البقاء خارج ارض الوطن

البقاء خارج أرض الوطن

جمال السائح



( 1 )



عندما كانت تتحدث في الهاتف النقّال ، ما كان بالها ليغفل عن حقيقة ، هي ولشدّما صارت تلازمها ، باتت تشعر بالتعب منها ، لأنها كانت تستشعر الحاجة الي الاتصال هاتفيا، طالما كانت في الحمام ، او حتى في دورة المياه، مع انها لم تكن تهتم بمثل هذا الامر من قبل ، أو انها لم تكن توليه مثل هذه العناية .

ولكن هاتفها لما تركها تعتاد جرسه ، كلما ارتادت حوض السباحة في حمامها ، او حتى دورة المياه . . كانت قد آثرت على نفسها ، ان تصطحبه معها ، كلما قصدت الاستحمام ، او عرضت لها فكرة التخلّي . وبمرور الوقت مرست على الاتصال هاتفيا ، كلما كانت هناك ولأكثر من أي وقت آخر .

كانت ترى في هاتفها ، صورة تبعث فيها رحيل الانفاس الى عالم اخر ، ربما كان اقرب صورة منه اليها ، هو عالم البلدان الخارجية . . فلطالما تمنت ان تُغرق نفسها في عوالم تلك الاقطار الساحرة !

هي ليست من اولئك اللائي يمكن ان ينال الخداع منهن وطرا ، فتقع فريسة لأحلام ليس لها حقيقة متكاملة . بل انها ، ولربما كانت أذكى الناس ، ممن يكون حولها ، خاصة اولئك الذين كانت تعرفهم ، وكانت على اتصال مطرّد بهم .

ان هوى الخارج ما كان بالذي يستهويها الى هذا الحد، لكنه استهواها حقا ! واستهوى حبيبها وبعلها الاستاذ الجامعي جليل محسن . لقد كانت حقا مصادفة جميلة ان تستاق الاقدار المتنامية ، ووفقا لتنامي الظروف الثقافية ، هذين الزوجين للتحرك نحو اهداف ، لا تشرق عليها الشمس، الا خارج أرض الوطن !

لذا ، كان لهواها ان يزهر ويورق اكثر ، خاصة حينما يكون له ان يحقق لها وردي من الاحلام ، إذ كانت ومنذ صغرها مغرمة بدروس الجغرافيا والتنقل بين البلدان ، لا سيما الاقطار الاوربية ، وذلك من فوق خارطة اطلس العالم الذي كان والدها قد ابتاعه لها ! وها هو الحلم يتحقق وريعه قد ركن عند الباب ، ينتظر المثول بين يدي صاحبيه . . حينما يكون للاخيرين ان ينهضا به ، ويرحلان بمعيته صوب الافاق البعيدة ، والتي لا يرونها الا في الاحلام !

كانت معاملات السفر كلها تنذر بقرب الرحيل ، لاكتمالها واكتمال الرغبة لدى كلّ من صانِعَي القرار . فهذه العقود الثقافية تترى على خليلها وزوجها الاستاذ جليل، والذي لم يتوان عن تلبية مطالبها وعلى الفور ، بعد ان كان وجد اُذناً صاغية عند خليلته ، وشريكة عمره رحاب عبد الوهاب !

كانت الافكار تتداعى لديها مجتمعة بين الحين والاخر، غير انها كانت تشعر بحديث داخلي غريب وسريع .  ما كان يتناولها باسقاطات ربما كانت مغرمة بهوى ما ، فلربما كان مرِحاً بعض الشيء ، لكنها كانت تدرك انها حديثة عهد به ، يعني بمثل هذا الهوى ! وهي التي لم تعتد الاصغاء اليه من قبل ، فضلا عن كونه سابقا لأوانه ، الا انها ربما علّلت حصوله لديها ، او مقاربته اياها ، لرقّة احاسيسها ، وغور مشاعرها التي تميل وعلى الدوام ميلا رومانسيا ، حالِماً كل الحلم ، سابحاً في غلالة من الاضواء . .

كانت تستغرقها هذه التداعيات الى حدّ مغالب ! تكاد معه ان تستثيرها تلك التجاذبات ذات المنعطفات الغريبة ، وكأنها مغريات غير عادية ، كانت انبعثت من قلب ما يزال ينبض بعمر السنين الآتية ، ومن قبل ان تتصرم وتأتي! لقد كان ثمة ايحاءات تطرق أحلامها ، تراقص فيها الهوى الجريح قبل اصابته ، لتسبح مع عبق يوسع غوره في كل ازمنتها ، وتغرق متداخلة في اشياء آتية ! ربما تداعت في اقفاص رؤاها صورا ، ظلت تغازلها بشيء من الاغواء والتغريب:

ـ  بتُّ أزاول التفكير كثيرا ، أشغل أوقاتي بحثا عن صور كثيرة للماضي ، أفتش عن أزهار أضاعها نفس التأريخ!  فلئن أبقى لغيري ما يشبع نهمه ، الا انه كان غالى في اخفاء   الكثير من أيامي الماضيات ! ولقد غيّب في أدراجه العديد من الوان سعادتي التي كنت استشعرها من قبل .

انه ليسعدني ان استذكر نكهة تبعث في نفسي ألق تلك الايام الخوالي ! ومما يثير في نفسي الفرح والسعادة ان استحضر ذكريات مضت ، ومشاهد غيّبتها سحب الايام الجديدة ، المدغمة في سلالة الأيام الحاضرة ، لكني صرت لا اذكر شيئا ، واصبحت اقرب الى شخص ، بدا لنفسه كمن كان فقد ذاكرته !

ان هذا من أصعب الامور ، لانه عادة من يخسر ذاكرته ، فانه لا يشعر معها انها كذلك . فكيف إن غدوت عالما بأسباب الدوار الذي أخذ يعصف برأسي . . انه يفتقر الى محفظة ذهنية حقا ! ها انا اعاني الفقر ، ليس لي ماض ، مع اني امتلك مثله ، ولكني عندما وجدتني لا اذكر منه شيئا ، او أن لا احتفظ الا بالقليل منه ، إنقلب الحال امامي سيّان ! فلقد أصبح حالي ـ انا التي تمتلك كل ماض وحضارة ـ كما لو كنت لا أذكر من ماضياتي أي شيء الا ما تداعى منه. ولقد انقلب حالي كحال التي فقدت ذاكرتها حقا ، وغدوت معها في حال واحدة ! تخضع لشروط وخصائص واحدة مع اختلاف الاسباب . . وان تميزت خصوصيات الحال من احدنا الى الاخر !

غير اني ما ازال اشعر بالحنين الى الايام والربوع ، ولو كانت تناثرت متطايرة من فكري ! وأشتاق الى اهلي وأحبّتي وصحبي الطيبين ، ولو غدوت لا أذكر منهم شيئا ، فلقد استحالت ايامهم الى هذيان ، انقلبت كالدوامات ، غائبة عن بالي ، تتوارى خلف الجدران ، كما لو راحت تخبئ نفسها ، خوف ان تقع فريسة اغتصاب ! تلح في الاستتار ، حتى باتت تتخفّى حياء وخجلا ، لأغدو بعدئذ كمسكينة لا تذكر من أيامها شيئا!  





( 2 )



دخلت حمّامها ذات صباح .. بعد ان ظلت تتقلب فوق فراشها ، دون ان تقوى على استعادة اسباب النوم في عينيها، فنهضت وقصدت حوض الحمام . وبعد دقائق كانت قد انحدرت بجسدها الى داخله ، فأخذت تستشعر الدفْ .. ، قلَبت وجه الماء بيديها ، وحركته بهدوء ، كما لو كانت تتعامل مع موجود ، كان له ان يتحلى بالكياسة والخلق الجميل .

وبينما كانت رقعة رغوة الصابون تأخذ بالاتساع ،  فلقد كانت تشرع هي بمسح جسدها في كل الانحاء . الا انها حانت منها ابتسامة ! فلربما غفلت عن بعض الاشياء ، او اعتراها نسيانها .. لكنها تدرك انها ، وإن تبجحت يوما ما بالتناسي ، فانه ليس لها ان تنسى اهم جزء في جسدها ، واكثر الاقسام حيوية واثارة .

حينها كان يقف الى جانبها ، يرقبها بعينين بدت لها كما لو كانتا تبكيان من فرط الاعياء ، وطول المكث هاهنا وادامة النظر الى رغوة صابونها التي تندّر عليها ضميرها ، حينما خالها مجموعة من البصل المثروم ، والمثيرة لغدد الدمع في الانسان .

ـ   لقد سبقتِني الى الحمام !

ـ   وجدتُكَ ما تزال تغطّ في نومك ، ولا تحاول الاستيقاظ .

ـ   لا أحاول ؟ !

ـ   أجل ، فاني كنت قد استيقظت مبكرا  من دون ان اقوى على النوم مرة اخرى .. لقد انتظرتكَ تجفو النوم ، ولم أرك تفعل حتى فاجأني أذان الفجر ، فقمت لأداء الصلاة . بعدها عدت ، ولم أجدك فتىً مهذبا ، بل كنت عاقّا كسولا ، لم تطاوعك نفسك .

ظل يبتسم لها ، وهو يشاغلها بجسده ، حينما تفاجأت به ، وهو يندس في حوضها يشاركها الجلوس فيه :

ـ  أتقاسمني حوض الحمام ، ولا تقاسمني حوض الفراش ؟

قالت له ذلك ، فاجابها مسرعا ، وهو يحاول مضايقتها بساقيه :

ـ  اني لأجدك تختلفين عن سائر النساء اللائي اسمع عنهن  .. فلطالما أخبرني اصدقائي وعلى الدوام ، بأن نساءهن غالبا ما يتمنّعن عليهن في الفراش ، وحينما يفكرن في عدم البخل عليهن بالجنس ، تجدينهن أشد الناس تقتيراً .

ـ   هيه ، لا تغتر بما اصنع او ادعوك اليه ، لاني انا الاخري من جنس هؤلاء ، وإن اختلفت النسب وتباينت.. فان لي ساعات مناجاة أخلو فيها الى ربي ، لا أسمح لك فيها ان تضايقني .

ـ  وهل يشاركك الرب الفراش ، وهو يعلم انك تحتي . . وفي عصمتي ؟ !

ـ   تذكرتُ ! علينا ان نحضّر للسفر ، فانه على الابواب .

ـ   أنا الاخر ، كنتُ سأطلب منكِ هذا نفسه .

ـ   والمنزل .. منزلنا هذا ؟

ـ   سأتركه في ذمة أخي ، سيرعاه في غيبتنا ..

ـ   لا تنسى ان غيبتنا ستطول ، ستمتد لسنوات ، لديك عقود عمل في مركز الابحاث العالمي وثمة حصص تدريس منظمة في الجامعة العربية الخاصة ثمة ، كما تعلم .. فلا تدعه يؤجره لأحد . . أقول ، فليمكث هو وأسرته فيه ، فلو استأجره غريب ، فانه ما كان ليهتم بشؤونه قط، بل من الممكن أن يحيله خرابا ويترك ارضه ـ ان كان لأحد في مثل هذه الايام ، ان يغادر ويترك بيتا كان استأجره ـ  يباباَ ، او يقلبه خيالا كديارٍ ، عفت عليها السنون ، حتى استحالت طللا بعد رسم وأثر !



( 3 )



ـ   جينا ، يا صديقتي وحبيبتي . . ان الامر ليس كما تتصورين ..

ـ   كيف اذن ؟ !

ـ   ولو أنّا ارتبطنا وتعلقنا بهذه الارض ! فثمة أرض اخرى هي بأمسّ الحاجة الينا.

ـ   وأنتم الاخرون ايضا ، كنتم وما زلتم بحاجة اليها؟

ـ   بالضبط .. بأهلها وأناسها .

ـ   ولكن لماذا هي بأمسّ الحاجة اليكم .. اقصد اليكما ؟

ـ   الينا والي امثالنا .. لأن عملتنا نادرة ، والوطن يلتمس عودتنا . . ذلك أن فئاتنا قليلة ، تُحسب لها كل الحسابات . كما انها لا تُقدّر بثمن !

ـ   كيف ؟ لا أفهم ما تقصدين ؟

ـ    إن افكارنا متحررة غير مستبدة ، ونحن نعيش وسط الناس ، ولم ننزو . لا نحب التعقيد ، ولا الغلو في الدين، او المغالاة في فهمه غير المقصور على شريحة من المفكرين دون آخرين ، او حتى تفسير مظانّ الاعتقادات ، ورؤية الاشياء من حولنا . وتصور ايديولوجيتها المتحركة بمطاطية غير قابلة للرؤية مطلقا، كما هو الله نفسه !

اننا حقا نطمح الى إنشاء وطن حر .. نبلغ به فناء الذرى في سماء العلى ، يضمن فيه المواطن حصوله على انواع الحريات ، لا سيما أبسطها ، وهي حرية التعبير عن الرأي للوصول الى كامل سعادته !

ـ   كامل سعادته ؟!

ـ   أجل . لأن اطلاق الحريات الفردية والعامة ، وفي ظل قانون مبدئي خلقي قوي ، سيضمن لنا وللجميع من حولنا اسباب دوامها ، بحيث يكفل تحقق جميع هذا ، والوصول الى الحرية المنشودة وبلوغ السعادة المقصودة . فلا من عُرفٍ بال يقيّد قدميك ومعصميك ، ولا من تقاليد ساذجة يمكنها ان تقوم مقام قوانين السعادة ، او ان تحلّ محل أبسط مفردات الحياة الحرة الكريمة ، لتحيل حياتنا وبالتالي الى عُقَد وحُرمات ، ما كان الله قد أنزل بها من سلطان !

