الصروح

Folder: 
قصص قصيرة

قصة قصيرة....... كُليزار أنور

الصروح


 _ يا جدتي: اني رأيتُ خمسة صروح.. كلما شُيد صرح ونما وعلا انهدم بإشارةٍ مني.. خمسة صروح متعاقبة تنهدم في جزيرتي.. أتركها غير آسفة وأركب مركباً صغيراً لهُ شراع أبيض ليأخذني إلى جزيرةٍ أُخرى أجمل منها وأرقى.. ومن بعيد أرى صرحاً يُبنى.. أتأملهُ وأتأمل في نفسي أن أعيش فيه وما أن أضع قدمي هناك حتى يمتد أمامي بساط أحمر ليوصلني إلى ذاك الصرح العالي _الأشبه بالقلعة_ فأدخل وأستفيق!
 قالت ونظراتها تذرع المدى البعيد:   
 _ يا ابنتي.. والعلم عند الله.. سيمر في حياتكِ خمسة رجال، وبقناعتكِ وحدكِ ستكونين الطرف الحاسم للقضية، وأنتِ دائماً مَن يقلع نبتة الحب التي تنمو بينكِ وبينهم.. وحتماً لظروف وأسباب نحن نجهلها الآن.. وستغيرين مكانكِ بعدها وسيكون التغيير نحو حياة جديدة وحبٍ جديد في أرضٍ جديدة.. وهناك ستجدين النصيب الذي ينتظركِ.
 هذا ما قالتهُ لي جدتي وأنا فتاة لم تكمل عامها العاشر بعد.
 واحترقت السنين من بين أيدينا.


*          *          *


 عزت
 وما الحب إلاّ للحبيب الأولِ _أظنها_ عبارة ساذجة لا تتماشى مع عصرنا.. فلم يبقَ من عزت في قلبي سوى غصن ذكرى.. وغصن يابس! كنتُ حلماً جميلاً في عينيه.. ترك خطيبته _ابنة عمه_ من أجلي.. حينَ فعلها دخلَ حياتي.. أشعرني بأنهُ ضحى بها إكراماً لي.. لا أنكر بأني أحببتهُ، فلكلمات الحب فعل السحر في القلوب.. لم أستطع أن أُقاوم أمام تأثيرها.. كيف؟ فهو أول مَنْ طرقَ باب قلبي.. وماذا تفعل فتاة صغيرة، بريئة لم تكمل ربيعها الخامس عشر أمام إنسان حساس، رقيق المشاعر؟ ما سمعتُ أجمل من غزلهِ الذي يسمعني إياه كل ليلة عبر الهاتف. سنة ونحن على هذا المنوال.. وكلما سألتهُ أمراً يقول: دعيني أُخبر أُختي. وأختهُ كانت كل شيء في حياته.. هكذا قالت، هكذا حكت، هكذا افعلوا.. وفي النهاية تركتهُ لأختهِ. بردتْ علاقتي معه تدريجياً.. حاول أن يتقرب، ولكني كنتُ قد قررت.
 وسُحبتْ قصتنا من وجود الأيام كما تُسحب لوحة رسام قبل أن يُتمها!

 جمال
 القيثارة العتيقة كما يحلو لي أن أُسميه.. فقد كانَ مثقفاً قديماً. اقتحمَ حياتي عنوةً وفرض نفسه.. رأيتُ فيه بعض أحلامي.. هادئاً، مثقفاً، ولكن لا يتكلم عن نفسه إلاّ بقدر ولا يتفوه إلاّ بميزان، وحديثه دائماً عن لحظةِ الحاضر التي نسكنها. شعرتُ بأننا في صحراء شاسعة والتقينا فيها غرباء! هدوؤه كانَ لغز بالنسب لي! وجدتهُ مثل مدينةٍ لم أعثر لها على باب.. فكيفَ أدخل؟ الغموض يحيط به من كل النواحي.. لم أستطع الدخول إلى عالمه! مرت سنتان على علاقتنا ولم يقل لي سوى كلمات الحب.. ومتى كان الحب مجرد كلمات؟!

 سمير
 ماذا أقول عن سمير.. هذا الفنان الإنسان.. الرقيق كنسمة والجارح كحد السيف.. يعشقني ويكابر.. وجوده أيقظ في جوانحي إحساساً عميقاً بجمال الحياة.. كالنسمات الطرية التي تصادفنا أيام الربيع.. أحببتهُ ملءَ كياني.. كان يحبني بغرابة.. بطريقة رسم لوحاته.. وهي طريقة لا ترضيني. هناك الكثير الذي جمعنا والقليل جداً الذي فرقنا.. وخرج من حياتي كفقاعةِ ماءٍ من بحر!
 وأسأل: كيفَ تحولت تلك النار التي كانت ألسنتها تحرقني إلى ثلجٍ يملأ دواخلي؟!
 معصوب العينين يدور في ساقية الغرور.. وليبقَ وحده!

 فارس
 أشقر عيناه بلون السماء في نهارٍ مشرق.. ربما أحببتهُ لهذا الشيء. يُبدي لي كل مشاعر التعلق والاستلطاف كلما رآني.. اهتمامه الزائد أثر بي.. وما أن أعطيتهُ الضوء الأخضر حتى تحول إلى إنسانٍ آخر.. مراهق يتبعني هنا وهناك _رغم انهُ في الأربعين من عمره_ شعرتُ بأنهُ يشحذ الحب مني.. لم يبقَ سوى أن يركع أمامي.. والمرأة ترفض دائماً أن تنتشل ما بين قدميها!

 أمير
 أعجبتني ثقافتهُ أول الأمر.. وهو ممتاز بجاذبيته وصفاته.. لا غبار عليه _حقيقةً_ أحبني قبل أن يراني، واختارني كزوجة قبل أن يأخذ رأيي.. تصور بأني لن أرفضه.. لكن ما أكثر مَن يحبوننا ونحن لا نشعر إزاءهم إلاّ كأخوة. وسيلة تعبيره الوحيدة.. رسائل يبدؤها بِقالَ فلان وحكى علان.. حين التقينا ، قلتُ لهُ: 
 _ وأنت ماذا تقول؟
 لم يستطع الرد!
 والاخوة من طرفي كانت الباب الذي أُغلق دونه.


*          *         *


 تلك الوجوه اختفت.. وربما امحت من ذاكرتي.. لم يبقَ منها سوى ذكرى حنون.. فالصداقات تتحول تدريجياً ومهما بدتْ قوية في الظاهر فسرعان ما تنحل إذا لم تدعمها الألفة الصادقة من الطرفين.. ولم يفد طرقهم على بابي من جديد لأني أغلقتهُ بوجوههم ولن أفتحهُ ثانيةً. 
 كلما كبرنا تغيرت مفاهيمنا للأشياء.. غادرتُ الحب إلى العمل الجاد.. ويبدو بأن النسيان قد استطاع أن يغزل شباكه بصورة محكمة حول قلبي.. أغلقتُ الباب وأغلقتُ معهُ كل أفكاري عن الماضي، وقررت مع نفسي أن لا أُعطي وقتي سوى لمستقبلي ودراستي.
 حتماً هناك مَنْ يتحكم برسم خطواتنا دون أن ندري وليسَ باستطاعتنا أن نمنع كثيراً من الأشياء التي تحصل لنا! ولكن، للحياة دائماً قابلية على التجديد.. وحاولتُ أن أضع خطوطاً جديدة لحياتي.
 كانت "باريس" بالنسبة لي الطلسم، كلمة السر.. كنتُ أعتبرها المفتاح الخرافي الذي سيفتح لي أبواب الحب والسعادة والنجاح.


*         *          *
 
وائل
 الفنار الذي أرسلَ لي النور بعد أن بقيت سفينتي ضالة دهراً.. فاتجهتُ نحوه أبحث عن الأرض، الأمان. رجل هادئ، رصين، منطقي.. لا يهزه شيء.. هذا ما كنتُ أبحثُ عنه! يتكلم بلباقة.. مُحدث بارع.. خلال دقائق استأثر بمحبتي وإعجابي.. استمر والاستمرار في النهاية هو الذي يقرر المصير.. وكل شيء!
 يتأملني بانبهار.. كخبير آثار مدهوش بتمثال رآه لأول مرة.. ومنذ اللحظة الأولى سقط القناع.. وبدا لي الوجه الحقيقي. انهُ يختلف عنهم.. يتكلم لغة جديدة.. يسلك سلوكاً مختلفاً.. إنساناً مرموقاً، متفوقاً، خلوقاً ووسيماً.. وأبواب الأمل العريضة مفتوحة أمامه.   
 وائل.. الواحة التي استلقيت في فيئها بعد أن هدني التعب.. حلمي الذي وجدتهُ أخيراً. ركبنا معاً قطار الأمان الذي سيمضي بنا إلى آخر محطة تمنيناها!


www.postpoems.com/members/gulizaranwar

 

View gulizaranwar's Full Portfolio