دراسة خالد علي ياس عن رواية الصندوق الأسود

حينما يتأمل النص ذاته !
مقال في رواية (الصندوق الأسود) لكُليزار انور
خالد علي ياس
ناقد وأكاديمـي / جامعة ديالى
ترجـع علاقتي بأعمال القاصة والروائية العراقية (كُليزار انور) الى المرحلة التي كنت أعد فيها بحثي لنيل درجة الماجستير في النقد الادبي، وكنت حينها قد اطلعت على مجموعة قصص قصيرة متفرقة لها تنشر في الدوريات العراقية والعربية، لم يعلق في ذهني منها الآن إلا قصة أو قصتان مثل (ويبقى الوفاء) و (عنقود الكهرمان)، ولعل الأخيرة قد شدتني اليها في حينها لما تقدمه من معنى أدبي يعالج شكلاً أدبيا ينطلق من الخيال العلمي بأسلوب انساني بسيط ، وهي تحافظ ، في اغلب هذه القصص، على إنتاج شكل سردي يدمج في رؤيته بين الرومانسية والواقعية ويتماثل في تكوينه مع الشكل التشيخوفي الذي يستعير شريحة من الحياة ويتكون الحدث فيه محاكاةً للنموذج الارسطي القائم على بداية ووسط وخاتمة.
غير أنّي عندما قرأت روايتها الاخيرة (الصندوق الاسود) (1) تيقّنتُ أنّ ماكتبَتْهُ هذه الأديبة الدؤوبة من أعمال سابقة (قصص قصيرة / رواية) لم تكن الا تمرينات كتابية تستعد بها لانتاج عمل مهم يرسخ في الذاكرة النقدية الحديثة، لما تملكه من ملامح فنية تفارق بها هذه الاعمال وتلحقها بالكتّاب البارزين الذين سبقوها في هذا المجال.
لقد جاءت الرواية مُحمّلة برؤية فنية تجمع بين التجريبي والواقعي من خلال تبلورها حول بناء (ما وراء الرواية) الشكل الذي نضج واشتهر في اعمال روائية كثيرة سابقة للصندوق الاسود، سواء أكان ذلك على المستوى الغربي أم العربي (*)، ويدل هذا النوع من البناء بأنه معني بانتاج رواية حول الرواية او رواية شارحة لفن الرواية بحيث يتحقق بذلك قصد المؤلف في هدم الخيال السردي والاهتمام بدلاً منه بالانشاء الروائي (2)، وبهذا يعمل (الروائي) على تعطيل المعنى من خلال انتاج سرد جديد داخل سرده ، مما يعني انه ينبه القارئ باستمرار إلى عدم التظاهر في انتاج الخيال الادبي حتى يقربه من السرد / الخطاب الحقيقي المتداول (3)، كي تتحقق بذلك معرفة نصية تعمل على تحطيم مبدأ (الايهام بالواقع) وارساء مبدأ جديد ضمن جماليات التلقي الحديث في الرواية الجديدة (4)، بحيث يؤدي الى كسر افق المتلقي ونقله بأسلوب تغريبي من الواقع التخييلي في النص الكلاسيكي الى رؤية جديدة ، تتفهم النص وتتذوق خياله على وفق آليات جديدة متاحة ضمن مكونات النص ذاته وتتواءم مع مفاهيم قص ما بعد الحداثة.