ـ   أووه .. ونحن اين سيكون موقعنا من الإعراب ؟

ـ   كيف تسألين هذا ؟ . . ( جينا ) انك تعرفين حقيقة مشاعري تجاهك ، ولربما تدركين اكثر منها ، اني ومنذ ان تعرفت اليك هنا في لندن ، وتوطّدَت بيننا بعدئذ اواصر الصداقة اكثر فاكثر ، فاني لم اجد صديقة نصوحة ، اصح وافضل منك ، ولا حتي زميلة وفية ، اطيب منك ! والارجح انك كنت لي اختا رؤوما ، ربما تربأ فوق كل مشاعر واحاسيس أي اخت اخرى ، او حتى وفائها ومبلغ إخلاصها .

ـ  رحاب ! سيكون بالامكان أن تمكثان أنت وزوجك ها هنا ، وان تبقيان في نفس الجامعة لتفوقكما الذي ما كان له نظير . . وإذن ، فانه سيمكنكما مزاولة التدريس  ، والتدرج في سلكه لمراحل اكثر تقدما .

ـ   لقد فعلنا ، ولكن الحنين الي الوطن ربما يزداد فينا اكثر من أي وقت مضى . الا تعلمين اننا هنا منذ سنوات عدة ، نعيش ونحيا في بريطانيا بعيدا عن ارض الوطن التي كنا قررنا يوما تركها ، لمثل هذه الاغراض التي اشتغل زوجي فيها ونشط وابدع . والان ، لقد آن الاوان لكي نعود . فقد سئمت البعد والنأي عن الاحباب ، ومللت رؤيتهم في ايام الفرص التي نختلسها اختلاسا . . ( تسكت قليلا ) لنترك الاية معكوسة هذه المرة ، فبدلا من زيارة الوطن بين الاونة والاخرى ، وفي ضمن تواريخ متباعدة ، سنقوم هذه المرة بعكس الصورة ، والعمل على الاستيطان ثانية في ارض الوطن ، والقيام بسفرات الى بريطانيا وغيرها ، او بترتيب انشطة رحلات سياحية الى بريطانيا ، وذلك في كل فرصة تسنح لنا بها . . أليس هذا اجمل وأمتع ! بل هو اطيب واظرف !

ـ    أما أنا فأنصحك بأن لا تنسخي آية عملت بها ، ولطالما بقيتْ وفيةً لك ، حاولي ان تزيدي عدد رحلاتكم التفقدية الى بلدكم بين المرة والاخرى . . صدقيني ليس عليك عكس الآية ، لانه بامكانكما الذهاب والعودة مرارا ، ذلك لانه وبوسع مداخيلكم أن تفي بالنهوض بأعباء مثل هذا الغرض ، واكثر !

ـ   أنت لا تدركين مشاعر الاهل والوالدين ، انهم يحبونني جدا ، ولقد آلمهم فراقي عنهم كل هذه المدة ، حتى ولو كان يتخلل ذلك كله ، وبين الحين والاخر زيارات في العطلات ، لا سيما العطلة الربيعية والصيفية ، إن كان بامكاننا استغلالها لانه كثيرا ما كانت عقود زوجي جليل ، لا تعرف صيفا ولا شتاء ، لأنه غالبا ما ينعم بصفقات خاصة ، لا يتعين لها وقت خاص ، او زمان معين . فهي ترتبط بسليقة الزبون ، وطبيعة العمل والنشاط ! ولكن وجدت من الاصلح أن أظل الى جانبهم في السنوات القادمة ـ لا سيما والديّ ـ  وهو ما تبقى لهما من سنين في حياتهما الآتية .

قالت جينا :

ـ   وعليه ! فلدينا مدة لا بأس بها .. أشهر معدودات.. بامكاني ان اظل الى جانبك ، وأن اتواصل معك . ولكني كلما فكرت بأنّكِ وأستاذ جليل ، ستتركانا ولمدة طويلة ، او الى الابد . .

مقاطعة اياها :

ـ   سنعود اليكما في العطل والاجازات .

جينا بغير رضى :

ـ   أجل .. أجل ، ولكني لا استطيع ان افكر كيف سأظل أعيش من دونك ، لقد اصبحت لي ظلا ملازما ، ربما كان هذا وبسببٍ ، مِن اني لم أحظ بوفاء معتبر من اخواتي الاربعة ، واللائي يعشن معي في بريطانيا ، ويحيا ثلاث منهن الى جانبي في لندن ، او ربما كان ذلك يرتبط ـ وهو ما احسه ـ بنفس شخصيتك التي كانت ولما تزل تؤثر في اعماقي ، وبقوة لا مثيل لها .

ـ   لا عليك يا حبيبتي ، فانا الاخرى لا اجدك الا اختا لي ، كما يمكن ان تعدّينني أنتِ كذلك ، اختاً حميمة لكِ . أما بخصوص ما ذكرتيه بالنسبة لاخواتك وضعف الرباط الذي كان له ان يسيطر على أجواء العلاقة بينكن ، فنحن الاخرون ما زلنا نعاني منه ، وبنفس المستوى الذي تعانون منه أنتم كذلك . هذا ، مع وجود فوارق نسبية متعددة . ولكن ! ربما تسمعين كلاما من بعضنا ينافي كلامي، فانه يمكن حمله على تلك الاواصر الاُسَرية والروابط العائلية التي تستخدم المظاهر الخداعة ولقلقة اللسان ، ذي الكلام المعسول ، كذريعة لإخفاء واقع الحال السيء الذي يخيّم على مجتمعاتنا ، ليلبسها وبالتالى حقيقة بائسة . . إذ ان علاقاتنا العائلية اصبحت لا تعدو حدود الكلام والوعود الكاذبة التي لا نجد من يفي بها الا القليل من المخلصين . وان تواجد غيرهم فالدافع الاساس لهم اغراض مصلحية ليس إلا ّ! حتى اصبح احدنا يتنكر للاخر عمليا ولكنه عند الحديث تجدينه اخلص المخلصين ، وفي غير ذلك ليس لنا منه ايما حظ !

ـ   وهل الاخت تفارق اختها وتجفوها ؟ !

ـ   سوف لا يحصل مثل هذا . سوف لا يحصل مثل هذا بالتأكيد .

ـ   ستحدّثين نفسك انك تختلفين عن كل اولئك المتهاونين بالروابط العائلية وحجم العلاقات الاُسرية وانك ملتزمة بالاخلاص لمبادئك الخلقية قولا وعملا . .

ـ   انا الاخرى ربما أتأثر بهذه الاجواء المريضة ولا اُبرّئ نفسي ان النفس لأمّارة بالسوء ولكن صدّقيني لا أحسب نفسي من اولئك ابدا.. من اصحاب القطيعة ودائما ادعو الله ان يجنّبني الدخول في مداخلهم او الوقوع في مزالقهم !

بينما عادت جينا تقول :

ـ   ما عليك ، غير اني أجدك يا صديقتي ماهرة بالتلاعب بسياسة التخلص من اصراري واصرار امثالي ، لأنك ستتمكنين من التملّص من الحاحاتي عبر الاعتذار اليّ والى امثالي بأي وسيلة مقنعة وأخرى مماثلة واقوى ! لأنك ستحاولين اقناعي بضرورات السفر والرحيل ذلك أن في أعماقك ثمة اعتقاد راسخ ، يؤكد على ضرورة التسليم الى حقيقة مفادها أن الحنين الى الاهل والوطن يربو على الالتصاق بصداقات شخصية جميلة ، طالما انها لا تلعب دورا مباشرة في زيادة معدل مداخيلكم الشهرية ّ! وانه لشيء أكيد ان يتيسر للفرد منّا امكانية المحافظة على مثل هذه العلاقات الصديقة والروابط الشخصية . إذ ان اسباب كل هذا له ان يتوافر عبر اللجوء الى استخدام وسائل عدة ، تمكّنه وبالتالي من ان يحرص على مثل هذه العلائق والتواصل مع اصحابها ولو كانوا يبعدون عنه آلاف الكيلومترات ! من دون ان يضطر الى التفريط بحقيقة انسانية مثيرة ، تتمثل في دعم صلة الرحم لديه والالتصاق بالعائلة الحقيقية ، وملازمتهم فضلا عن خدمتهم من قرب وخدمة الوطن ! وبالتالي ، فلربما عرضه عدم الالتزام بها الى عواقب سيئة ! واخيرا والله لقد قتلتموني بقصة الحنين لديكم ؟

اجابت رحاب :

ـ   هذا الحنين موجود ، لكنه ربما اصبح هو الاخر كاذبا ! او تبدّل بعد زواله او حتى في حال أوج حالاته ، فان يشوبه الكثير من الاخلاط بات من المسلّمات والامور الطبيعية كسائر ما قمت بسره عليك الان  ومن الممكن ان تتعرض مثل هذه المشاعر الحنينة الى ضربة قاهرة أو ردود فعل عكسية ، وذلك حينما يصطدم صاحب الشأن بمفردات جديدة استحوذت على اهله واصحابه واقاربه واصدقائه وابناء بلده حيث تبدّل شأنهم الى اسوأ وخرجوا عليه مثلا بعد غيبة مديدة في غير الحُلّة والصورة التي كان يتخيلها او يتوقعها !

ثم قالت تواصل الحديث :

ـ   انا اصارحك ربما دفعتني الى سبيل العودة اسباب اخرى كانت تقف صفا واحدا الى جانب حنيني الصارخ الى ملاعب الصبا ومغاني الشباب. . ارض وطني الغنّاء لأني بتّ متأكدة وبعد كل هذه السنين الطويلة التي قضيتها هنا ، وبعد ان صار بوسعي التأقلم في مثل هذه الاجواء المعيشية والطبيعة البشرية بعرفها وتقاليدها التي اصدقك القول إن قلت لك اني معجبة بطبيعة الحياة هنا . . نعم فاني بتّ واثقة ان بامكاني العيش ومن دون العودة الى ارض الوطن وبقصد الاقامة الدائمية ! اصبحت متأكدة من نفسي ان بوسعي القيام بذلك أبد الدهر ، ولو كان حنيني الى وطني يملأ فؤادي ما حييت ، ويهز جوانحي ، بل يعصف بكياني كله ، وبنفس تلك المشاعر التي يخفق لها قلبي !

سكتت واردفت :

ـ   ولكنه طالما كان ثمة مصالح ومنافع احسن تنتظرنا في وطننا من دون ان نشعر بطائل الغربة في بلدان غير بلدنا وذلك حال الشعور بان الواقع في الخارج قد تداعى وكما قد بان ومن قبل في ذاكرتنا حتى ولو كان يتمثل لنا في اوج روعته ! لكن حبنا الى اثبات وجودنا في بلدنا بات يسيطر علينا اكثر . .  اذ اننا سوف نتمتع وبلا شك بالقدر الكافي من المكانة والاحترام والتقدير ، كما سنكون قد احتفظنا بنفس المستوى المادي والمعيشي الذي كنا نتمتع به ايام كنا في الخارج بفارق ربما يكون جزئي او سطحي. . حتى ولو تفاوت الامر وبلغ فارقا ملموسا ، فان ما سنحصل عليه من امتيازات في بلدنا ، هو بالتأكيد سيعوّضنا عن مثل هذه الخسارة الحاصلة !

كانت رحاب متحمسة وهي تلملم الكلمات وسط صخب من الافكار :

ـ   ان مجرد ان يتملكنا شعور بالرضا والحرية اكثر ، او العيش في بلدنا الذي نطمح ان نصنع فيه كل ما نشاء من مشاريع وخطط ، دون خوف من مجون اجنبي ، او سلطة قانون يختص بالمقيمين ، او الرعايا الغرباء . . ولو كان لنا ان نحصل كذلك على وثيقة الجنسية التابعة لذلك البلد ، فاننا سنبقى نحمل هموم الغربة والنأي ، ونعاني زخما من المشاكل والوساوس ، ذاتها التي يعيشها المهاجر الذي لا يحمل وثيقة معتبرة ! لأنه وبالتالي سيعوزنا وقت طويل كيما نتمكن من امتلاك اسباب العيش هناك من دون ان نستثير شخصا من حولنا ، أو نظل نحمل شعورا بليدا بأنّا لسنا من اهل البلد ، انه احساس ربما كان يخرق كل حُرماتنا وبالرغم من كل ما يخامر نفوسنا بالاعتزاز . . كما ان من الممكن ان يظل يتواصل لدينا التعاطي مع مثل هذا القيد من الافكار التي تتمطى فوق انفاسنا قسرا ومن دون حدود ! ولو كان لنا ان نحوز على عشرات الجنسيات او نُمنح افخر الوثائق الرسمية والمهنية، لأن طول الايام وبعد السنين كان زرع في دواخلنا المُحبطة المزيد من الحقد على انفسنا التي باعت ثقتها بمنحة من أمنية ربما ظلت تزدهر في أعماقنا !

وأخيرا كان لها ان تخلص الى نتيجة هي غاية في البدهية :

ـ   صحيح اننا رغبنا في العودة الى ارض الوطن، الا اننا كذلك لم نرغب قط عن التردد الى بريطانيا وغيرها من بلدان الخارج . لقد اعتدنا وبمرور الايام ان نتحرك كيفما نريد واينما نشاء ، من دون ان يكرهنا احد على المكوث والبقاء في مكان دون اخر او بلد او مصر دون غيره ، حتى ولو كان يتمثل في أبهى جنان الخارج التي يحلم في الوصول اليها والاقامة بها او الاستيطان فيها .. كل احد من الناس .

غير ان ( جينا ) فاجأتها بضحكة متواضعة تضاعفت آثارها شيئا فشيئا ، وذلك حينما احست بأن الحديث في ذلك قد كثر ، حتى شعرت بضرورة الخروج على طبيعة الكلام وتغيير مساره ، فقالت لها :

ـ   أقول لك هل تتكلمين من الحمام وبالضرورة من حوض الاستحمام فيها ؟ !

