دراسة أنور عبد العزيز عن رواية الصندوق الأسود

الصندوق الأسود.. رواية السيرة الذاتية وتعدد الثيمات

أنور عبدالعزيز/ الموصل
الصندوق الأسود.. رواية الكاتبة كُليزار أنور التي بدأت مسيرتها الأدبية سنة 1995 والتي تجاوزت بروايتها وبمجمل إنجازاتها الإبداعية –في نضجها الفني- مثل هذا العدد من السنين, فمن يقرأ لها يستطيع مضاعفة هذا العدد من السنين إذا قدرنا وقبلنا إن العمر الزمني لنتاجات الكاتب لابد أن يترك أثره ايجابياً في مسيرة المبدع دون التقليل من عوامل أخرى مؤشرة لدى النقاد والقراء وربما كان أهمها الموهبة, وهذا ما تحسست بتوفره أيضاً في غالبية نتاجات القاصّة والروائية.. (الصندوق الأسود) رواية من إصدار (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) بيروت لسنة 2010 في أو من تسع وخمسين ومائة صفحة من القطع المتوسط وبلوحة غلاف رائعة لأمل سعود (من الامارات العربية المتحدة).. الرواية في ثلاثة أجزاء بكتاب موحد وبفصول.. بدأت روايتها بإهداء مؤثر: (إلى ابني الذي لم يأتِ). أشغل الجزء الأول في سردياته سبعاً وستين صفحة وبعنوان (ما قبل) وفي الجزء الثاني الذي أتخذ شكل (مذكرات) ولفترة زمنية امتدت من 18/ 3/ 2003 ولتاريخ 7/ 5/ 2003. أما الجزء الثالث الذي بدأت بـ(ما بعد) فجاء سردياً وبلا أية تواريخ أو توقيعات.
الرواية لم تتحدد زمنياً بمواقيت وتواريخ الكاتبة، بل هي قد عادت بالذاكرة لما قبلها من سنوات مرّة قاحلة شاحبة عاني منها العراق والعراقيون من حروب وحشية ومن حصار وموت فجائعي وتخريب ودمار وجوع فرضته عليه كل شعوب الارض بقرار لاإنساني حاولوا منحه صفة القانون والالزام لصدوره عن هيأة دولية معترف بها من قبل الجميع هي (الجمعية العامة للأمم المتحدة) والفاجع والاليم ان قرار الحصار جاء جماعياً حتي من أغلبية الدول العربية والاسلامية، وما كان أقسي هو (الحصار الداخلي) الذي فجع به التجار الكبار وغلاة المزارعين الكبار الشرهين بؤساء الشعب بآثاره ونتائجه الاليمة... فبقدر ما شكّل دورهم اجراماً بشعاً بحق الناس، فقد كان لتلك الطغمة الغادرة عيداً بل من أحلي أعيادهم المالية المفاجئة التي لم تكد تخطر علي ذهن بشر...
