شكوى

Folder: 
قصص

قصة قصيرة

شكوى

غانم خليل

كانت تخونه الشجاعة كلما امسك بصندوق صوره القديمة وهمّ بفتحه، ثلاثون عاما مرّت علي آخر نظرة القاها علي صور شبابه الذاهب قبل ان يودعها ذلك الصندوق المنسي. اما الان فعليه ان يفتح هذا الصندوق، لا ليراها متجرعا الحسرات بل لتراها أمّة باسرها.
وبيد مرتعشة، فتح البروفيسور الصندوق لائما نفسه علي قبوله عرض اشهر قناة تلفزيونية بإجراء لقاء معه، بعد ان رفض هذا العرض المُغري مرّات عديدة فيما مضي.
قفزات من مراحل العمر المذهلة سجلتها الكاميرا في السنين الخوالي، تنتشر أمامه الآن صورا تحكي - عبر صمتها الأبدي - سيرة حياته الحافلة بنجاحات لم تعنِ احداً!. ومن بين عشرات الصور، استوقفته صورة واحدة، صورة فتيً نحيف يتوسط مجموعة من التلاميذ واقفين مشدوهين امام تمثال الثور المجنح في المتحف الحضاري.
وانتهت المقابلة التلفزيونية، وهدأت فورة الإعجاب الجماهيري الواسع شيئا شيئا. ولم تستطع فورة الإعجاب بعنفوانها ان تؤثر علي البروفيسور بشيء اكثر من تاثير الصورة التي هزّت كيانه كلّه.. صورة الثور المجنح التي بعثت من رواسب الماضي البعيد نكهة حنين لا تقاوَم سحبته سحباً لزيارة المتحف. وعند عتبة المتحف، إنبهر الرجل المُسِنُّ امام بناية جديدة تحفّ بها حديقة واسعة. تخطّي الممشي، فلاحت لعينيه لافتة صغيرة: (الي مكتبة المتحف) فتساءل: متي اصبح للمتحف مكتبة؟!... همّ بزيارتها لكنه آثر الثور المجنح اولا.
ويوما بعد آخر اصبحت المكتبة روضة احلامه ومرتع خيالاته، وجد نفسه بين آلاف الكتب التي أغرته بطعمها الذي لا يقاوَم فهجر الدنيا واستقرّ بين ظهرانيها. واصبح يمنّي نفسه ويقول: - من بين احضانكم ايتها الكتب ستولد كتب أخري يشعّ بريقها في كل مكان.
ولم تعدْ سويعات الدوام الرسمي في المكتبة تروي غليله، وتذكّر ليالي الجاحظ ومعاناته عندما كان يكتري دكاكين الورّاقين ليبيت فيها ليلا محبوسا بين الكتب فيقرأ - علي ضوء سراجه الضعيف - ما طاب له منها، واليوم بعد مئات من السنين، لِمَ لا يعيد تجربة الجاحظ؟!
واستغلّ مكانته لدي موظفي المتحف وحارسه الذين أحبّوه، واطمأنوا اليه، وتمّت الموافقة علي المبيت ثلاث ليالٍ فقط شرط ألا يثير انتباه احد. وغاب نهار من المتعة، فأسدل البروفيسور ستائر النوافذ، وأطفأ الاضواء، وقضي ساعات الليل الاولي يقرأ علي ضوء كشّاف يدوي حتي انتصف الليل، وارتخت اجفانه، وغاب في عالم صامت ساكن، وخدّه علي صفحة الكتاب.
وتململ قُبيل الفجر، فتدحرج الكشّاف، وسقط ارضا، واستيقظ الرجل وسط ظلام دامس، ويده تبحث عن الكشّاف المعطّل.
آآآ... آآآه... آآه.. آه. آآآ
أنين مستمر... تأوّهٌ ينبعث من هنا وهناك، زلزل البروفيسور، وأطار صوابه، فقال مرعوبا: - ماذا يحدث؟... مَنْ هنا؟!!
وأخذ يسير علي غير هديً متعثراً بهذه المنضدة وتلك، وجاءه صوتٌ اذهله:
- الي اين تتجه؟.. ما من أحد غيرنا.
- ولكن من أنتم؟
- نحن أصحابك.. نحن احبابك.. نحن من لا يؤنسنا غيرك.
وارتطم جنبه بإحدي الخزانات، فجاءه منها صوت شاكيا:
- أدركني يا أستاذ.. أفتح أوراقي.. خمسون عاما، وأنا محبوس في هذا المكان لم تلمسني يد إنسان، أخرجني الي النور أرجوك.
وتوالت الاصوات:
- أنا يا أستاذ، العفن يأكل أطرافي
- وأنا.. لقد همّش أحدهم مُعَلِّقاً علي اوراقي.. أدخل جسما غريبا عليّ، خلّصني منه ارجوك.
- أغثني يا أستاذ.. لقد سبّ أحدهم مُؤلِّفي.. أُمحُ الشتائم عن أوراقي، أتوسل اليك
- وأنا.. لا تَنْسَني أنا.. ما من مُطالع يفتح دفّتيَّ حتي يُطبقهما.. لقد أصاب الناس جهلٌ غشوم.. إنهم لا يفهمون اسلوب مُؤَلِّفي.
- أغثني أنا أولا يا أستاذ. لقد اقتطع الاستاذ (س) فصلاً كاملاً منّي وسرقه في غفلة من الموظفات اللاهيات.. لذا فأنا مقطّع الاوصال.. أعِدْ إليّ أوصالي أرجوك.
وعمّت القاعة ضوضاء شاملة.. دوّامة من الصخب، جعلته يهرول متحسِّساً طريق الهرب، واعترضه طرف ستارة مُسدَلة فأمسك بها، ونَتَرَها بقوةٍ، فأسقطها والصق وجهه بالزجاج بحثاً عن نافذة الخلاص التي تدفّق من خلالها شيء من نور الشارع أَخفَتَ الاصوات، وبقي حتي بزوغ الشمس مشدوداً الي النافذة.
وفي أولي ساعات الصباح، اتّجه الي الحارس وقال له:
- أرجوك.. إن أتيتُ الي هنا مرّةً ثانية.. فامنعني من الدخول!.

View ghanim's Full Portfolio