أجابتها رحاب وبسرعة :

ـ   كيف عرفتِ ؟

ـ   ان من يعيش معك دهرا لا يمكنه ان تغيب عن باله مثل هذه المفردات ، فحاذري ان تغفلي عن هاتفك النقال فيغرق في ماء الحمام.

فبادلتها ضحكة رقيقة وهي تقول :

ـ   لا .. اني الان اتحدث عبر هاتف المنزل.

ـ   أووه فالمصيبة أعظم ، عليك الان ان لا تغفلي عن اثنين وليس واحد . إياك ان يغرق هذا الاخر في حوض الاستحمام .

ـ   لا ، لا تقلقي ، فثمة من يحافظ عليه .

ـ   أووه ، لا تزالين تصرين على عدم الدخول الى الحمام بمفردك . فجليل الان ومن دون شك يقوم الى جانبك .

ـ   انك ذكية جدا .

ـ   فهو اذن يقاسمك حوض الاستحمام .

ـ   انه يضايقني دائما في هذا الحوض .

ـ   لا شك ان الحوض صغير .

ـ   اجل هذا في نظره ، وانه ليبحث عن حوض اكبر ليس بوسع أي شركة منتجة ان تصنّعه له ، الا اذا طالبها بذلك خصيصا له !

ـ   فلربما تصور ان هذا جزء من اسباب الموفقية في الحياة الزوجية المشتركة .

ـ   أجل ! ولهذا هو وعلى الدوام يشاركني الفراش والاستلقاء في حوض السباحة في الحمام.

ـ   ولربما في الامر جانب يتعلق بك انت الاخرى .

ـ   كيف يا حبيبة عمري .

ـ   انك قد أشبهتيه .

ـ   ليس الى هذا الحد .

ـ  كنت وما زلت تكرهين الاستحمام او النوم لوحدك .

ـ   أيتها القطة الاليفة ، اني لا اذكر احدا قاسمني فراشي او شاركني حوض الاستحمام غيرك .

ـ   انا . . أجل ! وربما كان يمثل لي هذا مدعاة لاسباب الفخر .

ـ   ...

ـ   والان إن كنت بحاجة ولمرة اخرى الي ان اشارككما المكانين ، فاني على استعداد للمثول بين يديك في اقل من نصف ساعة .

ـ   أيتها القطة المدللة ، انك تطمعين في اكثر من هذا ، فلو فعلت كان للفراش ان يخسف بنا ، ولكان ايضا لحوض الاستحمام أن يصيبه ـ وبكل تأكيد ـ صدع ليس الى رأبه سبيل!

وفي لحظة واحدة ، ارتسمت فوق شفاههما ابتسامات كانت تفتقر الى صوت يحكي فلسفتها..



( 4 )



في نفس الوقت الذي تنفس فيه الصبح انفاسه كانت الطائرة العائدة من خارج الوطن تحط في ارض المطار .. وبعد دقائق كانت رحاب وجليل قد أخذا مكانيهما في سيارة اجرة، اتجهت بهما الي منزلهما الذي فارقاه لسنوات مضت كانت تتخللها بين الحين والاخر اوقات قصيرة يستغلها الاثنان في العودة الي ارض الوطن لمطالعة وجوه الاهل والاحبة ليعودا بعدها الى وطنهما الثاني في الخارج .

ـ   هل اتصل اخوك سمير بك .. انه لم يحضر ولا حتى لاستقبالنا .. وهو يعلم اننا اليوم عائدون ابدا الي ارض الوطن .

ـ   انا الاخر لا اعلم ، تذكرت اين هو تلفونك النقال .

ـ   ألم تعلم انه غرق في حوض الحمام .

ـ   اوه ، ما زلت تصطحبينه معك كلما توجهت الى الحمام او دلفت الى دورة المياه.

ـ   انها سنّة الحياة ، ولا تبديل لها !



( 5 )



لم يكن ثمة احد في المنزل ، وما كان في انتظارهما ايما شخص . تساءل وتساءلت .. ابرقا هاتفيا للاهل والاقارب ولكل من يعرف اخاه هو وافراد أسرته . فلم يجدا أي اثر للرجل.. هو وعائلته ! لكنهما وجدا كل شئ  في المنزل مرتّبا  ونظيفا ، وكل شئ في مكانه . فلم يختل وضع البيت ابدا ، ولم تتعرض أي زاوية او جدار او حتى ابسط نافذة فيه او اثاث الى أي اصابة او ضرر .

ـ   انه امر محير ، امر غير قابل للتصور .

اجابها مستطردا :

ـ   لقد اتصلت واتصل الاخرون بكل مكان واخر ، اعلموا مراكز الشرطة واستفسروا في المستشفيات . . فلم يجدوا له ولاسرته أيما اثر.

فقالت :

ـ   والاغرب انهم يقولون ان هذه الاسرة كانت والى البارحة متواجدة في مسكنها ، وبجميع افرادها  .



( 6 )



ـ   انهضي .. انهضي ! بالله عليك دعي عنك هذا النوم الثقيل ، قومي ، فانا لا ادعوك الان الى فعل الحب ..

جاءه صوتها ثقيلا متثائبا كما لو كان ذا لون شاحب بارد :

ـ   ما بك .. يعلوني صوتك بالصراخ . . ومتى؟!.. في اول الصباح .

ـ   انهضي والقي عن عينيك اثار النوم .

لكنه تفاجأ بيدها تسحب كفه لتقود بها الي ثدييها .. كيما تستلقي ثمة فوق نعومة ما كان ليشك انها تتصل بهما ! انها ما تزال تمتلك مفردات الاثارة او التواصل معها حتى في احلك الظروف . لكنه انتزعها من بين يديها هذه المرة ! كي يلفت بصرها هذه المرة الي مفاجأة كانت هي اكثر اثارة ودهشة :

ـ   ما بك ؟

قالت هذا وبصرها ينتفض ويمتد مضطربا ليصل ما بين حاجبيها .

ـ   سأطلعكِ على أمر خطير .. خطير وللغاية !

ـ   امر خطير ؟ !

ـ   اتصل بي سمير منذ دقائق ..

ـ   سمير ! اخوك سمير ؟

وبسرعة لم تتجاوز اللحظات كانت قد قعدت في منامها ، وسوّت من جلستها وتباشير الفرح تغمر مقلتيها . . ولقد كانت قامت من نومتها وهي تردد :

ـ   عظيم ، عظيم ! .. مدهش حقا امر مدهش وللغاية !  .. واين كان .. اين كان طوال كل هذه المدة . . واسرته اين ذهبت ، اين كان قد ذهب هو وعائلته ؟ ألم تسأله؟

ـ   امنحيني الصبر .. فهناك ما يدهش اكثر .. انه اتصل بي يسألني : لماذا لم نأت ، لماذا لم نصل اليه في الوقت المحدد او الموعد المرسوم له ومن قبلنا نحن انفسنا !

ـ   ؟ !

ـ   ولقد ظل ينتظرنا في المطار !

ـ   المطار ؟ ! ينتظرنا في المطار ! أي مطار هو هذا ، أي مطار يقصد ؟ !

ـ   مطار العاصمة بالتـأكيد .

ـ   هو لا يأتي لاستقبالنا والان يعلل غيبته وقصوره بعدم وصولنا ! انه اجحاف !

ـ   ولكن . . !

لكنها تابعت القول تتساءل :

ـ   ألم نحط في المطار ،  ولم نعثر له على أيما أثر هناك؟

ـ   لا !  لم نحط ولم نصل ، ولم نكن قد تحركنا قيد أنملة عن موطننا الثاني في بريطانيا .

فقالت مندهشة والاستياء يعلو وجهها وبوضوح سافر غير مشوب :

ـ   بربك ماذا تقول ؟

فاجابها والغرابة قد أعيته :

ـ   قومي وانظري بنفسك .. تطلعي الى كل ما حولك .. ادفعي برأسك خارج النافذة،  ارخي كل الستائر في المنزل ! ستجدين نفسك في نفس منزلنا في ..

ـ   في ماذا ؟

ـ   في بريطانيا !

ـ   في لندن ! في نفس لندن ؟

ـ  اجل ! لاننا ما زلنا في لندن .

ـ   ما زلنا في لندن ؟ ! ماذا تقول .. هذا ليس اوان الفكاهة ثقيلة الدم !

ـ   اني لا احدثك باي دعابة .. بل هي الحقيقة التي تمتنع على التصديق .

ـ   واذن ! فانه امر غير معقول .  هذا الذي تحدثني به غير معقول تماما . بل ماذا تقصد من كلامك كله هذا ؟ !

ـ   لا اقصد غير الحقيقة المُرة غير العادية والتي تستعصي على الافهام بل العقول .

كانت في تلك الاثناء تقلب بناظريها في الحجرة.. حقا انها ليست حجرتها التي رقدت فيها ليلة امس ! انها ليست نفس غرفتها التي تأوي اليها وآوت اليها بالفعل والكائنة في منزلها في العاصمة. . في ارض الوطن . فكل شئ حولها لا يدل على انها حجرتها التي لم تغادرها بعد ! انها نفس مخدعها في المنزل الذي كانا يسكنان فيه في لندن .

قفزت من سريرها ، وسحبت احدى الستائر حتى اضطرت الى اسقاطها رغما عنها وذلك  بعدما كانت تشك أن في الامر لعبة مزرية لا تحتمل كل هذا المزاح الوقح ، فتبينت لها الحقيقة ساطعة كنور الشمس في رابعة النهار ! كالقمر في الليلة الليلاء ! لقد تبدت لها الحقيقة غير القابلة للتصديق ابدا ولو كان أخبرها بها كل ثقات العالم وكل من تثق بهم ! لانها امر اقرب الى الخيال ، بعيدة عن الواقع كل البعد ! كانت الستارة قد تكشفت ، وبدت لها الاشياء من خلف النافذة واضحة كل الوضوح ! لقد جعلت تتطلع الى نفس الطبيعة التي كانت ترى اليها كل صباح يوم كانت تحيا كأي امرأة تعيش هي وزوجها في لندن . . عاصمة بريطانيا ! ظلت الاشياء جميعها وبكل ما يكتنفها من اسرار وجغرافيا وتضاريس وعمران وشجر ومنازل مجاورة .. ظلت كلها ماثلة امامها كما وجدت نفسها هي الاخرى ماثلة ، بل ثابتة ببصرها في حيالها . اصابها الاندهاش والاستياء معا ، دارت حول نفسها ، تحدثها ، تسأله وتسائله عن كل شئ لا يعلم له سببا او أي علة منطقية حتى ولو كانت عفوية ! وذلك بعد ان ملت النظر في كل ما حولها وما يمتد الى خارج المكان وبأسره ، من بعد ان اندفعت الى خارج المنزل تفتش لها عن أي دليل يمكنه ان يعيدها الى صوابها !

ـ   ما الذي حدث .. يا الهي ما الذي يحصل ؟! لقد غادرنا وعدنا فعرجنا بعدها الى منزلنا ، ومن ثم وجدنا الاهل والاقارب ، وتفقدناهم الا اخوك واسرته ، وعدنا الى دراستنا وعملنا هناك .. واليوم يطلع علينا الصباح  بخبر أبله غير مسئول!



( 7 )



ـ   لقد سعينا وبذلنا كل جهد كاف الا أنا كنا دائما نعود من حيث ابتدأنا .

ـ   هل افهم انك تريد أن تخبرني بأنّك أنت وزوجتك ترغبان في العودة الي أرض الوطن، ولكن في كل مرة تجدان الامر قد بات من المستحيلات ! ولا تتمكنان  من سفرٍ يقدم على القيام به في الساعة والاخرى ، وفي اليوم والليلة عشرات الناس والافراد .

ـ   اني اخبرك بالحقيقة ، صدقني يا استاذ منير ، انها كل الحقيقة وليس ثمة من شئ سواها..

فاجابه الاستاذ منير ، وهو زميله في الجامعة العربية :

ـ   يا استاذ جليل .. أي حقيقة هذه التي تتشدق وتتعلق بها ؟ !

ـ   تريد ان تقول لي بانك كلما تريد العودة الي ارض الوطن والسفر الى بلدتك انت وزوجتك رحاب فانكما تعودان بشكل واخر الى هذا المكان .

ـ   دقيقا كما نطقت ! ولربما في بعض المرات ومن هذا المكان تجدنا لا نتوفق للرحيل ولو رصدنا لذلك الجيوش والامكانيات .

عندها تساءل منير منفعلا :

ـ   ولو اتفق اهل الارض والسماوات جميعا على اخراجك من هنا سأجدكما ـ انت ورحاب ـ لا تبارحان المكان .. أهذا هو هدفك ؟

ـ   بالضبط .. انه شئ اشبه بالخيال ، نعيش واقعا هو في الاصل خارج حدود الواقع، ونحيا في خيال لا نراه سوى واقع غريب كل الغرابة عن أي واقع اخر بل ربما لحظته في اوقات اخرى يجسد حقيقة الواقع الاصلية التي لا يمكن ان تتباين قط ..

ـ   انك تحيرني ، واقع مزيف وأخر غير مزيف . وخيال يجري موجه فوق بحر الواقع وهكذا.

ـ   انه امر مخيف ورهيب . علي كل حال، لقد اعتدت هذا الواقع الممخيف والخيال الرهيب.

عندها نهض حاملا معه حقيبته .. فقال :

ـ   والان يتوجب علي الذهاب ، لدي محاضرة في احد الصفوف الاولى من الكلية .









(  8  )



وذات ليلة ، كان الاستاذ جليل عائدا الى المنزل، وحالما وطئت قدماه عتبة المنزل شعر برائحة عكرة تتوزع المكان ، فأيقن ان ثمة زائر هو في انتظاره .  