اختارت الكاتبة لروايتها (ثيمة) هامّة وحيوية: هي المعاناة الانسانية للنساء المحرومات من الحمل والولادة سواء كن هنّ السبب أو حالات من ازواجهن... هذه المسألة التي ترتبط بقدر الله وبالحظوظ والوراثة والسلامة الجسديّة للزوجين، لا تجد عند اسرة الزوج (خاصّة الأم) أي صدي او قناعة الرضا بالواقع الصحي لزوجة ابنهم وحتي لابنهم... هم يريدون الوريث والخلفة والحفيد، وهم الي ذلك يتطرفون برغبتهم برفض ان يكون المولود (أنثي)... انهم يريدونه (ذكراً) من الزوجة الاولي، فان عجزت فهم يسعون بولدهم لزوجة ثانية - حتي الفقراء منهم - ولا مغالاة او مبالغة للوصول أحياناً لثلاث زيجات او أكثر حلماً (بالولد الموعود)، كل هذا رغم ان الحقيقة العلمية تميل الي ان جنين المولود تقرّره كروموسومات الرجل بتجانسها مع بيضة المرأة أو تضادها... الروائية لم تتوقف عند حالة الرغبات العنيفة الشديدة وحتي غير العقلانية بمسألة (الحمل) ، بل تتعداها أملاً ببشارة وجه حلو مضيء لولد، ومنهم من يتساهل بقبول التنازل عن جمال الولد ولو بولد مقبول الشكل شرط ألاّ يكون معوّقاً أو قبيحاً سيعاني في حياته القابلة... المهم (الذكر) والامثال والمعتقدات الخرافية الشعبية كثيرة في ذلك، حتي ان حالة اليأس تمنح هؤلاء المواليد المساكين اسماء كريهة منكرة لحيوانات أو غيرها لمجرّد قبول مثل هذا الولد المجيء للدنيا... البطلة في الرواية - والروائية حتماً كانت هي البطلة - لشدّة حميمية الطرح والمعالجة القصصية وصدق ودفء مشاعرها الأمومية... ولذلك الزخم الكبير - فنّاً وواقعاً - الذي منحته لهذه (الثيمة) الأثيرة لديها والتي استطاعت - روائياً - أن تجعل ذلك الزخم يتسرّب بقبول وقناعة لذائقة القراء ولتكسب القرّاء للانتباه لمثل هذه الحالات الانسانية وبقسوة اتّهام المرأة (بالعقم)، ذلك الجرح الناغر في اعماق روحها ونفسها وجسدها، وكم كانت الروائية مبدعة عندما لم تقف بحالة (العقم) عند المرأة، بل بحالة الزوج المسكين المخذول القلق الخائف من أقسي ما يصيب الانسان في رجولته وهو عندما يشعر بأن (بذور الحياة) فيه جامدة ميتة منخورة هزيلة وعاجزة عن منح الزوجة ما يسبب لبطنها الانتفاخ بتشكل الجنين وبالاحساس بنبضه وبالفرح الغامر لحركات ذلك الجنين ولتخيّل حركة الحياة فيه وهو يرفس برقّة ونعومة جدار البطن... الكاتبة - أو بطلة القصّة - لم تكن انانية في جعل مأساتها هي (المحور) بل ان الالتفاتة لمعاناة - أو حتي اشتباه الزوج بحالته - كانت معادلة ومأساوية لمشكلتها المقلقة... والي ذلك فقد اضافت الكاتبة باستذكاراتها الماضية واسترجاعات الماضي منذ كانت طفلة وصبيّة وطالبة وموظّفة (ثيمة) أليمة مما تعذب به وطنها وشعبه من فجائع الحروب ونكبات الذل والموت والفقر والجوع وكل الوان القهر والكمد والاستلاب الانساني وعلي مدي ثلاثة عقود واكثر، بل حتي احسست كقارئ ان الكاتبة ربّما أوحت لقرائها أو بطلتها بأن حالة (العقم) او بما يشبهه عندها وعند مئات من النساء واكثر هي نفس حالة (العقم) التي مرّ بها وما زال وطنها يعاني من عجزه وخيباته وفشله واندحاره امام الوقائع الكاسحة المتواصلة التي لا تمنحه زمناً لعلاج ومراجعة ما وصل اليه من يأس وخمول واحباط قد تجد له حلاً او تبقيه هكذا محنّطاً جامداً كجسد ميّت!
الرواية أدبية، ولكن موضوعها وحكاية (طفل الانابيب) والعلم وتطوراته وبمختلف (التقنيات العلمية الحديثة في هذا المجال) ولهوي بطلة الرواية بتطورعلم الأجنّة والمبايض وبذور الحياة... قاربت ان تكون (طبيبة) أو من المهووسات بهذه الحكاية او الحقيقة العلمية مما نجده عند بعض المبتلين بامراض مزمنة يتابعون اخبار امراضهم وعلاجاتها وتجارب العلماء عليها وآخر المستحدثات والمبتكرات والادوية ويظلون مفعمين بالامل بعيداً عن اليأس بأن يوماً مشرقاً سعيداً لا بد ان يجيء علي يد هذا العالم او الطبيب او المعالج الذي سيحمل لهم بشارة الخلاص من معاناتهم الاليمة المزمنة...
