دراسة عبد الغفار العطوي عن رواية الصندوق الأسود

كليزار أنور في الصندوق الأسود:

سيرة ذاتية لامرأة عاشت الحرب
نساء يتشاطرن المحنة

عبد الغفار العطوي

عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الأولى 2010 صدرت للقاصة والروائية العراقية كليزار أنور روايتها (الصندوق الأسود) التي تبدو للقارئ عبارة عن انطباعات خاطفة عن حقبة من تاريخ العراق الحالي، أي بعد ما يسمي بفترة التغيير عام 2003م على شكل سير ذاتية لأكثر من امرأة عاشت الحرب، عندما تكون هذه الحرب واقعة بين العلن والخفاء، والمرأة فيها لا تتفرج أو تراقب فحسب، بل تجد خصمها الغامض يحثها على الصراع في دوامة النضال من أجل البقاء وإثبات الهوية التي هي أصلاً مفقودة بالنسبة لها، وحينما تكون الحرب لعبة كالحب تماماً في عيون نساء كليزار أنور، تصبح سيرهن الذاتية سروداً لآلاف القصص التي تكشف بشاعة هذه الحقبة التي تتدخل الكاتبة من حيث لا تدري في لعنها، وإلقاء تبعة مسؤوليتها على كاهل الشعب العراقي الذي تقول عنه بطلتها (تيجان شوقي) الموصلية التي تمثل وجهاً آخر من وجوه القاصة إنه هو السبب في النكسة الحالية، في تصفيقه لصدام حسين وفي المساهمة في تحطيم تمثاله في ساحة الفردوس في 9 نيسان عام 2003م في الوقت نفسه، والروائية كليزار أنور تدرك إن مشروع روايتها هذه سيؤلب عليها ضغائن المختلفين مع انتقاداتها الحادة، للمرحلة حيث على ما يبدو لم تترك فرصة لرؤية الأمل أو بصيص منه، كأنما هي غلقت الأبواب على جثة نتنة حية في عرف الناس ميتة في قرارها، فمن أين جاءت الكاتبة بكل هذه القسوة وقذفتها في الرواية، التي أظهرتها نسوتها وهن اللاتي تحملن آلام ومعاناة فقدان الحب والأمومة وزيارتهن للمشافي والمنافي من أجل أن يبتسم في وجوههن أمل ؟! إذن لابد من وجود أسباب وجيهة اضطرت الكاتبة أن تخلق نسوتها بهذا النمط من الحساسية الزائدة إزاء انتكاسة شعب أو إخفاق مجتمع، وقد يقول قائل مال لهذه التجربة التي عصفت بالشعب العراقي لا تظهر إلا على هذه الصورة البشعة التي صورتها الروائية في روايتها! هذا القول يمتلك الكثير من الصواب، لكن الروائية وهي تخلق شخصياتها لا تشترط عليها التحدث باسمها مطلقاً، وفي كل الأحوال، وكما حدث في هذه الرواية الكاتبة قد أطلقت العنان لمخيلة الساردتين في القول والبوح بكل ما في ضميرهما من أورام سرطانية حول قضايا ذاتية جاءت هكذا في سياق قضايا البلد والمجتمع، لأننا لا يمكننا إنكار إن هذه الرواية هي خاصة بالنساء، الرجال مبعدون ومدانون وسلبيون وخائنون، وفيهم كل نقائص الإنسان السلبي، وحدها المرأة تكتسح عالم الرواية الأسود، وحدها التي تكتب وتتخيل وتكره وتحب وتحارب وترى الحب والحرب، وحدها تموت وتحيا، ولهذا لا تثريب عليها فيما تقول وتقترح في الرفض والقبول، الرواية السوداء التي تؤمن بحضورية المرأة وعيون المرأة المفتحة والدردحة التي تجيدها لغة وسرداً وخطاباً، عالم يوشك أن يقتلع الرجل من صنع القرار والمشاركة