وحالما دخل غرفة الاستقبال فاجأه حضورها حينما طالعته امرأة مديدة القامة ، ممشوقة الخصر ، ذات جمال بارز وزهو فائق .. ولقد كانت رائحة عطرها النفاذة ما تزال تنشر في المكان آثارها المتبقية.. بينما كادت عيناها الخضراوان ان تسكبا ظلا خفيفا على كل من تراه بحيث تغمره بلمسة خفية توحي بالابهام بعد ان تلقي عليه بمسحة من التوجس والانتباه . . بينما التفتت اليه رحاب وهي تقدمها اليه :

ـ   صديقتي الآنسة فاتن عبد الرزاق ، كانت زميلتي في ايام الجامعة ، أيام كنّا وقتها نحيا في أرض الوطن ، وهي ربيبة مخلصة لي ! ولقد كنا ندرس ونتذاكر فروضنا سوية في اغلب الاوقات. وكنت قد تفاجأت بوجودها هنا في لندن . فبعد ان تعرفت عليها مجددا وبطريق الصدفة في احد صالونات الحلاقة ، كنت ايقنت عندها باجتماع الشتيتين بعدما أن ظنّا ان لا تلاقيا ! ولقد علمت فيما بعد انها كانت قدمت هي وابويها الى بريطانيا ، لأجل الاقامة والعمل ..

ابتسم جليل ، ولقد كان يتفرس في قسمات فاتن كما لو كان يفعل مثل ذلك ولاول مرة في حياته ، او انه كان مستجدا على رؤية النساء . الا ان رحاب ما كانت قد انتبهت الى نظرات زوجها الغريبة وذلك لانشغالها بالنظر الى صديقتها فاتن ، وكأنما كانت تشاطره التزود من جمالها الفاتن من دون ان تشعر . فقال لها :

ـ   تشرفنا يا آنسة فاتن ، أهلا وسهلا !

أجابته بلطف وعناية :

ـ   شكرا ، وانا الاخرى تشرفت  .

ـ   يسرني ان تكوني سببا في انعاش نفسية زوجتي رحاب .

ـ   لا ، عفوا ، بل انا المسرورة اكثر بحضورها الى جانبي في مثل هذه البلاد .

عندها كان بصرها يتردد ما بين رحاب وبعلها فبدءا لها كما لو كانا ينتظران منها  ان تقول شيئا أو تضيف آخر . فقالت تواصل ظرافتها :

ـ   وانا آسفة لمجمل الازعاج والحرج الذي تسببت به لكما .

ـ   عفوا ، ما هذا الذي تقولينه ..

قالها جليل قبل رحاب التي ارادت ان تتبع حديث زوجها بقليل من الكياسة الا انه كان فوّت عليها الفرصة وبالكامل اذ تابع القول :

ـ   البيت بيتك ، وعلى الرحب والسعة .

عندها تنفست رحابٌ القول ، كما لو كانت توجه بحديثها الى زوجها كي تتوفر وبلباقة على عناصر الكياسة والمرونة :

ـ   وها هي اليوم قد دعوتها الى المنزل ، كي نتناول طعام العشاء معا. ولكنها لم تلبّ دعوتي الا بعد ان بذلت الجهد الجهيد في اقناعها.. لأنها ( وكانت تنظر اليها في حينها وتبتسم بنعومة ودلال ) انطوائية لا تحب الاختلاط بل تحبذ الاعتزال .. اعتزال كل شئ في المجتمع حتى ابسط الامور .

فقالت :

ـ   ليس الى هذا الحد ، بل انها تمزح !

فقال لها :

ـ   تشرفنا بك وبزيارتك ، لقد مننتِ بها علينا، وان نلت الحظوة والتأييد لدى حبيبتي رحاب ، فان هذا يعني انك ذات حظ عظيم ، لأن زوجتي رحاب لا ترضى عن أيّما انسان او شخص بمثل هذه السرعة او السهولة .



( 9 )



عندما شق الفجر طريقه في صباح اليوم التالي لم يكن الاستاذ جليل بعد ، قد غادر سريره الدافئ. كان قد صلى الى ربه وابتهل ، بعدئذ لا يعلم كيف ابتدره شعور غريب بأنه ما يزال مرهقا ! فعاد الى سريره . وعندما استلقي ثانية وجد ان زوجته ما تزال مجردة من ثيابها التي نضتها في الليلة الماضية . انه يبتسم ، لانه استذكر كيف كانت تلقي بها بعيدا عنها كما لو انها ضاقت بها ذرعا وتحملت مثل هذا لمدة طويلة! لقد مارسا لعبة الحب في ليلة امس ولنحو ثلاث ساعات او اكثر بقليل او اقل بقليل ! كان تخللها الكثير من المداعبات والاستلقاءات المجردة من ايما فعل سوى الدردشة والتسلّي بأنواع الكلام والملاطفات ، مع انه لم يعد يذكر جيدا كما كانا يمضيان من الوقت في مثل هذه الممارسات؟!

غير انه لم يعد يذكر ذلك جيدا . . مع انه ما كان ليشعر بعدها بالارهاق مطلقا ولا حتى حبيبته وخليلته رحاب.. تلك الزوجة التي كان يفكر وعلى الدوام في مواصلة لعب الحب معها ـ بعد مقاربتها ليلا ـ

عند الصباح الباكر ولمرات اخر ، من دون ان تشعر بالاعياء او التكلّف ، وإن أظهرت في مرات متعددة خلاف ذلك ، او تظاهرت بشيء من نقائضه . لكنه اليوم بدا يشعر انه مرهق حقا. وحالما سقطت عيناه على جسد زوجته اللدن، كان يجد بصره وبحركة لا ارادية ، يواصل التطلع الى بياض جسدها المشع ، كما لو كان يتطلع اليه ولأول مرة ، او انه لم يقع بصره على بريقه الا للتو ! واذا ما ارتقى اليه شئ من الشك بأن التي ترقد الي جانبه ما كانت زوجته ! فانه جعل يتلمسها قليلا قليلا حتى اصطدمت اصابعه بشفاهها. وقع ذلك حينما التفتت اليه بابتسامتها العريضة ، اذ ظلت حينها تتحرك بسعادة لا تليق الا بمن نهض من فراشه باكرا ، تدفعه السعادة بلا اكتراث نحو بلوغ أي شيء، بعد ان شغف حبا بمنام كان رآه الليلة ، فلم يبارح مفرداته حتى طلع عليه صباح اليوم !

وعندما اطبق عليها بيده وعانقها وصار يفتش عن رائحة جسدها ، كان قد عاد مرة اخرى الى الافتتان بها فجذبها اليه وترك شفاهه تلتصق بثغرها وتطبع قبلة لا يمكن انتزاع اسبابها، اذ يتواصل فيها الموت والحياة ، موت السيئات وحياة الحسنات ، وذلك حينما بدت شفاههما غير قابلة للانفكاك ابدا ، أو غير عابئتين بمشروع الانفصال حقا!

ولكنها ومن قبل ان ينتهيا ، حادثته وذلك بعد ان تعبا حقا هذه المرة ، وكان قد ترك كل منهما جسده يتحرك وبمرونة فوق جسد الاخر ، او ان يهدأ احدهما فوق الثاني ثم يتعاقبان الانقلاب او التدحرج وبسياق موحد متناسق ، كما لو كانا يرقصان وبالتناوب في الاتجاه الصحيح أو المعاكس .. وفي خلل ذلك كانا يتبادلان أطرافا من الحديث  ، فقالت عندئذ وكأنها كانت تنبهت الى شئ ما غاب عن بالها قط :

ـ   تذكرتُ !

ـ   وما هو ؟

ـ   بات بامكاننا العودة .

عندها توقف عن الحركة متسائلا :

ـ   العودة ؟ !

ـ   حسبما اظن .

ـ   كيف .. كيف ؟ !

ولما ترددت قليلا في الاجابة . سألها وبالحاح، بعد ان كانا توقفا عن لعبة المناوبة في الحب ، ليستلقيا جنبا الى جنب، معتمد هو في ذلك على كوعه . بينما بقيت هي مستلقية كما لو كانت إلاهة معبودة تشتمل على سرّ خطير ! فقال لها :

ـ   قلتُ لك كيف . . هيا اخبريني .

ـ   لقد عرضت علي فاتن فكرة جدّ مدهشة .

ـ   فكرة مدهشة ؟ !

ـ   لقد اخبرتني انه بميسورها العمل على مساعدتنا في الرجوع الى ارض الوطن .

لكنه اعترض عليها وبتأفف :

ـ   دعينا ارجوك .. لقد بذلنا كل جهدنا واصبح حالنا كسفينة من سفن الخيال ولا يصدق عليهها انها سفينة كسائر السفن ، ولا انها لست سفينة ، لانها كذلك وتقوم صواريها علي نصب من خيال .

لكنها تابعت كلامها ومن دون اهتمام بما يقول :

ـ   انها تقول انه بمستطاعها القيام بذلك . خاصة حينما اخبرتها بما حصل لنا ويحصل الان ، بعدما آن لنا ان نرجع ونعود الى ارض الوطن !

ـ   كيف ؟ كيف تستطيع ؟

وباستهانة :

ـ   حقا . اني لا اعلم عن فاتن هذه سوى انها كانت وبالامس زميلتك في الجامعة ، وجاءت اليوم برفقة ابويها الى بلد مثل بريطانيا .

ـ   انها تجزم وتقسم بغلظة ويقين ..

ـ   قلت كيف ؟ هل عرفت فيها ومن قبل امتلاكها لمثل هذه القدرات الغيبية . فقضيتنا كما تعلمين كانت خرجت من حيّز ونطاق المألوف .

ـ   لا ادري . ولكنها كنت اسمع عنها في ايام الجامعة .. انه كان بامكانها القيام بأعمال خارقة ، وعجيبة ! خارجة عن حدود الواقع والمتعارف عليه ، غير اني  لم أتحقق من ذلك في وقتها .

ـ   حقا ! ان المسألة غريبة ! ولربما كان فيها لبسٌ ما.

ـ   أي لبس هذا الذي تزعم الحديث عنه، فما نحن فيه اغرب مما نراه عندها !

تابعت الكلام وهي تقول :

ـ   خلاصة الامر ، فالذي اعلمه انه سهل يسير عليها ، فهي وحسبما تدعي الان  تمتلك اسباب ذلك ،  ، فمثله وعلى الظاهر هو لا يتوافر الا لديها ! فلم نسمع عن احد بمقدوره ان يمنح الذي تمنحه ، أو أن يصنع الذي تصنعه!

فأطرق يفكر دون وضوح ، ثم استطرد قائلا :

ـ   هل هي جادة حقا ؟ !

ـ   اني على ثقة من انها جادة فيما تقول وتحدث به.. ولأكثر مما نتصور !

ـ   اذن فلتفعل . فلتقم بكل ما بوسعها القيام به ، واني أنتظر لأرى ما ستصنع ؟

ـ   سأتصل بها .

ثم استدركت :

ـ   ولكن لديها شرط !

ـ   شرط ؟ !

ـ   نعم ! فهي تقول انها لا تستطيع الذهاب بنا معا . لذا فهي تقترح ان تصطحبنا وعلى مدار دفعتين .

ـ   يعني ان يذهب في البدء احدنا ليلحق به الاخر من بعد ان تستكمل صاحبتنا عملها حيال الاول .

ـ   بالضبط .

ولما وجدته يمعن النظر اليها وكأنه امام امتحان صعب للغاية ومثير للشك والتردد وبأبلغ الصور ، فقالت :

ـ   انا احب ان تذهب انت في البداية .

ـ   اذن ، فأنت ترشحينني للذهاب اولا .

ـ   أجل .

ـ   ان هذا امر غير معقول .. انه مجازفة !

ـ   ومغامرة .. فهل يمكنك ان تغامر بي .

ـ   ؟ !

ـ   ولا انا بالتي تقبل بأن تغامر بزوجها ، ولكنك رجل ! وبامكان الرجل ان يعالج كل ما يواجهه او يستجد لديه من مستحدثات الامور التي يمكن ان تعرض له او تجابهه.

ثم ابتسمت مستدركة :

ـ   لقد قالت لي ان الناس يصنعون المستحيلات لمغادرة اوطانهم ، وينفقون الاموال الطائلة كي يتركوها متوجهين الى احد البلدان الاوربية او الامريكية .. وها انا ارى حالكم بالمعكوس ، فأنتم تبذلون كل الممكنات وصولا الى كل المحالات وذلك من اجل ان تفوزوا بفرصة للعودة الى ارض الوطن ـ  ومن دون ايما جدوى تذكر ـ  الذي لم تكونوا تتوقعون انه يغلق أبواب الرجعة أمامكم ، بمثل هذه الصورة الغريبة التي هي أقرب ما تكون الى فيلم من افلام الخيال ! لا الى حقيقة واقعة يعاني منها زوجان لا يعلمان فعلا ما وقعا فيه من أزمة راهنة !

أردفت بعدها الكلام وهي تقول :

ـ   فبعد أن تركتما أرض الوطن بقدرة قادر وبذل كل وسيلة ممكنة واخرى غير ممكنة ، اصبح من العسير عليكما العودة ! كما لو ان لصقة انكليزية باهرة أبت الا ان تعيدكما الى احضان بريطانيا ، وذلك في كل وقت تسوّل لكم فيه انفسكما بتركها .. ( وبشيء من الفكاهة ) ان بريطانيا لتشعر دائما بعظم منزلتكما وعلى الاخص زوجك الاستاذ جليل ، ولهذا لا تقبل بـأن تفرّط به ! بل ترفض السماح له بالعودة وكأنها تمسكت به الى حد تسلب معه ارادته منه شاء أم أبى كما لو كان أسباب الاهتمام بهذا ، يلخص في فكرةٍ تختص برفد الصالح العام !