هيمنة موضوع (طفل الانابيب) وتعدد المشافي التي راجعتها البطلة في اكثر من بلد مع كثرة الاطباء الذين عاينوا وفحصوا وناقشوا حالتها مع حالة الزوج وكما حدثت ايضاً مع شبيهات لها ولحالتها، ومع بعض الاختلافات لنسوة استأنست بهن في هذا المشفي أو ذاك... في العراق او سوريا او الاردن ولبنان وايران، مع وصف جولات سياحية لبعض من مدن هذه البلدان ومن وجهة نظر ثقافية وحضارية حساسة... كثرة من النساء ارتاحت لهن وأنسن بها، فعندما تكون المحنة واحدة - خاصة بين النساء - فهي تجمعهن وتوحّدهن اذ ان مثل هذا الموضوع (طفل الانابيب والحمل والولادة)، رغم علمية اسمائها تظل من اسرار النساء وقد يتمتعن فيما بينهن بالمكاشفة وتبادل اخبار حالاتهن الصريحة التي قد تكون غائبة او مجهولة لدي الرجال او لنقل مما يمنعهن الحياء النسوي الطبيعي من البوح به...
الرواية اذاً - رغم طابعها الادبي - تقترب في فصول وفقرات كثيرة منها ان تكون (رواية علمية) ايضاً بكل استحقاق، ومع ذلك العرض التاريخي للحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مرّ بها ناس وطنها لعقود وسنين ليست قليلة ستظلّ ذكراها جارحة لكل من عاشها وتعذّب بها وحتي لمن سمع بها أو قرأ عنها من الغرباء ممن امتلكوا ضميراً لم يتلوّث بعد...
اسلوبيات الكاتبة تدل علي خبرات كتابية وبما يتطلبه اسلوب الرواية دون الخلط مع اسلوبيات (القصة القصيرة والاقصوصة والقصة القصيرة جداً والنصّ)... ومن طريف مخيّلة الكاتبة واسلوبيتها: (طوال الطريق يراودني هاجس غريب... لقد تزوّجت بطريقة متطوّرة... آخر ما توصّل اليه العلم "تقصد عن طريق الانترنت"... واريد ان انجب بطريقة متطورة...آخر ما وصل اليه العلم " تقصد اطفال الانابيب"، سألت نفسي مبتسمة: هل يا تري كيف سأموت" أكيد في مركبة فضائية أو علي سطح كوكب لم يصل اليه البشر!) ص19... ومن جميل القول: (قال ساحر: لا تستطيع حاول غيرك، انها لا تردّ حتي علي السلام، فأجبته بتحدٍ: مفاتيح النساء بيدي، ولكل امرأة مفتاحها ! فردّ يوسف: ما لا تعلمه بأن (تيجان) حصن ما به ابواب ولا نوافذ، لا احتاج لباب سأنطّ من فوق السور... وفي موقف كادت فيه البطلة ان تنتهي لقسوة مفاجئة من حبيب غادر: (ما بالك يا ابنتي، وجهك أصغر وكأن الحياة غادرته... تجيبها ابنتها معللة: لقد توفيت احدي زميلاتنا... فسألت مستغربة وبحزن: مَنْ؟ لا تعرفينها... فردّت: إنا لله وانا اليه راجعون... الله يساعد اهلها) صدّقت المسكينة وهي لا تعلم بانني احتضرت الا قليلاً) ص45... هذه الـ (احتضرتُ) كشفت عن حالة نفسية حادّة تعذبت فيها البطلة... اعرف انك مغرورة، واعرف بأنك بعيدة عن الوسط الأدبي، وأعرف، وأعرف عنك كل شيء، ثقي أعرف كم غرفة في منزلكم، وأعرف اين تقع غرفتك بالذات، وفي أي جهة، وأعرف ماذا تحوي، وأعرف لون جدرانها، والوان ستائرها !)...
تكرار الفعل المضارع (أعرف) وبهذا الالحاح العنيد منح العاشق صفة المعرفة الكلية بما يتعلق فيمن تمناها ان تكون حبيبة... ومن الاسلوب الوصفي للكاتبة: (الخيمة السوداء، تحولت الي رمادية، فالفجر ارسل اشعته الفضية، أغمضت عينيّ مسندة خدّي الي زجاجها... واستسلمت للبرودة التي ارادت ان تقول لي شيئاً) ص 61... ومن جماليات القول والتعبير الرومانسي الشفيف: (فلا يمكن فصل الشمس عن النهار ولا القمر والنجوم عن الليل، ولا القبلة الصادقة عن الشفاه، ولا الضوء في تذبذبات الهواء الذي يتناثر في الفضاء، وبسرعة يتحول الي غبار ناعم ينكث بصفاء هادئ علي كل شيء) ص 62، وايضاً كتجربة حياتية شخصية: (قبل سنوات بدأت الكتابة بمحض الصدفة، ووقعت في الشرك، شرك المتعة، انقلبت الي حبّ وعشق، فالكتابة مطر الذاكرة! اننا حبر هذه الحياة، هي التي تكتبنا بالكلمات... والاحداث من صنع القدر وحده) ص 64... وهذه المسألة وان كانت شخصية فهي تملك عموميتها ايضاً، اذ تنعكس علي حالة اكثر من أديب... أما العبارة التي رأيتها متنافرة مع مجمل الحالات الانسانية التي كانت فيها الروائية ايجابية في احكامها، فهو هذا الموقف السلبي المفاجئ وغير المتوقع ومما لا ينسجم مع توجّه الرواية... تقول: (فالقذارة توجد حيث يوجد الانسان، أما علي صفحات الكتب فلا أظنّها موجودة، فالكاتب يتطهّر بالكتابة حتي وان كان قذراً في انسانيته!) ص 60...
أي قارئ او ناقد منصف سيتفهم مدلول هذه العبارات واحكامها - وكما هي من وجهة نظر الروائية، ولكن ألم تنتبه الكاتبة للعبارة المباشرة: (فالقذارة توجد حيث يوجد الانسان)، مثل هذا التعميم وبهذا الشكل من التحديد يبدو لي حكماً قاسياً لا مبرر له حتي مع حكاية (التطهير)... واذا كانت حالة هذا الاديب او ذاك هي (قذارة)، فان الف تطهير لا ينفع معها، ومن قال ان نتاج الاديب هو تطهير دائماً... واذا كان تشخيص الكاتبة لحالات قليلة، فهي اذاً (ندرة) لا يقاس عليها، ثم من سيقتنع ان غالبية الكتاب هي عمليات تطهير نقية... ان القذارة - وعلي وصف الكاتبة - لا نجدها في الكتب ملتصقة بالكاتب، بل ان مئات من الكتب ستمتلئ بسخامها فلماذا هذا التخصيص ؟ ولماذا هذا (التنظير) الذي لا يبدو مقنعاً بسهولة... بعد هذا ان عبارة: (القذارة توجد حيث يوجد الانسان) تحمل صفة عامة غير مقبولة، وليس شرطاً ان تقترن بحالة الادب والادباء... بصريح القول - ورغم أي دلالة تقصدها الكاتبة - فان كلمة (القذارة) هي صادمة، وكان تحاشيها من ضرورات التعبير، وكان ايضاً من السهل ايجاد بديل عنها او التلميح لها، وما أغني لغتنا وأثراها في مثل هذه الحالات... بعد هذا، فان (الصندوق الاسود)، رواية غنية ثرية صريحة جريئة بمعالجاتها واري انها جديرة بالقراءة والتقدير وانتباه النقاد كاضافة جيدة للمكتبة الروائية العراقية بخصوصية (ثيماتها) وترجمتها (لسيرة ذاتية حية) عبر اسلوب روائي مقنن وبامتياز (الحوار) الذي بدت فيه الكاتبة محترفة للغة الحياة ببساطتها ووضوحها وانها قريبة - وبحميمية - من ناس هذا البلد وكشاهدة أليفة لما حلّ بهم مع كل هذا الخراب الشمولي ومع اختلاف كل الازمنة والعهود.

*نُشرت الدراسة في جريدة (الزمان) في العدد (4069) بتاريخ 13/ 12/ 2011. طبعة لندن.

View gulizaranwar's Full Portfolio