دراسة عبد الكريم يحيى الزيباري عن رواية الصندوق الأسود

تداخلات رواية الصندوق الأسود
عبدالكريم يحيى الزيباري
دهوك
محاولة لإنجاز رؤية كلية لتداخل علاقات دوال النص الروائي(الصندوق الأسود/ كليزار أنور): راوية رئيسة تجري عملية طفل أنابيب، قاصة تحب قاصَّاً، راوية فرعية القاصة تيجان شوقي، لدينا الأسود والأبيض، كلُّ شخصيةٍ وظِلُّها، مع تداخل الأمكنة: دمشق، حلب، بغداد، الموصل، دبي، قلعة حلب، الجامع الأموي...الخ، تداخل الأزمنة في رواية(الصندوق الاسود) واضح: زمن الحصار حيث الطبيب يعمل حارساً لمعرض سيارات بعد نهاية الدوام/ص42، مفكرة يوميات الحرب من 17/3/2003 لغاية 8/5/2003، الاحتقانات الأهلية الطائفية 2006- 2007. تداخل الحكايات من راويتين متشابهتين، الأولى غير مسمَّاة، نسميها(س) والثانية تيجان شوقي، قاصتان مثقفتان، ظروفهما وطريقة تفكيرهما متشابهة، الراوية الرئيسة قاصة(أردتُ أنْ أكتبَ تساؤلي هذا وأنا أستقبل أجزاء هذه الرواية، وحكاية بطلتها تيجان/ ص153). البطلة: تيجان شوقي قاصة، انشطرت بين (ماهر محمود) انتهازي يريد الانتقام من جنس النساء، لأنَّ والدته غربية الجنسية انفصلت عن والدهِ تركته صغيراً وعادت إلى الغرب، (المس هافيشام في رواية ديكنزالآمال الكبيرة لأنَّ رجلاً خدعها بالاتفاق مع شقيقها، قامت بتبني أسيتلا وربتها لتنتقم من جنس الرجال كله) فكل رجل هو الطفل الذي كانه، والعقد التي يحملها لا وعيه هي التي تسيره في أغلب الأحيان، و(ريان عبدالمجيد) نموذج مثالي، والذي تبرر(كرمه الحاتمي..ربما لأنَّه لم يعش في العراق طويلا، بنى نفسه الداخلية خارجه بدون توترات الحروب واضطراباتها العاصفة/ ص109) لكن الذي يتعايش مع الحروب والموت المتفشي ليل نهار، تهون عليه نفسهُ، ويستحيل أنْ يكون بخيلاً، ومن مذكرات امرأة بريطانية الجنسية عاشت في العراق نصف قرن (اكتشفتُ أنَّ العراقيين على العموم: كسالى جداً، يميلون أنْ يرموا كل ما يخصُّ البيت والأولاد على كاهل نسائهم، ليس لديهم أفضل من الجلوس في المقاهي أو أمام بيوتهم.. وفي الغالب يفتحون نقاشاً حاداً في السياسة أو التجارة/ سوزان فرانكس- ما من مكانٍ نختبئ فيه- الأكاديمية الكردية- 2011- أربيل- ص49)ثم تضيف(وجدتهم كُرماء إلى درجةٍ كبيرة، لو ذهبتَ إلى زيارة إحدى العائلات، يصرون على ذبح خروف أو دجاجة لي، ولو كانت آخر ما يملكونه، ولا غَرابة فالعراقيون كرماء جداً/ ص52).
