مدافن النهر



مدافن النهر

حين تواردت في ذاكرته العودة بعد امد طويل من غياب مرّ عن مدينة الابراج وازقة اغاني الطفولة، ليسوق الحلم الى ما تبقى من عمره الذي بدأ يشك من انه لم يبق منه الا القليل ...

عاد الى النهر كالمعتاد رغم حاجته الى النوم كثيرا، الا ان تكتكات ساعات المدينة عساكر متقدمة نحو الفجر قلقة مثل

اشرعة السفن الصغيرة عند الضفة ... ومع خطوته الاولى استذكر سنارته العجوز المبللة نصف قرن من الزمن تغمز في القعر قصيدة الصيد والحياة ...

في تلك اللحظة تسللت الجميلات عاشقات النهر غاسلات الصوف وعلى رؤوسهن سلال الثياب الملونة واكوام من الصوف والهم ليوم مضى ...

تنفس الفجر وطلت اقطاب الابراج ثلاثة ثلاثة تحكي تاريخها البعيد ومازال الرجل العجوز تعتلي نظراته موجة نحو الامل ...

رغم ان يده غير قادرة على الامساك بالقوة والمرونة السابقتين اللتين حاكى بهما مارد النهر ...

اوشكت الخامسة على التمام وضياء شمس الشتاء يغمز مثل سنارة لتحركات العجوز كان وجهه يعكس بصيصا ضئيلا من السهر زاد من حركة يديه بفعل التعب والسنين التي مرت ، جلس يراقب موجة وليدة كانه يرغب في الرحيل معها الا ان دلع العاشقات يفيق فيه روح المراهق البليد .. من خلال عشقهن للنهر.. وعلى ضعف بصره استطاع ان يميز خطوات الغاسلة العجوز لتصبح لنظراته جوازا وليمتطي حلمه فرسا اصيلة متعثرة الخطى ...

امتلك الفجر نابا ينغرز في ثوبه العتيق لتنتصب ثعابين النهر الجاري اشجارا تصد الريح كي يهرب الذئب الاغبر، لملم اطراف ثوبه والتقط عصاه وذاكرته المخملية ناسيا سنارته العالقة في سيل مشاعره الخاملة ...

عسكر الوقت ... محنة النهر تبحث عن زفير ،نفض الرجل لطخة القلق والحيرة عن راسه وهم بالرحيل لكنه تمهل عسى ان يقترب الزورق المتخفي وراء الافق البعيد، يحمل اسفارا من عمره حين كان في عامه العشرين .. اراد ان يكدس ذكرياته لكي يمرر صور الماضي من ... /مقهى الحي/ وحمام /الحاج وبيت الشرطي/ ودكان بيع التبغ المحلي/ ومعمل الغزل اليدوي/ وحديقة البيكوات واشياء اخرى هوست في ماضيه البعيد فتولدت في نفسه انطلاقة



اشرعة جديدة .. حاول لاجل ذلك ان يفرز ضربا آخر من الفهم والتساؤلات، بعدما انفجر بركان الحيرة في نفسه، وافكار عديدة تؤرقه كلما اراد ان يتحاشى واحدة تطارده اخرى .. تشمخ الحيرة حول الهرب صوب اكبر الاشرعة، ينهض مسرعا، كانت عاشقات النهر من غاسلات الصوف قد سبقنه نحو جناح النهر فرحات يلهيهن احتفال تراشقهن بالماء .. صراخهن ومداعباتهن العفوية تجعل طيور النهر تلتقط قش اعشاشها بتان كبير ...ودون ان يدري يقترب اليهن محاولا ان يسالهن عن زورق من عاج عتيق كان قد تركه على الضفة في يوم بارد دون وثاق ...

الا ان سؤالا سبق طابور الاسئلة مسرعا ...

- ماجئتن تبغين هنا ....؟

قالها باصرار … ضحكن وخرجن من الماء راكضات ليتركنه وحيدا يقطر من ثيابهن مطر العذارى ...

ازدحمت حركة اجنحة الطيور فوق النهر، وتقابلت وحدته بعتبة السكون والخيبة، بينما تمسح نظراته الساحل كله، لم يكن زورقه العاجي بين عشرات الزوارق المتراصفة على خطوط الانتظار .. وبين لحظات التامل جاءت نواقيس الابراج بنبأ الرحيل في ذلك الفجر المشرق باحزانه ... تنبه لنفسه التي تـئـنّ في عزلتها همس لنفسه ...

* ذهبت اشباح العشرينات، واطفا عامل الليل اخر القناديل، ومازال الرحيل في جعبة ملكة النحل ...

وفي لحظة ازدحمت الحسرات في صدره ، تسللت المعشوقة العجوز ورمقته بنظره ممتلئة التعابير تحمل خيط بصيص في قبو مظلم، اخترقت زحمته واثارت فيه الارتباك كله، سرح بنظراته نحو فضاء شاسع وخفق قلبه العتيق كعاشق ضال ... احس انها تريد محادثته فجند اصغاءه اليها ...

- لماذا تضع هموم الدنيا على راسك ...؟

* لانني لم اجد قبعة اضعها بدلا عن ذلك ...

ثم اخذ في الضحك ... اراد ان يهرب من سؤالها مثل لص طريد ...

- مازال قلبك رطبا مثل قلب ثعلب، وشفتاك شفتي صوفي متعبد ...

ثم رحلت صوب الضفة ... لم يعلق على رحيلها، لكنه احس بالخوف تردد في مناداتها ... وحوار ساخن يرتطم بين ضلوعه يلح ان ينفجر الى المطلق .

- بدا الجو يزداد بردا فيلتصق الجلد بالعظم كانما جسده فوهة صهريج يصرخ، نزع معطفه الطويل والحقه بسترته المعبأة جيوبها  بقصاصات ورق الذكريات التي لفتها نسمة هواء بعد ان سقطت وتناثرت ارضا .... فجأة ..

اراد ان يتعرى مثل غطاس قبل الانتحار في ذلك الفجر وهو راعش اليدين، يرافق قوافل الزوارق الذائبة على طريق الموت في الافق ... اقترب من ضفة النهر مترنحا، لوث الفجر المياه واخذت الريح تراقص الاشجار القريبة المتراصفة على طول الضفة، واذيال ثياب عاشقات النهر القادمات مسرعات اصبحت اشرعة مزدحمة ...

كان يدرك الاشياء كلها حتى جوع النهر الذي احتضنه دون موعد مسبق كي يندب الماضي ويدفن شتى الذكريات ...

اجتمع الجميع عند الضفة مسرعين، ارادوا ان ينقذوا ما يمكن انقاذه بعد ان احسوا بصلابة قلبه .. وعيونهم بانتظار عودة الزورق العاجي ...

بينما الغاسلة العجوز تركض وراء الريح تجمع قصاصات متناثرة هنا وهناك عسى ان تجد عنوانا للمقبرة ...

ليس للموج بداية او نهاية، تعبت العجوز وسقطت ارضا ، بدأت تهيل الرمل على راسها وعيناها صوب النهر، وما ان اشبعت ضالتها حتى بادرت بالصراخ والنحيب، التفّ الجميع حولها ... ارادت ان تقص الحكاية رغم ان عينيها لم تفارقا النهر ...

- ياحسرتي ... ثم سكت طويلا ...

كان النهر يصرخ ويعلن جوعه رغم التهامه للحلم والطيور الميته، كأنه ينتفض بوجه الجميع لينبش الذكريات كلها، او يخرج الاف السنارات المنغرسة من جسده طوال تلك السنين ...

جلس الفجر على عرشه ،وغادر الجميع تاركين بصمات اقدامهم المتعبة ترسمها رمال الساحل ... يمر الوقت دون استئذان، والرجل القابع في كبد النهر لم يكشف عن نفسه بعد. منذ ان تردد في ان يقول لمعشوقته العجوز انه يحبها ... او ان يحكي لها قصة الرحيل، ويدير للخارج وجهه الحائر، برحلة مضت مسرعة كالريح، جاعلا الحلم جامحا لايبارح ذاكرة النهر ، ثم يعود كالنصل الدفين في قلب الزمن ... والغاسلة العجوز تتذكر من اشلاء الكلام شيئا قليلا ...

- لم لانبقى معا ...؟

ثم ماتت مواصلة الحكاية، جاء صوت من موجة وليدة، يفترش سيرة النهر والرجل الذي لم يعد بعد ...

* اقرئي ورق الريح المتناثرة، يامن كنت اجمل عاشقات النهر ثم اعيدي الكرة مرات عدة في حجرة موصدة كي لايعرف حرس النهر قصة الرحيل ...

تعيد البحث لتجد متنفسا للحيرة او لتزيح الوشم الحزين، املا ان لاتغيب مرة اخرى .. كانت تنظر في اتجاهات مختلفة علها تجد ما تستطيع جمعه من اسرار الخطوط المبعثرة ..   /الشجر/  تحت ظلال الجدران/ قرب بوابة الحاكم المنخلع / تحت طاولة الصحف/ في متجر الملابس المستعملة /.. ولم تنته من بحثها حتى نظرت نحو الشمس الغاربة عندها لم يسكن في الاماكن كلها غير السكون .. كانت الشمس قد اختفت تماما عندما عادت الغاسلة العجوز الى ضفة النهر مسرعة تحمل حقيقة دامغة لصوت النهر، حينها كانت الريح قد جلت سحابة الغبار .. وقلب النهر يصرخ بصوت غريب لم تسمعه الغاسلة من قبل صوت ذو موسيقى صاخبة تميز فيه طبول كشهيق الجرب، فترك وقعا خاصا من الحزن في اذنيها ... كان يقترب من بعيد نحوها شيئا فشيئا ... تخثر الدم في وجهها، لكن نداء النهر يجرها الى العمق البعيد مثل اسيرة

- لم تدرك ان جسدها يناحر فيضان نهر مجنون .. حلم اللقاء بالزورق العاجي بدا يرتسم في مخيلتها ...

والنهر يصرخ (( جوعان ... جوعان... جوعان ))

لم يعد للغاسلة العجوز وجود حين التحقت بالنهر دون عودة .. وعشرات القصاصات الورقية عند الضفة تاخذها الريح عاليا .. وبعيدا ومازالت سنارة الرحيل عالقة في قعر مبهم، واسراب الطيور المتبقية تحلق راقصة على صوت النهر.








View bayat's Full Portfolio