وعليه يبدو هذا النسق البنائي في رواية (الصندوق الأسود) بؤرة ومركزاً جمالياً يتفجر منه السرد بتناوب هادئ عبر فصولها العشر؛ الفصول التي تتوزع بين روايتين، (رواية اصل) ينبع منها سرد سائد يتخذ من الفصول (1، 2، 3 ، 4، 6 ، 8، 10) مسرحاً له، و (رواية مشتقة) ينبع منها سرد مساعد يمنح النص فرصة كي يتأمل ذاته فنيا، ويتخذ من الفصول ( 5 ، 7 ، 9) مسرحاً له من خلال توليد سرد داخل سرد، ثم من خلال محاولات متكررة لزجّ الذات الروائية للمؤلفة داخل العمل، عن طريق ما يسمى نقديا بــ(السرفكشن) الذي يعني " دخول الروائي في الرواية " (5)، وبهذا تتوفر لأسلوب السيرة الذاتية آليات جديدة في التعبير الكتابي تتناسب مع تطور الشكل الروائي وبنائه الحديث، وقبل الولوج في تحليل الرواية على وفق هذا النسق، لابد من التفريق أولا بينه وبين أنساق بنائية قريبة لمنع اللبس على القارئ مثل (التضمين) و (نسق التناوب)، فالتضمين يتحدد مداه بإدخال قصة او مجموعة قصص داخل إطار قصة واحدة، الغاية منها توليد دلالة في المعنى الأدبي او لملء فراغ او تنويع، وتستمر هذه القصص (المضمنة) لمساحة سردية محدودة من مساحة الرواية الأصل (6)، أما التناوب فهو يقترب كثيرا من مفهوم ما وراء الرواية كونه يتشكل من خلال " سرد أجزاء من قصة ثم أجزاء من قصة اخرى... [ أي] وجود قصتين يرويهما السرد " (7)، بينما يكون شكل ما وراء الرواية – كما بينّا سابقاً – معنيا بانتاج رواية جديدة حول الرواية الأصل او رواية شارحة يتخللها ذكر الروائي باسلوب صريح، بحيث يعمد الروائي من ذلك الى خلخلة الاطر التراتبية وردم الحدود الفاصلة بين الحقيقي والمُتخيَّل، يصاحبه تداخلات مستمرة من الراوي تذكر القارئ أن ما يقرأه ليس سوى عمل مكتوب، لخلق تغريب مقصود وابعاده طوعيا عن الاندماج في عالمه.
لكننا في ضوء ما سبق توضيحه من بناء هذا الشكل الفني، لابد لنا من أن نتساءل قبل البدء بتتبعه في الصندوق الاسود، كيف تمظهر هذا الشكل في هذه الرواية؟ وهل تأثر بأعمال روائية سبقت رواية الصندوق الاسود في هذا المجال؟ وللاجابة عن هذين السؤالين نقول:
في هذه الرواية يتحقق نسق الماوراء انطلاقاً من مبدأين، احدهما هو سرد رواية داخل الرواية الاصلية باسلوب تقطيعي يأخذ بعنقي الحكايتين معاً، اما الآخر فهو متحقق بادخال شخصية الروائية/ المؤلفة داخل العمل المكتوب انطلاقا من وعي (السيرة الذاتية)، حيث يبدأ السرد من قضية ذات طابع انساني يتعلق بالانجاب والتطور العلمي الذي سهل هذه المهمة ممثلا بــ(طفل الانابيب) والقارئ يتابع رحلة البطلة وراوية الاحداث من العراق الى سوريا على أمل نجاح عملية زرع الجنين، حيث يتم استمرار اربع وحدات سردية متتابعة وباسلوب تقليدي ينهج مفهوم الحبكة الارسطية، لكنَّ التحول الحقيقي في البناء نحو ما وراء السرد الروائي يتأتى مع الجزء الخامس الذي يأخذ عنوان (ما قَبْل) وهو يمثل حكاية افتراضية تتلقاها البطلة من خلال (النت) "عندما ذهبنا للنت في المرة الثانية وجدت رسالة غريبة في بريدي من ايميل غريب ( blackbox@yahoo.com ) فتحتها عنوانها (الصندوق الاسود) وتحوي ملفاً بعنوان (ما قبل) " (8) وتدور احداثها حول حكاية حُبٍّ فاشلة تتطور شيئا فشيئا داخل الرواية الاصلية لتكتمل بعد ذلك بجزأين يتخللان باقي اجزاء الرواية الاصلية وهما بعنوان (المفكرة) ، (ما بعد)، يدور جزء (المفكرة) ضمن احداث واقعية تاريخية عن حرب الخليج الثانية، اما (ما بعد) فيكمل حكاية الجزء الاول (ما قبل) وهنا يتأكد تداخل شخصية البطلة مع شخصية الفتاة التي تدور حولها حكاية الجزأين، ويبدو الصوت السردي واحداً، يعود في حقيقته الى رؤى وايديولوجيا المؤلفة نفسها ، كأنّ افكارها تنثـال من داخل العمل وليس مفروضا من الخارج، ويتحقق هذا الافتراض من خلال امور عديدة منها: الاهداء (الى ابني الذي لم يأتِ!) وهو بالضرورة مرتبط بالمؤلفة، لكنه يغدو علامة دالة على مصير البطلة التي تبوء محاولاتها في الحصول على طفل بالفشل، فضلا عن الاشارة الصريحة الى أماكن تنتمي اليها الروائية مثل (الموصل) والمهنة التي تزاولها البطلة (موظفة في تربية الموصل/ قسم المالية) وهي مهنة الروائية في الواقع، مما يفرض تداخلا نصيا مع الواقع من خلال شخصية الروائية التي تستبطن السرد من بؤرة داخلية، ولعل عملية اقتحام النص هذه من قبل المؤلف تمظهرت في خطابنا السردي الحديث بأسلوبين، (الاول) من خلال الاشارة الصريحة الى المؤلف من دون ذكر اسمه، او الاحالة الى احداث شخصية تمسه وتمس حياته كما فعل من قبلُ الروائي والقاص زيد الشهيد في روايتيه (سبت يا ثلاثاء) و (فراسخ لآهات تنتظر) عندما صرح اكثر من مرة بأنه هو الروائي على لسان السارد فضلا عن اشارات صريحة الى حياته الخاصة (*)، اما (الثاني) فمن خلال اقتحام عتبات النص والدخول الى عالمه بشخصية واسم المؤلف نفسه كما فعل جليل القيسي في مجموعة (مملكة الانعكاسات الضوئية)، وهنا يتأكد تأثير هذين الاسلوبين معاً في رواية (الصندوق الاسود)، غير أنَّ اسلوب تقسيم الحكاية فيها – التي تحقق تقنية ما وراء الرواية – الى ثلاثة اقسم يحمل كل واحد منها اسما خاصا به يذكرني ذهنيا بالبناء الفني لرواية (موت الاب) لأحمد خلف التي عمد فيها على تقسيم المبنى الحكائي الى ثلاثة اقسام معنونة بالتتابع (الكتاب الاول)، (الكتاب الثاني)، (الكتاب الثالث) ولعل هذا ما دفع الروائية نحو التشبث بالجزء الثاني من حكاية الصندوق الاسود (حكاية النت) المبثوثة في جنبات الرواية الاصلية (الصندوق الاسود)، وهو بعنوان (المفكرة) كي توازن شكليا بين الحكايتين، تصل من خلالها بالنص الى نهاية مقنعة، على الرغم من أن هذا الجزء كان تقريريا مفارقا لاسلوب السرد الروائي وينهل من اسلوب المذكرات التي تدور حول حرب الخليج الثانية؛ ناقلا لنا الواقع كما هو من دون معالجة فنية " هذه اليوميات كنت ادونها يوما بيوم – وبكل مصداقية وخوف وترقب – لذا ارتأيت ان اقدمها مثلما دونتها دون اضافات وتزويق ادبي " (9).
انّ الوعي الكتابي للمؤلف يقوده، حتما، الى الانهمام بأساليب تقديم حكايته وتنظيمها بحسب ما يقتضيه علم السرد الحديث، ولعل فكرة (نرجسية النص) وتأمله لذاته من خلال امتصاص ذهنية المؤلف وتمثيلها عمليا من خلال الكتابة، واحدة من احدث هذه الاساليب في السردية الحديثة، لذا فإنّ (الوظيفة الاستشهادية) التي اصرت المؤلفة على اظهارها في لغة الشخصيات، اكبر دليل على هذه النرجسية، حيث يتم من خلالها استحضار نصوص ووثائق ومدونات ووقائع تاريخية وتنسيقها داخل الرواية/ النص وهو ما لاحظناه في جزء (المفكرة) ضمن المستوى التاريخي، وفي جزء (ما بعد) ضمن مستوى النصوص والمدونات والرسائل، كما توضح في رسالة (ماهر محمود) الى (تيجان شوقي) فضلا عن الاحالات المباشرة الى اعمال روائية مثل (فوضى الحواس) لأحلام مستغانمي و (ميرامار) لنجيب محفوظ و(جمهورية الصمت) لسارتر، وهي محاولات تجعل من (ما وراء الرواية) اسلوبا فنيا يكسر سلطة السرد التقليدي ويخرج عن السائد في الكتابة، فيكون " علامة دالة على تحوّل من سياق الى آخر بصيغة الخروج على عماد السرد السابق بقطع السياق بسياق آخر لتحقيق التجاوز الذي يعني تحقيق حيازة جديدة من العبور الى منطقة جديدة " (10) ، وبهذا يتحقق للرواية ما تصبو اليه من اقتداء بما سبقها من اعمال لكنها في الوقت نفسه تخلق تضادها له بالرفض والاندماج (11)، مما يوفر للنص خصوصية في اللغة والرؤى والبناء، وهي خصوصية تكاد لا تنفصل عن وعي المؤلفة بانتاج عمل مغاير لما هو سائد " أردت أن أكتب تساؤلي هذا، وانا استقبل اجزاء هذه الرواية، وحكاية بطلتها (تيجان). هل ستخرج يوما الى الدنيا هكذا شخصية تشبهني الى هذا الحد أو انا اشبهها؟! الشخصيات التي نكتبها معظمها من الحقيقة وليس من الحياة، ولكننا نكسوها بالكلمات لتكون أدبا، وحينها تولد شخصية قصصية وروائية " (12)، فهذا الفعل التواصلي بين المؤلفة والقارئ يزداد في مثل هذه المماهاة لأننا – هنا – لا نفرّق بين صوت المؤلّفة او صوت الشخصية في الرواية الأولى، أو الصوت في رواية الصندوق الأسود داخل الرواية الأصل التي تحمل العنوان نفسه، بحيث ينتج المعنى السردي على وفق قواعد تصوغها الروائية بوصفها –أي القواعد- موجهات نصّية لقراءة عملها الروائي مما يجعل الرواية نصا قابلا للقراءة والتصرف والانتاج، على وفق ما يناسب ذهنية المتلقي وثقافته.