وهناك شخصٌ ثالث لم يُذكر اسمه، وهو أيضاً زوج الراوية الرئيسة، وهو يتشابه كثيراً مع زوج القاصة تيجان في طريقة الزواج طلب مفاجئ حاسم، واثق من نفسه، يريد ردَّاً سريعاً، ليأخذ العروسة إلى مسافة ثلاث محافظات، والآخر يأخذها إلى دبي، كلاهما أعجب بنصوص القاصة أولاً. تداخل الثيمات: استغلال غريزة الأمومة تجارياً، ولأنَّ (من خلال تداول الحكايات، فإنَّ أغلب الأجنة فشلت في التخصيب لكن الأمر مستمر/ص30)تظهر الحاجة إلى دعاية الطبيب الذي يستأجر ملتحياً يحملُ ابنيه التوأم ويظهر في عيادة علاج العقم سكرتيرتان محجبتان فقط في عيادة الطبيب لأنَّ(الحجاب شرط الوظيفة/ص29)، فساد طبي لا يختلف عن الفساد والرشوة في المعبر الحدودي العراقي السوري على الجانبين/ص19. (القلق والتوتر لم يفارقاني، فالخوف من احتمال موت البويضات أو عدم تخصيبها، كما حصل مع منتهى بالأم، ماتت البويضات التي سحبت منها بالأمس، أعادوا إليهما نصف ثمن العملية/ ص101)، الزوج يتظاهر بعدم اهتمامهِ في الإنجاب ليبرر عدم مشاركته في مشروع طفل الأنابيب، معاناة الزوجة العقيم مع عائلة زوجها، الحب، الزواج عن طريق النت، السلب والنهب في نيسان 2003، تعدد الثيمات والشخصيات فرضَ على النص الروائي حالة إسراف في توظيف المُجمل السرديِّ، وتفتيت وحدة الانطباع وتماسك النص الذي يُلخِّصُ بسطر أو سطرين حكايات سبع نساء عقيمات في الفصل الأول(إسراء/ الكوت، سوسن/ الأنبار، ماري/ دمشق، عالية/ حوران، سيماء/ بعقوبة، غادة، لميس) مثلاً(عالية من حوران هذه العملية الثامنة لها، سبع مرات فشلت، وما زالت متعلقة بالأمل/ص9). وفي فص8 (منتهى) التي لم تُذكر سوى مرة واحدة كزميلاتها، حتى في المفكرة، لا يوجد تجسيد للحرب، إخبار تقريري ملخَّص، واللذة والمتعة تكمنان في التفاصيل الصغيرة التي تمرُّ علينا يوميا ولا نشعر بها، في هذه التفاصيل إنسانيتنا التي تتفلت من بين أصابعنا. ينتهي الفصل الأول بغياب البطلة عن الوعي في مستشفى أمراض العقم، يبدأ الفصل الثاني بتيار وعي قصة حب وزواج قاصين(قصتي تجاور قصته/ص15) وينتهي في عيادة طبيب العقم(النسوة يتبادلن القصص، والرجال أيضاً، لكنهم لا يدخلون إلى العمق الصريح مثلما النسوة.. يتظاهرون بعدم الرغبة الفعلية في الإنجاب، خاصَّةً أبناء المدينة، أمَّا أبناء الريف فهم كنسائهم لايخفون/ص 22) الفصل الثالث تيار وعي يعود ثلاث سنوات إلى الوراء عن هرب من الطائفية إجازة شهر لموظفين أواخر 2006 إلى دمشق تتحول إلى سفرة سياحية وشهر عسل جديد، وفي دمشق تخندق المُهجرين(السنة يسكنون جرمانا، والشيعة يسكنون السيدة زينب/ص26)، آخر يوم كان في حلب 30/12/2006 أول ايام عيد الأضحى، الفصل الرابع عودة إلى عام 2009 ودمشق وفحصوصات مستشفى العقم. الرواية بَدَتْ متماسكة بقوة انهارت بنهاية الفصل الرابع برسالة الكترونية من بريد غريب عنوانها الصندوق الأسود، تحميل ملف عنوانه(ما قبل)ص 32. تشظَّي النص الروائي إلى ثلاثة أجزاء(ماقبل، المفكرة، ما بعد)حكايات فرعية، تستلم القاصة تيجان طرد بريدي من ماهر محمود، فيه قرص صلب فيديو يعترف لها بأنَّها كانت هدفاً للمراهنة مع صديقيه السكرانين في حانة على مائة دولار، طرقَ عِدَّة أبواب، (كنتُ أتابع ما تنشرين من قصص أقرأها أحللها وكأني فرويد..