السلبية في العيش المشترك المتوازن، الرجل الخائن كـ(ماهر) أو السارق للجسد كـ(ريان) أو السارق للحياة كصدام حسين (لأنه جاء اسمه في حركة السرد) ولمزيد من التعرف على الرواية عن كثب من منظار محايد، غاية الكاتبة التي لا تنفصل عن غايات الساردتين اللتين قاسمتاها السراء والضراء في الخلق والخلق، قدر المرأة في الرواية لم اختارت الظهور بهذه الكيفية من إدانة صريحة للرجل وللمجتمع ؟! وكيف حصل هذا الخلط في رؤية الواقع بالنسبة للجميع على السواء حتى إنه قد أصبح من الصعب إلقاء المسؤولية على أحد، في النقاط الأساسية التالية: ــ
أسرار النساء
القاصة والروائية كليزار أنور تدلنا على مفتاح القضية في هذه الرواية، في معرفة أسرار النساء وما جرى لهن في نهاية الرواية، حيث توضح لنا الآليات والخطوات التالية في صناعة الكتابة بالنسبة للساردتين المشاركتين اللتين لم تلتقيا مطلقاً، سوى في مخيلة القاصة وفي الرواية، ويرجع السبب في هذه الخطوة الحاذقة هو تجنيب الكاتبة تبعات ما آل لنسوتها من تحولات قد تتهم هي باختراعها أو الحض على تدبيرها، لأن الفصل بين الكاتبة المفترضة والساردة الأولى، والثانية من الصعوبة بمكان يتعذر فيه نقل مشاهد الرواية، لوجود قواسم مشتركة بينهن، نذكر منها المكان الأصلي وهو العراق القاعدة الجيوبوليتيكية لرؤيتهن البصرية والنفسية والايكولوجية، والحاضنة الحربية التي تكتنف ردود أفعالهن حيث التتابع العرضي لمشاهد الحرب (خاصة حرب 2003م) والتسلط القهري العامودي لآثار الحرب على صناعة شكل وبنية النسوة الثلاث، الكاتبة المفترضة والساردتين الأخريين، والوعي الثقافي في رؤية العالم بوصف النسوة الثلاث المشتركات مع بقية النسوة في عالم الرواية الافتراضي يمتهن الكتابة القصصية والروائية، وهذا يشير من طرف خفي و بإصرار شبه يقيني وثابت، إن هؤلاء النسوة الورقيات مشتقات من روح القاصة والروائية، من مخيلتها ووعيها وثقافتها، سربتهن إلى الممكن وقيدتهن بالأحوال والظروف التي تعيشها المؤلفة، وهذا ما نجده في صفحة 153 تقول الساردة الأولى الأقرب لروح المؤلفة التي تحظى بالقدر الوافر من التشابه : وفي الأيام الأخيرة قرأت (الصندوق الأسود) التي أرسلت لي على شكل دفعات عبر النت وتساءلت مع نفسي كثيراً وبقي السؤال يتفرع إلى أسئلة ــ هل كتبت أنا شيئاً يستحق القراءة، وهل يكون ما كتبته يوما ما مهماً، أو يلفت الانتباه لا أظن ــ ــ ــ أردت أن أكتب تساؤلي هذا وأنا أستقبل أجزاء هذه الرواية وحكاية بطلتها (تيجان) هل ستخرج إلى الدنيا ــ ثم تعترف القاصة المفترضة دون أن تدري بالحقيقة : هكذا شخصية تشبهني إلى هذا الحد أو أنا أشبهها ؟!الشخصيات التي نكتبها معظمها من الحقيقة، وليس من الحياة ولكننا نكسوها بالكلمات لتكون أدباً، وحينها تولد شخصية قصصية وروائية، وتستدرج القاصة المفترضة القاصة الحقيقية إلى مصيدة الاعتراف بالحقيقة، وهي إحدى لعب كليزار أنور المهمة التي اجترأت على فضحها للقارئ بالتدريج وفي آخر العمل الكتابي حينما لم يعد في القوس من منزع، وانتهى الحفل الختامي بخيبة الساردة الأولى من الولادة المريحة، والساردة الثانية بالغربة عن زوجها ووطنها وطفلها، فما دامت القاصة كليزار أنور قد خابت مساعيها في الحياة فهذا يعني الخيبة في السعي للنساء جميعهن، ألا تبت الصفقة وخاب السعي وباءت الآمال، وولدت عقدة الكراهية للآخر فتقول في 154 وهكذا وجدت (الصندوق الأسود) يطفو فوق الأمواج ليصل إليّ مكتوباً بلغة مشحونة بالعاطفة، لغة أخرى تختلف ص 155 عن كتابتي، لغة ربما هي أكثر عصرية، من عصرنا الراهن ــ وتظهر شخصية القاصة الحقيقية في الصفحة نفسها في النهاية حول الرواية المرسلة (عنوانها رمزي يوحي لنا بأن ما حصل في العراق انفجار هائل ــ ــ ) وتكشف الروائية أوراقها دفعة واحدة للقارئ في ص 156 (لقد وضعتني هذه الرواية أمام مسؤولية كبيرة، أشعر بها كهم ثقيل يجثم على صدري، هم يفوق محنتي التي وضعني القدر في دوامتها) من هنا نحن نتساءل هل هذه الرواية هي ترسيم خطي للقاصة كليزار أنور قسمتها على نساء شاطرنها المحنة، في السلام المعطل والحرب المستعرة، وفي الترقب بانتظار القادم من الغيب، أم هي حقاً كما تقول الكاتبة المفترضة ؟! بيد إن الصلة بين الاثنتين، أي بين الساردتين لم تكن من الوضوح لتقوم الثانية بإرسال الرواية على ايميل الأولى، ولم ترسل روايتها بهذه السهولة من رسالة استعطاف وتوسل، فيبقى الطريق الوحيد المنطقي والمعقول هو إن القاصة تتسلى مع القارئ وهذا هو إجراء من إجراءات سرديات ما بعد الحداثة حيث الخيوط السردية تنتهي عند إبرة السارد الأول ألا وهو المؤلف. "ست عشرة امرأة متفاوتات الأعمار سوريات وعراقيات موجودات في المشفى الأنيق في سوريا، على كل سرير حكاية امرأة كل حلمها أن تكون أماً ذات يوم" هو عالم الرواية الذي ينفتح على خطاب الساردة الأولى العراقية التي تعاني العقم وعدم الإنجاب، لتبدأ الرواية بمراقبة دقيقة من قبلها لأحداث ساخنة، النسوة العقيمات والآمال العريضة في الإنجاب في الغربة ومخاطر العمليات الجراحية المحفوفة بالتوقعات، وبعدها تنطوي الساردة على سيرتها الذاتية، كاشفة عن شريط حياتها في العراق في الزواج غير التقليدي (عبرالانترنيت) من رجل يشبهها في امتهانه للكتابة الثقافية، لكن هذا الزواج ظل ينقصه الأمل والدفء وضحكة براءة أو كما تقول الساردة (ضحكة طفل تملأ بيتنا الدافئ بالحركة والحيوية) ص 18 من هنا تنعطف رؤية الساردة الأولى لكيفية الكتابة السردية، حيث تنتقل من الكتابة عن الحب الذي طالما توقعته يشكل حياتها إلي الكتابة في تفاصيل رحلة مضنية وشاقة بعيداً عن الوطن، وفي مخاض عسير وجري حثيث للإنجاب بطريقة متطورة لمشروع طفل الأنابيب، وهي إشارة وإن بدت اعتيادية في عصرنا لامرأة تعاني مشكلة في الإنجاب، غير إنها ترمي إلى وجود مشكلة خارجية على مستوي البلد وظروفه العسيرة التي تشبه ظروفها البيولوجية تقول الساردة نفسها في ص 19 (طوال الطريق يراودني هاجس غريب ــ لقد تزوجت بطريقة متطورة ــ آخر ما توصل إليه العلم ــ وأريد أن أنجب بطريقة متطورة أيضاً وبأخر ما توصل إليه العلم سألت نفسي مبتسمة : هل يا ترى كيف سأموت ؟ أكيد في مركبة فضائية أو على سطح كوكب لم يصل إليه البشر!) يعني المشكلة أكبر من أن تكون عملية البحث عن طفل إلى الكيفية في الوصول لأقرب الطرق لإنجابه، مما يفسر لنا القلق الذي تبديه الساردة الأولى الذي يتنامي لدى الرجال قبل النساء في دلالة واضحة على اتهام صريح يجرح رجولة الرجال في مسألة العقم، هي تقول بصراحة عن ذلك كأنها تلوح لأعمق من جرح كبرياء رجولة إلى فضح خيانة بلد يتلوى تحت ولادة عسرة هي تصرح في ص 20 (زوجي كرجل يعرف ما الذي يخشاه الرجال ــ الاتهام بالعقم! وهذا الاتهام كأنه يقتلع الرجولة فيهم ليحولهم إلى ـ مجرد ـ هشاشة، كان يعرف ما الذي يجول في خاطرهم، وهو يدرك جيداً معنى الأمر، لأنه يتفهمه ولا يعيره أهمية ويدركه، ولولا إصراري لما حضر معي نهائياً، وجدته يحدق في الرجال واحداً واحداً ويدقق في ملامحهم، بل يكاد يحفظها لأنه يستدرج الوجوه ـ بخبرة أديب ـ إلى مخيلته فهو يعلم معاناة رجل تزوج وعرف بأنه فاقد للرجولة ولو اجتماعياً فقط! يبدو بعيداً كل البعد عن التفكير بذاته لكنه يفكر بكيفية تفكير هذه الرجالات التي جاءت من العراق إلى هذه العيادة) ولعل قلق الساردة الأولى في محله إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار تشابه الحالتين الخاصة بالنسبة لها، والعامة بالنسبة للبلد، العسرة موجودة في كلتا الحالتين، والتحدث بصوت عال عن قضيتيهما أمر معقول وطبيعي في ظروف عويصة كهذه الظروف السيئة التي يمر بها العراق وطناً ومجتمعاً، وكان لا بد للساردة أن تسهب في تفاصيل رحلة العلاج ومشاق العمليات الجراحية في عالم الغربة، وإن كانت سوريا المحاذية لبلدها، للزيادة في تعميق غور الغربة الإنسانية التي تشد القارئ لعالم الرواية وكان يمكن لهذه الرواية أن تنتهي إلى هذا الحد، حيث المرأة الكاتبة التي تبحث عن طفل بشتي الوسائل، لولا ما جاء في ص 32 من رسالة غريبة في بريد الساردة على النت من ايميل غريب عنوانها (الصندوق الأسود) وهي على أجزاء ستتسلم منه الجزء الأول (ما قبل) دون ظهور مرسله، والتحول هذا يعطي للرواية بعداً سردياً هي بحاجة إليه بعد أن بدا عليها الاختناق، وفتح باباً ليس من السهل غلقه بيسر، مادامت السيرة الذاتية الخالصة للساردة الأولى سربت الملل والسأم للقارئ الذي أثارت حفيظته الأننية التي تتعامل بها هذه المرأة مع المكان والزوج والنسوة والأطباء والممرضات، بل هي من طرف خفي تلعن القدر وتخصي عالم الرجولة، لتبقي على عالم المرأة خالياً من أية مناكدة، عالم مخملي ساحر لا يتوافق مع شروط الواقع الذي تصفه الكاتبة على لسان المرأتين، من هنا جاء التعجيل بكسر التتابع النمطي للرواية عن طريق الرسالة التي تصفها الساردة الأولى بالغريبة وهي ليست كذلك، إنما هي عبارة عن خاطرة من خطرات الساردة الأولى والقاصة المفترضة ــ كيف ؟!
أ ــ الصندوق الأسود رواية الحب الخائن المدنس الذي أشعله الرجل (ماهر) في ساعة ضعف فحولي نابع من رجولة متحدية مجروحة قبالة امرأة كاتبة (أنظروا كاتبة!!) تمتاز بالشهرة الأدبية العريضة في وسط مجتمع أبوي منغلق متزمت (الموصل) يجعل منها نواة للاتهام العام الشامل للعالم والمجتمع، البطلة والساردة الثانية واسمها (تيجان شوقي) تتخذ من الخيانة التي وجهت إلى انوثتها المثالية ذريعة لمحاكمة الوطن والشعب والعالم بالاستعراض الساخر لآلام الناس بحجة الكتابة عن العراق الجريح، هي في الحقيقة تكره الرجال كلهم في الوطن ، وتتمناه وطناً بلا رجال، والدليل إنها عندما تزوجت من المهندس الموصلي الذي ينتمي لها بصلة القرابة لم تخبره بحبها الفاشل الذليل، وفضلت الابتعاد في زواجها منه عن العراق (سافرت إلى دبي/ الإمارات) لأنها لا تريد أن تشعر بالهزيمة مرة أخرى، وفي فورة حقدها على الاحتلال والعراقيين بعد الاحتلال غيبت فعل الحب لزوجها بإقصائه إلى الدور الهامشي كما فعلت الساردة الأولى، وقامت بصب جام غضبها على الأوضاع بعد عام 2003 في رواية سيرية مؤرخة عن امرأة عاشت الحرب غير المقدسة.
ب ــ معالجات الرواية الأصلية (عبر الايميل) لا تتطابق مع الترميمات الفكرية والسيميولوجية التي تنزع الكاتبة المفترضة إلى إظهارها، بمعني هناك برزخ غويط يحول بين الالتئام المبدئي الذي حرصت القاصة الحقيقية على لحمه جهد الإمكان ، من هنا بدا الجر والعت ينتابان الكتابة السردية، كأنما هناك جهة تحرك العملية السردية تقف على بعد إيديولوجي (مؤسسي) ترمي إلى قبول نوع من الكتابة والترويج لها في الطباعة والنشر والتوزيع، لأن الرواية معمولة على قالب هات وخذ، خاصة في الجزء الثاني من الرواية المرسلة (المفكرة) التي استغرقت من الصفحات من ص 71 حتي ص 99 (التي قدمتها تحت ملاحظة : هذه اليوميات كنت أدونها يوماً بيوم وبكل مصداقية وخوف وترقب ـ لذا ارتأيت أن أقدمها مثلما دونتها دون إضافات وتزويق أدبي) و فاضت كفة الحرب المسجلة لغير صالح الأمريكان والنظام الجديد الذي جاء في ركابهم، كانت البيرغندا التي طفحت بها المفكرة تلعن سنسفيل المحتل ومن طأطأ رأسه لريح الاحتلال مع كيل الاتهامات من باب النكاية لصدام حسين ونظامه، هكذا تزدحم مفكرة امرأة سيحتفي بها في الجزء الثالث (ما بعد) على طريقة الأفلام العربية في (دبي) كواحدة من عبقريات الكتابة النسائية العراقية التي أطارت لب رئيس تحرير مجلة إماراتية واسعة الانتشار ومقروءة في أنحاء العالم العربي وإعجاب صحفية لبنانية مسكينة تعمل بالمجلة نفسها ولا تجد وقتاً للكتابة الأدبية، التي تنحدر من معاقل التزمت الثقافي في العراق، خاصة فيما يخص الثقافة النسائية، إذن كانت المعالجات غاية في الحراجة بالنسبة للنسوة في الرواية المسكينات ما يعملنه هو خارج نطاق القدرة في بلد ابن كلب لا يعترف إلا بالفحولة إطاراً ثقافياً لمعرفة حقيقة ما يجري، أهكذا هي الحقيقة سيرة عابقة بالخيانات والحروب والقتال حتى النصر، وقراء يحتفون بكل ما هو ظاهر ومؤسسات تشتري الذمم لتحتال على قبول الشعب بأجندات معينة .
ت ــ العقدة النفسية القائمة على كراهية الرجال التي تحملها النسوة في هذه الرواية تجعل المشاهد الساخنة التي تجمعهن معهم قليلة وهامشية وغير مؤثرة تماماً على سير الأحداث، أي الرجل هنا حاله حال الرجل في الحكاية الخرافية لا يظهر إلا في نطاق الممنوع، أما في المقابل فتبدو الثرثرة من نسق المألوف بين النسوة في الرواية، حدث هذا بين الساردة الأولى وزوجها في العراق قبل الزواج وبعده، وفي سوريا في الشقة والمشفى مع إن الزوج هو ند لها باعترافها هي كونه أديباً مرموقاً مثلها، وكذلك حدث بين الساردة الثانية وزوجها المهندس في (دبي) بالاختفاء المنظم له بحجة العمل، والتزامه الخمول وعدم الفاعلية في مسألة الرفض او القبول بعملها بالمجلة، وكذلك حدث لـ(ماهر) الخائن من عقوبة قدرية على أثر فعلته الشائنة من سلسلة من النكبات أولها خسارته لحبها باعترافه لشهريار (الاسم المستعار لتيجان في المجلة) إلى جحود أمه الانجليزية التي لم تقبل به، إلى (ديانا) السويدية التي تركته الخ.. بينما تتبسط النسوة على قدر المستطاع في الطيبة والسماحة، ويبرزن في كل المشاهد الساخنة والفاترة، ويتسيدن الأحداث في سير ذاتية، كأنما عشن وحدهن الحرب، يراقبن عن كثب، ويقلبن الوقائع، ويخضعن الحوادث للقيل والقال، من هنا تبدو القضية فيها إن!! ولم لا وكل الشواهد تؤيد ما هو مثير للريبة، ولعل القراءة العميقة للرواية يشخص المواقف المتوترة للنساء في نظرتهن للحرب، فهل المرأة العراقية، ناهيك عن المرأة الأديبة هي أقدر على وزن الحرب بهذه الدقة، أم إن العملية لا تتعدى إلى حدود اللعبة السردية، أو الاستغماية السردية بين الروائية والقارئ ؟!
الحب والحرب
ث ــ الرواية (الصندوق الأسود) هي الأساس الذي بني عليه عالم كليزار أنور الروائي، فلولاها ما كان سيحصل! لا شيء ؟ لقد سبكت المؤلفة اللعبة جيداً، لعبة أن يقوم القارئ بالإشارة إلى زيف الأقنعة، وأن يومئ إلى البراءة التي تضمنتها غاية القاصة، وإن الحب والحرب وسردهما ممكن على الورق مثلما هو في الواقع، وإنه يجوز التنصل عن الحكاية برمتها، فالرواية تقع بين مجس الكتابة ولا نهائية الحلم (انظر الغلاف الأخير للرواية) فالكتابة والحلم ــ مرادفتان متداخلان من معنى واحد عندي، تمنحانني افتراضاً بأن الكتابة حياة! من هنا لا نجد مناصاً من القول إن كل ما جاء في الرواية من حقائق يظل مجرد حلم في مخيلة القاصة فحسب.
4 ــ التكنيك السردي الذي غشى الرواية قد اعتمد على مزاج القاصة في عرض قضية امرأة عانت الحب والحرب، على انفراد أو معاً وخسرت فيهما الرهان، وميلها إلى جعل التاريخ معطى سردياً، ولقد نزعت نحو برم الحوادث التي هي أكثر واقعية وسطحية لتعطي للقارئ انطباعاً بإمكانية جذب الوقائع التاريخية إلى حركة السرد على إن التاريخ سلسلة من السرد المتواصل، نجحت أم أخفقت!! المسألة أكبر من هذا العنوان، تتتعلق بوضع المؤلفة لأطر الفهم لعالم يتغير بسرعة لا تصدق ولا يمكن تخيله إلا وفق السيرة الذاتية للإنسان.

* الصندوق الأسود رواية كليزار أنور المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
‏*نُشرت في جريدة (الزمان) العدد (3996) الصادر في 14/ 9/ 2011/ طبعة لندن.

View gulizaranwar's Full Portfolio