومرورا بايامنا تلك ، ووصولا بنا الى اليوم ..



( 24 )



وفي لحظة من لحظات احد أيام الربيع . . امتد اليّ كوعها ، فغمزتني بمرح ، كأنما راحت تثير فيّ رعشة انتباه ، فأشارت اليّ , وبصمت من نظراتها المتصابية التي ظلت تحكي لي أسرارها الغنية , بل العذبة بكل ما سافر بين ثناياها من حب وخيال . وفجأة انتبهتُ الى بريق حدقتيها.. حينما انجلى يعاتبني : فكيف تهيّأ لي أن أضيع الوقت في التفكير، حينما كان يسرح بالي في جهات مختلفة . . فعدت الثمها اينما كانت تمتد حرارة مواعيدي المشبوبة . .

ولقد كنت اشعر بجسدها كأنما كان يقشعر وينقبض ، كلما وددت ان التحم بها ، ولأشد من ذي قبل ! بل في كل مرة كنت اتحسس باطن جسدها ، أو أتجسس على كل ثغرة او فجوة في جسمها ، كانت تنفتل ، وهي لا تلوي الا ان تصنع من السحر، ما تخال معه أن تقهرني بشحنته ، والتي لا يمكنني معها ، الا ان اواصل تحركاتي . . ولأعظم من الاول ! لاني كنت اظنها تنفر من هذه المحاولات ، بيد اني صرت افهم العكس ، وما كانت هي الا لتعاود حشر جسدها في طيات جسدي ، تغالب في نفسها كل نزعات الفضيلة الكاذبة ، وتكاتب بأناملها العصيّة كل صحف سباتها القديمة . . بينا ما كان مني ، الا ان أجمح بنفسي، صوب رعشاتها الدافقة . . لأتنشّق عبير أنفاسها الثائرة دون ملال أو ضلال ! كيما أفوز بمذاق عسيلتها ، وأحظى ببريق لون شفاهها ! وهي اذ ذاك ، ما كانت الا كقطعة طرية من نقاء بضّ ، يتراقص فوق نهديها الصقيلين ، والنافرين بكل غنج ودلال . بينما صارت ملاحة ردفيها تنوء سابحة بين ردح قوة وموج ضعف . .

كما جعلت تفصح عن ساقيها اللتين انحسرتا عن قصة الزمان الذي كانت جدتي العجوز ، تحكي لي قصصه وحكاياه . . وذلك في ليالي الشتاء القارصة البرد ، ومن دون الخوض في تفاصيلها السرية ! فلقد كانت تقبر كثيرا من التفاصيل الماجنة في صدرها ، دون أيما اشارة منها اليها ، أو من دون أن تكلف نفسها قدرا لا يجاوز ، ولا حتى حدود  التلميح  اليها !! فكانت معذورة مقتصدة ، حينما جعلت تحذف ما تود حذفه ! وتشطب ما ترغب في شطبه ، وعدم ذكره ، مما لا يليق بالصغار تلقّيه من أفواه الكبار . . خصوصا في مثل تلك السن التي كنت أحفل بها !

وها أنا الان في مثل هذا الباع من العمر ، أعيش كل تلك المشاهد والاحداث التي آلت جدّتي على نفسها ، الا حذفها والمرور عليها ، من دون الاشارة اليها ، كما لو راحت  تعجّل عليّ شأنا من الشؤون , التي كانت تهوى التهرب علنيا من الاحتدام والاشتباك به .. وبسنا لوحاته المتناسقة الجميلة !



تمت بعون الله تعالى



مع تحيات جمال السائح




View jamalalsaieh's Full Portfolio
tags: