دراسة الدكتور علي متعب جاسم عن رواية الصندوق الأسود

قلق الكتابة.. انطباعات حول رواية الصندوق الاسود

د.علي متعب جاسم/ كلية التربية/ جامعة ديالى

الكتابة وجع فريد يتسرب الى انامل مبدعه راسما عالما لاشك فريدا. وجع يختزل مسافات العالم بخطوة حزن ويصوغ مدارات الشمس بقبضة من الحناء.... هاجس مفخخ بالرؤية... قلق لايهدأ الا من اجل انتظار اخر يحمل المبدع ليضعه مرة اخرى قريبا من حافات القلق او ربما قريبا من... الحلم.
اشرع في القراءة فاستوحش الطريق مرة و اتلمس خطواتي برفق مرة اخرى لا فرق بين الخطوتين.. فالقلق عند القراءة مواز ربما لقلق الكتابة.
في انطباعات تشكلها عندي رواية الصندوق الاسود للكاتبة كليزار انور تستوقفني علامات تسربت الى عالمها فثبتت وجودها هنا وهناك... علامات تقف شاهدة على جرأة القلم في صراعه مع الذات المبدعة ليختلس لفظة من هنا او جملة من هناك تستدرجنا وتغرينا نحن القراء بتفكيكها واعادة انتاجها خارجين بقناعات ربما تحقق لنا لذة الكشف واغترار القراءة .
الكتابة عند كليزار امتهان للخوف وممارسة للقلق من دون تحييد الذات, في اغلب الاحيان. الخوف من ات.. والقلق الوجودي والذات المتماهية في الاخر البطل.
اول وجوه قلق الكتابة ان الكاتبة تحول الصراع من مساحة الحدث الى مسافات الحلم, لااعني بالضبط ان الصراع يتمركز في شخصية الراوي/ البطل وازماته فقط وانما الصراع الفكري الذي يدفع البطل/ة لانتاج حلم من خلال الكتابة, والخيار المطروح اولا ان"الكتابة والحلم مرادفان "كلاهما يصنعان الحياة.
الا ان وجه الصراع يبدو في تمركز الكتابة عن الحلم وليس الحلم.. عن تصور وليس عن ماهية "ساكتبه اولا.. ساحققه بكتاباتي لاني ماعهدت سوى الكتابة سبيلا لتحقيق احلامي. احتاج الى تاكيد ذاتي بكل حرف "الحلم محاولة لممارسة الحياة ,لفعل الحياة ولكنه قبل ذاك تجلي من تجليات الكتابة وجدل محكم بين الذات والكتابة لانتاجه "المفردة افككها.. التهمها.." ص13.
كيف تدير وجه الكتابة مرة اخرى لتكون حلما؟ تساؤل ربما راودني وانا اتسلل بحذر الى عالم الكاتبة, وليس من المعقول ان افترض الاجابة قبل الوصول الى حافات الحلم, افترض الان ان الحلم يدير وجهة الكتابة سارقا ذاته موجها قلمها لما يريد وهو ما ان صح يثبت العكس في حا لات عدة ومن هنا يتكشف نمط من الصراع الذي اومات اليه. "وجاء الكادر الطبي قاطعا استرسالي.."14 الاسترسال هو الحلم الذي تحول الى كتابة وليس العكس. ومرةاخرى ينساح الحلم ليكون هاجسا يظهر حينا ويختفي اخرى "كنت كلما اخذ حبة الدواء احسبني قريبة من حلمي وسامسكه جيدا" ص67 هنا يظهر الحلم من واقع تقديم الحدث وفق منطق زمن وتقنية سردية تراتبية ليتماهى في الفصول اللاحقة فلا يكاد يتمظهر نصيا الا من خلال تاويل يستنطق احداث يقدمها الراوي الثاني للاول "الصندوق الاسود" وبذلك يتماهى الحلم مع القصة الثانية معلنا عن نفسه بالبحث عن كينونة المراة ما يشكل معادلا للحلم. المرأة المثقفة الكاتبة والانسانة الانثى تسحق هزيمتها بالكتابة وترمم انوثتها بعالم تستعيده امام الاخر ولكن تفشل ببنائه داخلها فيتسرب ذلك الفشل الى ظهور صراع على امتداد الرواية ينتهي بتحييد الذات واعلان الهزيمة, ويبدو ذلك مرتبطا باليوميات التي سجلت نمطا من الاستلاب نتيجة ظهور عوامل خارجية غيرت مسارات الواقع وهشمت تكامل الحلم.