وعليه فإننا حينما نتعامل مع رواية (الصندوق الأسود) لكُليزار أنور إنما نتعامل مع عمل واع في الشكل والرؤية يتفهم الذاتي والموضوعي معاً، عمل تتأمل فيه الروائية نفسها ولغتها، ليتأمل هو (النص / الرواية) نفسه في أعمال موازية له في النسق والبناء، وهو ما ينمّ عن رؤية للعالم تأخذ مداها الحقيقي في تقنية (ما وراء الرواية) مما جعل الرواية، بحق، مهمة فنيا وجعلنا نؤكد أنَّها أهم ما كتبته كُليزار في مسيرتها الأدبية حتى الآن.

( الهوامش والمصادر )
(1) الصندوق الاسود، كُليزار انور، المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ ط 1/ 2010.
(*) لقد تتبع ذلك الروائي والناقد عباس عبد جاسم في دراسته المهمة حول الموضوع (ما وراء السرد ما وراء الرواية) من خلال مقدمة نظرية وتطبيقات في الرواية العراقية.
(2) ينظر: مدخل لدراسة الرواية، جيرمي هوثورن، ترجمة: غازي درويش عطية، مراجعة: د. سلمان داود الواسطي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1996، ص 34.
(3) ينظر: نظريات السرد الحديثة، والآس مارتن، ترجمة: حياة جاسم محمد، المجلس الاعلى للثقافة، 1998، ص 239-240.
(4) ينظر: انماط الرواية العربية الجديدة، د. شكري عزيز الماضي، سلسلة عالم المعرفة، العدد ( 355 )، 2008 ، ص 140.
(5) ما وراء السرد ما وراء الرواية، عباس عبد جاسم، دار الشؤون الثقافية العامة، ط 1، 2005، ص 24.
(6) ينظر في ذلك: البناء الفني في الرواية العربية في العراق، ج 1 (بناء السرد)، د. شجاع العاني، دار الشؤون الثقافية العامة، 1994، ص 15. نظرية الادب، اوستن وارين و رينيه ويليك، ترجمة: محيي الدين صبحي، مطبعة خالد الطرابيشي، 1972، ص 289.
(7) البناء الفني في الرواية العربية في العراق، ص 34.
(8) الصندوق الاسود، ص 32.
(*) لقد توقفتُ عند هاتين الروايتين في دراستي الموسومة (وعي الكتابة – قراءة في الخطاب السردي لزيد الشهيد) التي سوف تُنشر في كتاب موحد بعنوان (حفيد اوروك) مع دراسات اخرى عن الشهيد لمجموعة من الاكاديميين والنقاد.
(9) الصندوق الاسود، ص 6 .
(10) ما وراء السرد ما وراء الرواية، ص 25.
(11) ينظر: عالم الرواية، رولان بورنوف وريال اوئيليه، ترجمة: نهاد التكرلي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1 -1991، ص 192.
(12) الصندوق الاسود، ص 153-154.

• نُشرت الدراسة في جريدة (الأديب الثقافية) في العدد (187) بتاريخ 7/ 9/ 2011.
• و نُشرت في مجلة (عود الند) العدد (65) لشهر تشرين الثاني/ 2011.

View gulizaranwar's Full Portfolio