ثم وكأنها تذكرت شيئا فاستكملت عبارتها قائلة :

ـ   أجل ، اعود واقول ، ان ذلك ليحصل في نفس الوقت الذي لا تحبّذ فيه ارض الوطن استقبالكما  كما لو كنتما غريبين عنه ! او شخصين غير مرغوب فيهما او في قدومهما أصلا، أو في وجودهما فوق ارض البلد ! ولكن ما ساعدكما ايضا على تحمل الازمة انكما لا تملكان الولد . . اقصد ما كان يمكن ان يكلفكما وجوده الكثير من محاولات الاقناع غير المجدية والتي كان يفترض ان توجه اليه خاصة ، اعني انكما الان في غنى عن اختلاق الاعذار الى ابنائكم عن عدم سبب العودة الغريب الى وطنكم العزيز ! لانه ليس لهم وجود في الاصل .

أعترف ان كلامها كان ثقيلا جدا عليّ ، ولم احتمله الا على مضض ! غير انها كانت  واصلت الحديث بعد توقف لم يدم لسوى لحظات قلائل وكما لو أنها وفي غمرة ذلك  كله قد خطر ببالها ان تمازحني :

ـ   اقول . . عفوا ومن دون مؤاخذة ، أريد ان اسألك سؤالا ربما كان في غير محله ولكني اعرضه عليك لاسباب تلحّ عليّ في طرحه. .

(سكتت قليلا وهي تتصنع الابتسام العفوي بشيء من الدلال ثم اعربت عن مقالها وبصراحة)  فلو كان لكما ابناء فهل كنتما ستجدان المتسع من الوقت لممارسة الحب حينما يتواجدون في المنزل ؟ !

مبتسمة رددتُ عليها ومن دون توقف او تلكؤ :

ـ   انه من سابع المستحيلات ان نتوقف عن مثل هذه الممارسات الحيوية ، حتى ولو كان لدينا من الاولاد ما لدينا ، او كنّا رُزقنا منهم ما رُزقنا ! ولو كانوا جميعا وفي آن واحد في المنزل ! لأنه ما كنّا سنلقّنهم الا تلك الآداب التي تختص بكيفية امكانية الدخول علينا في غرفة المنام أو عدمها! أو ربما تعريفهم بضرورة تلقّي تلك السياسات التي يمكن أن ننتهجها في المنزل حال قيامنا بأي فعل من هذا القبيل تلقيا مباشرا صحيحا ، وذلك لتفادي انتقال الحركة والصوت الى كل من يشاركنا الجلوس في المنزل . . وبالتالي فانه كان سيكون لدينا المزيد من فائض الوقت الذي يمكن ان نجده متوافرا بين ايدينا ولمثل هذه الاغراض !

كان ينظر الى جهة واحدة ، اخذ بعدها يقلّب الطرف فيما حوله ، ومن دون ان يفهم للاقدار مفردة معينة ، أي مفردة ! وربما لأن فهمها كان يستعصي عليه وعلى مَن هو في مثل حاله ممن كان يحتمل ان يواجه أزمة مماثلة !



( 10 )



ـ   رحاب ! لماذا تُقلقين نفسك اكثر من اللازم.

ـ   جليل ! وكيف لا أقلق ، ولمّا تزل هذه الظروف من حولي تثير في نفسي كل هاجس غريب وآخر فضلا عن تلك الافكار المريبة التي أصبحت تترى عليّ !

ـ   تقصدين شكوكا رهيبة .

ـ   أجل .

ـ   دعكِ من هذا الامر ، فانها ستعود لتصطحبك معها .

ـ   وان لم تعد ..

ـ   لا .. ستعود .. ولماذا لا تعود ، وهل هناك سبب يضطرها الى عدم الرجوع والعودة .

ـ   ربما .. ربما استجدت اسباب . .

ـ   . . أي اسباب . أتقصدين تلك التي ستقتضي بها الا البقاء هناك . . ارجوك .. لماذا كل هذا التشاؤم والتشكيك ، لماذا لا تتفاءلين ؟

ـ   واين أنا من التفاؤل ! وهاهي ستة اشهر قد مضت وانقضت على ذهابهما ، وفي كل مرة اتصل بها او به.. يقولان لي بان الظروف لا تسمح ، وانهما ماضيان في سبيل انجاح المهمة التاتلية ! يعني عودتي انا .. ولكن ، كل هذا ما كان ليثير فيّ الا ما يمكن ان يثيره في نفسي الهواء حينما يمر في شبك !

ـ   رحاب .. هل تعتقدين ان ثمة امر قد حدث .

ـ    ربما ! فأنا لا اشك .

ثم التفتت اليها لتستدرك الكلام :

ـ   جينا .. اني أكاد اشك في كل لحظة حب عشتها فيما مضى وفي كل ايامي التي مرّت، بل في كل ساعاتي التي مضت .

ـ   انك لتقولين شعرا .

ـ   اجل ! فللضرورات احكام ، ولكن الزمان قد صنع مني شاعرة وما كنت كذلك من قبل . فما الذي ينتوي صنعه لي بعدئذ ؟

ـ   اني لأسائلك : أي زمن هو بنظرك هذا الذي نعيش في كنفه . هل يمكن ان نخاطبه بنعم الزمان ام بئس ازمان ؟

ـ   لا أدري .. لا أدري !



( 11 )



ـ   جليل ! .. المعذرة استاذ جليل ..

ـ   تفضلي .

ـ   انا جينا ، اني اتحدث اليك من لندن .

ـ   اهلا .. اهلا بك يا أنسة جينا ، حقا تتكلمين من لندن ؟ !

ـ   اجل يا استاذ جليل ، لم احب مضايقتك.

ـ   لا ، على العكس ، فلقد سررت جدا بمكالمتك .

ـ   لا احب الاطالة ، ولكني اردت ان اتحدث اليك في موضوع هام .

ـ   نعم تفضلي ، فاني استمع اليك .

ـ   ارغب في سؤالك .. ما الذي يدعوك الى تأخير سفر رحاب او بالاحرى المماطلة في عودتها؟!

ـ   أوو .. فهمت ما تريدين .

ـ   ولكنها تصل الليل بالنهار من دون ان ترقى الى جفنيها اصابع النوم . ان الالام صارت من اسباب سهادها المقيم ، وهي دائما في تفكير متواصل . ولقد صرت اشفق عليها من ان تصنع بنفسها ما يمكنها ان تصنع ، هذا ان لم يحدث الدهر بها امرا .

ـ   صدقيني يا آنسة جينا ، ان الامر خارج عن يدي، ولا تتصورين كم سعيت لكي احرك كل ساكن حولي، ولكن للاسف فان الرياح تجري بما لا تشتهي السّفن .

ـ   استاذ جليل . انه لا يمكن الاكتفاء بمثل هذه العبارات ، فهي لا تسكّن من آلام زوجتك ، ولا يمكن اقناعها بمثل هذه التبريرات.. ولكن ، فاتن ! لماذا لا تفي بتعهداتها، لماذا تركت الامر على غاربه ، وهي التي كانت اقترحت عليكما المشروع من قبل ، وهي التي كانت عاهدتكما ان تفعل ما بوسعها ! بل كانت تعهدت بالوفاء لكما .. ولرحاب على الاخص وها هي تترك رحاب كل هذه المدة الطويلة بعيدة عن زوها وحبيبها الاوحد !

سكتت برهة، ثم عادت كمن راحت تستثقل حديثا كان كُتب عليها رغما عنها ونهضت بتبعاته وهو كره لها :

ـ   وأنت الآخر اجدك لا تفكر في رحاب ، وبدأ يتأكد لي انك لا تهتم لحالها ، ولقد صرت لا تأبه بما يمكن ان ينزل ويحل بها ، ولا ممن اصبح يعنيه امرها.. وما أراك الا قد وجدت لك سلوى اخرى ، تتقلب معها فوق بساط من السندس والاستبرق ، اذ لم يعد من واجباتك ان تهبّ لنجدة من صبرت لاجلك ، أو تقاسم الهم من وقفت تشد من أزرك في الملمّات وتقاسمك الغم والكرب ، وتذود عن كل باقية لديك وفي كل الازمات !

أتتركها وحدها تواجه صوت الالام ، ولطالما كنت تعدها بأنك سوف لا تتركها تحتمل الاذى لوحدها أبدا حتى كنت تركتها كاليتيمة ، تنتظر من السراب ان ينقع قلبها بثقل السيب ، وما من جدوى في أفق فؤادها يعتمل سوى ان ترعى النجوم المسافرة .. ترقبها كيف تتحامل عليها بثقل مكابراتها ! اني لا اجدك الا هما جديدا قد اضيف الى قائمة همومها واتراحها !

ـ   اسمحي لي ..

فقاطعته وهي تواصل الحديث :

ـ   وشاركتها في الجسد والروح وكنت لا تحتمل ان تدعها تستلقي في فراشها ولوحدها ، او ان تنحدر بجسدها الى حوض الاستحمام من دون ان تقاسمها المكان ، وتشاركها صراع الحب!

ـ   اقول لك . .

ـ   فكيف استطعت ان تحتمل كل هذه المدة من دونها ؟ وكيف توقعت ان تحتمل هي الاخرى الحياة ومن دونك ؟ او ان تتصبّر او تتصبّر هي طوال كل هذه الفترة الزمنية ؟ !

ـ   قلت لك اسمحي لي ان اتكلم . .

ـ   أحدث امر ما ، هل تغير الحال حتى انقلب امرك كذلك ؟ فان لم تستطع فاتن ان تأتي. . أفما كان عليك ان تضحي وتقفل عائدا . فلا خير في جنة من دون حبيب كان انتظرها هو الاخر معك وتمناها هو كذلك كما تمنيتها انت ايضا ، يا اخي ما اراك الا انانيا مشبعا بالغطرسة، أيطيب لك ان تسعد وحبيب لك يكابد الالم بسببك ؟ كيف تهنأ بالعيش وآخر على مبعدة منك يئن ولا يهدأ له جفن ؟

ـ   ؟ !

ـ   وكيف اذا علمت ان حبيبك ما كان الا علما اثبت لك وبكل جدارة حسن وفائه طوال هذه المدة البعيدة؟ أهكذا يُثاب المرء في مثل هذا الزمان على ما يمكن ان يقدمه من تضحيات وايثار ؟ !

ـ   ان فاتن تتعرض لضغوط شديدة ومتواصلة .

ـ   تحرك انت .

ـ   إن تحركت انا ، فسنضيّع الفرصة التالية وهي قدوم رحاب ، وما كان لمثلي ان يروقه حرمان حبيبه من تحقق أمنية له ! وما كان يخلق بي ان اتركها بعدئذ تتقلب مهتمة ، وقد عقد السهاد مأتمه بين جفنيها بعد ان تكون وقتها قد فقدت آخر امل في العودة الى ارض الوطن .

ـ   وليكن ..

ـ  كيف يمكن القبول بالفشل والخسران، وانا متأكد اني لو فعلت ما كنت لأتلقّى التأنيب والتقريع اول بأول الا من نفس رحاب .. اجل فما كان أوّل من سيحمّلني اسباب الهزيمة سوى رحاب نفسها ، وما كان سيتوجه اليّ أحدٌ باللوم سواها !

بينما اجابته وكأنها ما كانت تصغي الى ما يقول ، بل انها كانت تنتظر فقط ان يفرغ من كلامه كيما يتسنى لها ان تقول له كلمتها الاخيرة:

ـ   ارجوك ، فما عليك الان الا ان تصلح من شأنك انت اولا ، وتستعيد قلب حبيبك الذي إن لم تسارع اليه الان ، فلربما كنت تفوّت على نفسك الفرصة الوحيدة المتبقّية لديك ! لانها الان جعلت تمر في ظل أزمة نفسية حادّة، هي أشد من ذي قبل وبكل تأكيد . . وتذكّر أنه وفي الوقت الحاضر ما بوسع أحد أن يخرجها من هذه الضائقة الا انت وحدك فقط !

ـ   سأقول لك ! سأتحدث .. لنتناقش ، ارجوك اعطني الفرصة لأدافع عن نفسي ..









( 12 )



عندما وضع جليل السماعة ، كادت هذه ان تسقط من يده في حوض الاستحمام ، لكن مثل ذلك لم يحدث ، ولم يكن له ان يقع ، لان امرأة ما كانت سارعت الى التقاطها ومن قبل ان تلامس وجه الماء ! كانت هذه المرأة تشاركه المكان في حوض الاستحمام :

ـ   كنت ستترك الهاتف يغرق في ماء الحوض ؟

ـ   لا يهم ..

ـ   لقد تركت المكالمة تأثيرها السيء عليك !

ـ   دعيني .

ـ   سوف لا أدعك .

ـ   فاتن ارجوك . لقد وقعت في أزمة لا اعرف كيف اخرج منها !

ـ   لا تفكر في الامر . ما عليك ! ان لها مدبر .

ـ   اذن  ما عليك الا ان تتدبري المسألة ، فاني صرت لا اطيق الصبر .

ـ   ما بك يا حبيبي ما كنت تظن بي ظن السوء ومن قبل مثلما اراك اليوم تفعل ! ثق بأني سأدبر لها حلاّ انشاء الله .

ـ   أقول لماذا لا تذهبين وتعودين بها الينا . ترجعينها الى وطنها .

ـ   والى حبيبها ثانية . . اظن اننا صرنا نعود مرة اخرى الى خلق الازمات . قلت لك سأتدبر الامر ولا تشغلني بها اكثر مما يجب . . بل لا أرغب منك في ان تعود الى بحثها معي ومن جديد !

ـ   أتهدّديني ؟

ـ   وكيف لا . . اما يخلق بمثلي ان تتوجه بالتهديد الى حبيبها الغالي ؟ !