تبدو الكتابة قلقا مشروعا في اثبات الذات او نفيها... تشخيص الواقع او تغييره... والوجه الاخر لذلك القلق يتبدى في انهزام الجسد...
الكتابة عن الجسد اخذت ابعادا مختلفة وتشكلت وفق رؤى متتعدة ولكن في تصوري بقيت في اغلب الاحيان تمارس شرعيتها من خلال اقنيمين فهي اما تنطلق في تجلياتها عبر هزيمة الجسد الى داخل منظومة النفس عبر شبكتها المعرفية المكونة لها واما انتصارها لابوصفها وظيفة بل وجود وكينونة .ففي كلا الامرين تظهر في معظم الاعمال الابداعية بوصفها صراعا معلنا او مخفيا... هنا في هذه الرواية يمكنني وصفها تمظهر القلق يحاول ان يتجسد قيمة الا نه في تصوري ينخذل قافلا امام منظومة ذكورية لاتسمح له بالظهور.
الرجال كلهم "ينتظر السياف على ابواب مخادعهم.. كل شيء في حياتهم خدعة " ص58. ليس غريبا حين تتقمص البطلة في القصة الثانية شخصية شهريار ,ليس غريبا ابد حين تمارس اقصى الحيل الدفاعية للانتصار الى انثاها المكبوتة اما الاعلان عن ذم الذكورة فهو اقرار بتخفي الجسد الانثوي امام الظهور الذكوري, والاقرار بذلك ياتي عبر اكثر من قناة لعل اولها الاحتماء بعالم الطفولة واظهاره الهدف الاسمى للمراة, بل " كينونة ارعاها واحرص عليها, انشغل بها .فلسفة غبية الا يفكر المرء منا بفقدانها"ص13.
وحين تتعرض البطلة في القصة الثانية الى صدمة حب كان اول استجابة لها ان تفتت تلك الصدمة نزيفا على الورق لتقتله رامية اياه في النهر ,هو محاولة لقهر الجسد واخفائه.. انهزاميته واستيلاد جسد جديد كان اولى سماته الظهور بتسريحة شعر جديدة وتغيير النظارات ووو و وتطهيره بالكتابة ص 60.
ولذا فليس من المصادفة ان تكون البطلة "تيجان"كاتبة".
ان الكتابة وحدها القادرة على اخفاء الحقائق بل واظهارها وفق منطق جديد. وهنا يتجلى الوجه الاخر لقلق الكتابة .فهي عند الكاتب خلق دائما لعالم جديد يؤثث رؤيتها حين يكون الواقع جدارا لاتنفذ منه احلامها.
"دوني حكاياتك في قصة او رواية احتمي بها من عري الزمان". .ص 132
غير ان التدوين فرض رؤية و انبات تصور, لذا تقر البطلة انها تمنح ابطالها مجدا لا يحلمون به "اننا نبدع في وصفهم ونضيف عليهم مزايا غير موجودة فيهم اصلا" ص55.
واذا كانت رؤية الكاتبة تتشكل وفق ما طرحنا انفا, الا يتبادر الى الذهن سؤال عن الكيفية التي نفسر بها ورود اليوميات؟
اليوميات نتف حقائق لم تتدخل بصنعها سوى انها ترجمت اللحظة العابرة ومن خلال فعل الكتابة الى لحظة ذات استمرارية زمانية تولد زمانها اثناء أي فعل للقراءة ؟هذه اليوميات في تصوري هي التي افصحت بوضوح جلي عن قلق الكتابة, اذ اننا معها لا يمكن الركون الى رؤية مستقرة وبالتالي فان عدم الاستقرار يفضي الى ان الكاتبة تعكس صراعها مرة اخرى على نمط بناء روايتها ,وان كانت تحقق من خلال اليوميات معادلة الموت معادلا للحب الذي ينتهي متبددا كما تبدد الحلم وهو ما نفترض به اجابة عن التساؤل الذي طرحناه بدايةً..

View gulizaranwar's Full Portfolio