حصلتُ على رقم هاتفكم من الدليل..وبالصدفة على رقم صندوق بريدك/ص48)نجحَ من باب تمثيل دور المعجب المفتتن بقصصها، ليس بمقدور روايةٍ واحدة أنْ تقول كل شيء عن ثيمة واحدة، حتى لو امتدَّت إلى ما لا نهاية، حتى لو اشتركَ الروائيون كافة في كتابتها، فكيف إذا تعدَّدت الثيمات، وتداخلت الأمكنة والأزمنة والشخصيات؟ حينذاك ينبغي حياكة خيط رفيع يربط هذه الثيمات، وطقس ملائم لجميع الأزمنة والأمكنة وشكل خارجي أسلوبي يحتوي كلُّ هذا في صياغة فنية جمالية. رواية يترسَّخ فيها الانتظار المفجِع فيها منذ الإهداء، إلى السطور الأخيرة(إلى ابني الذي لم يأتِ)، بطلة الرواية قاصة اسمها تيجان شوقي، موظفة من عائلة محافظة، قليلة الاختلاط بالوسط الأدبي، بمقارنة أحداث أخرى، تتحقق مقاربة مع جنس السيرة الذاتية، (خمسةَ عشرَ يوماً قضيتها مستلقية على ظهري.. الانتظار ممل ومخيف.. لم يكن بيدي أثناء الاستلقاء سوى التفرج على التلفاز وقراءة ما يجلبه زوجي من مجلات وكتب، فهو يعاني من حُمَّى شراء الكتب/ص151). يُعابُ على النقد القديم الوصفي، محاولاته تلخيص النص، لكن كليزار أنور في تناصها مع قصة(الحوذي)لتشيخوف، لم تكتفِ بذكرها فقط، بل لخصتها(الرجل الذي يكلم الحصان، عندما لم يجد إنساناً يتحدث معه عن موت ابنهِ في ذلك اليوم، تحدَّث إلى حصانه، وحينها شعر بالراحة/ص38)وفي ص152 تلخص رواية أورهان باموك(جودت بيك وأبناؤه). (وعرفتُ لماذا وصلَ باموك إلى العالمية بينما كتابنا العرب ما زالوا أسارى لما هو تحت الحزام/ص153)، رواية الرواية، تتحدث عن الكتابة كصنعة، علاقتها بعالم الأحلام عن أبطال القصص(أكتبُ حلمي الذي حُرِمتُ منه/ص12)(سئمتُ الكتابة التي لم تحقق الحلم/ص13)(إننا نمنح أبطالنا مجداً لا يحلمون به، إننا نبدع في وصفهم، ونضيف عليهم مزايا غير موجودة فيهم أصلاً / ص55) (هل من الضروري أن نعترف بالحقيقة في كتاباتنا؟ لا إننا نقول فقط ما حولها، نقرب القارئ من الحقيقة ولا نسمح لهب الدخول/ص56)( الخميس 27/ 3/ 2003: لا جديد سوى القصف على بغداد والموصل والناصرية والبصرة وحصيلة الشهداء(350) شهيداً، و(4000) جريح إنها الحرب ولا بد أن يكون هناك ضحايا، ولا بدَّ أنْ يكون هناك من يدفعُ ثمن غباء الآخرين! اليوم جلستُ لكتابة قصة جديدة، وكتبتُ بعض المقاطع من روايتي، وربما تكون هذه اليوميات جزءاً منها/ص77) ماهر محمود في اعترافاته لديه طموح( وربما سيكون لي شرف الخلود في روايتك المقبلة /ص57)ويتحقق أمل كاتبة المذكرات، فقد أُقحِمَتْ اليوميات كجزء رئيس في الرواية، وتحقق طموح ماهر محمود، كما أنَّ يوم الخميس هذا، ما كان له أنْ يكونَ مقطوعَ الصِّلة بالحدث الذاتي العائلي والمونولوج الداخلي، وتفاصيل الحياة اليومية الصغيرة، بعاداتها وروائحها وتأثيرات القصف والحرب. تبدأ الرواية برحلة علاج إلى إحدى مستشفيات دمشق من أجل إنجاب طفل أنابيب، ست عشرة امرأة متفاوتات الأعمار والأقطار والمدن(على كلِّ سرير تقطنُ امرأةٌ كلُّ حلمها أنْ تكون أمَّاً ذات يوم/ص7).
اسم الكتاب: الصندوق الاسود
المؤلفة: كليزار انور
الناشر: المؤسسة العربية للنشر
///////////////////////////////////////

نشرت الدراسة في جريدة (الاتحاد) في العدد (2940) بتاريخ 6/ 4/ 2012

View gulizaranwar's Full Portfolio