ـ   وهي الاخرى ما ذنبها ؟

ـ   ذنبها انها سبقتني بحبك . . اقول ، ولكن ما ذنبي انا ؟ انا التي تتعذب بسببك ! وما كان من اثم لديها الا انها سقطت في شباك أسرك، حتى وقعت في حبك واصطلت بلهيب عشقك الكاوي !

ـ   ولكنها أول من تحمّل آلامي عني .

ـ   وليكن ! واني لأسائلك . . وأنت ألم يتمكن حبها منك ؟

ـ   وكيف لا . اما ترين الان اصراري ؟ فاني كنت وما زلت شغوفا بها .

ـ   ولقد شَُغفَتْ بك حبا هي الاخرى ، أليس كذلك ؟ !

ـ   دعينا من كل هذا ، اني في حال يرثى لها .. لا اطيق تحمل مثل هذا الوضع . اني اشعر بحنين جارف اليها. .

وبكل هدوء بارد :

ـ   الى رحاب ؟ !

رفع طرفه اليها كما لو كان يتساءل عن معنى هذا السؤال البديهي :

ـ   الى رحاب . . الى رحاب وبكل تأكيد.

وبسرعة :

ـ   لا بأس . . فان الغمّة سرعان ما تزول، لانه لا يكون عسر حتى يعقبه يسر!

ـ   بالتأكيد ! ولكني لم اعد احتمل واطيق الحال .

ـ   لماذا كل هذا الاصرار ، والان بالضبط؟ !

ـ   لانه وكلما تأخر الوقت اكثر كلما أعيتني الحيلة اكثر فيما سأقوله لها او اعتذر لها عنه حال التقي بها مجددا !

ـ   ؟ !

ـ   فما الذي سأبرره لها وما الذي سأخبرها به عن سبب كل هذا التأخير . . الذي ربما كان متعمّدا .

ـ   متعمّدا ؟

ـ   دعيني ! اني لم اعد اطيق التحمل !

ـ   لا ، بل ستطيق مثل هذا الحال ، وهل فارقت روحي الحياة كي تحدثني بذلك اقصد فأين انت مني ! سأظل انا الى جانبك دوما .. لا تيأس ! دع عنك كل هذا القلق ، وسارع الى جنتي ، جنة عرضها السموات والارض!  اُعدّت للمتقين من امثالك !

ـ   ؟ !

ـ   فتعال اليّ يا حبيبي ، اقترب مني اكثر.. هيا ، تعال وعانقني ، فليس لي غيرك ، وليس لك الان سواي ! ضمّني اليك ، واياك ان تهصر عظامي وتسحقها من فرط شوقك وحبك لي . . فان لي قلبا شبقا طالما ظللتَ تراوده ! اضممني اليك اني اكاد اشعر بالبرد والضعف ، فلقد بدأت اشعر بالوحدة والكآبة . التصق بي اكثر ، بتّ اخاف عليك من قبل ان ينتابني الخوف من فقدانك . انظر الى جسدي ، غدا يرتعش كله ، بسبب من هول مطلّعه على جميل حسناتك !

حاول ان يدفعها برفق لكنها واجهته بمطاطية منفعلة ، فعاد يقول لها :

ـ   ليس لدي مزاج . .

ثم قال :

ـ   تذكرت ! الا يفتقدك ابواك في بريطانيا؟ او الا يخلق بك ان تتفقديهما ؟

ـ   لا يا شيطان ! تريد الايقاع بي في فخّك ! تصنع لي المصائد ؟ الحق اني اتصل بهم في استمرار اتصالا هاتفيا ! وبالتالي فلا تقلق من هذا الجانب .

ـ   اذن بامكانك الذهاب اليهم حال لو اردت ؟

ـ   لا ! صدقني ، اني محرجة حقا امامك ، ذلك اني اراك تسلك طريقا شائكا ! ولقد ارتقت الشكوك والوساوس عندك مرتقا شاهقا ! لقد بدأت تشكك في مزاعمي ونواياي ؟

ـ   اريد شيئا ملموسا ؟

ـ   لا عليك ! ستثبت لك الايام ما كنت تجهله عني من الوفاء والحكمة !

ـ   وعليه ، تطلبين مني ان ادعك وشأنك حتى يفتح الله علينا فتحا عظيما ؟

ـ   ليس بمثل ما تتصور . . والان هيا الي. هيا داعبني ولاطفني . فكفاك غنج ودلال ، فاني بحاجة الى كل عطف وحنان . . صدقني فاني مرهقة جدا !

ـ   عطف وحنان ؟ مرهقة ! وتلك التي تركناها وراءنا في لندن ، أما تحتاج هي الاخرى الى كل العطف والحنان ؟ !

ـ   عدنا مرة اخرى ! سأفكر في الامر ولأكثر جدية من ذي قبل . ثق بكلامي . والان فاحضني واضممني الى جناحك ولا تتركني هكذا وحدي في مهب الريح اقاسي لوعة البرد والقرّّ !

ـ   لا اكتمك حالي . اني ضجر الان .

وبخلو بال :

ـ   اما انا فلست بضجرة لاني قليلا ما ينتابني الضجر حال اكون معك وتكون انت الاخر الى جانبي !

بينما اخذت تلاطفه وتسحب يده تمسح بها صدرها ثم تلصقها بعنقوديها ، فاستدركت مجتهدة في القول دون أي حرج كما لو كانت بداهة متينة في الكلام تحدو بها كل هذا الحدو :

ـ   ان لدي معك غرام عتيد .. سأدغم نفسي فيك، كي لا تفارقني حتى ولو بدت لك مثل هذه الفكرة السخيفة ! سيلتحم جسدي بجسدك وستلتحق نعومتي ببشرتك ، وينضم فؤادي الى فؤادك ( وفجأة علا صوتها بنغمة متفكهة ) لا تضايقني برجليك ( ثم انقلبت ضاحكة هازئة ) اجل .. هكذا ، والان ابتسم ، ابتسم ، ما لي اراك مغرما بالنكد ، اجل هكذا ، اكثر .. اكثر .. نعم فما عليك الا ان تضحك للدنيا كيما تضحك هي الاخرى لك !

ـ   كيف اضحك للدنيا وهي لا تضحك معي او لي انما تحاول الضحك علي ؟

ـ   ما عليك .. ما عليك الا ان تنسى ، وسأتدبر الامر فيما بعد .

ـ   أحقا ما تقولين ، اقصد انك تعنين ما تفوهين به. اصدقيني القول ؟

ـ   اجل ! فلا احدثك الا صدقا ، وما علينا الان الا ان نلتمس طرفا من اللذة .. هيا ، هيت لك لنتبادل الحب ، هيا اذن ، هيا يا حبيبي، لقد اشتقت اليك كثيرا ، وانا عالمة انك متعب ومرهق ، فلأخفّف عنك بعض الذي تكابده ، فلطالما ادخلتك جنّاتي ، ونعمت من رحيق عسيلتي ، فكيف يتأتى منك ان تخلفني وعدك وقد اخذت عليك العهود ان لا تخلف لي قولا ! هيا يا سعيدي ، لنعبّ من أوطار الحب فلا نقوم من هنا او يهدأ لنا بال الا وقد اسكرنا الحب حدّ الثمالة!

ـ   هل تعديني بان تبذلي قصارى جهدك؟

ـ   وكيف لا .  . اني لا زلت متعهدة بما قلت وما اقوله اليوم . . كن على ثقة واطمئنان. والان هلمّ اليّ .. هيا، فانا متعطشة اليك اكثر من اي مرة سبقت ..







( 13 )



ـ   جينا .. هل يمكن ان تأتيني الان .

ـ   الان ؟ ! أجل . .  أجل ، سأوافيك يا رحاب وفي الحال ، ولكن قولي لي ما الخبر؟  ما الذي حصل ؟

ـ   لا .. ليس في الامر أي غرابة ، اشعر بالاحتصار والكآبة . فحدثتني نفسي أن أطلبك ، فلربما يزول عني بعض هذا الشعور والاحساس .

ـ   سأكون عندك في غضون دقائق معدودات .

ـ   رجاء لا تتأخري .

وبعد دقائق كانت جينا تستلقي الى جانب رحاب .. لقد آثرت رحاب البقاء في فراشها حتى اضطرت جينا أن تشاركها الفراش . لكن جينا تساءلت عامدة :

ـ   لو كان جليل الان الى جانبك ، فهل كنت ستطلبين مني المجئ .

ـ   اراك تمنّين عليّ يا هذه ومن ثم تشدّين على وتر حادّ من الصعب تجاوزه او الوقوف عليه !

ـ   لا اطلاقا .. فاني لا أمنّ على أحد حتى أعود وأمنّ عليك ، ولست بالتي تبحث عن اوتار حادّة قد تستعصي حتى على أصحابها .

بينا استدركت جينا القول :

ـ   ولكني أشعر انك بحاجة الى جسد يملأ عليك الفراغ !

ـ   ربما .. ربما !

ثم عادت رحاب تقول :

ـ   ولو كان جليل حاضرا ما كنت أجدك الا انت التي تطلبين مني الحضور .

فتابعت جينا الكلام :

ـ   وأقاسمكما الفراش واشارككما الدفء في حوض الاستحمام .

ـ   بكل تأكيد !

ـ   وأراك تمنعينني ؟

ـ   اني اخاف على بعلي ، لا اريد ان افقده ، ولا اريد لاخرى ان تشاركني اياه !

ـ   والان ؟

ـ   لا عليك ، يمكنك ان تشاركينني لوحدي من دونه .

ولكن في لحظة انتفضت ونهضت من على السرير وهي تردد :

ـ   لا يكون هذا .. ان لمثل هذا ان يمنّي الزوج في اخرى ، ممن ينكحها او يقترن بها ، او ان يسلّيني ويصرفني عن الوفاء لحبيبي وتغذية مثل هذا الوفاء  .

ـ   يا مجنونة ، انه سوف لا يضر بوفاءك له .

ـ   لا ادري .. لا ادري .

ـ   انا قادمة اليكِ الان .

ـ   ولكن . .



( 14 )



قال جليل لفاتن :

ـ   سأحملكِ اليوم الى الفراش وبنفسي .

ـ   لا اراكَ اليوم متشائما ؟

ـ   لأني اعتقد انّ حظّي منكِ يزداد كل يوم . فانا اذن انسان متفائل !

قالت :

ـ   هذا جيد !

فقال جليل :

ـ   وسأقدّم لكِ الان مفاجأة جميلة !

ـ   حقا ؟ !

ـ   يكفي ان تغمضي عينيكِ !

ـ   هذا لطيف !

ـ   ما عليكِ الا ان تطبقي جفنيك . . والان افتحيهما .

ـ   ما هذا ؟ !

ـ   انه هاتف نقال . . هدية مني اليك !

ـ   اشكرك ، ولكني لست بحاجة الى هاتف خلوي، ان عندي مثله .

ـ   احببت ان يكون لديك أخر .

ـ   ولكني اجده يشبه نفس الهاتف النقال الذي كانت تستخدمه رحاب .. ( وبامعان في وجهه) ولربما هو نفسه !

ـ   كلاّ .. كيف تظنين بي كل هذه الظنون ؟

ـ   طيب ، سأقبلها منك .

ـ   ارجوكِ .. ادفعي عنك مثل هذه الشكوك .

ـ   سأفعل ..

ولقد جعل ينهال عليها بالقبلات ، ثم ترك فاه يقبض على لسانها ليأخذ بمصّ رطوبته في خلال قبلة عميقة . . فما كان منها الا أن بادلته ذلك وبالمثل !





( 15 )



وبعد مضي ما يقرب من اسبوع كان لفاتن ان تفجأ جليل ، حينما طلعت عليه في ذات مساء بلحن من الكلام بدا له غريبا طالما بدر منها وهي تقول :

ـ   سأرحل !

ـ   ترحلين ؟!

ـ   اقصد ، اني سأسافر .

وبسرعة :

ـ   تسافرين . . والى اين ؟

ـ   الى لندن .

ـ   لندن ؟

نطق بها جليل وتباشير الفرح تكاد تزحف شيئا فشيئا الى وجهه ، فقالت فاتن :

ـ   لقد قررت ان اذهب الى لندن ، وأمليت على نفسي أن لا أعود الا ّ ومعي رحاب..

ـ   حقا ، فأنا شاكر وممتن لك كل الشكر والامتنان.

ـ   انها جزء من تعهداتي التي آليت على نفسي الوفاء بها .

وباستغراب :

ـ   ولكن لماذا بعد كل هذه الاشهر ، وكيف تقاعدت عن رفضك السفر والذي كنت تواجهيني به .

ـ   بكل بساطة ، وجدتكَ قلقاً مضطربا ، مشاعركَ مهدّدة ومزدحمة .. فخفتُ ان يغلب هذا كله على جسدكَ فيعرضك لخطر الاصابة بـأي مرض عضال .

ـ   اشكركِ يا فاتن .. حقا اني شاكر لك ومن اعماق قلبي .

ـ   اني احبك يا جليل . وليس بامكانك ان تزن حبي لك لانه غير قابل للوصف ، بل هو فوق ذلك كله وبكثير ، فكيف لأحد أن يرتازه .

ـ   فلنحتفل بهذه المناسبة .

ـ   اجل ! وبكل تأكيد ، وما عليك الان إلاّ أن تعينني على ثيابي ولك ما سواها خالص مُخلّص !

ـ   أقول .. هل لي ان اسائلك عن اشياء محظورة لديك .

ـ   ترغب ان تكتنه فني واسرار لغزي .

ـ   اريد ان اعي وافهم كيف يمكنك ان تعودين برحاب مثلما عدتي بي من قبل .

ـ   قبل كل شئ اريد ان اخبرك بشيء من الاسرار.. وعليك ان تحتمل وطأته .. ان فاتن عبد الرزاق كانت ماتت منذ زمن بعيد !

ـ   ماذا ؟ ! ( ممازحا ) وانت ما كنت الا روحها اذن ؟ !

ـ   لا .. ولكني كنت من جنسها فقط ! واحببت الممازحة مع زوجتك رحاب فأوحيبت لها اني فاتن عبد الرزاق . وما علمت انها كانت قد توفيت منذ زمن !

ـ   توفيت ؟ ! كيف هذا . .  انا لا افهم ما تقولين؟

ـ   افضل .. لانك ستفهم في وقتها .

ـ   واذن ، فكيف قصدتِني ، ولماذا كل هذه الألاعيب مع رحاب ؟

ـ   لأني كنتُ أحببتكَ ووقعت في غرامك منذ اول ممارسة حب وقعت بينك وبينها !

ـ   لا افهم حقا . لا افهم ايما شيء مما تقولين . كيف ؟ ولماذا ؟

ـ   اسائلكَ ولا اجيبك ولا اتحدث اليكَ اكثر من هذا .. ألم تتبين جسدي وحين أدائنا لفعل الحب معا .. ألم تتذوق فيه طعما يشابه وبشكل اكيد طعم جسد رحاب ونكهته ومذاق عسيلته .. ألم تدقّق في أعضائنا أنا ورحاب ؟ ألم ترها متقاربة في الشكل والى حد بعيد ! لو كنت تتميز بصورة حسنة وحينما كنت تمتص رضابي ، لكان عليك ان تستشعر نفس السعادة التي كنت تستشعرها حين كنت تقبض على لسان رحاب وتصب رحيقه في جوفك !

ـ   ؟ !

ـ   ألم تشعر بأن رائحة الجسد لدينا كانت واحدة ، أما احسست حينما كنت تدفع بآلتك  في داخل أحشائي بظنٍّ يغالبك : ان هذه الاحشاء ما كانت سوى أحشاء رحاب وبنفس محرابها المقدس والذي تنثني عنده الرقاب وتتطأطأ بين يديه راكعة كل القلوب والحواس !

أما جليل فكان مندهشا وأخيلة الصمت ما تزال تخيم عليه وهو الاستاذ الذي بدا لا يحير جوابا ! في حين كانت مهذبة وللغاية وهي تلقي استدلالاتها :

ـ   ألم أعرق ؟ ألم تتحسس اصابعك عرقي؟ ألم يتصارع جسدانا في غمرة شلال العرق الذي كان يقطر من كليهما . . ومع هذا كله فانك لم تستطع ان تنتزع صورة رحاب من كل هذه المفردات ! كان اجدر بك وعند اول موكب عرق يبلل جسدي ان تتعرف على رائحة خليلتك !

وبسرعة :

ـ   لا اعلم ماذا تقولين ؟ ليس ثمة من امرئ بامكانه ان يتميز كل هذا الذي تسردين وقائعه . . لأن مثل هذه الافرازات تحمل صبغة متماثلة ان لم اقل لونا متشابها واحدا !

ـ   ألم اقل لك انك لم تسطع معي صبرا ! ولم يتفوق مستوى الذكاء عندك ليبلغ مثلا مبلغا سديدا !



( 16 )



جلس الاستاذ جليل قبالة فاتن التي كانت لاذت بالصمت وعدم المبالاة :

ـ   اراك لا تحيرين جوابا ؟ !

ـ   كيف تقول هذا ؟

ـ   لكنك اردت الوفاء بتعهداتك ، ولم تصنعي أي شيء ! فهل كان كلامك ذاك الذي فاجأتني به قبل ثلاثة ايام حبرا على ورق ؟ !

ـ   صدقني يا جليل ، لم استطع ! حاولت، فلم اقدر، هل تشك في نواياي بالسفر وقتما اخبرتك به قبل ثلاث ليال . .

ـ   ثلاث ليال ! ولم تستطيعي ! ولم تتمكّني ! ما هذا الذي تفوهين به ؟

ـ   هل تراني تغيرت ؟

ـ   لا أفهم .. لقد وعدت فأخلفتي !

ـ   كما فعلت بالامس . .

ـ   لا اقصدك ولكن اقصد الشياطين التي تلعب في رأسك !

ـ   انها ملكي ولا تتحرك الا بأمري ، ولستُ انا التي اتحرك بأمرها ، يعني لسي العكس!

ثم تابعت وهي تقول :

ـ   هل تراني اختلف عنكم .. هل انا انانية . .  لماذا يكون أنا وبوسعي أن اذهب الى الخارج وأعود متى أشاء وكما أريد !

ـ   ولماذا نحن حينما نودّ فعل مثل ذلك تجديننا لا نستطيع !

ـ   هذا ، لان الوطن كان فقد ذاكرته ومنذ زمن ! فلم يستطع ان يستذكر وجوهكم.. بل انه رفض ان يذعن الى طلباتكم ، لانه ما كان يحسبكم ـ وهذا ما يغلب على ظني ـ جزءا منه او حتى آحادا من مواطنيه !

ـ   وانتِ ؟ !

ـ   أما انا فلا ! لأني ما زلت اغتصب الوطن بعد إذ كان ابناؤه يغتصبونني . لكني حلفت ان لا اغتفر ذنبا ! أي ذنب لأحدهم .. لانهم كانوا يضنون عليّ بنسائهم وبناتهم وحتىعواهرهم ! وما كنت ضننتُ عليهم بنفسي ولا ليوم واحد قط !

تأوهت قليلا وعادت تحدثه :

ـ   أما اليوم فأحببتُ ان اختار من عشاقي واحدا ! اتنزه ومن خلاله عن مقاربة خليلته تطهّرا وترفعا . ولو فعلت لكان يعني ذلك اني قاربت نفسي ولا أحدا غيرها ! لأني حينما وقعت في حبكَ ، كنتُ قد كتبت على زوجتك الانسحاب من حياتك ! إذ انه ما عاد لها بعد ذلك أيما دور تؤدّيه أو تنهض به حيالك ! لأني كنتُ حللتُ محلها ، ونزلتُ مكانها منك ، بعد ان كنتُ قد طلبتُ الاذن منك ـ انت وبنفسك ـ فأشعرتني بالإيجاب وأنزلتنيه ! وسمحت لي أن أطأ موطأها بعد ان بُحت لي بكل أسرارها !

ـ   ولكن . . ولكن لماذا رحاب ، لماذا رحاب بالذات ، لماذا كنت اخترتيها هي من دون كل صويحباتك ؟

كان قد فاه بذلك كمن كان ادّخر كلماته هذه ، ليصبّها كوحي فجائي ، كان استنتجه بفعل نبوغ معين ، حصل له بفعل الفطرة والبديهة . . وان كان استرسل في استنباطه ، ولكن بشيء من السرعة والعجلة !

غير انها أحست بنوع من الاحباط فاستشاطت حواسها حتى باتت تتحرك باتجاهه وبعنف في الذوق ـ  من بعد أن شعرت بشيء من الضعف ـ  كما لو كانت تستعيد شيئا من ثقتها بنفسها والتي كانت فقدتها ، او بالاحرى تسترجع شيئا من تلك القوة التي كانت اخفتها خلف نظراتها، كيما تستعين بها وقت الضرورة ، فقالت مغضبّة :

ـ   ارجوك ، كنت قلت لك اني أمثل رحاب نفسها ! فهي التي كانت ومن قبل قد سلبتني حق الخيار ، فما كان لي ان انتقي انسانة غيرها ! وما كان لي ان اهتم بأخرى وهي التي كانت تطالب فاتن عبد الرزاق حينما كانتا جامعيتين ان تمثل عليها دور الشاب الذي لا يكترث بشيء سوى النساء ! بينما كانت هي تتبنى دور المرأة المأخوذة بجمال الشبان !

سكتت برهة من الوقت ، واكملت بلهجة كانت مرنت على استعمالها :

ـ   فلا تجادلني اكثر مما احتمل ، كنت اخبرتك بصدق نية ، واخطأت أنت التقدير ، فإن كان لي قصد بالتلاعب ، فكيف لي ان افوه بما فهت به او اقول ما قلته لك حول السفر ، ولكن ثق يا حبيبي ( وهنا تغير اسلوبها وانقلب تلقائيا متناغما عبر لحن اشتياق والتماس جعل صاحبه يناضل كي يفوز برضا غريمه ) يا اغلى من كل حبيب ! اني انا الاخرى سئمة حتى من نفسي ، لأني لم اؤد واجبي المفترض تأديته ومن قبلي تجاه رحاب . فلا تتصور او يتبادر الى ذهنك اني امقتها او اكنّ لها كراهية ما ! . . أبدا! وما عليك الا ان تثق بكلامي ، ذلك اني اعي ما اقول ولاني اعني كل ما يصدر عن لساني، إذ انه ما ينبعث الا عن قلبي ليس غير !

ـ   ولكني أراك تثبتين وبالفعل كل ما يتصل بمثل هذه المشاعر المجنونة !

ـ   كيف تحدثني هكذا ، انك لا يمكن ان تتهكم علي او تتهمني .

وفي لحظة مفاجئة لكليهما معا وكأنه لم يتوقع ان يصدر شيئا من مثل هذا من فيه هو نفسه حينما قال لها وبسرعة مفوّتا كل فرصة عليها :

ـ   انك لا تحملين مبادئ ، لأنه ليس في وسعك أن تمتلكين شيئا منها ، إذ لا اعتقد أن من هو في مثل حالك ، يمكنه ان يزن الناس بالقسطاس المستقيم !

كانت تطيل النظر في وجهه من دون ان تعلق على كلامه ، كانت تستهين بحديثه عبر ابتسامة صفراء اخذت توزعها بصمت وهدوء بينما لاح في عينيها فجأة ما يمكن ان ينبئ عن شيء يمكن ان يُخاف منه ، لذا آثر ان يلملم اطراف الموضوع ويطبق على اوصاله كي لا تمتد صفات المشكلة الى ابعد مما يمكن تصوره ! فقال:

ـ   اني . .

قاطعته وكأنها كانت متربصة به كي ينطق فتنقض عليه وبسرعة :

ـ   كفّ عن هذا ، ما الذي دهاك ، انك تتصرف وتتحدث كما يتحدث الاطفال حينما لا يستجيب لهم الكبار فلا يمنحونهم ما يريدون او لا يصطحبونهم للنزهة او الى أي مكان يرغبون الذهاب اليها اوحتى حينما يمنعونهم ما يحبون وشراء ما يودّون اقتناؤه!

كان اصغى اليها ، وحالما انتهت عاد يكمل حديثه :

ـ   اني أفكر في اشياء كثيرة .

ـ   هذه الايام ؟

ـ   اجل .

ـ   ومن جملتها ؟

ـ   اني اتساءل ماذا يمكن ان تكون ؟!

ـ   اتفكر في الرحيل والعودة الى حبيبة القلب العالق حبها في شباكك ؟

ـ   انك ذكية للغاية . .

ـ   الى الحد الذي يمكنني فيه أن أدفعكَ ، ومن خلاله الى المطار كي تنتهي من هذه المهمة الصعبة. . هذا إن قيّضتْ لك الظروف اسباب السفر ! والاّ فلا والف لا ثم الف لا اخرى !

ـ   ماذا تقصدين ؟

ـ   أي رحيل هذا الذي تفتش عنه . . إن عدتَ وذهبت الى رحاب ، فانك سوف لا تجد ثمة رحاب !

فصرخ في الهواء من دون وعيه :

ـ   لماذا ، وكيف ؟ !

ـ   لأنه ما عاد بميسورك ان تفعل ، وإن فعلتَ فان رحاب ستصبح في ذمّة التـأريخ!

ـ   ماذا ! ماذا تقولين ؟ هل انت جادة فيما تقولين؟ ارجوك هيا تكلّمي !

كان يتطلع اليها ويراقبها كما لو كان يتطلع الى لوحة فنية كان اعجب بها اشد الاعجاب ، او كان كمن وقع بصره على منحوتة لإلاهة جمال ، مدهشٌ هو قوامها المكتحل بقدّ ممشوق ، إلاّ ما ازدان منه بعجيزة خلاّبة للغاية . .

لم يكن يتصور كم كان هو مبلغ جمالها في تلك اللحتظة ، مع انه كان في نفس الوقت يكنّ لها اشد الحقد والكراهية ، لكنها كانت نهضت ومن ثم تقدمت في اتجاهه ، فتحت حزام معطفها لتلقي بعدئذ وبهذا الاخر بعيدا عنها ، ولقد قذفت بفردتي حذائها هنا وهناك !

بينما فكّت خصلات شعرها المعقودة ، ناشرة اياها فوق كتفيها ، وتدافعت اصابعها تفك أزرار ثوبها الذي ما يزال متشبثا بجسدها ، فلم يكن قد غادره بعد !

ولقد انتهت منه في نفس الوقت الذي تركته فيه يرتخي وسقط ليلتقي بوجه الارض كالمازح الطريد ! غير انه لم يجد صدّارة او حمالة ثديين قد تمنعه من متابعة تنافر ثدييها وبكل احسان فانحنت عليه وتركت شعرها المنشور يسترخي فوق وجهه..

تركته كذلك وتابعته تحرك في قسماته كل شجون ، تنظر اليه وشعرها ما زال يستفز ملامحه العبقة بريح دفئه وهو مستلق فوق كل صفات ذلك الوجه المكتظ بحروف التضادّ..

لقد تأكد لديه ازدحام جملة من المتناقضات في مستهل طلعته ! لكنه فشل في ان يبدي ايما حراك تجاهها ، لم يهتم لتغيير وجهتها او معالجة تراكمها الحادّ الا بصمت مكروب او سكوت لا يلهب سوى ظهر الانواء التي طالما عجزت كل المناخات عن تسوية معدلاتها !

واذا به ينسى كل شيء ، ويغيب عن وعيه بمشيّته ، تعاملا مع طبيعة الموقف وذهنه ما زال ممتلئا يفكر في رحاب وشوقها اليه ، والسفر الى حيث كان يتمنى مغادرته وبأي ثمن كان ، وتفكيره الذي انقلب شعورا دائبا ، ممزقا بأنياب غطرسة مكتحلة ، له ان ينفي كل مذكراته الا تلك التي تزخر بضرورة رحيله عن ارض الوطن والتي ظلت ولمّا تزل امنيته التي كان يحلم بتحقيقها بمعيّة حبيبته رحاب !

ولكنه ها هو الان قد انقلب حائرا ، لانه لا يدري كيف صار يتنفس رائحة الارض التي طالما اشتهاها . . اشتهى الارتماء فوقها وفوق التي كانت تستلقي عليها، أو اشتهاها حينما كان يشوق للارتماء الى جانب من استقر جسدها فوق صعيدها ! انه ما يزال حائرا . فلم يعد يفهم كيف صار يتنشق عبير الرمل والارض كلما كان صدر فاتن العاجي يدنو من وجهه ، ليصطدم بعدها صوته مباشرة بثدييها الثائرين !



( 17 )



وفي الصباح نهض الاستاذ جليل باكرا ، لا يعلم كيف استخفه الكرى ، وامطره بسحاب مركوم ، حتى تركه يغرق في ذكريات كان عبيرها يصاحب نموه ومن قديم الزمان بالرغم منه !

لقد تذكر كيف كان لعالم المنام  في تلك الليلة دور يسمح له بالتعرف على اشياء غريبة واشياء اخرى اكثر غرابة! فلقد دار به الرحى دورانا حتى ابصر بفاتن تطلع عليه كما لم يطلع عليه قمر من قبل ، ولكنه وجدها تقود به نحو البحر ت تخبره ان عليهما الاستحمام ، وكان يرفض ، ولقد كرر رفضه مرارا ، غير انها كانت تعود لتكررعليه القول وفي كل مرة يمتنع فيها عن الاصغاء اليها والقبول ، فكانت تؤكد له انه ومتى ما كان للموج ان يعالج جسده كان للرب ان يتقبل منه صلاته ، واذا بها تصرّ وتصرّ  وفجأة خطر بباله انه لم يصلّ صلاة العشاء في ليلة امس ، وانقلب في منامه يصلي لربه الا انه كان يشعر بامرأة هي التي تصلي بدلا منه، لا يعلم كيف انتقلت الصورة وانطبع المشهد في ذاكرته ! لقد كان مستلقيا قبالتها ، وكانت تهوي اليه في الركوع ترقبه وحين السجود كانت تنحدر اليه لتنهض بعدها تتابع ركعات صلاتها .. الا انه وجدها وكلما كانت تهوي الى السجود ، كان شيئا فيها يعالج شيئا فيه .

وفجأة عاد الصوت من جديد ، ليطرق حنينه الى كل شيء ، وكأنه كان بحاجة ماسّة الى سماع حديثها . كانت فاتن ثانية ، حينما بدرته وهي تقول :

ـ   ان هذا البحر ليس كسائر البحار ، ان مياهه لتلاعب نفس الشواطئ التي تمتد بعيدا ، حيث تلتقي بسواحل نفس تلك البلدة التي تقطنها رحاب !

وفجأة ، قفز من فراشه ، كأنما كان مطالبا بوثبة منذ ان كان طفلا صغيرا يحبو ويقعى . نظر فيما حوله ، وجد الستائر مسدلة ، والجدران ما تزال تحدق به من كل مكان ! ان كل شيء في مكانه ! والاثاث ما برح ينافس السقف وربما احدى الزوايا التي كانت تطل عليه بحنين . . هكذا خالها ! غير ان الحال بدا له غريبا وكأنه لم يكن ليعتد مثل هذه التصورات من قبل ، لكنه عاد يتحسس انفاسه ، وجدها ثقيلة كسلى ! انتبه قليلا وتساءل في سرّه :

ـ   ما الذي يحدث لي ؟ لماذا كل هذه الانفاس المتضاربة والمتعددة تتدافع ومن دون توقف في أعماقي؟







( 18 )



في مثل هذه الاثناء ، كان للاستاذ جليل ان تحين منه التفاتة الى صاحبته التي وجدها غارقة في نوم هادئ ، شعور بالحسد تجاهها يكتنف قلبه ، انه لم ينم ، وما كان ليرقد حتى يبتدره منام غريب او كابوس طاعن في السن ! ولكنها حينما تأوي الى فراشها ما كان ليقضّ مضجعها ايما شيء .

اصغى الى انفاسها ، انها تدعوه الى الحب ! ولكن انفاسه كانت تتميّز من الغيظ لما كانت تثيره فاتن الراقدة معه في نفس الغرفة .. حتى استقر رأيه ان يزعجها فيؤلمها جنسيا!

غاص ناظريه في اطراف جسدها واعضائه ، وقف يتأملها باحسان دون مكر وختل.. مع انه كان صمم ان يعكر منامها ! لكنه لم يتخل عن فكرته، إذ كان ينوي ان يترك فوق رقعة جسدها كل اثار حقده الجنسي ! وان لا يفارقها الا بعد ساعات من ممارسات الحب المتواصلة والمضنية، كي يتمكن من انهاك جسدها الذي ظنه مرهقا برائحة العرق المتصبب منه . .

شعر بزغب جسمها كما لو كان يحمل معه رائحة سفر ! ولكن لماذا يريد التعامل معها كذلك مع انه لم يقف لها، ولا في أي يوم مضى على تمنّع سريري، ولم يكن يشهد منها أي ممانعة في منحه الجنس ولو كان بطريقة الوقوف ! فكان يجدها جنسية للغاية ، شبقة دون حدود ! لا تهتم لشيء مثل اهتمامها بالجنس واوضاعه والحب بأنواعه .

نظر اليها ، وأطال التمتع بجسدها الذي كان يسبح في بحيرة من الظلام . جسد يغرق في عتمة ربما كانت لزجة، موجعة بعض الشيء ! فكان يجدها جسدا لا يتمنع عليه ابدا مهما بدا منه الصلف وآيات النرجسية والسادية .. توقف عند هذه الاخيرة : السادية ! وتذكر انه صار يعذب نفسه بدلا من ان يعذبها . كان يشعر بالاخفاق الناجم عن الارهاق! غير انه ما استشعر منها في هذه المرة هذا او ذاك! ولو انه كان يلحظ فيها الكثير من هذا فيما مضى ولقد كانت تتعالى على جراحها وربما ارهقت نفسها كي لا يجد فيها ضعفا ولو كان طبيعيا ، مع انه ما كان يرى مثل ذلك الا امرا عاديا ، لانها كانت تجهد نفسها فوق ما تطيقه وتصطبر محتملة من دون كلل او كسل !

الا ان هذه الجولة ما كان لجسده ان يتعثر فيها ولا حتى بلحظات تعب وتهافت يمكن ان تصدر عن جسدها الذي انقلب لزجا ناضحا الى حدّ رهيب ، لشدة وكثافة العرق الذي رشحته غريزتها ، إذ جعل يتصبب اشد غزارة من ذي قبل ، وذلك إثر المداومة على هذه المناورات الجسدية والتي ظل يواصل ممارسة فعالياتها الرياضية الصعبة وتمثيل ادوارها القاسية كنتيجة لفعل حبٍّ ، لا تجدي معه أية وسيلةٍ سوى التواصل المتقابل ، لانه ليس لأحد ان يقف منه موقفا مربكا إلا اذا تميز في الاخر موقف المتردد الممتنع ! وليس لأحد ان يتوق للاستمرار به ، الا اذا كان للاخر ان يتميز الجانب الاول بسهولة لا تعني عنده اكثر مما يعنيه طرفا البطارية الجافة واللذين لا يمثلان الا قطبيها المتباعدين والمتصلين في الوقت نفسه من داخلها : وهما الطرف الموجب والطرف السالب !

ولقد استمر يواصل صنع الهوى على طريقته حتى استبد به التعب والارهاق فاراد ان يضيء الغرفة ، فقصد نافذة وازاح احدى الستائر ، فما ارخاها حتى وجد ان السماء تطبق عليه من الخلف ! حينما شعر بيدين ناعمتين تطوّقانه من الوراء ! لتسدل بعدها وبكفّين بضّتين ستارا كثيفا فوق عينيه .. حتى غاب عن وعيه من جديد ليصحو وضوء النهار كان قد طلع عليه ، وكسا وجهه بنور ساطع لم يستطع مقاومته فاضطر الى ان يزجره ويمنع وصوله بكفّ احدى يديه . . ولكن من قبل ان تقوم كفّه  امام عينيه وجد ان احداهن كانت قد زجرته من قبله، واحالت بينه وبين انتشار مثل هذا الضوء الشديد .. فطالبها بارخاء الستائر كيما ينعم بالهدوء والنوم قليلا :

ـ   اغلقي الستائر . .

ولما لم تستجب كرر القول بحزم :

ـ   قلت لك ارخي الستائر . . فاتن ارجوك !

ولكنها لم تستجب له هذه المرة وكأنها كانت تطالبه بالمزيد من الجنس وكأنه هو الاخر كان فهم غايتها ، فقال متأففا ضجرا :

ـ   كفّي عن هذا يا فاتن  ! ارجوك ، دعيني آخذ قسطا من الراحة . . لقد ارهقني كل شيء واحتاج الى الراحة .. حتى الجنس كان هو الاخر قد تآمر على وجودي.. صدّقيني اشعر بحاجة قوية الى النوم !

غير ان شيئا ما دعاه الى اللجوء الى الصمت، لقد اثاره هذا الجسد الواقف امامه ، وكأنه قمر وقع جرمه ما بين الشمس والارض فكسف ضوءها وترك شعاعها يتمزق خابيا ، احس ان نور الشمس يتطاير كبخار الماء ، لكنه جعل يعلق في وجه هذه المراة التي ايقظت فيه الشعور بالحاجة الى الجنس مجددا وان كان عبّ منه الكثير ، فانها اثارت فيه الاحساس بالضرورة الى كل الجنس وفي كل الاوقات اذ لا يطيب للمرء ان ينعم بالراحة والحب على الابواب بأجلى صوره !

كيف لفاتن ان تقوى على احياء كل هذه الذكرى في قلبه ، انها حقا امرأة ! لقد ملكت عليّ كل كياني ، فانها تهبني الحب عاطرا بمزيج من الذكرى ، انها تحب كل الناس ، فهاهي كالملاك يتحرك ، ويرقص بجذل وبهاء ، لقد شعرت بحاجتي الى من احب ، ولم يحرّك فيها ذلك ادنى مشاعر الغيرة والحسد او حتى الحقد !

ـ   لكنها رحاب حقا ! اووه ما الذي اراه يا الهي ؟ انها رحاب بنورها وجسدها الذي لا يختلف معي اخر في انه لا يمتلك مثل هذا الخصر امرأة سواها بل مثل هذا الجيد والقدّ ! او مثل هذا الصدر المكتنز .. لقد تميّزتُ فيها كل شيء ، حتى قبلتي الاولى والثانية والتي تضيع حين الصلاة في محرابيهما كل افكاري ، وينفرط لهول المطّلع عقد آمالي ، ليتوقف معها نسيج تأملاتي عن كل حركة حتى بسكونها !

لقد كان يحدث نفسه ، وما كانت تدور امامه سوى رحاب نفسها ! كانت تتألق بمعطف الحمام ، كأنما كانت خرجت ولتوّها من هناك . بينما الفى كل شئ فيه لا يطاوعه على الحديث اليها ، لانه ما كان يرغب في ان تشغله أي بادرة ممكنة  (حتى ولو كان هذا كلاما يصدر عنه شخصيا)  عن التطلع الى وجه رحاب وجسد رحاب وقامتها ولونها وخصرها .. انها حقا رحاب ! فامتنع عن البوح بأيما سرّ وجيز! ولو كان له ان يبوح بشئ ، فما كان يجرؤ بأيما قول ثابت لديه ، لانه كان يشعر انه في  حضرة ملك عتيد : ملاك الحب !

ولكن ! اين ذهبت فاتن ! حقا اين غابت :

ـ   فاتن اين انت ، ها هي رحاب ، عادت من السفر، لقد تحملت مؤنة الرجوع لوحدها ! لم ترتئ ازعاجك، فامتنعت عن ان تسبب لك مضايقة ومشقة كيما تعودين بها! لقد ..

ولكن لم يحدث ان سمع ما قاله ، وهل فاه بما نطق به؟ او هل نطق بشيء ام كان كله حديث داخلي ، لا يخلو من صمت وسكون ، لأن شأنه ما كان قد جاوز قلبه . . فبقي يتردد نفسيا هناك ، دون الانفلات من طوق شفتيه !

ولكنها كانت تراقبه باستمرار وتنظر اليه دون قسوة، وربما حنت عليه ببسمة طافية بين اعناب الكروم الحمر التي خالها تتفجر بين شفتيها! بينما امتدت اناملها تفك عروة الحزام الذي احكمته حول خصرها ، وظلت تتجه اليه تاركة وراءها ثوب الحمام يسّاقط تلقائيا ، كاشفة ومن خلاله عن اروع مفاتن جسدها الخلابة . . لتترك وراءها وفي نفس الوقت نافذة، تطل على نفس تلك المناظر الخلابة التي تطلّ عليها نافذة بيتهما الكائن في لندن !



تمت بعونه تعالى





جمال السائح

Almawed2003@yahoo.com










View jamalalsaieh's Full Portfolio
tags: