كتاب جديد

50 قصة قصيرة للأطفال





تأليف د. طارق البكري

















2007

















































مقدمة الناشر



أبنائي الأحبة..

لو تدرون كم نؤمن ونقدِّر ونجلّ عالم الطفولة، وكم يهتم (دار الرُّقي) بكم، لعرفتم مقدار محبتنا لكم.. وحرصنا على تنمية ثقافتكم بشكلٍ سليم بعيداً عن الأغراض التجارية، متمسكين بقيم مجتمعاتنا وأخلاقها السامية العالية، لذا نحرص على تقديم الأفضل، وأن تكون قصصنا هادفة ومبنية على أسس مفيدة لحاضركم ومستقبلكم بأسلوبٍ مشوقٍ، وطرقٍ جذابةٍ.

وقد عرفنا وتأكدنا أنكم تحبون القراءة، رغم كل ما يقال بأنكم أصبحتم تحبون الألعاب الإلكترونية، والإنترنت والكمبيوتر والتسلية وتضييع الوقت بأشياء غير مفيدة، فقد أثبتم أن كل هذا الكلام غير صحيح، وأكبر دليل على ذلك هو ذلك الإقبال الذي نشهده من الأطفال العرب، وفي كل بلاد العرب، حيث تحرصون على حضور معارض الكتاب، وتحرصون على شراء كثيرٍ من الكتب، ودليلنا متابعتنا للإصدارات الخاصة بالطفل، ونفاد كثير من كتب الأطفال وبوقتٍ قصير..

لذا فإننا في (دار الرُّقي) نحيي طفولتنا العربية، ونحيي أولياء الأمور، من آباءٍ وأمهاتٍ ومدرسين، وجهات رسمية أهلية، الذين يبذلون جهدهم من أجل تنمية ثقافة الطفل العربي وبناء مستقبل مشرق له ما أمكنهم ذلك.

وفي هذا المجلد القيم، وهو الجزء الرابع من سلسلة (50 قصة قصيرة للأطفال) نبحر مع المؤلف الدكتور طارق البكري، الذي أصبح بعد مئات الإصدارات الخاصة بالطفل علامة مضيئة في سماء أدب الأطفال، داعين الجهات الرسمية والخاصة إلى دراسة وبحث أسلوب هذا المؤلف القصصي الممتع، وتشجيع طلبة المدارس والأندية على الحصول على إنتاج المؤلف الغزير لما يتضمنه من أفكار تربوية بناءة وهادفة..

وأخيراً.. نتمنى لأبنائنا الأحباء أن يستمتعوا بقراءة هذه المجموعة ونعدهم أن نستمر على هذا الطريق الصعب ما داموا معنا، متطلعين إلى مستقبلهم البراق.. فما أحلى الطفولة العربية.. وما أجمل أن نعمل من أجلها..

صاحب ومدير عام دار الرقي

أنيس سعد

















مقدمة المؤلف



أعزائي الصغار...

أحمل إليكم في هذا الإصدار الرابع من سلسلة (50 قصة قصيرة للأطفال)، مجموعة جديدة من القصص كتبتها في أوقات متفرقة، بعضها قصير جداً، وبعضها الآخر ما بين متوسط وطويل، وقد حرصت أن تكون القصص بمجموعها واضحة المعاني والألفاظ، تعمل أهدافاً بأسلوب بسيط، رأيت بعد عرض مجموعة من هذه القصص على أطفال بأعمار مختلفة، أن هذا الأسلوب يمنعهم ويسرهم..

وأكثر ما شجعني لمتابعة هذه السلسلة أنني رأيتكم في كل معرض عربي للكتاب أكون فيه، مدى حرصكم على اقتناء المجموعة، ويأتي إليَّ أصدقائي الصغار في العالم التالي يسألونني عن المجموعة الجديدة.. فإن كانت المجموعة لم تجهز بعد أرى التساؤل والاستفهام على وجوههم..

وهذا هو السبب الذي دفعني للمتابعة والإصرار ولا سيما مع حرص (دار الرقي)، وصاحبه المحارب الأستاذ أنيس سعد، الذي غامر بطبع الجزء الأول من هذه المجموعة، لأن الاعتقاد السائد أن الطفل لا يميل إلى اقتناء الكتب التي لا تحمل ألواناً وصوراً كثيرة، فجاءت النتيجة عكس ما توقعه كثيرون، وكانت المفاجأة أن هذا الكتاب من أكثر الكتب مبيعاً للأطفال، وفي كل المعارض التي يشارك بها (دار الرقي) على امتداد العالم العربي.

وهذا يؤكد أن الأطفال العرب أرض خصبة وعطشى، تتطلب توفير إنتاج ثقافي عربي، دون اعتماد شبه كلي على ما يصدره الغرب، بل تكون القصص بنت المجتمع والأمة..

تحية إليكم مع كل قصة تقرأونها في هذا الكتاب..

وأرجو أن تمتعوني بآرائكم وبتطلعاتكم وبتعليقاتكم ويمكنكم زيارتي في موقعي الإلكتروني، وإرسال رسائلكم بالبريد الإلكتروني.. لأنني أتعلم منكم كيف أكتب.. وأقرأ.. وأفكر..

ونأمل أن نلتقي في مجموعة جديدة.. وحتى ذلك الحين.. أترككم مع صفحات الكتاب عسى أن تستمتعوا بما يحتويه من قصص.. وأرجو الله تعالى أن ينال إعجابكم..



الكويت أغسطس 2006

طارق البكري

www.bakri.ws

docbakri@yahoo.com











أناشيد قصصية







أَحْلَى الأَوْطَانِ

فِي الْبُسْتَانِ.. في الْبُسْتَانِ

شَقْشَقَ عُصْفُورٌ رنّانٌ

رَفّتْ أوْرَاقُ الأزْهارِ

مَاسَتْ أغْصَانُ الأشْجَارِ

غَنَّتْ أوتَارُ الألْحَانِ



فِي الْبُسْتَانِ... فِي الْبُسْتَانِ

شَاهَدْتُ أحْلَى الْأوْطَانِ

عَانَقْتُ أطْيَافَ النُّوْرِ

رَاقَصْتُ أزْهَارَ الجُوْرِي

سَافَرْتُ عَبْرَ الوِجْدَانِ



فِي الْبُسْتَانِ... فِي الْبُسْتَانِ

أَضْحَكُ ألْعَبُ فِي الْبُسْتَانِ

أرْكُضُ أمْرَحُ.. أَزْهُو أفْرَحُ

أَزْرَعُ مَجْداً.. أَكْتُبُ عَهْدَاً

وَشِعَاراً ضِدَّ الطُّغْيَانِ



فِي الْبُسْتَانِ.. في الْبُسْتَانِ

تَكْبُرُ أحْلاَمِي وَتُصَانُ

أَحْمِي أزْهَارِي وَوُرُودِي

أَوْ فِي أقْوَالِي وَعُهُودِي

وَأَصُدُّ كُلَّ العُدْوَانِ



فِي الْبُسْتَانِ.. فِي الْبُسْتَانِ

أَلْعَبُ أمْرَحُ فِي الْبُسْتَانِ

تَغْدُو أيَّامِي أمْجَاداً

رايَاتٍ تَعْلُو وجِهَاداً

فِي طَاعَةِ رَبِّي الرَّحْمنِ







الْخَاتَمُ الْمُنْزَعِجُ



بَاتَ الخَاتَمُ يَنْدُبُ حَظَّهْ

آه يا وَيْلِي

عُمْري أَقْضِيهِ في أُصْبَعْ

مَا أَحْلَى رَحَلاَتِ البَرِّ

أَنْأَى عَنْ شيءٍ لا يَنْفَعْ

مَا أَجْدَىَ لَوْ أَنْسَى هَمِّي

وَبِسِحْرِ الدُّنْيَا أَتَمَتَّعْ

لَكِنّ سجني أوْثَق عَزْمي

آهٍ.. كَمْ قَلبي يتوجعْ



طَلَّتْ سِلْسِلةٌ ذَهبيَّة

قَالَتْ يا عَمِّي لا تَحزَنْ

لَيْتَكَ لِلْمَاضِي تَرْجِعْ

ما أنْتَ إلاَّ مِنْ تُربَه

صَاغَتْكَ نَارٌ مَحْمِيَّه

ثُمَّ رُضِّعْتَ بالمَاسِ

لِتُزَيِّنَ أيْدي بَشَرِيَّه

لَولاَهَا مَا زلتَ دَفِيناً

لم تَعْرِفْ شَمْسَ الحُرِيَّه

ضَمَّتْ شَفَتَيْهَا بِسُخْرِيَه

آهٍ يا خَاتَمُ لَوْ تَسْمَعْ





























أزْرَعُ أَرْضي



انْظُرْ لمَّا أَحْمِلُ فأْسي

أَقْطَعُ كُلَّ الشَّجَرِ اليَبْسِ

أَزْرَعُ أَرْضي أَطْيَبَ غَرْسِ

أَسْرَحُ أَمْرَحُ أَرْفَعُ رَأْسِي

أَضْحَكُ أَلْعَبُ لا لِلْعَبْسِ



أَجْنِي عِنْدَ نُضُوجِ التَّمْرِ

تَمْلأُ رِزْقي سِلالَ الخَيْرِ

أَشْكُرُ رَبِّي كُلَّ الشُّكْرِ

رِزْقاً أَحْصُدُ طُولَ العُمْرِ

أنَا في فرَحٍ تَحْيا نَفْسي

فِي الْبُسْتَانِ

أَزْهَارِي أحْلَى أزْهَارْ

مَزْرُوعَةٌ في وَسَطِ الدَّارْ

أُسْمِعُهَا دَوْماً أَلْحَاناً

يَتْلُوهَا طَيْرٌ ثَرْثَارْ

فِي فَرَحٍ أنْسَى أحَزَاني

وَتُنَوِّرُ لَيْلي الأقْمَارْ



مَعَهَا تَسْمُو أيَّامي

أنْغَاماً تُطْري الأَوْتَارْ

مَعَها تَغْدُو أحْلاَمي

أمْطَاراً تَسْقِي الأنْهَارْ

مَعَهَا تَبْدُو أقْلاَمي

أنْسَاماً تَشْدُو الأَشْعَارْ



أزْهَارِي تَكْتُبُ عُنْوَاني

وتُنَادي كُلَّ الأَطْيَارْ

أزْهَاري تَعْرِفُ وُجْدَاني

وتُعَادي كُلَّ الأشْرَارْ

أزْهَاري تَعْزِفُ ألْحَاني

أزْهَاري أحْلَى أزْهَارْ









رِيْشَة



أنا رِيشَة

اسْمي شُوشَة

أرْسُمُ فَرَحاً

أَكْتُبُ مَرَحاً

أبْوَاباً أرْسُمُ ودْرِيشَة

أجْعَلُ مِنْ أحْلامِي كَنْزاً

أرْسُمُ طَيْراً... أرْسُمُ عَنْزاً

أغْصَاناً أرْسُمُ وعَرِيشَة

فِي رَأْسِي شَعَرَاتٌ سُوْدٌ

تَعْشَقُها كُلُّ الألْوَانِ

أُحَلِّقُ فَوْقَ الْبُستَانِ

أزْهَارٌ فيهِ وورودُ

ما أحْلاَها مِنْ عِيْشَة





غَيْمَةُ سَلْمَى



مَرَّتْ غَيْمَةٌ فَوْقَ الغَابَة

ظَنَّتْ سَلْمَى أنَّها طَابَة

فَتَحَتْ كُلَّ نَوَافِذَها

مَدَّتْ يَدَها لِتُمْسِكَها

عَبَثاً... كَادَتْ تَهْوِي

سَلْمَى

مَرّتْ رِيْحٌ قُرْبَ الغَيْمَة

صَارَتْ ماءَ طابَةُ سَلْمَى

سَدَلَتْ كُلَّ نَوَافِذَها

أَلْقَتْ فَوْقَ الرَّأْسِ لِحَافاً

وَعَادَتْ تَحْلُمُ بِالْطَّابَة















أَرْسُمُ مَاذَا؟





أرْسُمُ قصراً

أرْسُمُ وَرَداً

عُصْفُوراً أرْسُمُ

وحَمَامَة

أرْسُمُ بَحْرَاً

أرْسُمُ مَوْجَاً

أَغْصَاناً أرْسُمُ

وغَمَامَه



أَلْوَاني دَوْماً أحْمِلُهَا

أوْرَاقي أبَداً أحْفَظُها

لَوْحَاتي شَوْقاً أَحْضُنُها

لا أشْقَى حُزْناً وَسَآمَة









































قصص متنوعة



صَدِيقَتِي الَّتِي أُحِبُّهَا وَتُحِبُّنِي



«رَمْلُ الشَّاطِىء حَارٌّ جِدًّا... أَشْعُرُ بِحَرَارَتِهِ الشَّدِيدَةِ رَغْمَ حِذَائِي السَّمِيكِ...».

«أَشِعَّةُ الشَّمْسِ مُحْرِقَةٌ.. رَغْمَ أَنِّي أَحْمِلُ مِظَلَّتِي الصَّغيرةَ الْمُلَوَّنَةَ».

«لَمْ أَسْتَطِعْ تَنَاوُلَ الْآيس كريم اللَّذيذِ.. ذَابَ قَبْلَ انْتِهَائِي مِنْهُ.. كَادَ يُبَلِّلُ ثِيابِي..».

«الْقَمَرُ أَلْطَفُ مِنَ الشَّمْسِ.. لاَ يُزْعِجُنِي».

عَادَتْ مُسْرِعَةً إِلى الْبَيْتِ... قَالَتْ:

«أُمِّي.. مَنِ الْأَكْبَرُ وَمَنِ الْأَنْفَعُ.. الشَّمْسُ أَمِ الْقَمَرُ؟».

تَبَسَّمَتِ الْأُمُّ... قَالَتْ:

«الشَّمْسُ أَكْبَرُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْقَمَرِ، لِكُلٍّ مِنْهُمَا فَوائِدُهُ وَمَنَافِعُهُ، ولِلشَّمْسِ فَضِيلَةٌ عَلى الْقَمَرِ؛ نُورُهُ مُستَمَدٌّ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ».

اسْتَغْرَبَتْ سُعاد..

قَالَتْ ضَاحِكةً: «هَلْ تَقْصُدِينَ أَنَّ الشَّمْسَ مَحَطَّةُ كَهْرُباءٍ.. بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَمَرِ أَسْلاَكٌ كَهْرُبَائِيَّةٌ..».

الْأُمُّ: «بِالتَّأْكِيِد، لَيْسَ كَمَا تَقُولِينَ يَا سُعَادُ..

الشَّمْسُ بَعِيدَةٌ جِدًّا عَنِ الْقَمَرِ..

لَكِنَّ الْقَمَرَ مِثْلُ مِرْآةٍ عَاكِسَةٍ، يَسْتَقْبِلُ ضَوْءَ الشَّمْسِ ثُمَّ يُرْسِلُهُ مِنْ جَديدٍ إِلى الْأَرْضِ..

لَكِنْ دُونَ حَرَارَةٍ..».

«لَكِنَّ الشَّمْسَ لا تَكُونُ فِي اللَّيْلِ.. وَالقَمَرُ يَأْتِي فِي الظَّلامِ..».

«هذا صَحِيحٌ يَا سُعَادُ، الشَّمْسُ تَبْقَى فِي مَكَانِهَا، تُرْسِلُ ضَوْءَهَا، نَحْنُ لا نَراهَا لِأَنَّها تَكُونُ فِي الجِّهَةِ الْأُخْرَى مِنَ الْأَرْضِ.. أَنْتِ تَعْلَمِينَ أَنَّ الْأَرْضَ تَدُورُ والشَّمْسُ ثَابِتَةٌ، الْقَمَرُ يَدُورُ وَيَتَحَرَّكُ مِثْلَ الْأَرْضِ.. نَرَاهُ يَكْبرُ وَيَصْغُرُ.. وَأَحْيَاناً يَخْتَفِي..

الشَّمْسُ والْقَمَرُ نِعْمَتَانِ عَظِيمَتَانِ لَوْلاَهُمَا لِمَا عَرَفْنَا اللَّيْلَ وَلاَ النَّهارَ، وَلاَ عَرَفْنَا حِسابَ السِّنينَ والأعوامِ.

كَمَا أَنَّ الْأَقْمَارَ وَالنُّجُومَ كانَتَا دليلَ الْمُسَافِرينَ فِي الصَّحْرَاءِ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الْبُوصْلَةِ وَالطُّرُقَاتِ الْحَدِيثَةِ...».

«أُمِّي..».

«نَعَمْ..».

«أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ لَكِ شَيْئاً وَبِصَرَاحَةٍ..».

«تَفَضَّلِي يَا حَبِيبَتِي..».

«أَنَا أُحِبُّ الشَّمْسَ أَكْثَرَ مِنَ الْقَمَرِ.. لكِنَّ الشَّمْسَ لاَ تُحِبُّنِي، أُرِيدُهَا صَدِيقَتِي.. لكِنَّهَا لاَ تُحِبُّني..».

تَضْحَكُ الْأُمُّ وَتَقُولُ:

«الشَّمْسُ لاَ تُحِبُّكِ؟!

مَنْ قَالَ لَكَ ذلِكَ يَا سُعَادُ؟

الشَّمْسُ لاَ تَكْرَهُ أَحَداً.. هِيَ تَقُومُ بِوَاجِبِها بِكُلِّ إِخْلاَصٍ. إِنَّهَا تَحْرِقُ نَفْسَهَا، تُبَدِّدُ طَاقَتِهَا لِتَنْشُرَ الدِّفْءَ وَالنُّورَ عَلَى الدُّنْيَا..».

سُعَاد: «كُلَّمَا خَرَجْتُ إِلَى الْحَدِيقةِ لِأَلْعَبَ، أشْعُرُ أَنَّ الشَّمْسَ تُؤْذِينِي بِحَرَارَتِهَا وَخُصُوصاً فِي فَصْلِ الصَّيْفِ..

عِنْدَمَا أَخْرُجُ لِلتَّنَزُّهِ أضطرِ لِلاحْتِمَاءِ مِنْهَا بِالْمِظَلَّةِ أَوْ خَلْفَ سِتَارٍ أَوْ تَحْتَ الْأَشْجَارِ..».

الْأُمُّ: «سُعادُ.. أَنْتِ تُثِيرِينَ عَجَبِي...

أَتُرِيدِينَ مِنَ الشَّمْسِ أَنْ تَكُفَّ عَنْ عَمَلِهَا؟! هِي تَسِيرُ بِأَمْرِ اللَّهِ، تُنَفِّذُ أَوامِرَهُ بِدِقَّةٍ مُتَنَاهِيةٍ، لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُعْصِيهِ أَوْ تَتَمَرَّدَ عَلَيْهِ.

كَيْفَ يُمْكِنُ لِلشَّمْسِ أَنْ تَكُونَ عَدُوَّتَكِ وَهِيَ تَمْنَحُكِ أَسْبَابَ الْحَيَاةِ؟! كُلُّ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا.. هَلْ تَتَخَيَّلِينَ الدُّنْيَا مِنْ دُونِ الشَّمْسِ؟!

سَوْفَ تَتَحوَّلُ الْأَرْضُ إِلَى كُرَةٍ جِلِيدِيَّةٍ ضَخْمَةٍ..

لاَ تَبْقَى فِيها حياة..

سُعَادُ: «أَنَا أُحِبُّ الشَّمْسَ.. أُرِيدُ أَنْ تَكُونَ صَدِيقَتِي.. لَكنَّهَا تُؤْذِينِي وَالْقَمَرُ لاَ يُؤْذِينِي..».

الْأُمُّ: «هَلْ تَعْنِي الصَّدَاقَةُ أَنْ يَتَخَلَّى الْإِنْسَانُ عَنْ وَاجِبَاتِهِ؟.. وَكَذلِكَ الشَّمْسُ، لاَ بُدَّ أَنْ تَقُومَ بِدَوْرِهَا..

الشَّمْسُ تُحِبُّكِ.. لَوْ لَمْ تَكُنْ تُحِبُّكِ لَفَعَلَتْ مِثْلَمَا تُرِيدِينَ... وَخَفَّفَتْ مِنْ ضَوْئِهَا وَوَهْجِهَا.. سَوْفَ تَرْتَاحُ هِيَ وَتَمُوتُ الْكَائِنَاتُ الْحَيَّةُ ثُمَّ تَنْعَدِمُ الْحَيَاةُ فَوْقَ الْأَرْضِ.. وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا، فَالشَّمْسُ تَعْمَلُ مُنْذُ آلافِ السِّنِينَ... لَمْ تَتَوَقَّفْ عَنِ الْعَمَلِ لَحْظَةً وَاحِدَةً».

سُعَاد بِانْدِهَاشٍ: «كُلُّ هذَا سَيَحْدُثُ؟!».

الْأُمُّ: «رُبَّمَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ..

أَرَأَيْتِ يَا سُعَادُ أَنَّ الشَّمْسَ تُحِبُّكِ عِنْدَمَا تُرْسِلُ أَشِعَّتَهَا الْقَوِيَّةَ؟!».

سُعاد: «نَعَمُ.. كَلاَمُكَ حَقٌّ..».

قَامَتْ سُعَادٌ مُسْرِعَةٌ..

الْأُمُّ: «إِلى أَيْنَ يَا سُعَادُ».

سُعَادُ: «إِلَى الْحَدِيقَةِ لِأَلْعَبَ مَعَ صَدِيقَتِي الشَّمْسِ الَّتِي تُحِبُّنِي».

الْأُمُّ: «لكِنْ لاَ تُطِيلِي الْوَقْتَ.. حَتَّى لاَ تَشْغَلِي الشَّمْسَ عَنْ عَمَلِهَا..».

صَدِيقَتِي الْمُخْطِئَة... عَفْواً

«كُنْتُ مُخْطِئَةٌ بِالتَّأْكِيدِ عِنْدَمَا اعْتَقَدْتُ أَنَّهَا صَدِيقَتِي الْمُقَرَّبَةُ...».

«هذِهِ الرِّحْلَةُ أَتْعَسُ رِحْلَةٍ فِي حَياتِي... لَيْتَنِي لَمْ أَذْهَبْ..».

«الصَّداقَةُ.. أَيْنَ الصَّداقَةُ؟! لَمْ أَعُدْ أُرِيدُ مُصَادَقَةَ أَحَدٍ..

لِأَكُنْ صَدِيقَةَ نَفْسِي فَقَطْ...».

«لماذا فَعَلْتُ هكَذا؟! لَمْ أَضُرَّها يَوْماً فِي حَياتِي.. لَقَدْ خَذَلَتْنِي عِنْدَمَا احْتَجْتُ إِليها.. لاَ أُطِيقُ تَذَكُّرُ مَا حَدَثَ..».

كانَتْ تَمْشِي خُطُواتٍ مُتَثَاقِلَةٍ..

عَادتْ مِنْ رِحْلَةٍ إِلى حَدِيقَةِ الْحَيَوانِ؛ لَم تَكُنْ سَعِيدةً كَعَادَتِهَا..

دَخَلَتْ غُرْفَتَهَا... أَغْلَقَتِ الْبَابَ دُون أَنْ تَتَكَلَّمَ مَع أَحَدٍ..

أَحَسَّتِ الْأُمُّ أَنَّ ابْنَتَهَا لَيْسَتْ عَلى مَا يُرامُ..

جَهَّزَتِ الْأُمُّ الطَّعَامَ... نَادَتْ:

«مُنَى.. هَيَّا تَعَالَيْ.. الطَّعَامُ جَاهِزٌ.. أَلَسْتِ جَائِعَةً بَعْدَ نَهارِكِ الطَّويلِ؟».

جَاءَتْ مُنَى وَجَلَسَتْ مَعَ أُمِّهَا تَتَنَاوَلانِ الطَّعَامَ، لكِنَّهَا لَمْ تَأْكُلْ بِشَهِيَّةٍ، بَدَتْ كَأَنَّهَا مُنْزَعِجَةٌ مِنْ أَمْرٍ مَا... بَعْد الغَداءِ قَامَتْ وَسَاعَدَتْها فِي تَنْظِيفِ الْأَطْبَاقِ.

سَأَلَتِ الْأُمُّ: «رِحْلَةُ الْيَوْمِ شَيِّقَةٌ.. أَلَيْسَ كَذلِكَ؟!».

نَظَرَتْ مُنَى إِلى وَجْهِ أُمِّهَا.. وَانْفَجَرَتْ بِالْبُكَاءِ..

حَضَنَتِ الْأُمُّ ابْنَتَهَا: «أَأَزْعَجَكِ سُؤَالِي إِلى هذا الْحَدِّ؟! آسِفَةٌ يا ابْنَتِي..».

ــــ «حَديقَةُ الْحَيوانِ مُزْعِجَةٌ لا أُحِبُّهَا لاَ أُرِيدُ الذَّهَابَ إِليْهَا ثَانِيةً».

ــــ «لَم يَكُن هذا رَأْيُكِ فِي السَّابِقِ..».

ــــ «الآنَ رَأْيِي تَغَيَّر».

ــــ «يَبْدُو لِي أَنَّ شَيئاً كَبيراً عَكَّرَ مِزَاجَكِ وَغَيَّرَ رَأْيَكِ..

هَلْ تُخْفِينَ عَنْ أُمِّكِ الَّتِي تُحِبُّكِ شَيئاً يا حَبِيبَتِي؟!».

ــــ «لا.. لَمْ أَقصِد ذَلِكَ..».

ــــ «مَا الْخَبَرُ إِذَنْ؟!».

قَالَتْ مُنَى بَعْدَ تَفْكِيرٍ: «أَتَذْكُرِينَ صَدِيقَتِي رَبَاب؟!..».

ــــ «نَعَمْ، لَطَالَما حَدَّثْتِنِي عَنْهَا..».

ــــ« أَتَذْكُرِينَ أَنِّي سَاعَدْتُهَا السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ فِي مَادَةِ الْحِسَابِ الَّتِي أُحِبُّهَا... شَرَحْتُ لَهَا الدُّرُوسَ الصَّعْبَةَ.. أَعْطَيْتُهَا عَدَداً مِنْ قِصَصِي الْجَمِيلَةِ لِأَنَّهَا لاَ تَمْلِكُ مِثْلَهَا.. وَعِنْدَمَا مَرِضَتْ قَبْلَ أَسَابِيعَ ذَهَبْتُ لِزِيَارَتِهَا فِي الْمُسْتَشْفَى وَأَحْضَرْتُ لَهَا هِدِيَّةً كَبِيرَةً؟!».

ــــ «نَعَمْ أَذْكُرُ كُلَّ ذَلِكَ.. وَأَكْثَرَ.. بَارَكَ اللَّهُ بِكِ يَا ابْنَتِي.. هكذَا عَرَفْتُكِ دَوْماً.. تُحِبِّينَ جَمِيعَ صَدِيقَاتِك وَتَهْتَمِّينَ بِهِنَّ، لكِنِّي لَمْ أَفْهَمْ حَتَّى الْآنَ مَا الْمُشْكِلَةَ؟!».

قَالَتْ مُنَى بِحِدَّةٍ:

«رَبَابُ هذِهِ.. صَدِيقَةٌ مُخَادِعَةٌ! عِنْدَمَا تَحْتَاجُنِي أَرَاهَا مَعِي دَوْماً، وَعِنْدَمَا احْتَجْتُ إِلَيْهَا تَخَلَّتْ عَنِّي بِكُلِّ بَسَاطَةٍ، تَصَوَّرِي يَا أُمِّي...».

تَوَقَّفَتْ مُنَى عَنِ الْكَلاَمِ... تَسَاقَطَتِ الدُّمُوعُ مِنْ عَيْنَيْهَا ثُمَّ تَابَعَتْ تَقُولُ:

«عِنْدَمَا وَصَلْنَا إِلى حَدِيقَةِ الْحَيَوانِ، اكْتَشَفْتُ أَنَّنِي نَسِيتُ مَحْفَظَةَ نُقُودِي فِي الْمَنْزِلِ.. لَمْ أَنْسَهَا بِسَبَبِ الإِهْمَالِ، بَلْ لِأَنِّي كُنْتُ مَشْغُولَةٌ فِي التَّفْكِيرِ بِالرِّحْلَةِ.. طَلَبْتُ مِنْ رَبَابِ أَنْ تُسَلِّفَنِي قِيمَةَ تَذْكَرَةِ الدُّخُولِ لكِنَّهَا رَفَضَتْ.. لَوْ لَمْ تَتَفَهَّمْ مُشْرِفَةُ الرِّحْلَةِ مُشْكِلَتِي لَأَعَادَتْنِي إِلَى الْمَنْزِلِ..

اشْتَرَتْ لِيَ التَّذْكَرَةَ مِنْ جَيْبِهَا الْخَاصِ».

ــــ «مَاذَا فَعَلْتِ بَعْدَمَا دَخَلْتِ إِلَى الْحَدِيقةِ؟».

ــــ «قَاطَعْتُ رَبَابَ... لَمْ أَتَكَلَّمْ مَعَهَا.. لَعِبْتُ مَعَ صَدِيقَاتِي الْأُخْرَيَاتِ.. لَقَدْ قَرَّرْتُ مُخَاصَمَتَهَا طَوالَ حَياتي، سَوْفَ أَطْلُبُ مِنْ كُلِّ صَدِيقَاتِي عَدَمَ التَّحَدُّثِ مَعَهَا بَعْدَ الْيَوْمِ».

الْأُمُّ: «أَلاَ يُوجَدُ حَلُّ آخَرَ.. أَتَظُنِّينَ أَنَّ هذَا هُوَ الْحَلُّ الْأَنْسَبَ؟».

فَكَّرَت مُنى.. قَالَتْ:

«قَد أكُونُ أَنَانِيَّةً بَعْضَ الشَّيْءِ.. أَعْتَقِدُ أَنَّ صَدِيقَاتِي لَنْ يَقْبَلْنَ مُقَاطَعَتَهَا مِنْ أَجْلِي... فَهِيَ لَمْ تُخْطِىءْ بِحَقِّهِنَّ».

الْأُمُّ: «أَلاَ يُوجَدُ حَلُّ آَخَر؟».

مُنَى: «سَأَطْلُبُ مِنْهَا أَنْ تُعِيدَ إِليَّ جَمِيعَ الْأَغْرَاضِ الَّتِي أَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا.. وَلَنْ أُعْطِيهَا شَيْئاً بَعْدَ الْيَومِ..».

الْأُمُّ: «هَلْ تَعْتَقِدِينَ أَنَّهُ حَلٌّ مُنَاسِبٌ؟».

فَكَّرَتْ مُنَى.. قَالَتْ:

«رُبَّمَا قَالَتْ عَنِّي صَدِيقَاتِي إِنِّي طَمَّاعَةٌ.. وَلاَ أُحِبُّ الْخَيْرَ وَالْعَطَاءَ..

وَقَدْ يَبْتَعِدْنَ عَنِّي وَلاَ يَثِقْنَ بِي بَعْدَ ذلِكَ.. وَأَنَا فِي الْحَقِيقَةِ أَكْرهُ الطَّمَعَ وَالرِّيَاءَ..».

عِنْدَهَا قَالَتِ الْأُمُّ: «الْمُهِمُّ هُوَ ما يُرْضِي رَبَّكِ وَلَيْسَ مَا يُرْضِي صَدِيقَاتِكِ».

مَا رَأْيُكِ لَوْ نُنَاقِشُ الْأَمْرَ بَعْدَ أَنْ تَهْدَئِي قَلِيلاً؟!.

مُنَى: «نَعَمْ يَا أُمِّي.. سَأَذْهَبُ إلى غُرْفَتِي الْآنَ..».

بَعْدَ سَاعَةٍ تَقْرِيباً، دَخَلَتِ الْأُمُّ غُرْفَةَ ابْنَتِهَا وَقَالَتْ: «هِيه... أَلَمْ تُوَفَّقِي إِلى حَلٍّ مُنَاسِبٍ؟».

ــــ «لَيْسَ بَعْدُ يَا أُمِّي..».

قَالَتِ الْأُمُّ بِهُدُوءٍ: «هَلْ فَكَّرْتِ أَنَّهَا رُبَّمَا لَمْ تَكُنْ تَمْلِكُ الْمَالَ الْكَافِي؟!».

ــــ «لاَ.. أَبَداً.. لَقَدْ رَأَيْتُهَا تَشْتَرِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً دَاخِلَ الْحَدِيقَةِ، كَمَا أَنَّ قِيمَةَ التَّذْكَرَةِ رَخِيصَةٌ جِداً...».

ــــ «إِنَّ مَا فَعَلَتْهُ أَمْرٌ مُؤْسِفٌ حَقًّا، لَمْ يَكُنْ مَوْقِفُهَا مُتَوَقَّعاً، لَكِنْ عَلَيْكِ أَنْ تَسْتَمِرِّي عَلَى مَوْقِفِكِ الطَّيِّبِ، فَأَنْتِ لَمْ تَفْعَلِي الْأَشْيَاءَ الْجَمِيلَةَ مَعَهَا مِنْ أَجْلِ الْحُصولِ عَلَى مُقَابِلٍ..».

هزَّتْ مُنَى رَأْسَهَا مُوَافِقَةً وَقَالَتْ: «كَلاَمُكِ صَحِيحٌ.. لكن..».

الْأُمُّ: «اسْمَعِي يَا مُنَى.. عَلَيْكِ أَنْ تَفْرَحِي لِأَنَّكِ تَمْلُكِينَ عَقْلاً تُمَيِّزِينَ بِهِ الصَّوابَ مِنَ الْخَطَأ..

يَجِبُ أَنْ تَتَرَفَّقِي بِهَا.. لاَ أَنْ تُحَاسِبِيهَا وَتَغْضَبِي مِنْهَا».

تَابَعَتِ الْأُمُّ قائِلةً:

«أَرَأَيْتِ لَوْ أَنَّكِ وَاجَهْتِ خَطَأَ كُلَّ إِنْسَانٍ بِخَطَأٍ مِثْلِهِ لِتَشَابَهْتُمَا تَمَاماً، بَلْ عَلَيْنَا مُسَاعَدَةُ الْمُخْطِىء لِيَتَخَلَّصَ مِنْ خَطَئِهِ».

ــــ «كَيْفَ؟».

قَالَتِ الْأُمُّ بِهُدُوءٍ:

«صَدِيقَتُكِ رَبَاب..».

قَاطَعَتْهَا مُنَى... وقالت:

«لَيْسَتْ صَدِيقتِي بَعْدَ الْآنَ..».

ــــ «انْتَظِرِي لِأُنْهِي كَلاَمِي.. وَعِنْدَهَا اتَّخَذِي قَرَارَكِ الَّذِي تَعْتَقِدِينَ أَنَّهُ هُوَ الصَّوابُ؛ رَبَاب قَدْ تَكُونُ أَخْطَأَتْ فِعْلاً.. وَأَنَا أَتَّفِقُ مَعَكِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّكِ فَعَلْتِ كَمَا فَعَلَتْ لَحَزِنْتُ كثيراً، لَكِنِّي أَعْتَقِدُ أَنَّهَا لاَ تُدْرِكُ حَتَّى الآنَ أَنَّهَا أَخْطَأَتْ وَرُبَّمَا هِيَ الْآنَ سَعِيدَةٌ بِمَا فَعَلَتْ.. وَأَنْتِ حَزِينَةٌ وَغَاضِبةٌ.. بَيْنَمَا الْعَكْسُ يَجِبُ أَنْ يَحْصُلَ».

ــــ «مَاذَا تَقْصُدِينَ بِالْعَكْسِ؟».

ــــ «أَنْتِ تَعْرِفِينَ خَطَأَهَا.. وَهِي لاَ تَعْرِفُ صَوَابَكِ...

فَافْرَحِي لِأَنَّكِ تَعْرِفِينَ الصَّوابَ وَالْخَطَأَ.. كَمَا أَنَّهَا سَتَحْزَنُ عِنْدَمَا تَكْتَشِفُ أَنَّهَا أَخْطَأَتْ مِنْ جَانِبَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْخَطَأُ نَفْسُهُ وَالثَّاني: جَهْلُ مَا هُوَ صَوَابٌ!».

قَالَتْ مُنَى بِهُدُوء:

«كَلامُكِ مُقْنِعٌ حَقًّا يَا أُمِّي.. مَا أَعْظَمَكِ مِنْ أُمٍّ.. مَاذَا عَليَّ أَنْ أَفْعَلَ الآن؟».

ــــ «مَا دُمْتِ مُقْتَنِعَةَ بِرَأَيِي تَمَاماً عَلَيْكِ مُسَاعَدَتُهَا لِتَكْتَشِفَ بِنَفْسِهَا سُوءَ تَصَرُّفِهَا..».

ــــ «مَا رَأْيُكِ لَوْ أَتَحَدَّثُ مَعَهَا وَنُنَاقِشُ الْأَمْرَ فِيمَا بَيْنَنَا؟».

ــــ «حَلٌّ مَعْقُولٌ جِدًّا.. اتَّصِلِي بِهَا الْآنَ.. قُومِي بِدَعْوَتِهَا لِتَنَاوُلِ الْغَدَاءِ مَعَكِ غَداً.. فَهُوَ يَوْمُ عُطْلَتِكُمَا مِنَ الْمَدْرَسَةِ وَأَنَا سَوْفَ أُعِدُّ لَكُمَا طَعَاماً شَهيًّا..».

ــــ «لكن.. لكن..» شَعُرَتْ مُنَى بِبَعْضِ التَّرَدُّدِ.. فَهِيَ لاَ تَزَالُ حَزِينَةً مِنْ مَوْقِفِ رَبَابِ.

ــــ «هَيَّا.. اتَّصِلِي بِهَا.. يَجِبُ أَنْ تَتَغَلَّبِي عَلَى غَضَبِكِ.. اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: { } لَيْسَ بِالْحُسْنِ فَقَط بَلْ بِالْأَحْسَنِ، وَبِذَلِكَ يُصْبِحُ الْعَدُوُّ صَدِيقاً وَالْخَصْمُ حَلِيفاً.. فَكَيْفَ بِصَدِيقَتِكِ الَّتِي تُحِبِّينَهَا؟1».

قَامَتْ مُنَى فَوْراً، اتَّصَلَتْ بِرَبَابٍ وَدَعَتْهَا لِلْغَدَاءِ..

تَعَجَّبَتْ رَبَابٌ.. كَانَتِ الدَّعْوَةُ مُفَاجِئَةً.. لَمْ تَتَوَقَّعْ أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُ مُنَى عَلى هذَا الشَّكْلِ.

قَالَتْ: «أَبَعْدَ كُلَّ مَا فَعَلْتُ مَعَكِ؟ إِنِّي آسِفَةٌ حَقًّا.. لَسْتُ أَدْرِي مَاذا أَقُولُ..».

تَابَعَتْ رَبَابٌ:

«أَنْتِ دَوْماً أَفْضَلُ مِنِّي... لاَ تَتْرُكِينَ أَحَداً يَتَفَوَّقُ عَلَيْكِ بِالْخَيْرِ... سَوْفَ آتي غَداً لأعتذر منك».

وَضَعَتْ مُنَى سَمَّاعَةَ الْهَاتِفَ... كَانَتْ سَعِيدَةً لِلْغَايةِ...

ظَهَرَتْ ابْتِسَامَةُ رِضَا كبيرةٌ عَلى وَجْهِهَا... قالت: لَقَدْ تَعَلَّمْتُ الْيَوْمَ يَا أُمِّي دَرْساً عَظِيماً..».

قَالَتِ الْأُمُّ: «الْمَعْرُوفُ يَا ابْنَتِي لاَ يَضِيعُ أَبداً.. وَقَدْ قَال رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُدْرَكُ بِالرِّفْقِ مَا لاَ يُدْرَكُ بِالْعُنْفِ».





الْبَابُ الْوَفِيُّ الْمُزْعِجُ

ززز يــ..........ك.... دج ج ج ج.....

ززز يــ..........ك.... دج ج ج ج.....

«بَابٌ مُزْعِجٌ.. كُلُّهُ إِزْعَاج؛ أَكْثَرُ مِنْ مَطْرَقَةِ الْحَدَّادِ ثِقْلاً عَلَى الْقَلْبِ.. أَوَدُّ لَوْ أَكْسِرُهُ، أُحَطِّمُهُ..

أُفَتِّتُهُ مِثْلَ حَبَّاتِ الْعَدَسِ».

قُلْتُ لِأَبِي مَرَّةً تِلْوَ الْمَرَّةِ:

«أَرْجُوكَ يَا أَبِي.. بَدِّلْ هذَا الْبَابَ الْقَدِيمَ..».

جَوابُهُ الْمتكرِّر: «لَمَّا تِكْبَر تَعْرِفْ قِيمَةَ هذا الْبَابِ..».

أَقُولُ: «أُصَلِّحُه.. طَيِّب أُصَلِّحُه.. عَلى الْأَقَلِّ..».

يُجِيب: «صَوْتُهُ يُذَكِّرُنِي بأَشْياءَ حَمِيمَةٍ».

الْبابُ عُمْرُهُ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ.. لكِنَّهُ مَصْنُوعٌ مِنَ الْخَشَبِ الْمَتينِ..

أَسْأَلُهُ: «قُلْ لِي يا أَبيْ ما سِرُّ عِشْقِكَ لِهذا البابِ؟!».

يقولُ:

«كُنَّا نَعِيشُ حَياةً فَقِيرةً فَقِيرةً.. أَحْياناً يَعُودُ جَدُّكَ مُتَأَخِّراً دُونَ طَعَامٍ.. وَلَيْسَ فِي بَيْتِنَا حَبَّةُ قَمْحٍ.. أَشْعُرُ بِأَبِي عِنْدَمَا يَدْخُلُ.. يُحَاوِلُ إِخفَاءَ صَوتِ الْبَابِ الْمُزْعِجِ.. يَظُنُّ أَنَّنَا نَائِمُونَ.. الْجُوعُ كانَ يَمْنَعُنَا مِنَ الْنَّوْمِ، جَدُّكَ يَدْخُلُ بِهُدُوءٍ.. يَرْتَمِي عَلى بَلاطِ الْأَرْضِ.. وَلا يَنَامُ..».

«مَات جَدُّكَ.. تَرَكَنَا فُقَرَاءَ.. حَالُنَا تَغَيَّر بَعْدَ مَوْتِهِ بِسِنينَ.. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْنَا بِالثَّراءِ.. مَضَتِ الْأَيَّامُ.. تَزَوَّجْتُ أُمَّك.. اشْتَرَيْتَ هذا الْبَيْتَ الْكَبيرَ.. احْتَفَظْتُ بِالْبَابِ لِأَنَّهُ يُذَكِّرُوني بِبَيْتِنَا الْفَقِيرِ..».

«تَرَكْتُهُ عَلى حَالِه.. لَمْ أُصْلِحْهُ.. لَمْ أُجِدِّدْهُ.. أَحْبَبْتُ صَرِيرَهُ.. إِزْعَاجَهُ.. يُذَكِّرُنِي بِجَدِّكَ.. بِأَيَّامِ الْفَقْرِ فَلا أَنْسَى..».

قُلْتُ لَهُ:

«هَلْ مِنَ الضَّرُورِيِّ أَنْ نَتَذَكَّرَ دَائِماً هذا الماضِي التَّعِيسَ؟!».

يَقُولُ: «مَتَى كَانَ الْفَقْرُ ذُلاًّ وَتَعَاسَةً.. وَالْغِنَى شَرَفاً وَسَعَادَةً؟... كَمْ مِنْ فَقِيرٍ غَنِيِّ النَّفْسِ.. وَكَمْ مِنْ غَنيٍّ فَقِيرِ النَّفْسِ؟».

«أَنَا أَتَّفِقُ مَعَكَ يَا أَبِي في كُلِّ مَا قُلْتُه.. لكِنَّ الْبَابَ مُزْعِجٌ، كمَا أَنَّ شَكْلَهُ الْقَدِيمَ لا يَتَنَاسَقُ مَعَ شَكْلِ بَيْتِنَا الْحَدِيثِ..».

أَدْرَكْتُ أَنَّ مَوْقِفِي ضَعِيفٌ.. وَلَيْسَ بِالْيَدِ حِيلَةٌ...

اقْتَرَبْتُ مِنَ الْبَابِ...

ززز يــ..........ك.... دج ج ج ج.....

ززز يــ..........ك.... دج ج ج ج.....

أَفْتَحُهُ.. أُغْلِقُهُ.. أَبِي يُنْصِتُ إِلى صَوْتِهِ كَأَنَّهُ مُوسِيقَى رَاقِيةٌ..

فَجْأَةً.. سَمِعْتُ صَوْتاً يَنْسَابُ مِنْ بِيَنِ تَجَاوِيفِ الْبَابِ الَّتِي حَفَرَهَا الزَّمَنُ كَتَجَاعِيدَ فِي وَجْهِهِ..

وَضَعْتُ أُذُنِي عَلى الْبَابِ.. لَمْ أُصَدِّقُ.. سَمِعْتُه يَقُولُ لِي:

«يَا وَلَدُ.. لَوْ تَعْلَمُ عُمْرِي الْحَقِيقِي لَعَلِمْتَ كَمْ أَنْتَ صَغِيرٌ أَمَامِي.. لَقَدْ أَهَنْتَنِي بِكَلامِكَ.. لَمْ تَحْتَرِمْ سِنِّي.. سَوْفَ أُعَاقِبُكَ.. لَنْ أَسْمَحَ لَكَ بِالْمُرُورِ بَعْدَ الْيَومِ..».

لَمْ أُصَدِّقْ مَا سَمِعْتُ.. حَاوَلْتُ فَتْحَ الْبَابِ.. كَانَ صَلْباً مِثْلَ الصَّخْرِ.. حَاوَلْتُ دَفْعَهُ، كُنْتُ كَمَنْ يَدْفَعُ حَائِطاً.. شَعُرْتُ أَنَّ الْبَابَ يَنْتَقِمُ مِنِّي.. خِفْتُ عَلى نَفْسِي...».

قُلْتُ :«تُريُد حَبْسِي ومَنْعِي مِنَ الْمُرورِ؟!... سَوْفَ أُحَطِّمُكَ..».

رَدّ عَلَيَّ بِعُنْفٍ: «لَنْ تَجْرُؤَ.. أَنَا أَقْوَى مِنْكَ بِكَثِيرٍ..».

عُدْتُ إِلى غُرْفَتِي مُسْتَسْلِماً.. وَعَادَ الْبَابُ إِلى سِيرَتِهِ..

ززز يــ..........ك.... دج ج ج ج.....

ززز يــ..........ك.... دج ج ج ج.....

فَكَّرْتُ بِاسْتِخْدَامِ النَّافِذَةِ... لَيْسَتْ مُرْتَفِعَةً.. يُمْكِنُنِي الْقَفْزُ بِسُهُولَةٍ...

قَفزْتُ إِلى الْحَدِيقَةِ.. لَعِبْتُ مَعَ الْأَصْدِقَاءِ..

عُدْتُ إِلى الْمَنْزِلِ بَعْدَ مُدَّةٍ بِالطَّرِيقَةِ نَفْسِهَا..

شَاهَدَنِي جَارُنَا أَتَسَلَّقُ النَّافِذَةَ.. اعْتَقَدَ أَنَّنِي لِصٌّ..

اتَّصَلَ فَوْراً بالشُّرْطَةِ.. كَانَتْ مُفَاجَأَةً لِلْجَمِيعِ..

اعْتَذَرْتُ لَهُمْ، كمَا اعْتَذَرْتُ لِأَبِي وَأُمِّي..

حَكَيْتُ لِأَبِي الْقِصَّةَ كُلَّهَا..

ضَحِكَ طَوِيلاً طَوِيلاً..

قَالَ مَازِحاً: «أَأَدْرَكْتَ الآنَ لماذا أُحِبُّ هذا الْبَابَ؟ إِنَّهُ يَشْعُرُ.. يَتَأَلَّمُ.. يُذَكِّرُكَ بِالْمَاضِي.. أُمُورٌ أَشْعُرُ بِهَا وَلاَ أَعْرِفُ كَيْفَ أُوصِلُهَا إِلَيْكَ»...

اقْتَرَبْتُ مِنَ الْبَابِ مَسحت بِيَدَيَّ عَلَيْهِ..

قُلْتُ: «حَسَناً.. لِنَكُنْ أَصْدَقَاءَ.. أَلاَ تَسْتَطِيعُ التَّخَلُّصَ مِنْ صَوْتِكَ الْمُزْعِجَ..».

لَمْ يَتَكَلَّمِ الْبَابُ..

ضَحِكَ أَبِي وَقَال: «أَتُرِيدُنَا أَنْ نُصَدِّقَ أَنَّ الْبَابَ يَتَكَلَّمُ.. يُفَكِّرُ.. وَيَمْنَعُكَ أَيْضاً مِنَ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ؟!».

اقْتَرَبَتْ أُمِّي... همست في أُذُنِ أَبِي كَلِمَةً سَمِعْتُهَا:

«خَيالُ ابْنِكَ وَاسِعٌ... لاَ تَسْتَهْزِىءْ بِهِ»...

أَحْسَسْتُ أَنّ أَحَداً لَنْ يُصَدِّقَنِي أَبَداً.. لِلْبَابِ قُوةٌ خَفِيةٌ لاَ يَعْلَمُهَا غَيْرِي..

أَصْبَحْتُ أَتَرَقَّبُ سَمَاعَ صَوْتِهِ...

صَرِيرِهِ.. إِزْعَاجِهِ..

كَأَنَّهُ يُنادِينِي.. يَحْكِي لِي قِصَصَهُ الْقَدِيمَةُ.. يَرْوِي ذِكْرِيَاتِهِ..

أَخْبَرَنِي بِقِصَصِ جَدِّي.. كَيْفَ كَانَ يَتْعَبُ فِي الْعَمَلِ؟!

يَقْضِي مُعْظَمَ الْيَومَ خَارِجَ الْمَنْزِلِ مِنْ أَجْلِ كسراتِ مِنَ الْخُبْزِ..

لَمْ يَكُنْ يَحْزَنُ وَلاَ يَيْأَسُ وَلاَ يَفْقِدُ صَبْرَهُ..

قَالَ الْبَابُ:

«أَيامٌ طَوِيلَةٌ كَانَتْ تَمُرُّ وَلاَ يَجِدُ جِدَّكَ فِيهَا عَمَلاً، كَانَ يَعْمَلُ فِي أَيِّ شَيْءٍ.. يُوَزِّعُ الْمَاءَ.. يَبِيعُ الثِّيابَ الْقَدِيمَةَ.. يَنْقُلُ بَضَائِعَ عَلَى ظَهْرِهِ..

وَرَغْمَ فَقْرِهِ لَمْ يَكُنْ يُغَالِي فِي الْأَسْعَارَ، أَوْ يَغِشُّ النَّاسَ.

عِنْدَمَا يَجْلِسُ فِي الْمَنْزِلِ دُونَ عَمَلٍ كَانَ يُصِرُّ عَلَى تَعْلِيمِ أَوْلاَدِهِ بِنَفْسِهِ.. فَقَدْ كَانَ رَجُلاً مُتَعَلِّماً يَحْفظُ الْقُرْآنَ..».

أَحْبَبْتُ الْبَابَ.. نَعَمْ.. أَحْبَبْتُهُ مِنْ كُلِّ قَلْبِي..

أَحْبَبْتُ جَدِّي الَّذِي لَمْ أَرَهُ..

أَحْبَبْتُ حَيَاتَهُ وَإِخْلاَصَهُ وَصِدْقَهُ..

أَحْبَبْتُ جَدِّتِي الصَّابِرَةَ..

لَمْ أَعُدْ أُفَارِقَ الْبَابَ.. صَارَ الْبَابَ صَدِيقِي..

قُلْتُ لِأَبِي:

«عِنْدَمَا أَكْبر وَأَتَزَوَّجُ وَأَنْتَقِلُ إِلَى بَيْتٍ جَديدٍ سَآخُذُ هذا البابَ مَعِي..».

قالَ أَبي ضاحكاً: «أَلَنْ يُزْعِجَكَ بِصَوْتِهِ؟!».

قُلْتْ بِفَرَحٍ: «مَنْ قَالَ إِنّ صَوْتَه مُزْعِجٌ؟! صَوْتُهُ أَجْمَلُ مِنْ أَصْوَاتِ الْبَلابِلِ لكن لو كانَ أَكْثَرَ رِقّةً لَكانَ أَجْمَل..».

لَمْ يَقُلْ أَبِي شَيْئاً..

فِي الْيَوْمِ التَّالِي أَحْضَرَ أَبِي عَامِلاً إِلى مَنْزِلِنَا وَضَعَ زَيْتاً عَلى مَفَاصِلِ الْبَابِ...

قالَ: «هكذا لاَ يَعُودُ الْبَابُ يُزْعِجُ أَحَداً».

قُلْتُ: «أَشْكُرُكَ يَا أَبِي... لَقَدْ أَحْبَبْتُ الْبَابَ مِثْلَكَ تَمَاماً.. اخْتَفَى صَوْتُه الْمُزْعِجُ وَبقِيَتْ ذِكْرَيَاتُهُ الْجَمِيلَةُ..».

نُور وَالْقِطَّةُ الْجَرِيحَةُ

«تَحَرَّكِي.. هَيَّا.. لَقَدْ نَفَدَ صَبْرِي مِنْكِ».

«هَيَّا اقْفِزِي فَوْقَ الْحَبْلِ وَإِلاَّ ضَرَبْتُكِ بِهذِهِ الْعَصَا...».

«لماذَا تَبْقِينَ فِي مَكَانِكِ كَأَنَّكِ لاَ تَدْرِينَ مَاذا تَفْعَلِينَ؟».

«لا تَنْظُرِي إِليَّ بِعَيْنَيْنِ دَامِعَتَيْنِ تَتَوَسَّلِينَ إِليَّ لِأَرْحَمَكِ»..

«هَيَّا.. لَنْ يَمْنَعَكِ شَيءٌ مِنِّي.. هذا إِنْذَارِي الْأَخِيرُ».

«أَعْلَمُ أَنَّكِ تَفْهَمِينَ كُلَّ مَا أَقُولُ.. هَيَّا.. أَلاَ تَخْشَيْنَ مِنِّي..؟».

«لَنْ أَرْحَمَكِ عَلى الإِطْلاقِ، سَوْفَ أُنَفِّذُ تَهْدِيدِي.. هَيَّا اقْفِزِي فَوْقَ الْحَبْلِ.. افْعَلِي كمَا تَفْعَلُ حَيَوانَاتُ السِّيرْكِ..».

لَمْ تَكُنْ الْقِطَّةُ الْمِسْكِينَةُ قَادِرَةً عَلى تَنْفِيذِ الْأَوامِرِ..

كانَتْ مُسْتَغْرِبَةً مِمَّا يَحْدُثُ.. إِنَّها تَسْمَعُ صِياحاً غَريباً..

الْقِطَّةُ لَيْسَتْ حَيَواناً مُدَرَّباً فِي السِّيرك.. إِنَّهَا قِطَّةٌ عَادِيَّةٌ بَسِيطَةٌ..

«هَيَّا... هَيَّا.. وَاحِدْ.. اثْنَانْ...».

هَزَّتِ الْقِطَّةُ ذَيْلَهَا.. اسْتَعَدَّتْ لِتَقْفِزَ هَارِبَةً.. لكِنَّ عَصَا نُور كانَتْ أَسْرَعَ، ضَرْبةً وَاحِدةً طَارَتِ الْقِطَّةُ حَتَّى صَدَمَتِ الْحَائِطَ وَوَقَعَتْ عَلى الْأَرْضِ... انْكَسَرَتْ رِجْلُهَا.. وَسَالَ الدَّمُ مِنْ فَمِهَا..

نَظَرَتْ نُورٌ إِلى الْقِطَّةِ ثُمَّ خَرَجَتْ مِنَ الْغُرْفَةِ غَيْرَ مُبَالِيَةٍ.

بَعْدَ قَلِيلٍ دَخَلَتْ أُمُّ نُور غُرْفَةَ ابْنَتِهَا، وَجَدَتِ الْقِطَّةَ لاَ تَسْتَطِيعُ الْوُقُوفَ مِنْ الْأَلَمِ، الدِّمَاءُ تُغَطِّي فَمَهَا.. تَمُوءُ وَتَبْكِي تَرْجُو مِنْهَا الْمُسَاعَدَةَ.

حَمَلَتِ الْأُمُّ الْقِطَّةَ الْمِسْكِينَةَ، نَظَّفَتْ وَجْهَهَا مِنَ الدِّمَاءِ، رَبَطَتْ رِجْلَهَا الْمَكْسُورَةَ بِقِطْعَةِ قُمَاشٍ مُنَاسِبَةٍ، قَدَّمَتَ لَهَا الْحَلِيبَ، شَرِبَتْ مِنْهُ حَتَّى ارْتَوَتْ وَهَدَأَتْ، ثُمَّ اسْتَلْقَتْ عَلَى الْأَرْضِ.

نَادَتِ الْأُمُّ ابْنَتَهَا.. لكِنَّهَا لَمْ تَرُدَّ عَلى النِّداءِ.

قَامَتِ الْأُمُّ... نَظَرَتْ مِنَ النَّافِذَةِ، وَجَدَتْ ابْنَتَهَا تَلْهُو فِي الْحَدِيقَةِ.

رَفَعَتِ الْأُمُّ صَوْتَهَا.. قَالَتْ: «نور.. نور.. تَعَالَيْ عَلَى الْفَوْرِ».

جَاءَتْ نُورٌ مُسْرِعَةً.. فَسَأَلَتْهَا الْأُمُّ: «مَاذَا فَعَلْتِ بِالْقِطَّةِ؟!».

لَمْ تَكُنْ نُورٌ تَتَوَقَّعُ اكْتِشَافَ أُمِّهَا السَّرِيعَ لِلْقِطَّةِ الْمِسْكِينَةِ، حَاوَلَتْ أَنْ تُظْهِرَ أَنَّهَا لا تَعْرِفُ شَيئاً عَمَّا حَدَثَ، نَظَرَتْ إِلى الْقِطَّةِ... رَسَمَتْ عَلى وَجْهِهَا عَلامَاتِ الاسْتِغْرَابِ... قَالَتْ: «يا مِسْكِينَة.. مَا الّذِي حَدَثَ.. لَقَدْ تَرَكْتُهَا سَلِيمَةً..».

قَالَتِ الْأُمُّ: «أَلَمْ تَفْعَلِي لَهَا شَيْئاً يا نُور؟..».

أَجَابَتْ نُورٌ بِتَرَدُّدٍ: «لا.. لا يُمْكِنُ أَنْ أُؤْذِيهَا.. رُبَّمَا سَقَطَتْ مِنْ مَكانٍ مُرْتَفَعٍ..».

تَأَلَّمَتِ الْأُمُّ مِنْ مَوْقِفِ ابْنَتِهَا.. فَهِيَ لَمْ تُؤْذِ حَيَواناً ضَعِيفاً فَقَطْ، لكِنَّها أَيْضاً أَخْفَتِ الْحَقِيقَةَ لِتُخْفِيَ سُوءَ مَا فَعَلَتْ؛ فَقَدْ خَافَتْ مِنْ عِقَابِ أُمِّهَا وَنَسِيَتْ أَنَّ اللَّهَ يَراهَا.

نَظَرَتِ الْأُمُّ إلى ابْنَتِهَا بِعِتَابٍ شَدِيدٍ وَقَالَتْ: «لَقَدْ رَأَيْتُ الْعَصَا الذي ضَرَبْتِ بِهِ الْقِطَّةَ عَلَى الْأَرْضِ.. وَشَاهَدْتُ الْحَبْلَ، إِنَّهَا قِطَّةٌ مِسْكِينَةٌ، حَرَامٌ عَلَيْكِ.. لَقَدْ كِدْتِ تَقْتِلِينَهَا..».

لَم تَتَكَلَّمْ نُور.. عَلِمَتْ أَنَّهَا لاَ تَسْتَطِيعُ مُوَاصَلَةِ إِخْفَاءِ الْحَقِيقَةِ.

شَعُرَتِ الْأُمُّ بِحُزْنٍ شَدِيدٍ، قَالَتْ: «هَلْ أَعْجَبَكِ مَا رَأَيْتِ مِنْ دَمِ الْقِطَّةِ الْمِسْكِينَةِ، هَلْ فَرِحْتِ لِأَنَّكِ كَسَرْتِ لَهَا رِجْلَهَا، أَنَا لاَ أَفْهَمُ لِمَاذَا فَعَلْتِ هذا مَعَهَا..».

قَالَتْ: «لَمْ تَسْمَعْ كَلاَمِي وَتُنَفِّذْ مَا أُرِيدُ..».

الْأُمُّ: «لَكِنَّكِ تَطْلُبِينَ مِنْهَا شَيْئاً لاَ تَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ بِهِ..».

وَأَضَافَتْ: «هَلْ تَقْبَلِينَ أَنْ أَفْعَلَ مَعَكِ مِثْلَمَا فَعَلَتِ مَعَها..».

قَالَتْ:» «لاَ يَا أُمِّي.. أَرْجُوكِ..».

قَالَتِ الْأُمُّ: «هَيَّا.. إِذَن اقْفِزِي مِنَ النَّافِذَةِ إِلى الْحَدِيقَةِ.. سَوْفَ أُرْغِمُكِ عَلَى الْقَفْزِ.. وَإِلاَّ سَأَضْرِبُكِ بِالْعَصَا نَفْسِهَا.. هَيَّا.. بِسُرْعَةٍ.. لَقَدْ نَفَدَ صَبْرِي»..

بَكَتْ نُورٌ خَائِفَةً ظَنَّتْ أَنَّ الْأُمَّ سَتُنَفِّذُ تَهْدِيدَهَا.

قَالَتِ الْأُمُّ: «سَوْفَ أَضْرِبُكِ وَأَقُولُ لِأَبِيكِ إِنَّكَ وَقَعْتِ وَكَسَرت رِجْلَكِ وَحْدَك»..

رَاحَتْ نُورٌ تَبْكِي..

قَالَتِ الْأُمُّ: «لكِن لِلأَسَفِ، سَتُخْبِرينَ أَباكِ بِالْحَقيقَةِ.. فَأَنْتِ تَسْتَطِيعِينَ الْكَلامَ»..

سَكَتَتِ الْأُمُّ قَلِيلاً ثُمَّ قَالَتْ: «لكنْ مَنْ سَيُدَافِعُ عَنْ هذِهِ الْقِطَّةِ الْمِسْكِينَةِ وَهِيَ لاَ تَسْتَطِيعُ الْكَلامَ؟».

أَضَافَتِ الْأُمُّ: «كَمْ أَتَمَنَّى أَنْ تَتَكَلَّمَ هذِهِ الْقِطَّةَ الْجَرِيحَةَ لِتُخْبِرَنَا عَنْ قَسْوَتِكِ فَتَكْشِفَ الْحَقِيقَةَ».

حَزِنَتْ نورٌ كَثِيراً، شَعُرتْ بِخَطَئِهَا.. فَاعْتَذَرَتْ مِنْ أُمِّهَا..

قَالَتِ الْأُمُّ: «لكِنَّكِ أَسَأْتِ إِلى الْقِطَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا أَسَأْتِ إليَّ.. إِذا عَفَوْتُ أَنَا عَنْكِ هَل سَتُسَامِحُكِ الْقِطَّةُ؟».

اقْتَرَبَتْ نُورٌ مِنَ الْقِطَّةِ تُرِيدُ أَنْ تَحْتَضِنَهَا وَتُقَبِّلُهَا، لكِنَّ الْقِطَّةَ مَا إِن شَاهَدَتْهَا تَقْتَرِبُ مِنْهَا حَتَّى قَامَتْ مُسْرِعَةً تَرْكُضُ بِرِجْلِهَا الْمَكْسُورَةِ.. وَهَرَبَتْ مِنَ الْمَنْزِلِ وَهِيَ تَبْكِي.. وَلكِنْ بِغَيْرِ دُمُوعٍ.

لَمْ تَسْتَطِعِ الْقِطَّةُ الْهَرَبَ.. كَانَتْ رِجْلُهَا تُوجِعُهَا كُلَّمَا رَكَضَتْ، جَلَسَتْ فِي حَدِيقَةِ الْمَنْزِلِ لِتَرْتَاحَ.. لَحِقَتْهَا الْأُمُّ.. حَمَلَتْهَا بِرِفْقٍ لِتُهَدِّىءَ مِنْ خَوْفِهَا.. اقْتَرِبَتْ نُورٌ.. قَبَّلَتِ الْقِطَّةَ عَلَى رَأْسِهَا.. شَعُرَتِ الْقِطَّةُ بِالْأَمَانِ... اطْمَأَنَّتْ... وَعَادَتْ تَلْهُو مِنْ جَدِيدٍ.











لُعْبَةُ الْحُبِّ

«أبي.. سَأَسْأَلُكَ سؤالاً.. أَجِبْني عَنْهُ بِصَراحَة».

ــــ «تَفَضَّلي»..

ــــ «أَبي، مَنْ تُحِبُّ أَكثَر.. نوف.. أو نورا.. أو أنا؟».

ضَحِكَتِ الْأُمُّ وَهِيَ تَسْمَعُ كَلامَ شَهْد.. والْأَبُ لا يَدري مَا يَقولُ..

قَالتِ الْأُمُّ: «ما هذا السُّؤالُ يا شهدُ؟!».

قَالتْ شَهْدٌ بِدَلالٍ: «أَنا الصُّغْرى.. هذا يَعني أَنّ الْحُبَّ كُلَّهُ لي..».

قَاطَعَتْهَا نوف: «يا لَكِ مِنْ مَغْرورة... أنا أَجْمَلُ مِنْكِ.. هذا يَعْني أَنَّ الْحُبَّ كُلَّهُ لِي... أنا وَحْدِي..».

نورا ــــ الكُبْرى ــــ لَمْ تَتَكَلَّمْ.

ضَحِكَ الْأَبُ.. ضَحِكَتِ الْأُمُّ..

قَالَ الْأَبُ: «مَا بِكُنَّ اليوم؟! أَنْتُنَّ جَميعاً فِي الْحُبِّ سَواءٌ».

حَزِنَتْ شَهدٌ.. غَضِبَتْ نوف..

نورا ظَلَّتْ صَامِتَةً لا تَتَكَلَّمُ..

تَلَفَّتَ الْأَبُ وَقَالَ: «وَأَنْتِ يا نورا.. أَلَيْسَ عِنْدَكِ سُؤَالٌ؟!».

قَالَتْ: «أنا الكبرى.. كنتُ الْحُبَّ الْأَوَّلُ.. خَسِرْتُ جُزءاً مِنْهُ يَوْمَ وُلِدَتْ نوف.. خَسِرْتُ جُزءاً آخَرَ يَوْمَ وُلِدتْ شهد.. لَم يَتَبَقَّ لي مِنَ الْحُبِّ إلا الْقَلِيلُ».

ضَمَّتِ الْأُمُّ ابْنَتَهَا نورا بِحنانٍ... قَالَتْ: «لا يا نورا يا حبيبتي.. أنتِ غَالِيةٌ عَلَيْنا مِثلُ أُخْتيكِ»..

لَم تَتَكَلَّمْ نوف..

نَظَرَتْ شَهدٌ بِحُزْنٍ..

قَالَ الْأَبُ: «ما رَأَيَكُنَّ لو نَلْعَبُ لُعْبَةً جَديدةً..

مَاذا سَنُسَمِّيهَا؟!

مَاذا سَنُسَمِّيهَا؟!

لِنُسَمِّيهَا لُعْبَةَ الْحُبِّ..

نَعَمْ... لُعْبَةُ الْحُبِّ».

قَالَتْ نُورا: «لُعْبَةُ الْحُبِّ؟! مَا سَمِعْنَا بِهذِهِ اللُّعْبَةِ مِنْ قَبْلُ!»..

الْأُمُّ: «مَا قَصْدُكَ يَا أَبا نُورا؟!».

الْأَبُ: «لِنَجْلِسْ مَعاً عَلى شَكْلِ دَائِرَةٍ.. وَلْيُحْضِرْ كُلٌّ مِنَّا وَرَقَةً وَقَلَمَا».

قَالَ الْأَبُ بَعْدَمَا أَحْضَرُوا الْأَورَاقَ وَالْأَقْلامَ وَجَلَسُوا عَلى الْأَرْضِ:

«سَأَسْأَلُكُنَّ مَجْمُوعةً مِنَ الْأَسْئِلَةِ...

اكْتُبْنَ الْجوابَ الّذِي تَعْتَقِدْنَ أَنَّهُ الجوابُ الصَّحيحُ...

السُّؤالُ الأوَّل:

لو مَرِضَ أَحَدُنَا.. هَلْ يُصْبِحُ مَحَلَّ اهْتِمَامِنَا وَحُبِّنا أَكْثَرَ مِنَ الآخَرِينَ.. أَمْ تَظَلُّ الْأُمُور عَادِيةً؟

السُّؤال الثَّانِي:

لَو سَافَر أَحَدُنَا.. هَلْ يُصْبِحُ مِحْوَرَ تَفْكِيرِنَا وَحُبِّنَا.. أَمْ تَظَلُّ الْأُمورُ عَادِيةً؟

السُّؤَالُ الثَّالِثُ:

لَو تَأَخَّرَ أَحَدُنَا خَارِجَ الْبَيْتَ، هَلْ نَقْلَقُ عَلَيْهِ وَنَبْحَثُ عَنْهُ وَيَجْذِبُ كُلَّ طَاقَاتِنَا.. أَمْ تَظَلُّ الأمورُ عَادِيَّةً؟

السُّؤَالُ الرَّابعُ:

لَوْ تَعَرَّضَ أَحَدُنَا لِحَادِثٍ أَلاَ نُصابُ جميعاً بالْحُزْنِ وَنُفَكِّرُ بِهِ أَمْ أَنَّ الْأُمُورُ تَظَلُّ عَادِيَّةً؟..».

وَرَاحَ الْأَبُ يَذْكُرُ الأَسْئِلَةَ حَتَّى بَلَغَتْ عَشْرَةَ أَسْئِلَةٍ.. ثُمَّ قالَ: «لِنَضَعَ الْأَوْرَاقَ عَلَى الْأَرْضِ؛ نُقَارِنُ مَا بَيْنَ الأَجْوِبَةِ»..

قَالَ الْأَبُ مُعْلِناً النَّتِيجَةَ: «جَمِيعُ الْأَجْوِبَةُ مُتَشَابِهَةً»..

ــــ «نُحِبُّ الْمَرِيضَ وَنَرْعَاهُ»..

ــــ «نُحِبُّ الْمُسَافِرَ وَنُفَكِّرُ بِهِ»..

ــــ «نَقْلَقُ عَلَى الْغَائِبِ»..

ــــ «نَحْزَنُ عَلَى الْمُصَابِ»..

ــــ «نُحِبُّ الْمُطِيعَ.. وَنَفْخَرُ بِهِ»..

ــــ «نُحِبُّ الْمُصَلِّيْ وَنَدْعُوْ لَهُ»..

إِلَى آخِرِ الإِجَابَاتِ.

قَالَتْ الْأُمُّ بِفَرَحٍ: «الحُبُّ يَجْمَعُنَا... عِنْدَمَا يَحْتَاجُ أَحَدُنَا إلَى رِعَايَةٍ خَاصَةٍ يُصْبِحُ مَحَلَّ الرِّعَايَةِ والْإِهْتِمَامِ وَالحُبِّ»..

قالتْ شَهْدُ: «لُعْبَةٌ رَائِعَةٌ.. أَشْعُرُ الآنَ بِمَعْنَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الحُبِّ الَّذِي جَاءَ في أَسْئِلَتِكَ يَا أَبِي»..

نوف: «الْحُبُّ شَيْءٌ عَظِيْمٌ يا شَهْدُ»..

نورا: «أُرِيْدُ أَنْ أَقُولَ لَكَ شَيْئاً يا أبي... عِدْنِي ألاَّ تَحْزَنَ مِنِّي»..

الْأَبُ: «أَعِدُكِ»..

نورا: «في الحَقيقةِ... إِنِّي أُحِبُّ أُمِّي أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ شَخْصٍ في الوُجُودِ»..

الْأَبُ: «هذا شيءٌ يُفْرِحُنِي.. أَوْصَانا النَّبيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بِذَلِكَ»..

شهد: «أَلاَ يُحْزِنُكَ هذا يا أبي.. أَلاَ تَشْعُرُ بِالْغِيْرَةِ؟!»..

الْأَبُ: «لا.. أَبَداً.. أَلَمْ تَكْشِفَ لنا اللُّعْبَةُ أَنَّ لِكُلٍّ مِنَّا حُبًّا خَاصًّا للآخَرِ؟!.. وهوَ في الْنِّهَايَةِ حُبٌّ يُجَمِّعُ ولا يُفَرِّق»..

قالَ الْأَبُ: «نَحْنُ جَمِيعًا نُحِبُّ بَعْضُنَا بَعْضًا.. وأَعْظَمُ الحُبِّ حُبُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَمِنْ هذا الحُبِّ تَخْرُجُ التَّقْوَى والطَّاعَةُ، لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعْنِي طَاعَتُهُ وَبَذْلُ النَّفْسِ مِنْ أَجْلِهِ والْالْتِزَامُ بِمَا يُحِبُّ والْإِبْتِعادُ عَمّا يَكْرَهُ.. أَلاَ تَرَيْنَ أَنَّكُنَّ تُضَحِّيْنَ بأَنْفُسِكُنَّ مِنْ أَجَلِ أُمِّكُنَّ مَثَلاً؟»..

قُلْنَ جَمِيعًا: «نَعَمْ بِالْتَّأْكِيدِ»..

الْأُمُّ: «اللَّهُ تَعَالى أَوْلَى بِالْمَحَبَّةِ مِنِّي.. وَبَعْدَهُ مَحَبَّةُ الرَّسُولِ .. وعِنْدَمَا يَتَحَقَّقُ هَذا الحُبُّ يَتَحَقَّقُ حُبُّ الجَنَّةِ التي نَتَمَنَّى الوُصُولَ إِلَيْها، واللَّهُ تَعَالَى يَكُونُ رَاضِياً عنَّا عِنْدَمَا نُحِبُّ بَعْضُنَا بَعْضًا..».

الْأَبُ: «إنَّ حُبَّ اللَّهِ يَمْلأُ قُلُوبَنَا رَحْمَةً وَيَجْعَلُ الحُبَّ يُسَيْطِرَ عَلَى حَيَاتِنَا كُلِّهَا.. يَنْتَشِرُ الحُبُّ بَيْنَنَا.. نُحِبُّ الْوَطَنَ.. نُحِبُّ الْبَشَرَ.. نُحِبُّ الْخَيْرَ.. نُحِبُّ الْعِلْمَ.. نُحِبُّ الأَشْيَاءَ.. نُحِبُّ الْحَيَاةَ..».

اقْتَرَبَتْ نوف... قَبَّلَتْ رَأْسَ أَبِيْها وَأُمِّهَا... قَالَتْ:

«سأُخْبِرُ صَدِيقَاتِي غَدَاً عَنْ هذِهِ الْلُّعْبَةِ، سَأَعْرِضُ عَلَى مُدَرِّسَتِي أَنْ نَلْعَبَهَا فِي الْفَصْلِ»..

ضَحِكَتْ الْأُمُّ وَقَالَتْ:

«انْظُرْ يا أبا نورا.. بَنَاتُكَ أَحْبَبْنَ هذِهِ الْلُّعْبَةُ التي اُخْتَرَعْتَها.. سأَغيْرُ مِنْكَ بَعْدَ الْيَوْمِ..».

قَالَ الْأَبُ: «لكِنَّكِ حَصَدْتِ الحُبَّ كُلَّهُ يا أُمَّ بَنَاتِي.. عَلَيَّ أنا أَنْ أَغَارَ مِنْكِ»..

ضَحِكَ الْجَمِيعُ... كَانوا سُعَدَاءَ.. سُعَدَاءَ... لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَعْنَى الْحُبِّ.











الصَّبِيُّ المُشَاكِسُ الْمُعَاكِسُ

ماضي صَبِيٌّ صَغيرٌ لا يحبُّ أَنْ يُمْلِيَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ما الَّذي يَجِبُّ أَنْ يفعلهُ.

إذا قالتْ لَهُ أُمُّهُ تعالَ لِتَدْرُسَ.. ذَهَبَ وجلسَ أمامَ التلفزيون.. وإذا قالَ لهُ أبوهُ اخْفِضْ صوتَ التلفزيون رَفَعَ الصوتَ عالياً..

وإذا قالتْ لهُ المدرِّسةُ أريدُ وظيفتكَ غداً فلا يقومُ بها.. وإذا طلبَ منهُ أيُّ إنسانٍ طلباً ما كانَ يعاكِسُهُ ويشاكِسُهُ.. فهوَ لا يحبُّ أنْ يقولَ لهُ أحدٌ افْعَلْ أَوْ لا تفعلْ..

وكانَ يُجريْ صِراعاً دَائماً مَعَ أبيهِ وأمّهِ ومدرِّسيه.. لَكِنَّهُ يَبْقى مُصِرًّا مهما كانتْ العُقُوباتُ أو المُغْرَياتُ.. ولذلكَ كانوا يتجنّبونَهُ وَالجَمِيْعُ مِنْ حَوْلِهِ يَتَنَبَّهُ لِهَذا الأَمْرِ عندَ الحديثِ مَعَهُ..

وظلَّ ماضي على هذهِ الحالُ لا يُحِبُّ أَنْ يَأْمُرُهُ أَحَدٌ بشيءٍ.

وفي يومٍ فيما كانَ عائداً مِنَ المَدْرَسَةِ.. رأى لَوْحةً تقولُ «رجاءً.. لا تمشِ على هذا الرَّصِيفِ»..

نَظَرَ ماضي إلى اللَّوحةِ بِغَضَبٍ.. فهوَ لا يُحِبُّ الأوامرَ..

وسارَ وَسَطَ الرَّصيفِ مُتَحَدِّياً.. صاحَ بهِ رجلٌ مِنْ أَعْلى البِنَاء المجاورِ.. ابْتَعِدْ يا صَبِيّ.. ابْتَعِدْ عنِ الرصيفِ.. لكنَّهُ أصرَّ على السيرِ وإذْ بِكَمِّيةٍ مِنَ الأَلْوَانِ تَسْقُطُ عَلَيْهِ ويُصْبِحُ شَكْلُهُ مُضْحِكاً.. فَقَدْ كانَ هُنَالِكَ رِجَالٌ يَطْلُونَ البِنَاءَ مِنَ الخَارِجِ بِأَلْوَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ..

وَشَاهَدَهُ المَارُّونَ بِهَذا المَنْظَرِ ورَاحُوا يَضْحَكُوْنَ وَيَضْحَكُونَ..

عادَ ماضي إلى بَيْتِهِ على هَذِهِ الحالِ.. وأدركَ عاقِبةَ مَنْ لا يَسْتَمِعُ للآخرينَ.. وقالَ في نفسِهِ ما أَدْراني.. ربَّما في المرَّةِ القادِمةِ تَقَعُ عَليَّ حِجَارَةٌ ثَقِيلَةٌ..

ولمْ يَعُدْ ماضي يَفْعَلُ عَكْسَ ما يُقَالُ لَهُ مَرَّةً ثانِيَةً..





سَمَرُ والْقَمَرُ

طَلَعَ الْقَمَرُ كَامِلاً هذِهِ الْلَّيْلَةْ.. مستديراً مُشْرِقاً مِثْلَمَا يَكُونُ عَادةً فِي لَيَالِي صَيْفِ مُنْتَصَفِ الشُّهُورِ القَمَرِيَّةِ..

بَدَا الْجَوُّ سَاحِرَاً والنُّجُومُ تُزَيِّنُ السَّمَاءَ، والقَمَرُ البَهِيُّ فَخُوراً بِنُوْرِهِ اللاَّمِعِ الْبَرَّاقِ...

كَمَنْ غَسَلَ وَجْهَهُ بِمَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ وَلاَ تَزَالُ نِقَاطُ المَاءِ تَنْسَابُ عَلَى جَبْهَتِهِ..

نَظَرَتْ سَمَر مِنْ نَافِذَةِ غُرْفَةِ نَوْمِهَا..

فَرِحَتْ بِهَذا الْمَشْهَدِ البَدِيعِ..

رَفَعَتْ يَدَهَا..

لَوَّحَتْ بِكَفِّهَا كَعَادَتِهَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ تَكْتَمِلُ فِيهَا اُستِدَارَةُ الْقَمَرِ.. لِتُلْقِي عَلَيْهِ الْتَّحِيَّةَ..

تَحِيَّةُ الْكَمَالِ.

هَذِهِ الْمَرَّةُ شَعَرَتْ بِرَعْشَةِ الْقَمَرِ.. يَهْتَزُّ كَأَنَّهُ يُرِيْدُ رَدَّ الْتَّحِيَّةِ.. يَلُوحُ لَهَا بِكُلِّ قُرْصِهِ الْمُسْتَدِيْرِ..

فَرِحَتْ فَرَحَاً كَبِيْراً..

إِنَّهَا الْمَرَّةُ الْأُوْلَى الَّتِي يَرُدُّ الْقَمَرُ فِيهَا سَلاَماً..

جَلَسَتْ قُرْبَ الْنَّافِذَةِ عَلَى كُرْسِيٍّ صَغِيرٍ تُرَاقِبُ الْقَمَرَ.. كَانَتِ الْنُّجُوْمُ مِنْ حَوْلِهِ تَهْتَزُّ طَرَبَاً..

قَضَتْ سَمَر لَيْلَتَهَا تُسَامِرُ الْقَمَرَ..

دَهَمَ الْنَّوْمُ عَيْنَيْ سَمَر.. فِيْمَا كَانَتْ النَّسَائِمُ تَمْسَحُ وَجْنَتَيْها..

اقْتَرَبَ القَمَرُ، دَنَا مِنْهَا شيئاً فشيئاً.. كَيْلا يُوْقِظَهَا..

عِنْدَمَا وَصَلَ نَافِذَتَهَا الْصَّغِيرَةَ فُوْجِىءَ القَمَرُ..

وَجَدَ الْكُرْسِيَّ فَارِغاً.. سَبَقَتْهُ أُمُّهَا وَحَمَلَتْهَا إلَى الْسَّرِيْرِ..













جَدَّتي في عِيدِها التِّسعين



جَدَّتي عُمْرُهَا تِسْعُونَ سَنَةً.. احْتَفَلَتْ قَبْلَ يَوْمَيْنِ بِعِيْدِ مِيْلاَدِهَا.. ارْتَدَتْ أَحْلَى ثِيَابَهَا.. وَضَعَتْ عَلَى رَأْسِهَا مَنْدِيلاً مُلَوَّناً.. وَزَيَّنَتْ صَدْرَهَا بِعَقْدٍ مِنَ اللُّؤلُؤ، وَوَضَعَتْ في شَعْرِهَا وَرَدَةً حَمْرَاءَ.. فَجَدَّتِي تُحِبُّ الْحَيَاةَ..

أَسْمَعَتْنَا جَدَّتِي في عِيْدِ مِيْلاَدِهَا الأَخِيرِ حِكَايَاتٍ تَرْوِيهَا رُبَّمَا لِلْمَرَّةِ الأَلْفِ، ومَعْ ذَلِكَ، سَمِعْنَاهَا بِشَغَفٍ وحُبٍّ.. أَعَادَتْنَا إلى الوَرَاءِ أَعْوَاماً طَوِيلَةً.. ذَكَّرَتْنا بِطُفُولَتِنَا.. وقَالَتْ إِنَّهَا سَتَرْوِي لَنَا قِصَصًا أُخْرَى جَدِيدَةً عِنْدَ اُحْتِفَالِهَا بِالْعِيْدِ المِئَةِ مِنْ عُمْرِهَا..

الْعِيْدُ التِّسْعُونَ جَمَعَ كُلَّ أَفْرَادِ الْعَائِلَةِ.. أَطْفَالاً وشَبَاباً وشُيُوخاً.. فَجَدِّيْ عُمْرُهُ سَبْعُونَ سَنَةً.. وهِيَ في الحَقِيْقَةِ لَيْسَتْ جَدَّتِي، بَلْ أُمُّ جَدِّي، أَعْنِي أَنَّها جَدَّةُ أَبِي.. وأَبِي عُمْرُهُ خَمْسٌ وأَرْبَعُونَ سَنَةً..

قَضَيْنَا وَقْتَاً طَوِيْلاً ونَحْنُ نَفْتَحُ الهَدَايا الَّتِي مَلأَتْ دَارَ جَدَّتِي الوَاسِعَةَ.. الكُلُّ تَسَابَقَ لِيُهْدِيَهَا هَدِيَّةً تُعَبِّرُ عَنْ حُبِّهِ لهَا.. أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أُرِيْدُ هَدِيَّةً مُخْتَلِفَةً.. لَمْ أَشْتِرِ هَدِيَّةً مِنْ مَحَلٍّ ولا من سوبِّرْ مارْكِتْ.. أَرَدْتُ أَنْ أَصْنَعَ لَهَا شَيْئاً بِيَدَيَّ أنا.. صَنَعْتُ لها ثَوْبَاً مُلَوَّناً بِقِطَعِ قِمَاشٍ كَثيرةٍ لِيَبْدُو الثَّوْبُ تُحْفَةً رائِعَةً.. فأنا خَيَّاطَةٌ ماهِرَةٌ، وكُلُّ طالِباتُ مَدْرَسَتِي يَحْسُدْنَنِي عَلَى ذَلِكْ.. فَقَدْ عَلَّمَتْني جَدَّةُ أَبي أَشْيَاءَ كَثيرةً، فهيَ مَدْرَسَةٌ.. بَلْ جَامِعَةٌ لِكُلِّ الكُلِّياتِ الجَامِعِيَّةِ..

قَبْلَ يَوْمَيْنِ فَقَطْ، عِشْنَا مَعَ جَدَّتي لَحَظَاتٍ عائِلِيَّةٍ نَادِرَةٍ، الْجَمِيعُ حَضَرَ مِنْ كُلِّ الأَنْحَاءِ، حتَّى عَمِّي الْمُهَاجِر في كَنَدا وخَالَتِي الَّتِي تَعْمَلُ طَبِيْبَةً في بَلَدٍ خَلِيجِيّ.. وابْنُ عَمِّي الَّذِي يَدْرُسُ في فَرَنْسَا.. وعَمَّتِي الَّتِي تَعِيْشُ في مَدِينَةٍ بَعِيدَةٍ..

كانَ احْتِفَالاً حَقيقيًّا.. لَكِنَّنِي في الحَقيقةِ لا أدْري كَيْفَ اُسْتَوْعَبُ مَنْزِلُ جَدَّتي كُلَّ هذا العَدَدِ مِنَ النَّاسِ..

بَعْضُهُمْ كانَ يَقْضِي الْوَقْتَ في الحَديقةِ، وبَعْضُهُمْ جَلَسَ في الصَّالَةِ، وبَعْضُهُمْ خَرَجَ إلى سَطْحِ الْمَنْزِلِ لِيَتَنَشَّقَ الهَواءَ المُنْعِشَ.. وكنَّا جَميعاً نَحْرِصُ على الْالْتِفَافِ حَوْلَها قَدْرَ الْمُسْتَطَاعِ لِنَسْتَمِعَ إلى حِكَاياتِها الَّتِي تُكَرِّرُها دونَ أنْ تَنْسَى تَفَاصِيْلَهَا ودُوْنَ أَنْ تَمَلَّ مِنْ ذِكْرِهَا.. فِيْمَا الْمُسْتَمِعُونَ لا يَمَلُّونَ مِنَ الْإِسْتِمَاعِ إلَيْهَا، فَمِنَ النَّادِرِ حَقًّا أَنْ تَجِدَ واحِداً لَمْ يَسْتَمِعْ إلى قِصَّةٍ مِنْهَا وَلَوْ مَرَّةً واحِدَةً لِأَنَّها تَرْوِيها باسْتِمْرارٍ..

أمّا أنا فَقَدْ كُنْتُ المُسْتَمِعَةُ الدَّائِمَةُ.. أَحْفَظُ قِصَصَ جَدَّتِي عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وأُطَالِبُها بالْمَزِيدِ وتَكْرَارِ القِصَصِ.. فَهِيَ عِنْدَما تَرْوي قِصَّةً وتُعِيدُ رِوَايَتَها تَرْوِيْهَا بِأُسْلوبٍ جَدِيْدٍ يَبْدُو لِي وكَأَنَّها المَرَّةُ الأُوْلَى الَّتِي تَرْوِيها فِيْها..

عِشْتُ مَعْ جَدَّتِي طُفُولَتي وصِبَايَ..

بَيْتُنَا قَرِيْبٌ مِنْ بَيْتِهَا.. فَأَبي مِثْلُ أَبِيْهِ وجَدِّهِ يُحِبُّونَ الحَيَاةَ في القَرْيَةِ ويُفَضِّلُونَ العَيْشَ فِيْهَا، وَمِنَ الْنَّادِرِ أَنْ يُغَادِرُوا الْقَرْيَةَ إلاَّ لِسَبَبٍ قَاهِرٍ.. لِذَا فإنَّنا قَليلاً ما نَبْتَعِدُ عَنْ جَدَّتي، الَّتي أَعْتَبِرُهَا صَدِيْقَتِي رَغْمَ فارِقِ السِّنِّ بَيْني وبَيْنَها.. والجَمِيْعُ يَعْرِفُ كَمْ أُحِبُّها..

قَبْلَ يَوْمَيْنِ فَقَطْ اجْتَمَعَتِ العَائِلَةُ كُلُّها.. كِبَاراً وصِغَاراً لِيَحْتَفِلُوا بِعِيْدِ مِيْلاَدِ الجَدَّةِ العَجُوزِ.. وكَانَتْ تَعِدُهُمْ باحْتِفَالٍ أَكْبَرَ في عِيْدِها المِئَة..

الْيَوْمَ صَبَاحًا.. وَمِنْ دُوْنِ مَوْعِدٍ مُسْبَقٍ؛ عادَ أَفْرَادُ العَائِلَةِ لِيَجْتَمِعُوا جَمِيْعًا وَلِيُوَدِّعُوا جَدَّتِي الوَدَاعَ المُفَاجِىءَ.. الأَخِيرْ.



















سَنْفُور بَعْدَ رَمَضَانْ

لَمْ يَكَدْ يَنْتَهي رَمَضانُ حَتَّى انْشَغَلَ سَنْفُور بِأَمْرٍ ما..

صَارَ يَأْكُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ في حَيَاتِهِ.

خَافَتْ سَنْفُورة عَلَيْهِ وحَذَّرَتْهُ مِنَ الْمَرَضِ.

غَضِبَ مِنْهَا سَنْفُور وَأَمَرَهَا أَلاَّ تَتَدَخَّلَ في حَيَاتِهِ..

قالَ لَها: شَهْرٌ كَامِلٌ وأنا صَائِمٌ.. سَأَشْبَعُ الآنَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.

لَكِنَّ سَنْفُور أُصِيبَ بانْتِفَاخٍ في مَعِدَتِهِ..

لَمْ يَعُدْ يَسْتَطِيْعُ السَّيْرَ.

جاءَ الطَّبِيْبُ وَمَنَعَهُ مِنْ تَنَاوُلِ الأَطْعِمَةِ التي يُحِبُّها.

قالَ الطَّبِيْبُ: لَوْ رَحِمْتَ مَعِدَتَكَ لَمَا أَصَابَكَ الْمَرَضُ.

كانَتْ سَنْفُورة حَزِينَةً... وسَهِرَتْ عَلَى مَرَضِ أَخِيْهَا حَتَّى شُفِيَ ولَمْ يَعُدْ يَأْكُلُ بِشَرَاهَةٍ حَتَّى لا يُصَابُ بِالْتُّخَمَةِ.





الْمُفَكِّرُ الصَّغِيْرُ

قَرَّرَ نِضَالُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِفاً عَنِ الآخَريْنَ.. لا يُرِيْدُ أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدَ شابٍ صغيرٍ تَقْتَصِرُ حَيَاتُهُ عَلَى الْمَدْرَسَةِ واللَّعِبِ ومُشَاهَدَةِ التليفزيون..

عَقَدَ العَزْمَ على أَنْ يُبْدِعَ في شَيْءٍ ما مُمَيَّزٍ..

قضى نضالُ وَقْتاً طَوِيلاً.. يُفَكِّرُ ويُفَكِّرُ فيمَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ؟

سَأَلَ والدَهُ وأُمَّهُ.. أَخْبَرَهُمَا عَنْ رَعْبَتِهِ..

قالاَ لَهُ إنَّ هذا التَّفْكِيْرُ شَيْءٌ رائِعٌ.. وإنَّهما يُؤَيِّدَانَهِ لَكِنْ بِشَرْطٍ واحِدٍ: أَلاَّ يَكُوْنَ تَفْكِيْرُهُ على حِسَابِ دِرَاسَتِهِ وتَفَوُّقِهِ في المَدْرَسَةِ..

وَعَدَهُما نِضَالُ أَنْ يُفَكِّرَ بِعَمَلِ شَيْءٍ بَعْدَ وَقْتِ الدِّرَاسَةِ..

طَلَبَ مِنْ والدِهِ أنْ يُشْرِكَهُ في دَوْرِةِ خاصّةٍ بالكُمْبيوتِر.. وتَحْديداً في برامِجِ الإنْتِرْنِتْ..

صارَ نِضَالُ يَذْهَبُ كُلَّ يَوْمٍ مَسَاءً إلى نادٍ مُتَخَصِّصٍ بالإنْتِرْنِتْ..

تَعَلَّمَ أَنْ يُنْشِىءَ مَوْقِعاً خَاصًّا..

كانَ لِنضَالِ حَصَّالَةً يَجْمَعُ فِيْهَا جُزْءاً مِنْ مَصْرُوفِهِ اليَوْمِيّ..

سَأَلَ عَنْ قِيْمَة اسْتِئْجَارِ مَوْقِعٍ على الإِنْتِرْنِتْ.. لَمْ يَكْفِ الْمَبْلَغَ الَّذِي مَعَهُ.. عَرَضَ الفِكْرَةَ على أمِّهِ وأَبِيْهِ، وطَلَبَ مُسَاعَدَتَهُمَا..

وَافَقَ أَبُوهُ ووَافَقَتْ أُمُّهُ.. وأطْلَقَ نِضَالُ مَوْقِعَهُ تَحْتَ عُنْوَانْ (هُنَا الْمُفَكِّرُ الصَّغِيْرُ).. وأعْلَنَ عَنِ الْمَوْقِعِ دَاخِلَ الْمَدْرَسَةِ..

فَرِحَتْ إِدَارَةُ الْمَدْرَسَةِ بِإِنْجَازِ نِضَال الْمُتَمَيِّزِ.. وَمَنَحَتْهُ جَائِزَةُ الطَّالِبِ الْمُتَفَوِّقِ..

وعَرَضَتْ عَلَيْهِ مُسَاعَدَتَهُ في الْمَوْقِعِ وزِيادَةِ حَجْمِ اسْتِيعَابِهِ لِيَشْتَرِكَ بِهِ كُلُّ طُلاَّبِ الْمَدْرَسَةِ وَيَظَلُّ هُوَ مُدِيْرُ الْمَوْقِعِ وصَاحِبُهُ الرَّئِيسِي.. أَصْبَحَ نضالُ «مُدِيْرَاً»..

الْكُلُّ في الْمَدْرَسَةِ يَعْرِفُهُ..

لَكِنَّهُ ظَلَّ وَفِيًّا لِوَعْدِهِ.. ظَلَّ مُتَفَوِّقاً في دِرَاسَتِهِ.. ولَمْ يَكُنْ تَفْكِيْرُهُ عَلَى حِسَابِ دِرَاسَتِهِ..

الْيَوْمَ كَبُرَ نِضَالُ.. أَصْبَحَ «مُدِيراً» لِشَرِكَةِ كُمبيوتِرْ.. وأَصْبَحَ مُفَكِّراً كَبِيْراً..





رحلة إلى السيرك

أَقَامَتْ مَدْرَسَتُنَا رِحْلَةً رَائِعَةً انْتَظَرْتُهَا بِشَغَفٍ لِمُشَاهَدَةِ عُروضِ الْسِّيْركِ الْعالَمِيّ الْحَافِلِ بالْدَّهْشَةِ والْتَّشْوِيقِ والْغَرابَةِ، كُنْتُ أَسْمَعُ كَثِيْراً عَنْ مِثْلِ هَذِهِ العُروضِ لَكِنِّي لَمْ أُشَاهِدْ أَيًّا مِنْهَا بِشَكْلٍ حَيٍّ مُبَاشِرْ، رَغْمَ أَنِّي كُنْتُ أَتَابِعُ بِاسْتِمْرَارٍ الْعُروضَ الَّتِي يُقَدِّمُهَا التِّلِفِزْيون مِنْ آنٍ إلى آخَرَ..

لَقَدْ شَعَرْتُ وَأَصْدِقَائِي بَرَهْبَةٍ حَقِيْقِيَّةٍ مِنْ كُلِّ الْمَشَاهِدِ الْخطِرَةِ الَّتِي رَأَيْنَاهَا، فَقَدْ كَانَتِ الْحَيَوَانَاتُ الْمُفْتَرِسَةَ تَتَنَقَّلُ بِحُرِّيَةٍ في مِيْدَانِ العَرْضِ الَّذِي تُحِيْطُهُ أَسْوَارٌ ضَخْمَةٌ حِرْصاً عَلَى سَلاَمَةِ الجُمْهُورِ... وَكَادَ قَلْبِي يَتَوَقَّفُ عِنْدَمَا شَاهَدْتُ مُدَرِّبَ الأُسُودِ يَضَعُ رَأْسَهُ في فَمِ الْأَسَدِ بَيْنَ أَنْيَابِهِ القَاطِعَةِ، فَأَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ ظَنًّا مِنِّي أَنَّهُ سَيَخْلَعُ رَأْسَهُ مِنْ مَكَانِهِ.

وَأَصَابَنِي هَلَعٌ شَدِيْدٌ عِنْدَمَا وَضَعَ الفِيْلُ الضُّخْمُ قَدَمَهُ عَلَى صَدْرِ الْمُدَرِّبِ لِلَحَظَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَهَا وَيَمُرَّ فَوْقَهُ بِسَلاَمٍ دُوْنَ أَنْ يُصِيْبَ صَاحِبَهُ بِسُوْءٍ..

تَعَجَّبْتُ كَثِيْراً عِنْدَمَا شَاهَدْتُ التَّمَاسِيْحَ تَتَحَرَّكُ عَلَى وَقْعِ الْمُوْسِيْقَى... وَكَيْفَ تَنْصَاعُ حَيَوَانَاتُ الفَقْمَةِ والنُّمُوْرِ والقُرُودِ.. لِأَوَامِرَ مُدَرِّبِيْهَا... وغير ذلك من المشاهد المدهشة...

تَسَاءَلْتُ كَيْفَ تَخْضَعُ هذِهِ الحَيَوَانَاتُ بِوَدَاعَةٍ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ بِشَرَاسَتِهَا، تُنَفِّذُ أَوَامِرَ الْمُدَرِّبِيْنَ ولا تَمْلِكُ عَقْلاً يُرْشِدُها؟! فِيْمَا تَسْتَطِيْعُ بِضَرْبَةٍ واحِدَةٍ القَضَاءُ عَلَى الْمُدَرِّبِ وَبِسُهُولَةٍ شَدِيْدَةٍ..

عُدْتُ إلىَ البَيْتِ وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الصَّبْرَ والإرَادَةَ قادِرانِ على صُنْعِ الأَعَاجِيْبِ... وَقَرَّرْتُ ألاَّ أَعْصِيَ والِدَيَّ بَعْدَ الْيَوْمِ... لأَنِّي أَمْلِكُ عَقْلاً يُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّوَابِ والخَطَأْ... وَأَكْبَرُ بِكَثِيْرٍ مِنْ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَوَحِّشَةِ الَّتِي أَصْبَحَتْ وَدِيعَةً تَسْتَجِيْبُ إلى أَوَامِرِ مُدَرِّبِيْهَا بِهُدُوءٍ وَوَدَاعَةٍ.



عَادِلُ وَجَرِيْدَةُ الصَّبَاحِ

كَانَ عَادِلُ يَرَى أَبَاهُ يَقْرَأُ الْجَرِيْدَةَ صَبَاحَ كُلِّ يَوْمٍ وَهُوَ يَشْرَبُ فُنْجَانَ قَهْوَةْ...

عِنْدَما يَخْرُجُ أَبُوهُ إلى العَمَلِ يَجْلُسُ عَادِلُ في المَكَانِ الَّذِي يَجْلِسُ فيهِ أَبُوهُ عَادَةً.. يَحْمِلُ الجَرِيْدَةَ.. يَتَأَمَلُ صُوَرَها.. وَيَشْرَبُ كُوباً مِنَ الحَلِيْبِ.

ب َعْدَ أَنْ دَخَلَ عَادِلُ المَدْرَسَةَ، وَتَعَلَّمَ القِرَاءَةَ، اشْتَرَكَ في عَدَدٍ مِنْ مَجَلاَّتِ الأَطْفَالِ العَرَبِيَّةِ، كَمَا اشْتَرَكَ أيْضاً في مَجَلاَّتٍ أجْنَبِيَّةٍ.. وقَدْ كَانَ يُدَّخِرُ مَصْرُوفَهُ اليَوْمِيُّ لِيَشْتَرِكَ في نِهَايَةِ كُلِّ شَهْرٍ بِمَجَلَّةٍ واحِدَةٍ لِمُدَّةِ سَنَةٍ كامِلَةٍ..

اليومَ لا يَسْتَطِيْعُ عَادِلُ قِرَاءَةَ العَدَدِ الكَبِيْرِ مِنَ المَجَلاَّتِ التي تَصِلُهُ يَوْمِيًّا..

فَهُوَ الآنَ رَئِيسُ تَحْرِيْرِ صَحِيْفَةٍ يَوْمِيَّةٍ تَصْدُرُ عَشَرَاتِ المَجَلاَّتِ ومِنْها خاصٌّ بالطِّفْلِ..

ولا يَزَالُ عَادِلُ يَحْتَفِظُ في مَكْتَبَتِهِ الضَّخْمَةِ جدًّا بِمُعْظَمِ الْمَجَلاَّتِ التي جَمَعَها في أَيَّامِ طُفُولَتِهِ السَّعِيْدَةِ..





مازِنُ الرَّسَّامُ



اشْتَرَى مازنُ كِتَاباً أزْرَقَ الْلَّوْنِ..

في الكِتَابِ صُوَرٌ كَثِيْرَةٌ ورُسُومَاتٌ مُلَوَّنَةٌ.

مازِن يُحِبُّ الفَنَّ والرَّسْمَ..

اشْتَرَكَ في مَعْهَدٍ في مِنْطَقَتِهِ..

كَانَ يَذْهَبُ لِوَحْدِهِ لأَنَّهُ قَرِيْبٌ جِدًّا مِنَ المَنْزِلِ.. ويَأْخُذُ مَعَهُ الكِتَابَ الأَزْرَقُ.

عِنْدَما يَصِلُ إلى المَعْهَدِ يَفْتَحُ الكِتَابَ ويَبْدَأُ بِرَسْمِ بَعْضِ رُسُومَاتِهِ الجَمِيْلَةِ بِأُسْلُوبِهِ ورِيْشَتِهِ وأَلْوَانِهِ.

أبو مازن سَعِيْدٌ بما يُحَقِّقُهُ ابْنُهُ مِنْ تَقَدُّمٍ.

أُمُّهْ سَعِيْدَةٌ جِدًّا وفَخُورَةٌ بِابْنِها.

كَبُرَ مازنُ وكَبُرَتْ مَعَهُ هِوَايَةَ الرَّسْمِ.

سأَلَهُ المُدَرِّسُ: عِنْدَما تَدْخُلُ الجَامِعَةَ مَاذا سَتَفْعَلْ؟

قالَ لَهُ: سَأَدْخُلُ كُلِّيَةَ الفُنُوْنِ... وسَأَتَخَصَّصُ بِالْرَّسْمِ..

مازنُ اليَوْمَ صَاحِبُ مَعْرِضٍ كَبِيْرٍ ورُسُومَاتُهُ تُبَاعُ في أَنْحَاءِ العَالَمِ..

وما زالَ مازنُ يَحْتَفِظُ بِكِتَابِهِ الأَزْرَقَ حَتَّى اليَوْمَ.





مُنَى تَتَعَلَّمُ الخِيَاطَةَ



مُنَى تُحِبُّ الذَّهَابَ إلى السُّوْقِ. وأَكْثَرُ ما يُعْجِبُهَا الأَثْوَابُ المُلَوَّنَةُ في وَاجِهَاتِ المَحَالّ.

سَأَلَتْ أُمّها: كَيْفَ يَصْنَعُوْنَ هَذِهِ المَلاَبِسُ الرَّائِعَة.

أجَابَتْها: هُنَالِكَ مَصَانِعُ كَبِيْرَةٌ، يَعْمَلُ بِهَا الآلافُ، وفي المَاضي كانَتْ الثِّيَابُ تُصْنَعُ يَدَوِيًّا فَقَطْ، لَكِنَّ اليَوْمَ هُنَالِكَ آلاتٌ حَدِيْثَةٌ تُوَفِّرُ الوَقْتَ والجَهْدَ.. ومَعْ ذَلِكَ هُنَالِكَ خَيَّاطُونَ ما زالوا يَعْمَلْونَ بِأَيْدِيْهِم، ومُعْظَمُ الأَغْنِيَاءُ يُفَضِّلُونَ المَلاَبِسَ التي تُصْنَعُ خِصِّيْصاً لَهُمْ بِوَاسِطَةِ مُصَمِّمِيْنَ مِنْ مُخْتَلَفِ أَنْحَاءِ العَالَمِ..

قالتْ مُنَى: أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ خِيَاطَةَ الثِّيَابِ. اخْتَارَتْ مُنَى في مَدْرَسَتِهَا نَشَاطَ الخِيَاطَةِ، واشْتَرَكَتْ في نادٍ لِتَتَعَلَّمَ أُصُولَ هَذِهِ المِهْنَةِ الجَمِيْلَةِ.

أَصْبَحَتْ مُنَى تَحِيْطُ ثِيَاباً، لُعَبِهَا، وَتُصْلِحُ ثِيَابَ أَبِيْها، وَتُقَصِّرُ بِنْطَالَها.. وتَصْنَعُ سَتَائِرَ لِلْمَدْرَسَةِ وأَغْطِيَةً لِلْطَّاوِلاَتِ، وصَارَتْ تَخِيْطُ لِصَدِيْقَاتِها أَثْوَابُ لُعَبِهِنَّ..

كَبُرَتْ مُنَى.. وعِنْدَما أَصْبَحتْ شَابَّةً صَارَ عِنْدَها مَصْنَعاً لِلْثِّيَابِ.

فَتَحَتْ لِلْمَصْنَعِ فُرُوعاً كَثِيْرَةً.. وأَصْبَحَتْ مُصَمِّمَةً مَشْهُورَةً وغَنِيَّةً.. وصَارَتْ صُوَرُ مُنَى وأَزْيَائِها تُنْشَرُ على صَفَحَاتِ المَجَلاَّتِ الخَاصَّةِ بِالفَنِّ والأَزْيَاءِ..



كَيْفَ أَصْبَحْتُ طَبِيْبَاً؟



ذَهَبَ طَلالُ إلى عِيَادَةِ «عمو سَعِيْد» بَعْدَ إصَابَتِهِ بِالْبَرْدِ.. عَايَنَ «عمو سَعِيْد» طلالَ.. وأَعْطَاهُ دَوَاءً لِيَشْرَبَهُ ثُمَّ قالَ: أَنْتَ بِصِحَّةٍ جَيِّدَةٍ يا بَطَلْ.. غَداً بإمْكَانِكَ الذَّهَابُ إلى الْمَدْرَسَةِ، فَعَلَيْكَ أَنْ تَدْرُسَ وتَجْتَهِدَ لِتُصبِحَ طَبِيْباً مِثْلي..

فَكَّرَ طلالُ قَلِيْلاً وسَأَلَهُ:

«عمو سَعِيْد» أبي دَائِماً يقولُ إنَّكَ أَصْبَحْتَ طَبِيْباً بِإصْرَارِكْ. أنا أرِيْدُ أَنْ أَعْرِفَ كَيْفَ أَصْبَحْتَ طَبِيْباً؟

ضَحِكَ «عمو سَعِيْد» وقالَ مُمَازِحاً طلال:

في يَوْمٍ، فيمَا كُنْتُ في فِرَاشي نَائِماً، جَاءَنِي جِنِّيٌّ سَاحِرٌ، أَحْضَرَ لي حَقِيْبَةً فيها كُلُّ أَدَوَاتِ الطَّبِيْبِ وعِنْدَمَا اسْتَيْقَظْتُ وَجَدْتُها.. فقالَ ليَ الجِنِّيُّ: «يَجِبُ أَنْ تُصْبِحَ طَبِيْباً لِتُسَاعِدَ المَرْضى، ومُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَصْبَحْتُ طَبِيْباً..

طلالُ ذَكِيٌّ جِدًّا يَعْرِفُ أَنْ لا وُجُودَ لِهَذا الجِنِّيُّ، وأَنَّ الجِنَّ الحَقِيْقِي عَالَمٌ آخَرُ لَيْسَ لَهُ عَلاَقَةٌ بِعَالَمِ الإنْسَانِ، ومَعَ ذَلِكَ ذَهَبَ إلى بَيْتِهِ يُفَكِّرُ ويَحْلُمُ بالجِنِّيِّ وحَقِيْبَةِ الطَّبِيْبِ..

في اليَوْمِ التَّالي اسْتَيْقَظَ طَلالُ في وقتٍ مُبْكِرٍ ورَاحَ يَبْحَثُ عَنِ الحَقِيْبَةِ فَلَمْ يَجِدْهَا..

وظَلَّ كُلَّ يَوْمٍ يَنْتَظِرُ الجِنِّيَّ والحَقِيْبَةَ..

أخْبَرَ «عمو سَعِيْد» أَبا طلال بِحِكَايَةِ ابْنِهِ، فَظَلَّ يَضْحَكُ فَتْرَةً طَوِيْلَةً.. ثُمَّ ذَهَبَ أبو طلال بِرِفْقَةِ أمِّ طلال واشْتَرَيَا حَقِيْبَةً وَوَضَعَا فيها كُلُّ أَدَوَاتِ الطِّبيبِ التي تُنَاسِبُ عَمْرَ طلال ولا تُؤْذِيْهِ.

في الصَّبَاحِ التَّالي اسْتَيْقَظَ طلال فَوَجَدَ الحَقِيْبَةَ.

كانَتْ مَلأَى بأَدَوَاتِ الطِّبِّ.. سَمَّاعةٌ.. ضَمَّادٌ.. آَلَةٌ لِقِيَاسِ الضَّغْطِ، سَاعةٌ، كَمَّامٌ، مُطَهِّرٌ.. بَدَأ طلال يُمَارِسُ عَمَلَهُ كَطَبِيبٍ..

اليَوْمَ يَمْلِكُ طلال أَكْبَرَ مَرْكَزٍ طِبِّيٍّ مُتَخَصِّصٍ بِمُعَالَجَةِ العُيُونِ.. ولا يَزَالُ مُحْتَفِظًا بِالْحَقِيْبَةِ.. وعِنْدَمَا يَتَذَكَّرُ حِكَايَةَ الجِنِّي.. يَضْحَكُ كَمَا ضَحِكَ. «عمو سَعِيْد».





العمّ صالِحْ  



نَادِرَاً ما كنَّا نَرَى العمّ صالِح ــــ صَاحِبُ الْمَتْجَرِ المُقَابِلِ لِمَدْرَسَتِنَا القَدِيْمَة ــــ ضَاحِكاً أَوْ عَلَى الأَقَلّ مُبْتَسِماً، كانَ على الدَّوَامِ مُكَشِّراً، ويَزِيْدُ مِنْ جَهَامَتِهِ أَخَادِيْدُ الزَّمَنِ المَحْفُورَةِ كَأَخَادِيْدٍ في الصَّخْرِ..

البَشْرَةُ السَّمْرَاءُ التي أَدْكَنَتْهَا الشَّمْسُ، وصَبَغَتْهَا بِلَوْنٍ قَاتِمٍ، إضَافَةً إلى صَرَامَةِ العمِّ صَالِح وتَكْشِيْرَتِهِ المُعْتَادَةِ، جَعَلَنَا ونَحْنُ طلاَّباً صِغَاراً نَخْشَىْ الاقْتِرَابَ مِنَ المَتْجَرِ، وحتَّى أَنْنَا نَبْتَعِدُ عَنْ مَدْخَلِ الْمَحَلِّ، ونَسِيْرُ عَلَى الرَّصِيْفِ المُقَابِلِ لِنَتَحَاشَىْ مُقَابَلَةَ العمِّ صالح وَجْهاً لِوَجْهٍ.

ولَوْلاَ بَعْضُ الزَّبَائِنِ الَّذِيْنَ يُدَاوِمُونَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ لأَقْفَلَ العمُّ صالِح مَتْجَرَهُ الصَّغِيْرُ..

وكُنّا نَعْجَبُ كَيْفَ لا يَسْتَغِلُّ هَذا الرَّجُلُ وُجُودَ مَتْجَرِهِ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ مَدْرَسَتِنَا لِيَمْلأَ الْمَتْجَرَ بِبَضَائِعَ يَهْوَاهَا التَّلاَمِيْذُ في مِثْلِ سِنِّنا، وَكَيْفَ أنَّهُ لا يَقُوْمُ بِعَرْضِ ما يَجْذِبُنَا إلى المَحَلِّ، وتَغْيِيْرِ هَذِهِ التَكْشِيْرَةِ، وَتَبْدِيلِها بِابْتِسَامَةٍ عَرِيْضَةٍ..

وَبَدَا لِي أنَّ العمَّ صالح لم يَكُنْ مُهْتَمًّا بِالْبَيْعِ والمُتَاجَرَةِ، كَأَنَّهُ يُرِيْدُ قَضَاءَ يَوْمِهِ وَيَرْحَلْ..

عِشْنَا مَعَ العمّ صالح طُفُوْلَةً طَوِيْلَةً، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ تَلاَمِيْذِ المَدْرَسَةِ يَدْخُلُ مَتْجَرَهُ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُنْفِعُهُ بِقِرْشٍ وَاحِدٍ..

أَصْبَحَ العمّ صالح بِالْنِّسْبَةِ لُغْزاً.. نَخْشَى الاقْتِرَابَ مِنْهُ، وَلَوْ كُنّا بِحَاجَةٍ إِلى زُجَاجَةِ مَاءٍ نَشْتَرِيْها مِنْ مَحَلِّهِ في يَوْمٍ شَدِيْد الحَرِّ، بَلْ نُفَضِّلُ تَحَمُّلَ العَطَشِ عَلَى تَحَمُّلِ نَظَرَاتِهِ الحَادَّةِ وتَكْشِيْرَتِهِ الرَّهِيْبَةِ.

لم نَكُنْ نَدْرِي أَبَداً ما سِرُّ العمّ صالح، ولماذا هُوَ دَائِمُ التَّكْشِيْرِ؟، ولِمَاذَا يُصِرُّ عَلَى مُجَافَاةِ تَلاَمِيْذِ الْمَدْرَسَةِ الَّذِيْنَ قَدْ يَعْتَبِرُهُمْ أَيُّ صَاحِبِ مَتْجَرٍ آخَرَ ثَرْوَةً يَجِبُ عَدَمُ التَّفْرِيْطِ بِهَا.

شَعَرْتُ أَنَّ عَلَيَّ القِيَامُ بِخُطْوَةٍ تَكْشِفُ كُلَّ أَسْرَارِ العمّ صالح، اعْتَقَدْتُ أَنَّ مَحَلَّهُ قَدْ يَكُوْنُ مَلِيئَاً بِالْأَشْيَاءِ الرَّابِعَةِ الَّتِي يَخْشَى عَلَيْها مِنْ أَوْلاَدٍ شَيَاطِيْنَ مِثْلَنَا، فالْمُشَاغَبَاتُ والْمُشَاحَنَاتُ والأَصْوَاتُ العَالِيَةُ الَّتِي كانَتْ مِنْ مَشَاهِدِنَا اليَوْمِيَّة فَوْرَ خُروجِنَا مِنَ الْمَدْرَسَةِ تَجْعَلُنا مَحَلَّ رَصْدٍ واُجْتِنَابٍ وخَشْيَةٍ..

لَكِنْ.. هَلْ أَسْتَطِيْعُ اقْتِحَامَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَرْتَعِدُ مِنْ مَنْظَرِهِ كُلُّ أَطْفَالُ مَدْرَسَتِي؟!

أنا لَمْ أَكُنْ جَرِيْئاً إِلى هَذَا الحَدِّ في يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ، وَلَسْتُ الآنَ مُدَّعِياً لِهَذَا الشَّرَفِ، وحَتَّى بَعْدَ أَنْ نَاهَزْتُ السِّتِّيْنَ مِنْ عُمْرِي ما زِلْتُ أَخْشَى العَمِّ الصالِحِ وأَمْثَالِهِ.. وحتَّى عِنْدَمَا كَبُرْتُ لَمْ أَجْرُؤْ عَلَى الاقْتِرَابِ مِنْ مَتْجَرِ العَمّ صالح..

كُنْتُ أُرَاقِبُ العمَّ صالِح يَوْمِيًّا.. أَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَدْرَسَةِ، وَمِنَ الشَّارِعِ، مِنْ نَافِذَةِ الفَصْل..

عِشْتُ سِنيناً أُطَالِعُ حَيَاةَ هَذا الرَّجُلِ، لَكِنِّي لَمْ أَلْحَظْ شَيْئاً غَيْرَ اُعْتِيَادِي..

كانَ يَضَعَ دَائِماً، كُرْسِيًّا خَشَبِيًّا قَدِيْمَاً جِدًّا عَلَى مَدْخَلِ مَحَلِّهِ. وَيَجْلِسُ وَاضِعَاً سَاقاً على سَاقٍ.. عَيْنَاهُ تَنْظُرانِ إلى لاَ شَيْء.. لا تَرَاهُ يُرَاقِبُ شَيْئاً مُعَيَّناً، سَارِحٌ بِبَصَرِهِ نَحْوَ الْمَجْهُولِ..

عَاشَ العَمّ صالح لُغْزاً مُحَيِّراً وَمُرْعِباً.. واليَوْمَ أَبْنَائِي الصِّغَارُ في مَدْرَسَتِي القَدِيْمَةِ نَفْسِها يَخْشَوْنَ العَمّ صالِح العَجُوزَ.. واللُّغْزُ لا يَزَالُ مُحَيِّراً..













الصَّيَّادُ وَالْكَنْزُ الْمَوْهُوْمُ



ــــ اسْحَبْ.. اسْحَبْ.. لاَ تَتَوَقَّفِ الآنَ.. اسْحَبْ بِقُوَةٍ.. بِقُوَةٍ.. يَبْدُوْ ثَقِيْلاً ثَقِيْلاً..

* لَقَدْ تَعِبْتُ.. أَشْعُرُ أَنَّ قُوَايَ قَدْ خَارَتْ تَمَاماً..

ــــ أَقْسَمْتُ أَنَّنِي لَنْ أَبْرَحَ الْمَكَانَ حَتَّى أَفُوْزُ بِهَذا الْصَّيْدِ الثَّمِيْنِ..

* وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهُ صَيْدٌ ثَمِيْنٌ؟!

ــــ أَنَا مُتَأَكِّدٌ مِنْ ذَلِكْ..

* مُتَأَكِّدٌ.. مُتَأَكِّدٌ.. كَلاَمٌ فَارِغٌ.. قَدْ تَكُونُ الصِّنَّارَةُ عَالِقَةً بِصَخْرَةٍ فِي قَاعِ البَحْرِ..

ــــ أُرِيْدُ أَنْ أَكْتَشِفَ بِمَاذَا عَلِقَتْ!

* هَيَّا بِنَا نَعُودُ إِلى الشَّاطِىءْ.. اِرْمِ خَشَبَةَ الصِّنَّارَةِ أَو اقْطَعِ الْحَبْلَ..

إقْتَرَبَ اللَّيْلُ.. أَخْشَى هُبُوْبَ الْعَاصِفَةِ الَّتِي حَذَّرَتْنَا مِنْهَا نَشْرَةُ الْأَرْصَادِ الْجَوِّيَّةِ..

ــــ أَنْتَ جَبَانٌ جَبَانٌ.. تُصَدِّقُ مَا يَقُولُونْ.. تَأَمَّلِ الْوَاقِعَ الَّذِي نَحْنُ فِيْهِ.. سَنَفُوزُ بِثَرْوَةٍ كَبِيْرَةٍ، أَعْتَقِدُ أَنَّ الصِّنَّارَةَ قَدْ عَلِقَتْ بِصُنْدُوْقٍ مَلِيءٍ بِالْذَّهَبِ.

* خَيَالُكَ وَاسِعٌ.. أَوْسَعُ مِنْ هَذا البَّحْرِ.. كَفَاكَ أَحْلاَماً..

أَعْتَقِدُ أَنَّها لَيْسَتْ أَكْثَرَ مِنْ قِطْعَةٍ خَشَبِيَّةٍ ضَخْمَةٍ، أَو مَرْسَاةٍ مُتَآكِلَةٍ صَدِئَةٍ. تَخَلَّصَتْ مِنْهَا إِحْدَى الْسُّفُنُ العَابِرَةُ.. اسْحَبْ وَلاَ تَتَكَلَّمْ.. اسْحَبْ بِقُوَّةٍ..

* لاَ شَيءَ يَتَحَرَّكُ.. يَكَادُ الْمَرْكِبُ يَغُوصُ فِي الْمَاءِ.. لَيْسَ لَدَيْنَا أَمَلٌ..

ــــ سَأَضْرِبُكَ ضَرْبَةً قَاسِيَةً لَوْ تَفَوَّهْتَ بِمِثْلِ هَذا الْكَلاَمِ مَرَّةً ثانِيَةً..

يَهْتَزُّ الْمَرْكِبُ بِقُوَّةٍ.. يَغُوْصُ حَتَّى يَصِلَ الْمَاءُ إِلى دَاخِلِ الُمَرْكِبِ ثُمَّ يَرْتَفِعُ بِقُوَّةٍ.. رِيْحٌ بارِدَةٌ تَضْرِبُ وَجْهَيْهِمَا..

* أَرْجُوكْ.. لِنَتَوَقَّفِ الآنَ.. أَعِدُكَ أَنْ نَعُوْدَ غَداً بَعْدَ أَنْ تَهْدَأَ الْعَاصِفَةُ.. لَنْ نَتَمَكَّنَ مِنَ الصُّمُوْدِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكْ..

ــــ قَدْ يَأْتِيَ أَحَدٌ وَيَأْخُذَ الْكَنْزَ..

* كَنْزٌ.. كَنْزٌ!! إنَّهُ وَهْمٌ فِي رَأْسِكْ.. الْطَّمَعُ أَعْمَى عَيْنَيْكَ.. سَنَمُوْتُ مِنْ أَجْلِ لاَ شَيْء..

ــــ لَنْ أَتَوَقَّفَ الآنَ.. أَعْطِنِي أُنْبُوْبَةَ الْهَوَاءِ.. سَأَغُوْصُ فِي الْمَاءِ بِنَفْسِي..

* لا تَتَهَوَّرْ.. سَوْفَ تُؤْذِي نَفْسَكَ.. تُوْجَدُ تَيَّارَاتٌ قَوِيَّةٌ.. قَدْ تُوَاجِهُ أَسْمَاكَاً شَرِسَةً فِي هَذَا الْمَكَانِ.. أَرْجُوْكَ تَوَقَّفْ..

ــــ ابْتَعِدْ عَنْ طَرِيْقِي.. أَنَا أَقْوَى مِنْكَ.. سَوْفَ أَرْمِيْكَ فِي الْمَاءِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ.. ابْتَعِدْ..

* الْمَاءُ بَارِدٌ.. بارِدٌ.. الْضَّوْءُ اليَدَوِيُّ لَنْ يُسَاعِدَكَ لِلْغَوْصِ... الظَّلاَمُ شَدِيْدٌ.. لِنَنْتَظِرْ حَتَّى الغَدْ..

ــــ أَقْسَمْتُ أَلاّ أَعُوْدَ حَتَّى أَحْظَى بِالْثَّرْوَةِ الَّتِي تَنْتَظِرُنِي..

* إِنَّكَ تَحْلُمُ.. فَقَدْتَ صَوَابَكَ..

ــــ أَيُّها الْكَنْزُ.. أنا آتٍ إِلَيْكَ..

* تَوَقَّفْ.. تَوَقَّفْ.. أَرْجُوْكْ...

ــــ ابْتَعِدْ يا جَبَانُ..

* أَيُّهَا الْمَجْنُوْنُ.. مَاذَا تَفْعَلُ؟! سَتَأْكُلُكَ الأَسْمَاكُ الْمُفْتَرِسَةُ..

ــــ انْتَظِرْنِي.. سَأَعُوْدُ إِلَيْكَ مُحَمَّلاً بِالْذَّهَبِ وَالْيَاقُوتِ..

* فَقَدَ عَقْلَهُ.. مَاذَا أَفْعَلُ الآنَ؟!

.....

* مَضَتْ عَشْرُ دَقَائِقْ.. الْوَضْعُ خَطِيْرٌ.. أَظْلَمَتِ السَّمَاءُ.. لِأَتَّصِلَ بِرِجَالِ الإِنْقَاذِ..

* نَحْنُ فِي خَطَرٍ.. أَنْقِذُونَا..

.....

فِي دَقَائِقَ مَعْدُودَة وَصَلَ مَرْكِبٌ سَرِيْعٌ مَلِيءٌ بِرِجَالِ الغَوْصِ الأَشِدّاءِ..

غَطَسُوْا فِي مَكَانٍ أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ.

الْغُيُوْمُ تَشْتَدُّ كَثَافَةً..

- يا رَبُّ.. يا رَبُّ..

حَاوَلَ رِجَالُ الإِنْقَاذِ تَهْدِئَتَهُ رَيْثَمَا يَنْتَهِي الغَوَّاصُونَ ويَعُودُونَ مِنْ قَاعِ الْبَحْرِ..

يَصِلُ الغَوّاصُوْنَ إِلى الرَّجُلِ، يَجِدُوْنَهُ عَالِقاً تَحْتَ صَخْرَةٍ كَبِيْرَةٍ حَاوَلَ التَّسَلُّلَ تَحْتَها.. رَفَعُوا الصَّخْرَةَ.. سَحَبُوهُ.. حَبْلُ الصِّنَّارَةِ كانَ مَلْفُوفاً حَوْلَ سَاعِدِهِ.. الصِّنَّارَةُ كَانَتْ عَالِقَةً بِحَشَائِشَ صَخْرِيَّة مُتَشَابِكَة..

حَمَلَهُ رِجَالُ الإِنْقَاذِ، نَقَلُوهُ إِلى الْمَرْكِبِ بِسُرْعَة.. أَسْعَفُوْهُ بِتَنَفُّسٍ إِصْطِنَاعِيٍّ.. اسْتَخْرَجُوا مِنْ رِئَتَيْهِ كَمِّيَّةً كَبِيْرَةً مِنَ الْمَاءِ.

حَمَلُوْهُ عَلَى ظَهْرِ مَرْكِبِ الإِنْقَاذِ السَّرِيْعِ إِلى الشَّاطِىءِ وَمِنْهُ إِلى الْمُسْتَشْفَى..

فِي الْيَوْمِ التَّالِي..

- كِدْتَ تُصْبِحُ كَنْزَاً لِلأَسْمَاكِ الْمُفْتَرِسَةِ..

ــــ لا تَسْخَرْ مِنِّي..

- مَاذَا حَدَثَ لِعَقْلِكَ؟!

ــــ أَعْمَانِي الطَّمَعُ؟!

حَمْداً لِلَّهِ أَنَّكَ عَرَفْتَ ذَلِكَ بِنَفْسِكَ.. ما رَأْيُكَ أَنْ نَعُودَ لِنَبْحَثَ عَنِ الْكَنْزِ مَرَّةً ثَانِيَةً؟!

ــــ لَنْ أُكَرِّرَ ذَلِكَ بَعْدَ الْيَوْمِ.. لَنْ أَتْرُكَ الْطَّمَعَ يُسَيْطِرُ عَلَى عَقْلِي مَهْمَا كَانَتِ الْظُّرُوفُ..

* يا لَكَ مِنْ جَبَانٍ..

ــــ كَفَاكَ سُخْرِيَةً..

* لَنْ أُخَاطِرَ مَرَّةً ثَانِيَةً..  هَلْ تَظُنُّ أَنَّنِي سَأُصَدِّقُ ذَلِكَ بِبَسَاطَةٍ؟! إِنَّهَا رُوْحِي يا أَخِي.. أَثْمَنُ مِنْ كُلِّ الْكُنُوزِ الَّتِي تَتَرَاءَى فِي عَقْلِكَ..

ــــ سَأُثْبِتُ لَكَ أَنَّنِي تَغَيّرْتُ..

* إِنْ لَمْ تَتَغَيَّرْ فَتِلْكَ مُصِيْبَةٌ كَبِيْرَةٌ..

ــــ تَغَيَّرْتُ.. تَغَيَّرْتُ..

* وَمَعْ ذَلِكَ لَنْ أَجْرُؤَ عَلَى الذَّهَابِ مَعَكَ لِوَحْدِنَا فِي رِحْلَةِ صَيْدٍ بَحْرِيَّةٍ..

ــــ أَخْشَى أَنَّ كُلَّ أَصْدِقَائِي سَيَخْشُوْنَ مِنِّي مِثْلَكَ بَعْدَ الَّذِي حَدَثْ؟

* لَوْ لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ أَنَّكَ طَيِّبُ الْقَلْبِ لَمَا رَأَيْتَ وَجْهِي بَعْدَ الآنْ..

ــــ أَرْجُوكَ سَامِحْنِي..

* سَامَحْتُكَ دُوْنَ أَنْ تَقُولْ، وَمَعْ ذَلِكَ لَنْ نَذْهَبَ لِوَحْدِنَا فِي رِحْلَةِ صَيْدٍ مَهْمَا كَانَتِ الْظُّرُوْفُ.. أَخْشَى أَنْ تَفْقِدَ عَقْلَكَ مَرَّةً ثَانِيَةً..

عَمْيَاءُ.. خَرْسَاءُ.. بَكْمَاءُ



يُحْكَى أنَّهُ فِي القَرْنِ الهِجْرِيّ الأَوَّل كَانَ هُنَاك شَابٌّ فَقِيْرٌ يُحِبُّ العِلْمَ وفِي يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مِنْ شِدّةِ الجُوْعِ فَانْتَهَى بِهِ الطَّرِيْقُ إلى أَحَدَ البَسَاتِيْنِ المَمْلُوءَةِ بِأشْجَارِ التُّفَاحِ وَكَانَ أَغْصَانُ شَجَرَةٍ مُتَدَلِّياً فِي الطَّرِيْقِ... فَقَطَفَ تُفَّاحَةً وَاحِدَةً وَجَلَسَ يَأْكُلُهَا وَلَمَّا رَجِعَ إلى بَيْتِهِ بَدَأَتْ نَفْسُهُ تَلُوْمُهُ جَلَسَ يُفَكِّرُ وَيَقُولُ كَيْفَ أَكَلْتُ هَذِهِ التُّفَاحَةُ وَهِيَ مَالٌ لِمُسْلِمٍ وَلَمْ أسْتَأْذِنَ مِنْهُ وَلَمْ أسْتَسْمِحَهُ فَذَهَبَ يَبْحَثُ عَنْ صَاحِبِ البُسْتَانِ حتَّى وَجَدَهُ فَقَالَ لَهُ الشَّابُّ: يا عمّ بِالأمْسِ بَلَغَ بِيَ الجُوْعُ مَبْلَغَاً عَظِيْمًا وَأَكَلْتُ تُفَّاحَةً مِنْ بُسْتَانِكَ مِنْ دُوْنِ عِلْمِكَ.

فَقَالَ لَهُ: واللَّهِ لا أُسَامِحُكَ بَلْ أَنَا خَصِيْمُكَ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ بَدَأَ الشَّابُّ المُؤْمِنُ يَبْكِي ويَتَوَسَّلُ إِليهِ أَنْ يُسَامِحَهُ وَقَالَ لَهُ أَنا مُسْتَعِدٌ أَنْ أعْمَلَ أيَّ شَيءٍ بِشَرْطِ أَنْ تُسَامِحَنِي وَبَدَأ يَتَوَسّلُ إلى صَاحِبِ البُسْتَانِ وصَاحِبُ البُسْتَانِ لا يَزْدَادُ إلا إصْرَاراً وَذَهَبَ وَتَرَكَهُ وَالشَّابُّ يُلاَحِقُهُ وَيَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ وَبَقِيَ الشَّابُّ عِنْدَ البَيْتِ يَنْتَظِرُ خُرُوجَهُ إلى صَلاَةِ العَصْرِ... فَلَمّا خَرَجَ صَاحِبُ البُسْتَانِ وَجَدَ الشَّابَّ ما زالَ وَاقِفَاً فَقَالَ الشَّابُّ: يا عمّ إِنَّنِي مُسْتَعِدٌّ لِلْعَمَلِ فَلاّحاً في هَذَا البُسْتَانِ مِنْ دُونِ أجْرٍ باقِي عُمْرِيْ أو أيُّ أمْرٍ تُرِيْدُ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تُسَامِحَنِي عِنْدَها... قَالْ: يا بُنَيّ إِنَّنِي مُسْتَعِدٌ أَنْ أُسَامِحَكَ الآنَ لَكِنْ بِشَرْطٍ وَهُوَ أَنْ تَتَزَوَّجَ ابْنَتِي.

صُدِمَ الشَّابُّ مِنْ هَذا الجَوَابِ ثُمَّ أَكْمَلَ صَاحِبُ البُسْتانِ... وَلَكِنْ يا بُنَيّ اعْلَمْ أَنّ ابْنَتِي عَمْيَاءُ وصَمَّاءُ وبَكْمَاءُ وأيْضاً مُقْعَدَةٌ لا تَمْشِي وَمُنْذُ زَمَنٍ وأَنا أَبْحَثُ لها عَنْ زَوْجٍ أَسْتَأْمِنُهُ عَلَيْها وَيَقْبَلُ بِهَا بِجَمِيْعِ مُوَاصَفَاتِها الَّتي ذَكَرْتُها فَإِنْ وَافَقْتَ عَلَيْها سَامَحْتُكَ.

وَبَدَأَ يُفَكِّر وخُصُوصاً أنَّه لا زالُ فِي مُقْتَبَلِ العُمْرِ؟ وَكَيْفَ تَقُومُ بِشُؤُونِهِ وتَرْعَى بَيْتَهُ وَتَهْتَمّ بِهِ وهِيَ بِهَذِهِ العَاهَاتِ؟ بَدَأَ يَحْسِبُهَا وَيَقُولُ اصْبِرْ عَلَيْهَا في الدُّنْيَا وَلكِنْ إنْجُو مِنْ وَرْطَةِ التُّفَاحَةِ!! ثُمَّ تَوَجَّهَ إلى صَاحِبِ البُسْتَانِ وَقَالَ لَهُ يا عَمّ لَقَدْ قَبِلْتُ ابْنَتَكَ وأسألُ اللَّهَ أنْ يُجَازِيني على نِيّتِي وأَنْ يُعَوِّضَنِي خيراً ممّا أصَابَنِي.

فَقَالَ صَاحِبُ البُسْتَانِ:... حَسَناً مَوْعِدُكَ الخَمِيسُ القَادِمُ عِنْدِي في البَيْتِ لِوَلِيْمَةِ زَوَاجِكَ وأَنَا أَتَكَفّلُ لَكَ بِمَهْرِهَا.

فَلَمّا كَانَ يومُ الخَمِيْسِ جَاءَ هَذَا الشّابُّ مُتَثَاقِلُ الخُطَى... حَزِينُ الفُؤَادِ... مُنْكَسِرُ الخَاطِرِ... لَيْسَ كَأَيِّ زَوْجٍ ذَاهِبٍ إلى يَوْمِ عُرْسِهِ فَلَمّا طَرَقَ البَابَ فَتَحَ لَهُ أَبُوهَا وأدْخَلَهُ البَيْتَ وَبَعْدَ أَنْ تَجَاذبا أطْرَافَ الحَدِيثِ وَجَرَى زَوَاجٌ شَرْعِيُّ بِحِضُورِ شَاهِدَيْنِ، قالَ لهُ يا بُنَيّ... تَفَضّلْ وخُذْ زَوْجَتَكْ فإِذا فَتَاةٌ بَيْضَاءٌ أجْمَلُ مِنَ القَمَرِ قَدْ انْسَدَلَ شَعْرٌ كَالْحَرِيْرِ عَلَى كَتِفَيْهَا فَقَامَتْ وَمَشَتْ إِليهِ وَسَلّمَتْ عَلَيْهِ وَقَالَتْ السَّلاَمُ عَلَيْكَ يا زَوْجِي...

أَمَّا هُوَ فَقَدْ وَقَفَ لا يُصَدِّقُ ما الذي حَدَثَ ولِمَاذا قَالَ أَبُوهَا ذَلِكَ الكَلاَمُ...

فَفَهِمَتْ ما يَدُورُ في بَالِهِ وقَالَتْ إنَّنِي عَمْيَاءُ مِنْ النَّظَرِ إلى الحَرَامِ وبَكْمَاءُ مِنَ النَّظَرِ إلى الحَرَامِ وصَمّاءُ مِنَ الاسْتِمَاعُ إلى الحَرَامِ ولا تَخْطُو رِجْلاَي خُطْوَةً إلى الحَرَامِ...

وإنَّنِي وَحِيدةُ أَبِي ومُنْذُ عِدَّةِ سَنَواتٍ وأبي يَبْحَثُ لِي عَنْ زَوْجٍ صَالِحٍ فَلَمَّا أَتَيْتَهُ تَسْتَأْذِنَهُ في تُفَّاحَةٍ وَتَبْكِي مِنْ أجْلِهَا قالَ أبي أَنْ مَنْ يَخَافُ مِنْ أكْلِ تُفَّاحَة لاَ تَحِلُّ لَهُ حَرِيٌّ بِهِ أَنْ يَخَاف اللَّهَ في ابْنَتِي فَهَنِيئاً لي بِكَ زَوْجاً وهَنِيئاً لِأَبِي بِنَسَبِكَ.

وَبَعْدَ عَامٍ أنْجَبَتْ هَذِهِ الفَتَاةُ مِنْ هَذَا الشابُّ غُلاَماً أَصْبَحَ فِيْمَا بَعْدُ مِنْ أَعْظَمِ رِجَالِ الْمُسْلِمَيْنَ حَتَّى الْيَوْمَ.

وَهُوَ الإمَامُ الكَبِيْرُ حَنِيْفَة النُّعْمَان صَاحِبُ المَذْهَبِ الفِقْهِيّ المَشْهُورْ.





مُغَامَرَاتُ فَهْدٍ ونَوْف

ــــ 1 ــــ

خَرَجَ فَهْد ونَوْف بِرِحْلَةٍ بَحْرِيَّةٍ لِلْتَمَتُّعِ بِمِيَاهِ البَحْرِ وَلِتَخْفِيْفِ الْحَرَارَةِ المُرْتَفِعَةِ وَزِيَارَةِ جَزِيْرَةِ فيلكا..

ــــ فَرِحَ فَهْدُ بِهَذِهِ الرِّحْلَةِ وَقَضَى أَوَّلَ الوَقْتِ يَتَأَمَّلُ البَحْرَ إِلى جَانِبِ أُخْتِهِ نَوف.

ــــ رَاحَ فَهْدُ يُظْهِرُ بُطُولَتَهُ أَمَامَ أُخْتِهِ وأَنَّهُ لاَ يَهَابُ البَحْرَ ولا يَشْعَرُ بِأَيِّ دُوَارٍ كَمَا يُصِيْبُ النَّاسَ.

ــــ فَجْأَةً اهْتَزَّتِ السَّفِينَةُ وَصَارَ رَأْسُ فَهد يَتَمَايَلُ مَعَ تَمايُلِ المَوْجِ. وَكَادَ يَقَعُ عَلَى الأَرْضِ.

ــــ أَمْسَكَتْ نوف أَخَاهَا وصَارَتْ تَضْحَكُ مِنْ شَكْلِهِ فَقَدْ أُصِيْبَ بِدُوارِ بَحْرٍ شَدِيْد..

ــــ عِنْدَمَا عَادَا إلى المَنْزِلِ أَخْبَرَتْ نوف وَالِدَيْهَا بما حَدَثَ وَهِيَ تَضْحَكُ، فَقَالَ فَهد بِصَوْتٍ مُتَقَطِّعٍ وفي فَمِهِ مِيْزَانُ الحَرَارَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ سَأَبْقَى أَقْوَى مِنْكِ... سَوْفَ أُرِيْكِ بِالرِّحْلَةِ القَادِمَةِ..

ــــ 2 ــــ

ــــ قَرَّرَ فهد أَنْ يُنْجِزَ مَشْرُوعاً عِلْمِيًّا كَبِيْرًا ومَهْماً لِلْمَدْرَسَةِ فَذَهَبَ إلى السُّوقِ يَبْحَثُ في المَكْتَبَاتِ عَنْ أَفْكَارٍ جَدِيْدَةٍ.

ــــ لَمْ يَعْثُرْ فهد عَلَى فِكْرَةٍ تُعْجِبُهُ.. فَهُوَ يُرِيْدُ مَشْرُوعاً مُمَيَّزاً لَمْ يُقَدِّمُهُ أَحَدٌ مِنْ قَبْلِهِ.. ويَكُونُ حَدِيْثَ المَدْرَسَةِ كُلِّها..

ــــ عَادَ إلى البَيْتِ وَجَلَسَ أَمَامَ الإِنْتِرْنِتْ ورَاحَ يَبْحَثُ عَنْ فِكْرَةٍ جَدِيْدَةٍ في المَوَاقِعِ المُتَنَوِّعَةِ الكَثِيْرَةِ حَوْلَ العَالَمِ.

ــــ دَخَلَ مَوْقِعاً لِلْحِوَارِ العِلْمِيِّ ورَاحَ يَتَحَدَّثُ مَعْ فَتًى فِي مِثْلِ صَفِّهِ.. مِنَ اليَابَان وَلَدَيْهِ الاهْتِمَامَاتِ نَفْسِها..

ــــ تَبَادَلَ فهد مَعَهُ الأَفْكَارَ وَأَخْبَرَهُ الفَتَى اليَابَانِي عَنْ مَشَارِيْعَ مَدْرَسِيّةٍ مُمَيَّزَةَ يَقُومُون بِها. وكانَا يَتَحدّثَانِ بِاللُّغَةِ الإنْجلِيزيّة..

ــــ تَعَلّمَ فهد فِكْرَةً يابانيةً رائِعَةً وقَرَّرَ تَنْفِيْذَهَا بِمَعُونةُ الفَتَى اليابانيّ وَوَعَدَهُ أَنْ يَضَعَ اسْمَهُ عَلَى المَشْرُوعِ ويكونُ المَشْرُوعُ مُشْرَكاً بَيْنَهُما...

ــــ 3 ــــ

ــــ خَرَجَ فَهْد يَتَنَزَّهُ عَلَى شَاطِىءِ البَحْرِ وَكَانَ الجَوّ جَمِيْلاً مُعْتَدِلاً.

ــــ شَاهَدَ الطُّيورَ المُهَاجِرَةَ تَرْقُصُ ورَأَى الأَشْجَارَ الجَمِيْلَةَ الَّتِي زُرِعَتْ بِعِنَايَةٍ.

ــــ فَجْأَةً لَمَحَ مَجْمُوعَةَ أَطْفَالٍ يَدُوسُونَ عَلى الزُّهُور الجَمِيْلَةِ، صَاحَ فهد بِهِمْ لِيَبْتَعِدُوا..

ــــ قَالَ فَهد: الأَزْهارُ تُجَمِّل دَوْلَتَنا... عَلَينا أَنْ نَحْمِي جَمَالَها ونُحَافِظَ عَلَيْها..

ــــ أَخْبَرَ فَهد أُمَّهُ بِمَا حَدَثَ، فَهَنَّأَتْهُ وَوَعَدَتْهُ بِهَدِيَّةٍ جَديدةٍ..

ــــ قالتْ نوف: نَعَمْ. يَسْتَحِقُّ الهَدِيَّةَ لَكِنّ ذَلِكَ واجِبٌ عَلَينا جَمِيْعاً...

ــــ 4 ــــ

ــــ قَضَى فهد شَهْرَ رَمَضَانَ المُبَارَكَ بالصَّلاَةِ والصِّيَامِ.

ــــ اجْتَهَدَ كثيراً فِي المَدْرَسَةِ وَحَصَل عَلى تَهْنِئَةِ المُدَرِّسِيْنَ.

ــــ فَرِحَتْ أُمُّه بِنَشَاطِهِ والْتِزَامِهِ.

ــــ قالَ فهد: لَقَدْ عَلَّمَنَا رَمَضَانُ النَّشَاطَ والمُثَابَرَةَ والصَّبْرَ.

ــــ قالتْ نوف: جَيِّدٌ، أرْجُو أنْ تَبْقَى كَذَلِكَ سَائِرَ العَامِ.

ــــ فهد يَكْتُمُ غَضَبَهُ: اللَّهُمّ إنِّي صَائِمٌ.

ــــ 5 ــــ

ــــ دَخَلَتْ نوف غُرْفَتَها وأَغْلَقَتِ البَابَ، وبَقِيَتْ فِيْها فَتْرَةً طَوِيْلةً.

ــــ مَضَتْ أَيَّامٌ ونوف على هَذِهِ الحَال، وكانَ فَهد يُفَكِّرُ بِسَبَبِ اخْتِفَاءِ نوف.

ــــ سَأَلَ فهد أُمَّهُ فقالتْ لهُ إنْ نوف مَشْغُولَةٌ بِشَأْنِهَا وَعَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ مَشْغُولاً بشُؤونِكَ.

ــــ كانَتْ حِشْرِيّةُ فهد شديدةً لَكِنَّهُ لَمْ يَعْرِفِ السَّبَبَ.

ــــ بَعْدَ أَيَّامٍ سَمِعَ نوف تقولُ لِأُمِّها إنَّها قَارَبَتْ على الإنْتِهَاءِ مِنْ مُرَاجَعَةِ كلِّ دُروسِ العَامِ المَاضِي اسْتِعْدَاداً لِلْعَامِ الجديدِ.

ــــ اكْتَشَفَ فهد سِرَّ نوف مُتَأَخِّراً، وفَكَّرَ أنْ يَسْتَدْرِكَ ما فَاتَهُ لَكِنَّهُ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَخَلَّصَ مِنْ كُلِّ كُتُبِهِ فَوْرَ انْتِهَاءِ العَامِ المَاضِي.

ــــ 6 ــــ

ــــ وَضَعَ فهد خِطَّةً لِأَشْهُرِ الصَّيْفِ بَدَأَتْ مُنْذُ انْتِهَاءِ المَدْرَسَةِ وَتَسْتَمِرُّ حَتَّى بِدْءِ العَامِ الدِّرَاسِيِّ الجَديدِ.

ــــ أَخْبَرَ أُمَّهُ وَأَبَاهُ بِخُطَّتِهِ وقالَ إنَّهُ سَيَقُومُ بإِعْدَادِ كِتَابٍ عن الدِّرَاسَةِ والتَّعْلِيْمِ.

ــــ ضَحِكَتْ نوف وقالتْ سَاخِرَةً: ماذا؟؟ كتابٌ دُفْعَةٌ واحِدَةٌ..؟ سَتُصْبِحُ مَشْهُوراً.. وأنا سَأُصْبِحُ شَقِيْقَةَ مُؤَلِّفٍ شَهِيْرٍ..

ــــ انْزَعَجَ فَهد وصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: تَوَقَّفِيْ عَنِ السُّخْرِيَةِ، لَمْ أَعُدْ أَسْتَطِيْعُ تَحَمُّلَ تَعْلِيْقَاتِكِ المُزْعِجَةِ..

ــــ قالتِ الأُمُّ: اسْمَعَا.. لِنُجْرِ تَنَافُساً بَيْنَكُمَا لِنَعْرِفَ مَنْ هُوَ الأَكْثَرُ إِنْجَازاً فِي شُهُوْرِ الصَّيْفِ..؟

ــــ قالَ فهد: أنا مُوَافِقٌ لأَنِّي الفَائِزُ بِالتَّأْكِيْد..

ضَحِكَتْ نوف وقالتْ: أَنا لا أُحِبُّ مُنَافَسَةَ فهد فَهُوَ لا يَعْرِفُ أُصولَ المُنَافَسَاتِ..

قَامَ فَهد يَرْكُضُ خَلْفَها: سَوْفَ أُرِيْكِ مَنْ هُوَ الأَفْضَلُ.

ــــ 7 ــــ

ذَهَبَ فهد في الصَّبَاحِ البَاكِرِ في مُهِمَّةٍ سِرِّيَّةٍ ومُسْتَعْجَلَةٍ دُوْنَ أَنْ يُخْبِرَ أحداً إلى أَيْنَ هُوَ ذَاهِبٌ إتَّجَهَ نَحْوَ مِنْطَقَةٍ زراعيةٍ تَكثرُ فيها مَشَاتِلُ الوُرودِ وأَنْوَاعٌ مِنَ الأَزْهَارِ المُتَنَوِّعَةِ والمُخْتَلِفَةِ الأَحْجَامِ والأَشْكَالِ والأَلْوَانِ.

كانَ فَهد يحملُ كيساً كبيراً.. صارَ يُدَقِّقُ في المَزْرُوعَاتِ المُتَنَوِّعَةِ والشُّتُولِ الخَضْرَاءِ والوُرُودِ المُلَوِّنَةِ.

الكِيْسُ الذي يَحْمِلُهُ امْتَلأَ وَلَمْ يَعُدْ يَسْتَطِيْعُ فهد أَنْ يَحْمِلَ الكِيْسَ بِسُهُولَةٍ.. ومَعْ ذَلِكَ ظَلَّ يَدُورُ ويَبْحَثُ.

في مُنْتَصَفِ النَّهَار عَادَ فهدُ إلى بَيْتِهِ ودَخَلَ غُرْفَتَهُ دُوْنَ أَنْ يَرَاهُ أَحَدٌ.. وأَغْلَقَ بَابَ الغُرْفَةِ قَضَى فَهد فِي غُرْفَتِهِ فَتْرَةً طَوِيْلةً وَلَمْ يَكُنْ يُصْدِرُ أصْوَاتاً وكانَ قَدْ قالَ لِأُمِّهِ أَنَّهُ مَشْغُولٌ بِالْدِّرَاسَةِ في المَسَاءِ فَاجَأَ فهد أُسْرَتَهُ بِلَوْحَةٍ كَبِيْرَةٍ صَمَّمَهَا بِالْوُرودِ كَتَبَ في وَسَطِهَا: (كُلُّ عامٍ وَأَنْتُمْ أَحْلَى أُسْرَة).



قصص قصيرة جداً



الفَرَاشَةُ



فَرَاشَةٌ مُلَوَّنَةٌ تَطِيْرُ في البُسْتَانِ، حُلْوَةٌ مُهَنْدَمَةٌ تُدْهِشُ الإِنْسَانَ، أَهْدَافُهَا مُحَدَّدَةٌ، حَرَكَاتُها مُرَتَّبَةٌ، تَحُوْمُ بِانْتِظَامٍ، تَحُطُّ فِي نُعُومَةٍ تَنْشُرُ السَّلاَمَ.

فَرَاشَةٌ مُلَوَّنَةٌ تَطِيرُ بِلا اُنْقِطَاعٍ، بِالنَّهارِ المُشْرِقِ تَمْلَأُ البِقَاعَ، تُحِبُّ الوَرْدَ المَزْرُوعَ، تَلْثُمُهُ فِي وَقْتِ الجُوعِ، تَمْتَصُّ رَحِيْقَ الأَزْهَارِ، تُحْيي جَنْيَ الأَشْجَارِ، مِنْ وَرْدَةٍ لِوَرْدَةٍ، تَطِيْرُ بِانْتِظَامٍ.

فَرَاشَةٌ مُلَوَّنَةٌ تُعْطِي بِلا انْتِفَاعٍ، هَمُّها ثِمَارٌ تُطْعِمُ الجِيَاعَ، تُحَاكي الجَمَالَ، تَرْسُمُ الإِبْدَاعَ.. تَعِيشُ في وِئَامٍ.

صَحِيْحٌ أَنَّها ضَعِيفَةٌ.. ضَعِيفَةٌ، لَيْسَ لَهَا مِنْ قُوَّة، وَلاَ لَهَا مِنْ حِيْلَة، فَسُبْحَانَ مَنْ أَعْطَاها أَلْوَانَها الفَرِيْدَةَ وَمَزَايَاهَا العَدِيْدَة، فَدَوْرُها كبيرٌ، بِحَجْمِها الصَّغِيْرِ، سُبْحَانَ مَنْ أَعْطَاهَا فَوَائِدَها العَظِيمَةَ، فَهَلاَّ تَعَلَّمْنَا خِصَالَها الحَمِيْدَةَ، وَكُنّا مِثْلَها نَعِيشُ فِي سَلامٍ.. وانْتِظامٍ... وَوِئَامٍ، حياتُنَا رغيدةٌ، خَيْرَاتُنَا أكيدَةٌ... وصَمْتُنَا نَمَاءٌ... وصَمْتُنَا عَطَاءٌ... وصَمْتُنَا كلاَمٌ.





السِّرُّ الجَمِيْلُ

فُلّةُ تَبْحَثُ عَنْ شَيْءٍ مَفْقُودٍ، سَأَلَتْ ماما، سَألت بابا.. وَسَأَلَتْ أَخَاهَا الحَبُّوبْ.

فُلَّةُ بَحَثَتْ فِي غُرْفَتِها، وفي كُلِّ أَنْحَاءِ مَنْزِلِها، ما سِرُّ بَحْثِها؟

تُرى ماذا ضَيَّعَتْ فُلَّة؟

صَاحَتْ بِكُلِّ قُوَّتِها: وَجَدْتُهُ، كِتابي... وَهُوَ هَدِيَّةُ جَدَّتي، فَأَنا لا أَتْرُكُ عَادَتي، قِرَاءةٌ في وَحْدَتي لِكَيْ أُحَقِّقَ غَايَتي، وهذا سِرُّ فَرْحَتي.





عزُّوزُ الفَنّانْ

صَدِيقي اسْمُه عزُّوزْ، يُحِبُّ الرَّسْمَ والأَلْوَانَ، دَوْماً يَشْدُو بِفَرَحٍ، وَيَمْسَحُ دَمْعَةَ الأَحْزَانِ.. لَمْ أَرَ فِي حَيَاتي مِثْلَهُ إِنْسَاناً يَرْسُمُ الأَحْلاَمَ.

في مَرَّةٍ كُنّا معاً، أَجْلُسُ فِي غُرْفَتِهِ وَكَانَ يَرْسُمُ لَوْحَةً حُلْوَةً، أَخْبَرَنِي عَنْ أَحْلاَمِهِ، وَأَراني رُسُومَاتِهِ، هذهِ رَسْمَةُ قَصْرٍ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيهِ، وتلكَ رسمةُ طَيْرٍ يُحِبُّ أن يُرَبِّيهِ.. وجَامِعَةٌ تُعَلِّمُهُ، وطَائِرَةٌ... ومَرْكَبٌ... وسَيَّارَةٌ... كُلُّها أَحْلاَمٌ تَحْيَا فِي قَلْبِهِ.

حَلِمْتُ مِثْلَهُ.. ما أَحْلَى الأَحْلاَمَ، لو كُنْتُ أَعْرِفُ الرَّسْمَ لَأَرَيْتُهُ أَحْلاَمي، فَهِيَ كَبِيرةٌ... كبيرةٌ... كَسَحَابَةٍ مَطِيْرَةٍ، أوْ كَبَحْرٍ عَميقٍ تَسْبَحُ الأَسْمَاكُ فِيْهِ.





الحِمَارُ المُفَكِّرُ وَالحِمَارُ الشَّاعِرُ

حِمَارُنا الصَّغِيرُ، يَظُنُّ نَفْسَهُ مُفَكِّرٌ كَبيرٌ، يَرْفَعُ رَأْسَهُ، يُحَرِّكُ أَنْفَهُ، يَمْشي كَأَنَّهُ؛ قَائِدٌ خَطِيرٌ.

حِمَارُنَا حَمّورْ.. يُحِبُّ أَنْ يَسيرَ فِي اليَوْمِ المَطِيرِ، فَتَغْسِلُ المِيَاهُ ثَوْبَهُ النَّضِيرُ.

حِمَارُنَا لَطِيفٌ.. يَبْدو دائماً في مَظْهَرٍ نَظيفٍ، شَكْلُهُ جَميلٌ، ذَيْلُهُ طَويلٌ، يُلاَمِسُ الأَرْضَ بِشَعْرِهِ الحَريرْ. حِمَارُنا وَدِيعٌ، يُحِبُّهُ الجَمِيعُ، يَعْمَلُ بِاهْتِمَامٍ، بِصَمْتٍ ونِظَامٍ... ولا يَنَامُ قبل إنْجَازِ العَمَلِ. حِمَارُنا نَشيطٌ.. يَقُومُ في الصَّبَاحِ.. يَغْدُوا مَعِ الفَلاَّحِ، ويعودُ في المَسَاءِ بِسِلالِ التُّفَاحِ.

حِمَارُنَا حَمُورْ.. كَتُومٌ وصَبُورْ.. يَصْعَدُ الجِبَالَ.. يَنْزِلُ الوِدْيَانَ.. في أَرْضِنَا يَدُورُ بِجَدٍّ وحبورٍ.. لا يَعْرِفُ السُّكونَ، لا يَعْرِفُ المَلَلَ، حَيَاتُهُ عَطَاءق.. صَمْتُهُ وَفاءٌ.. عُيُونُهُ أَملٌ.. فَهَلْ رأيتَ مِثْلَهُ في غابِرِ الزَّمَنِ؟

هَلْ رَأَيْتَ قَبْلاً حِمَاراً شَاعِرًا..

حِمَارُنا حَمُورْ.. مُرْهَفُ الشُّعُورْ.. يَسْمَعُ الطُّيْورَ في رَوْضَةِ الزُّهُورِ.. يَتَنَشقُ العبيرَ، يُمَيِّزُ بَيْنَها كأنَّهُ خبيرٌ بأنْوَاعِ العُطُورِ..

حِمَارُنا حَمُورْ.. يُحِبُّ السَّهَرَ تَحْتَ الشَجَرِ، في ظِلِّ القَمَرِ.. يُرَاقِبُ النُّجَومَ.. يُسَامِرُ الغُيومَ..

حِمَارُنا الصغيرُ، تراهُ في المساءِ.. يُلاعِبُ الهَواءَ.. يُنْصِتُ للرِّيحِ.. تُدَاعِبُ الأَغْصانَ.. تَحْمِلُ الرَّيْحَانَ.. تُغَنِّي لِلْقَمَر..

حِمَارُنا شَاعِرٌ.. كُلُّهُ مَشَاعِرُ.. لَوْ بَدا عُصْفورٌ يَئِنُّ في أَلَمٍ.. أصابَهُ فُتُورٌ وعاشَ في نَدَمِ..

يساعِدُ الجميعَ.. كبيراً أو صغيراً.. لو آذاهُ أَحَدٌ، تَسْقُطُ دَمْعَةٌ.. ويَدْعُو في سُكُونٍ أَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ الظَّالِمَ الحَقُودَ.. ويَرْزُقَ اللَّهُ.. كُلَّ البَشَرِ..



الصَّيَّادُ الصَّغِيرُ



أبو نَبيلْ صَيَّادٌ فقيرٌ.. يَخْرُجُ كُلَّ صَبَاحٍ باكراً إلى الشاطِىء القريبِ لِيَصْطَادَ بِضْعَ سَمَكَاتٍ ثم يَبِيعُها بِثَمَنٍ قَلِيلٍ لِيَشْتَرِيَ بِذَلِكَ الثَمَنِ طَعَاماً أو حَاجَاتٍ بسيطةٍ لَهُ ولأُسْرَتِهِ.

وفي يومٍ عادَ أبو نبيلْ حَزِيناً لأَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنَ مِنْ صيدِ حتى سَمَكَةٍ واحدةٍ. وعندما اسْتَيْقَظَ نبيلْ لاَحَظَ حُزْنَ أبِيهِ، فقرَّرَ مُسَاعَدَتَهُ ووعَدَهُ أَنْ يَصِيدَ سَمَكَةً كَبِيرةً لِيَبِيعها بعدَ ذلكَ بثمنٍ غالٍ.

خرج نبيلْ بكلِّ نشاطٍ إلى الشاطىءِ وقَضَى وقتاً طويلاً يواجِهُ البحرَ وينتظرُ بصبرٍ اصْطِيَادَ السَّمَكَةِ التي كانَ يَتَوقَّعها.. وفجَأةً اهتَزَّتْ شَبَكَتُهُ بِقُوّةٍ، وبعدَ أنْ سَحَبَهَا بِقُوّةٍ، ظَهَرَت لَهُ سَمَكَةٌ ضَخْمَةٌ، فَحَمَلَها بِسَعادَةٍ ورَكَضَ إلى أَبيهِ لِيُقَدِّمَها إليهِ، شَعَرَ أبو نبيلْ بِفَخْرٍ وفَرَحٍ لِمَا فَعَلَهُ ابْنُهُ نبيلْ، ثُمَّ ذَهَبا إلى السُّوقِ وبَاعَا السَّمَكَةَ بِثَمَنٍ مُرْتَفِعٍ وعادا إلى البيتِ سَعِيدَيْنِ مُحَمَّلاَنِ بِالطعامِ وحاجاتٍ مُخْتَلِفَةٍ..



قصص طويلة



دَلالُ لا تُحِبُّ المَدْرَسَةَ



«سَنواتٌ قَليلةٌ وأَدْخُلُ الجامِعَةَ، يا لها مِنْ رِحْلةٍ شاقَّةٍ طَويلَةٍ، ما أصعبَ أيامَ الدِّراسَةِ».

«اشْكُري رَبَّك يا دلال، ألوفُ الفتياتِ في سنِّكِ لا يَعْرِفْنَ القِرَاءَةَ وَالكِتَابَةَ».

«إِنِّني أَشْكُرُ رَبِّي دائماً، لكنني مُنْزعجةٌ.. أَلاَ يَحِقُّ لِيَ التعبيرُ عن ضِيقِ صَدْري؟!».

«أَلاَ تُلاحِظِينَ أَنَّكِ على الدّوَامِ مُتَضَايِقَةٌ.. تَبْحَثِينَ عَن أيِّ شيءٍ لِتَتَأَفَّفِي مِنْهُ، أَخْشَى غَداً أَنْ تَتَأَفَّفِي مِنْ نَفْسِكَ، إنْ لَمْ تَجِدي ما تَتَأَفَّفينَ مِنْهُ».

«أووفْ منكِ يا كريمة.. تَخْلُطِينَ الجِدّ بالهَزْلِ. هيّا.. هيّا.. اُدْخُلي الفَصْلَ قَبْلَ بَدْءِ الحِصّةِ الصَّبَاحِيّةِ».

قالَتِ المدرِّسةُ:

«صَبَاحُ الخَيْرِ يا بَنَاتْ.. كَيفَ أَصْبَحْتُنَّ الْيَوْمَ؟ أَرْجُو أَنَّكُنَّ أَخَذْتُنَّ قِسْطاً مِنَ الرَّاحَةِ في العُطْلَةِ الأُسْبُوعِيَّةِ، لِنَبْدَأَ أُسْبُوعاً جَديداً مَليئاً بِالنَّشَاطِ.. الإِمْتِحَانُ الشَّهْرِيُّ عَلَى الأَبْوَابِ؟».

الجميعُ بِصَوْتٍ واحدٍ: «نَعَمْ.. نَعَمْ.. كُلُّنَا على اسْتِعْدَاد».

قَالتْ دلالُ في سِرِّها: «يا لَكُنَّ من مَرَائِيّاتٍ.. أَعْلَمُ أَنَّكُنَّ تَكْرَهْنَ الإِمْتِحَانَاتِ.. وتُحَاوِلْنَ التَّوَدُّدَ للمُدَرِّسَةِ حتى تَرْضى عَنْكُنّ.. وأنا لا أُحِبُّ المُراءاتِ».

تَنْتَبِهُ المدرِّسةُ إلى شُرودِ دلالْ:  «هِيْه يا دلال.. ما بِكِ.. أَراكِ تُفَكِّرينَ بشيءٍ ما؟».

«لا شَيءَ يا آنِسَة.. لا شَيءْ».

تَهْمِسُ كريمة في أُذُنِ دلال: «توقّفي يا عزيزتي عَنِ التفكيرِ.. الحِصَصُ الصَبَاحِيّة مُهِمّة.. انْتَبِهي إلى مَا تَقُولُهُ المُدَرِّسَة».

حَرَّكَتْ دلالُ كَتِفَيْهَا غيرَ مُبَاليةٍ.. وبَدَأَتْ المُدَرِّسة تَشْرَحُ دَرْسَ اليَوْمِ.



تَعُودُ دلالُ إلى بَيْتِها مُتْعَبَةٌ، تَتَنَاوَلُ غَدَاءَها.. تَرْتَاحُ قَليلاً ثُمّ تقولُ لأُمِّها:

«أمِّي.. لِمَاذا لا يُفَكِّرونَ بِطَرِيْقَةٍ جَدِيدةٍ لِلْتَّعْلِيْمِ غيرَ المدرِّسة؟!».

قَالتِ الأُمُّ بِاسْتِغْرَابٍ:

«طَرِيْقَةٌ جَديدةٌ للتعْليمْ؟! فِكْرَةٌ جَرِيْئَةٌ وَطيِّبَةٌ.. لَكِنْ ما هي عِلَّةُ الطَّرِيْقَةِ الحاليّةِ؟».

«المُدَرِّسَةُ تُشْعِرُني بالمَلَلِ، لَسْتُ أنا لِوَحْدِي فَقَطْ، بلْ كثيرٌ من صديقاتي.. اليومُ هو غيرُ الأَمْسِ.. العَالَمُ يتطوَّرُ».

«بالتأكيدْ.. اشْرَحي لي أَكْثَرْ سَبَب انْزِعَاجِكِ».

«نَجْلُسُ في مَقَاعِدِنا أكثرَ من نصفِ النَّهارِ، ثم نعودُ للمنزلِ فنقضي ما تبقّى مِنَ النَّهارِ وُجْزءًا مِنَ اللَّيْلِ بالدَّرْسِ والحِفْظِ وقَضَاءِ الواجباتِ.. ولا نَجِدُ وَقْتاً لأَنْفُسِنا..».

«نعمْ، هذا مَفْهومٌ يا دلال.. لكِّنَهُ شيءٌ طبيعيٌّ؟».

«هل يَجِبُ أنْ نَتَعذَّبَ.. نِصْفُ أَوْقَاتِ الدِّرَاسَةِ تَضيْعُ بِشُرودِ الذِّهْنِ.. نقضي أَجْمَلَ سَنَواتِ الطُّفولَةِ بالتَّعَبِ والإِرْهَاقِ.. ندرُسُ اليومَ من أَجْلِ الإِمْتِحَانِ.. وبَعْدَ الإِمْتِحَانِ نَنْسَى كُلُّ شَيء.. وتَمْضِي الأَيَّامُ حتى نَجِدَ طُفولَتَنا سُرِقَتْ منّا».

«أرى الأمرَ يُشَكِّلُ في نفسِكِ أَلَماً وحُزْناً وحِيْرَةً.. لكنْ ما هوَ الحلُّ يا ابْنَتِي؟!».

«لَسْتُ أَدْري.. لَسْتُ أَدْري.. لقد ضَاقَ صَدْرِي يا أُمِّي..».

«مَا رَأْيُكِ لَوْ أَطْرَحُ المَوْضُوعَ فِي اجْتِمَاعِ أَوْلِيَاءِ الأُمُوْرِ القَادِمِ فَهُوَ بَعْدَ أَيَّامٍ.. وسوفَ نبحثُ الأمرَ معْ إدارةِ المدرسةِ».

«لا يا أُمِّي.. لا.. أَخْشَى أَنْ تَظُنَّ مدرِّساتي أَنَّهُنَّ السببُ، فَيَغْضَبْنَ مِنِّي».

«ما رَأْيُكِ لو أُنَاقِشُ المَوْضُوْعَ مَعَ مُدِيْرَةِ المَدْرَسَةِ..؟».

«لا أَعْتَقِدُ أَنّها سَتُبَدِّلُ أُسْلُوبَ التَّعْلِيمِ مِنْ أَجْلِي..».

«إِذَنْ.. لِنُرْسِلَ رِسَالةً، إلى وَزِيرِ التَّرْبِيَةِ نَعْرِضُ عَلَيْهِ مُشْكِلَتَكِ؟».

«وهلْ الوزيرُ لَدَيْهِ وَقْتٌ لِيَقْرَأَ رِسَالتي أنا.. وحتى لَوْ قَرَأها.. هلْ سَيُغَيِّرُ نِظَامَ التَّعْلِيْمِ مِنْ أَجْلي؟؟».

«مَا هُوَ الحلُّ برأيكِ؟!».

«لا أَدْري يا أُمِّي.. لا أدري..».

«عندَ المَسَاءِ.. بعْدَما يأتي أبوكِ مِنْ عَمَلِهِ سَنَطْرَحُ عَلَيْهِ القَضِيّةَ لِنَرى وُجْهَةَ نَظَرِهِ بِشَأْنِها..».

قالتْ دلالُ كَأَنَّها مُسْتَسْلِمَةً للواقَعِ:

«لا بَأْسَ.. لابَأْسَ..».



إِنْصَرَفَتْ دلالُ إلى غُرْفَتِها.. بَدَأَتْ تُحَضِّرُ دُروسَ الغَدِ أَخْرَجَتْ كُتُبَها وكُرّاسَاتها.. أعمالٌ رياضيّةٌ.. مُلاحَظَاتٌ عِلْمِيّةٌ، نُصوصٌ عَرَبِيّةٌ وإنْكِليزيّةٌ.. واجِبَاتٌ كثيرةٌ لا تَنْتَهي..

حَفَظَتْ نَشِيْدَةً مَطْلُوبَةً مِنْها.. سُوْرَةَ القارِعَة.. لَخَّصَتْ دَرْسَ الجُغْرَافيا كما طَلَبَتِ المدرِّسة.. كَتَبَتِ القواعِدَ العِلْمِيّة في كُرّاسةِ العلومِ..

ظَلَّتْ دلالُ في غُرْفَتِها حتى جَاءَ المَسَاءُ..



اجْتَمَعَتِ العَائِلَةُ في غُرْفَةِ الجُلُوسِ كَعَادَتِها مِثْلَ كُلِّ يومٍ؛ الأَبُ يُمْسِكُ بِيَدِهِ كِتَاباً.. الأُمُّ تُهَيِّىءُ لابْنَتِها كريمة ثِيَابَ الغَدِ، لكنّ كريمةَ لَمْ تَكُنْ تُقَلِّبُ محطّاتِ التلفزيونِ كعادَتِها.. كانتْ تَجْلِسُ بِسُكونٍ.. تنظرُ إلى أمِّها.. تَتَرَقَّبُ بَدْءَ الحَدِيْثِ بِشَغَفٍ.

«أبو دلال..».

نَادَتْ الأُمُّ زَوْجَها تبدَّدَ الصَّمْتَ.

ظلَّ الأَبُ مُرَكِّزاً عَيْنَيْهِ في الكِتَابِ، وردَّ بصوتٍ هادىءٍ:

«نَعَمْ يا زَوْجَتي العَزيزة».

كرَّرتِ الأُمُّ: «أبو دلال».

قالَتْها بِنَبْرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ كأنّها تُنَبِّهُ زَوْجَها إلى أَهَمِّيةِ الأَمْرِ.

رَفَعَ الزَّوْجُ عَيْنَيْهِ.. خَلَعَ نَظّارَتَهُ.. قَلّبَ الكِتَابَ مَفْتُوحاً ووضَعَهُ على الطَّاوِلَةِ الصَّغِيْرَةِ أَمَامَهُ: «عَفْوًا يا حَبِيْبَتي.. هل هُنَالِكَ سُوْءٌ ما؟».

«نَعَمْ.. لَدَيْنَا مُشْكِلَةٌ ونُرِيْدُ أَنْ تُسَاعِدَنا في حلِّها..».

«مُشْكِلَةٌ.. يا رَبّ.. إسْتُرْ يا رَبّ.. ماذا لَدَيْكُما.. إِبْدَآ.. كلِّي آذَانٌ صَاغِيَةٌ».

«ابْنَتُنَا يا زَوْجِيَ الغالي تُواجِهُ مُشْكِلَةً تَعتقدُ أنَّها كبيرةٌ.. تشعرُ أنَّ المدرِّسة عِبءٌ عَلَيْهَا.. يَضِيْقُ صَدْرُها مِنَ الدِّرَاسَةِ، ومِنَ البَقَاءِ فَتْرَةً طَوِيْلَةً تجلسُ في فصولها..».

يُلاَحِظُ الزُّوْجُ أنّ زَوْجَتَهُ تَتحدَّثُ بِجِدِّية وأَنّ ابنَتَهُ تُحَدِّقُ إلَيْهِ كَمَنْ يَنْتَظِرُ حُكْماً في مَحْكَمةِ..

«وماذا تُريدان مِنِّي؟».

«نُريدُ مِنْكَ حَلاًّ..».

لا يَسْتَطِيْعُ الأَبُ أَنْ يَكْتُمَ ضِحْكَةً عاليةً..: «ها.. ها.. ها.. لا أُصَدِّقُ ما تَقُولانِ.. تُريدانِ حلاًّ.. وهل أنا وزيرٌ للتربيةِ.. أعْتَقِدُ أنّ هذهِ المشكلةُ حلُّها الوحيدُ؛ إِقْفالٌ المَدَارِسِ فَيَرْتَاحُ الصِّغَارُ مِنْهَا...».

«هَذا هُوَ الجَوَابُ الَّذِي لَدَيْكَ.. ما الَّذِي تَقُوْلُهُ يا أبو دلال، أَرَاكَ تَسْخَرُ مما نَقُولُ!».

«لا.. لا.. كَلاَمُكِ فَاجَأَني.. أَنَسِيتِ مَشَاعِرَكِ تِجَاهَ الْمَدْرَسَةِ وأنْتِ طِفْلَةٌ.. أَلَسْنَا وَنَحْنُ صِغَاراً كُنّا نَشْعُرُ بِالمَشَاعِرِ ذَاتِها؟».

أَعْتَقِدُ أنَّ الأَطْفَالَ حَوْلَ العَالَمِ سَيَظَلُّونَ، مِثْلَنا، يَشْعُرونَ بِالمَشَاعِرِ هَذِهِ، مَهْمَا تَطَوَّرَ أُسْلُوبُ التَّعْلِيْمِ ومَهْمَا ارْتَقُوا بِهِ، فَالْمَدْرَسَةُ سَتَظَلُّ مَدْرَسَةً وَلَوْ تَغَيَّرَ شَكْلُها، والتِّلْمِيْذُ سَيَظَلُّ تِلْمِيذاً وَلَو تَطَوّرَتْ طَرِيْقَةُ تَعْلِيمِهِ..».

«لَقَدْ ضَخَّمْتَ الْمُشْكلِةَ وَلَمْ تَجِدْ لها حَلاًّ».

يَتَأَمَّلُ الأَبُ وَجْهَ ابْنَتِهِ: «يا لِطِفْلَتِي الحُلْوَة.. تَعَالي يا صَغِيْرَتي.. تَعَالي لأُقَبِّلَكِ قُبْلَةً كَبِيرَةً». يَحْضُنُ الأَبُ ابْنَتَهُ بِحَرَارةٍ.. يَشْعرُ أَنَّهُ اسْتَهَانَ بأحاسِيْسِ ابْنَتِهِ:

«يَا لَكِ مِنْ طِفْلَةٍ.. لَقَدْ كَبِرْتِ وَبَدَأْتِ تَكْرَهِينَ القُيْودَ.. يَا لَيْتَنِي أَملُكُ حَلاًّ.. مَدْرَسَتُكِ مِنْ أَفْضَلِ المَدَارِسِ.. مُدرِّسَاتُكِ مِنْ أَفْضَلِ المُدرِّسَاتِ.. المُشْكِلَةُ لَيْسَتْ فِي الْمَدْرَسَةِ، فَالإِنْسَانُ يُحِبُّ الحُرِّيَّةَ.. والسَّجْنُ لَيْسَ مِنْ طَبِيْعَتِهِ. فَأَصْلُ الإِنْسَانِ الإِنْطِلاَقَ وَالحَرَكَةَ.. وأيُّ شَيءٍ يُقَيِّدُهُ ويَمْنَعُهُ مِنْ مُمَارَسَةِ حُرِّيَتِهِ بِشَكْلٍ كَامِلٍ: أمرٌ مناقضٌ لِطَبِيعَتِهِ.. وَلِهَذا السَّبَبُ أَنْتِ تَشْعُرِيْنَ بِالْضِّيْقِ والإِنْزِعَاجِ.. فَأَنْتِ إِنْسَانٌ طَبِيْعيٌّ يُحِبُّ الحُرِّيَّةَ...».

«نَعَمْ يا أبي.. مَسَاحَةُ الحَرَكَةِ مَحْدُودَةٌ.. واجِبَاتٌ كثيرةٌ.. دُرُوسٌ مُتَتَالِيَةٌ.. حِصَصٌ متواليةٌ..».

الأبُ مُقَاطِعًا: «اسْمَعيني يا ابْنَتِي.. أَتَّفِقُ مَعَكِ في إِحْسَاسِكِ.. لَكِنَّ الْمَدْرَسَةَ مِثْلَ جَمِيْعِ الأَشْيَاءِ في الوُجُودِ تَحْتَاجُ إلى صَبْرٍ ومُثَابَرَةٍ لِتَحْقِيْقِ الهَدَفِ».

الأُمُّ: «وكُلُّ عَمَلٍ لا بدّ لَهُ مِنْ جُهْدٍ وتَعَبٍ.. وإلاّ لَنْ يَتَحَقَّقَ الهَدُفُ».

الأَبُ: «أَنْتِ يا دلال ألاَ تُريدينَ أَنْ تُحَقِّقي شَيْئاً في حَيَاتِكِ؟! أَلاَ تَتَمَنِّيْنَ أَنْ تَفْعَلِي أَمْرًا مُفِيْداً لِلْنَّاسِ».

الأُمُّ: «بِالْتأْكِيْدِ.. هي تَتَمَنَّى أَنْ تُصْبِحَ طَبِيْبَةُ أَطْفَالٍ.. وهي دَائماً تُرَدِّدُ ذَلِكَ أمَامي».

الأَبُ: «ألاَ يَسْتَحِقُّ هَذَا الهَدَفُ أَنْ تَتْعَبِي مِنْ أَجْلِهِ يا ابنتي؟».

دلال: «نَعَمْ يا أبي.. لكنَّني أَشْعُرُ بِالْسَّجْنِ..».

الأُمُّ: «لا تُقْنِعي نَفْسَكِ بِهَذا الأَمْرِ.. أُنْظُرِي إلى الدَّجَاجَةِ، تَجْلِسُ فَوْقَ بَيْضِها واحدٌ وعُشْرُونَ يَوْماً لِيَفْقُصَ البيضُ وتَخْرُجَ الكَتَاكِيْتُ لِلْحيَاةِ.. هلْ هذا سَجْنٌ.. هذا إصْرَارٌ لِتَحْقِيْقِ هَدَفٍ.. أُنْظُري إِلَيْنَا يا حبيبتي.. لوْلاَ اجْتِهَادُنا ودَرْسُنا لما وَصَلْنَا إلى ما نَحْنُ فِيْهِ، فَاللَّهُ تعالى يأمُرُنا بالعِلْمِ والعَمَلِ.. والعِلْمُ لَيْسَ سِجْناً بَلْ هُوَ الحُرِّيَّةُ نَفْسُها.. فَمِنْهُ تَخْرُجِيْنَ مِنْ عَالَمٍ صَغِيْرٍ مُحَدُودٍ إلى عَالَمٍ كَبِيْرٍ لا يَتَوَقَّفُ عن الإِبْدَاعِ والإِبْتِكَارِ..».

يقولُ الأبُ مُبْتَسِماً:

«يَا سَلاَمْ.. ما هَذا التَّغْييْرُ الجَمِيْلُ يا زوجتي.. لَيْتَنِي سَمِعْتُ هَذَا الكَلاَمُ عِنْدَما كُنْتُ طِفْلاً فِي المَدْرَسَةِ..».

دلال: «لَكِنّ الْمُشْكِلَةَ مَا زالتْ قَائِمَةً.. وَلَمْ تَجِدا لي حلاًّ».

الأُمُّ: هُنَالِكَ يا ابْنَتِي أَشْيَاءٌ كَثِيرَةٌ في الحَيَاةِ نَقُومُ بها مُرْغَمِيْنَ لكِنَّها في النِّهَايَةِ تَكُوْنُ لِفَائِدَتِنَا..».

الأَبُ: «عِندَما نَمْرَضُ نَأْخُذُ أَدْوِيَةً طَعْمُهَا مُرٌّ وفَظِيْعٌ، نَأْخُذُها غَصْبًا عَنّا.. حتّى يَأْذَنَ اللَّهُ لَنَا بِالشِّفَاءِ..».

الأُمُّ: «والعِلْمُ لاَ يَكُونُ بِغَيْرِ جَدٍّ وتَعَبٍ.. يُروى أنَّ العُلماءَ العَرَبَ القُدَمَاءَ كانوا يَنْتَقِلُونَ سَيْرًا عَلَى الأَقْدَامِ أو على الدَّوَابِّ، وفي الصَّحْرَاءِ يُمْضُونَ أَيَّاماً طَوِيْلَةً، لا يَعْبَأونَ بِحَرِّ النَّهارِ ولا بِبُرُودَةِ اللَّيْلِ مِنْ أَجْلِ أَخْذِ فَائِدَةٍ مِنْ هُنَا أَوْ هُنَاكْ، وهنالكَ مَنْ طَافَ بلادَ العَرَبِ والعَجَمِ في سَنَواتٍ.. ولأَنَّهُمْ تَعِبُوا وبَذَلُوا، لا تزالُ أعمالُهمْ وآثارُهُم خَالِدَةً حتى يَوْمِنَا هذا..».

الأَبُ: «العِلْمُ يا حبيبتي مُفْتَاحُ الحَيَاةْ».

دلال: «ما قُلْتُ إنَّني أَكْرَهُ العِلْمَ ولَكِنَّنِي أَكْرَهُ الْمَدْرَسَةَ».

الأَبُ: وما اتّهَمْتُكِ أَنَا بِذَلِكَ.. لَكِنْ لا بُدّ مِنْ احْتِمَالِ شَيءٍ مِنْ أَجْلِ شَيءٍ آخَرَ أَفْضَلَ مِنْهُ».

دلال: «سوف أحاولُ.. فأنا أريدُ أنْ أتعلَّمَ.. لا أريدُ أَنْ أكونَ جاهلةً».

الأُمُّ: «هذا هدفٌ عظيمٌ، وحتى يتحقَّقَ يحتاجُ إلى تضحِيَةٍ».

دلال: «نعمْ.. سأَصْبُرُ على سِجْني حتى أَتَخَرَّجَ..».

ضَحِكَتِ الأمُّ..

ضَحِكَ الأَبُ..

لَكِنَّ دلالْ كانَتْ تُفَكِّرُ بِالمَدْرَسَةِ والدِّرَاسَةِ.. وما زالتْ تَشْعُرُ بالحِيْرَةِ.



فِي اليَوْمِ التَّالي كَتَبَتْ دلالُ وَرَقَةً صَغِيْرَةً وَضَعَتْها أَمَامَها على الطَّاوِلَةِ صَارَتْ تَنْظُرُ إليها مِنْ حِيْنٍ إلى آخَرَ..

لاَحَظَتْ المُدَرِّسَةُ أنَّ دلال أَكْثَرَ اسْتِجَابَةً وتَفَاعُلاً مِنْ أَيِّ يَوْمٍ سَابقٍ؛ تُشَارِكُ فِي طَرْحِ الأَسْئِلَةِ والإِجَابَةِ عَنْها، عَيْنَا دلال تَبْرُقَانِ على غَيْرِ عَادَةٍ..

اقْتَرَبَتْ المُدَرِّسَة نَحْوَ طَاوِلَةِ دلال..

لاَحَظَتْ وُجُودَ وَرَقَةٍ مَكْتُوبٌ عَلَيها بِخَطٍّ كَبِيْرٍ وَجَمِيْلٍ:

«أنا أُحِبُّ المَدْرَسَةَ».



مَرَّتْ أَيَّامُ الدِّرَاسَةِ سَرِيْعًا.. كَانَتْ دلالُ تَنْتَقِلُ مِنْ اخْتِبَارٍ إلى آخرَ بِجَدٍّ واجْتِهَادٍ..

ارْتَفَعَتْ عَلاَمَاتُها بِشَكْلٍ مُلْفِتٍ.. صَارَتْ تَقْضي في مَكْتَبَةِ المَدْرَسَةِ وَقَتاً أَطْوَلَ..

لَمْ تَعُدْ تَظْهَرُ كَثِيْرًا فِي سَاحَاتِ الْمَدْرَسَةِ ورُدُهَاتِها..

تَظَلُّ دَلالُ مَشْغُولَةً..

المدرِّسَاتُ تَعَجَّبْنَ مِنْ هَذا التَّغْيِيْرِ..

تَفَوّقَتْ دلالُ..

نَالَتْ شَهَادَاتِ التَّقْدِيْرِ وعِبَاراتِ الثَّنَاءِ.. فَخُرَ بها أَبوها.. فَخُرَتْ بِهَا أُمّها.. فَخُرَتْ بِهَا مدرِّسَاتُها.. لَمْ تَعُدْ الْمَدْرَسَةُ سِجْناً.. ولا الدَّرْسُ عِقَاباً..

صَارَتْ دلالُ حرَّةً أَكْثَرَ.. مُنْطَلِقَةً أَكْثَرَ..

كَبُرَتْ دلال.. دَخَلَتِ الجامعةَ.. تَخَرَّجَتْ.. تَزَوَّجَتْ.. أَنْجَبَتْ..

وَهَا هِيَ دلالُ اليومَ سَجِيْنَةً في أَكْبَرِ مُسْتَشْفَى.. سَجِيْنَةَ عيادَتِها.. سَجِيْنَةَ مَرْضَاها..

مَرَّةً قالَتْ لها ابْنَتُها إِسْرَاءُ: «الْمَدْرَسَةُ تُشْعِرُني بِالْمَلَلِ.. كَأَنَّها سِجْنٌ».

ضَحِكَتْ الدُّكْتُورَة دلال وقالَتْ:

«مَا أَجْمَلَ هَذَا السِّجْنُ.. اذْهَبِي إلى جَدِّكِ وجَدَّتِكِ.. ففي أَيْدِيْهِما مُفْتَاحُ هذا السِّجْنِ..».

انْتَقَلَتْ الدُّكْتُورَة دلالُ مِن سِجْنِ الْمَدْرَسَةِ إلى سِجْنِ الحياةِ لأنها تُرِيْدُ تَحْقِيْقَ الهَدَفِ..





الحُصَانُ اللَّطِيْفُ الْمُتَمَرِّدُ



«هَلْ أَسْتَطِيْعُ قِيَادَةَ هَذَا الحُصَانِ البُنِّي؟!.. يَبْدُو صَعْبَ الْمَرَاسِ.. حَتَّى الرَّجُلَ القَوِيَّ الوَاقِفَ دَاخِلَ مَيْدَانِ السِّيْركْ لَمْ يُسَيْطِرَ عَلَيْهِ!!».

«جَمِيْلٌ.. جَمِيْلٌ هَذَا الحُصَانُ، نَظَرَ إِليَّ كَأَنَّه يَعْرِفُنِي.. يُرِيْدُ مُحَادَثَتِي.. إِخْبَارِي بِأَمْرٍ ما!!».

«أُحِبُّ هَذَا الحُصَانَ البُنِّي.. آهٍ لَوْ أَتَمَكَّنُ مِنْ لَمْسِهِ، مِنَ الرُّكُوبِ عَلَيْهِ، تَبْدُو قِيَادَتُهُ مُمْتِعَةٌ رَغْمَ شَرَاسَتِهِ الظَّاهِرَةِ..».

الأَطْفَالُ يَخْرُجُوْنَ مِنَ السِّيْرك والسَّعَادَةُ عَلَى وُجُوْهِهِمْ..

سَعْد فِكْرُهُ مَشْغُوْلٌ.. يُفَكِّرُ بِالْحُصَانِ البُنِّي..

«الْمُدَرِّبُ ضَرَبَهُ بِعُنْفٍ.. لَكِنَّهُ رَفَضَ الخُضُوْعَ..».

«مَا أَجْمَلَ هَذَا الحصانُ.. عِزُّةُ نَفْسِهِ مَنَعَتْهُ الإِنْصِيَاعَ لِأَوَامِرِ المُدَرِّبِ الَّذِي تَعَامَلَ مَعَهُ بِقَسْوةٍ مُبَالَغٌ بِهَا..».

الأَبُ: «مَا تَقُوْلُ يا سعد.. هل تَتَكَلَّمُ مَعِي أَمْ مَعَ نَفْسِكَ؟!».

سعد: «أبي.. أَرَأَيْتَ كَيْفَ تَعَامَلَ مُدَرِّبُ الأَحْصِنَةِ مَعَ الحُصَانِ البُنِّي؟! ضَرَبَهُ بِشَدَّةٍ، الْحُصَانُ البُنِّيُّ تَمَرَّدَ رَغْمَ الضَّرَبَاتِ الَّتِي كَانَتْ تَتَوالى عَلَيْهِ.. تَمَرَّدَ.. لَمْ يُنَفِّذِ الأَوَامِرَ كَسَائِرِ الأَحْصِنَةِ؟».

الأَبُ: «أَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا المَشْهَدَ مِنْ سِيَاقِ العَرْضِ لِيَلْفُتَ اهْتِمَامَ الجُمْهُورِ».

«لا يا أبي.. أنا مُتَأَكِّدٌ مِنْ ذَلِكْ.. أَحْسَسْتُ بآلامِ الحُصَانِ.. كانَ يُرِيْدُ الصُّرَاخَ.. الاعْتِرَاضَ.. رَأَيتُهُ يَنْظُرُ إليَّ كَأَنَّهُ يَسْتَنْجِدُ بي..».

«هذا هُوَ الهدفُ.. أنْ يُثِيْرُوا اهْتِمَامَكَ.. نَجَحُوا بِالْفِعْلِ..».

«أنا مُتَأَكِّدٌ ممَّا أَقُول..».

«رُبَّما.. لَكِنْ لا تَنْكُرُ أَنَّ السِّيركَ كانَ مُمْتِعًا..».

«رُبَّما.. لَكِنِّي كُنْتُ مَشْغُولاً بِالْحُصَانِ..».

«ما لنا ولَهُ الآن.. لِنَذْهَبَ إلى البَيْتِ.. أمُّكَ الآنَ بانْتِظَارِنَا.. لَيْتَها حَضَرَتْ مَعَنا.. لا تُحِبُّ مُشَاهَدَةَ السِّيركِ..».

في البَيْتِ:

«أهلاً أبا سعد.. هَلْ فَرِحَ ابنُكَ بعُروضِ السِّيركْ؟».

سعد: «نَعَمْ يا أمي.. كانَ رائِعاً.. لَكِنْ.. لَوْلاَ شَيءٌ واحِدٌ..».

«ما هو؟».

«أَثْنَاءَ عَرْضِ الأَحْصِنَةِ تَمَرَّدَ حُصَانٌ على اُلْمُدَرِّبِ، لَمْ يَقْبَلْ تَنْفِيْذَ الأَوَامِرِ.. ضَرَبَهُ الْمُدَرِّبُ بِعُنْفٍ.. الحُصَانُ عَنِيْدٌ عَنِيْدٌ، لَمْ يُتَابِعِ العَرْضَ..».

الأُمُّ: «عَجِيبٌ! لِمَ يا ترى؟».

سعد: «أَظُنُّهُ يُعبِّرُ عَنْ سَخَطِهِ مِنَ الضَّرْبِ الَّذِي تَعرَّضَ لهُ مِنَ المدرِّبِ».

الأُمُّ: «لَكِنَّهُ أمرٌ معتادٌ...».

سعد: «إنَّهُ لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ الأَحْصِنَةِ.. رَأَيْتُ ذَلِكَ في عَيْنَيْهِ.. نَظَرَ إلَيَّ نَظْرَةً باكِيَةً.. يُريدُ إخْبَاري بما يَتَعَرَّضُ لَهُ مِنْ أَذَى..».

اسْتَعْطَفَ سَعْدُ أباهُ:

«أَرْجُوكَ يا أبي.. اشْتَرِ لي هذا الحُصَان.. نَضَعُهُ في حَدِيْقَةِ مَنْزِلِنا.. نَبْنِي لهُ بَيْتاً صَغيراً.. إنهُ حُصَانٌ لَطِيْفٌ وهَادِىءٌ».

الأَبُ: «أَلَمْ تَقُلْ إنَّه حصانٌ متمرِّدٌ عنيدٌ.. كيف نحتفظُ به؟! إنَّه خطرٌ علينا..».

سعد: «أنا مُتَأكِّدٌ أنَّهُ لَطِيْفٌ..».

الأَبُ: «دَعْنِي أُفَكِّرْ.. غَداً نُنَاقِشُ الْمَوْضُوعَ».

في الصَّبَاحِ التَّالي خَرَجَ سَعْدُ مُبْكِراً إلى حَدِيْقَةِ المَنْزِلِ يَبْحَثُ عَنْ مَكَانٍ مُنَاسِبٍ لِبِنَاءِ بَيْتٍ لِلْحُصَانِ..

عَادَ سَعْدُ إِلَى اُلمَنْزِلِ.. الْتَقَى أَبَاهُ وأُمَّهُ على مَائِدَةِ الإِفْطَارِ..

أوَّلُ كَلِمَةٍ قَالَها:

«مَتَى سَنَذْهَبُ لِرُؤْيَةِ الحُصَانِ؟».

الأَبُ: «عُدْنَا إلى الْمَوْضُوعِ نَفْسِهِ.. أَلاَ تَنْسَى..».

سعد: «أَرْجُوكَ يا أبي.. في الحَدِيْقَةِ مُتَّسَعٌ لَهُ..».

الأَبُ: «سَيُخَرِّبُ الحَدِيْقَةَ..».

سعد: «لا تَأْخُذْ قَراراً مُسْتَعْجِلاً.. أَلَمْ تُعَلِّمَنِي ذَلِكْ؟! لِنَذْهَبَ أَوَّلاً إلى مَوْقِعِ السِيْركْ.. نَتَكَلَّمُ إلى مُدَرِّبِ الأَحْصِنَةِ.. نُشَاهِدُ الحُصَانَ عَنْ قُرْبٍ.. رُبَّمَا شَعَرْتَ بِمَا شَعَرْتُ بِهِ».

الأَبُ: «لَكِنْ.. لَكِنْ..».

«حَاوِلْ يا أبي.. مِنْ أَجْلِي أنا.. أَرْجُوكْ..».

«همم.. حَاضِرْ.. حَاضِرْ.. عِنْدَمَا أَعُوْدُ مِنَ العَمَلِ نَذْهَبُ مَعاً لِنَرَى هَذا الحُصَانُ الَّذِي أَوْجَعَ لِي رَأْسِي».

صَاحَ سَعْدٌ فَرَحاً: «هيه.. هيه.. يا أَعْظَمَ أَبٍ في الكَوْنِ..».

بَعْدَ الظُّهْرِ.. يُرَافِقُ سَعْدٌ أَبَاهُ إلى السِّيْركِ قبلَ بَدْءِ العَرْضِ، يَبْحَثَانِ عَنْ مُدَرِّبِ الأَحْصِنَةِ.. يَسْأَلاَنِهِ عَنِ الحُصَانِ البُنِّي فَيَقُولْ:

«هذا حُصَانٌ غَرِيْبٌ حَقًّا.. لا يُعْجِبُهُ أَمْرٌ.. يَظَلُّ في حَالَةِ غَضَبٍ مُتَوَاصِلٍ، يُزْعِجُ باقِي الأَحْصِنَةَ بِمَزَاجِهِ الْمُتَعَكِّرِ.. لَكَمْ وَدَدْتُ التَّخَلُّصَ مِنْهُ».

يَفْرَحُ سَعْدُ بِذَلِكْ..

يَقُولُ أبوهُ: «إِنَّهُ حُصَانٌ مُشَاغِبٌ إذاً.. لماذا لا تُبَدِّلُهُ؟».

يُجِيْبُ المُدرِّبُ: «إِنَّهُ مَعْرُوْضٌ لِلْبَيْعِ.. لَكِنَّ أَحَداً لا يُرِيْدُ شِرَاءَهُ..».

لَمَعَتْ عَيْنَا سَعْدٍ مِنَ الفَرَحِ..

قالَ الأَبُ: «ألاَ يُشَكِّلُ خَطَراً على الجُمْهُورِ؟..».

«لا أَعْتَقِدْ.. لَيْسَ شَرِسًا إلى هَذَا الحَدِّ..».

سعد: «أبي.. لِنَذْهَبَ ونَرَاهُ عَنْ قُرْبٍ.. هَلْ تَسْمَحْ لنا يا سيدي؟».

الْمُدَرِّبِ: «لا بأسْ.. لا بأسْ..».

الحُصَانُ البُنِّيُّ في غُرْفَةٍ مُنْفَرِدًا عَنْ بَاقِي الأَحْصِنَةِ..

بَدَا هَادِئًا يَتَنَقَّلُ بِرَشَاقَةٍ في مَسَاحةٍ ضَيِّقَةٍ..

سعد: «انْظُرْ يا أبي ما أَلْطَفَ هَذا الحُصَانُ!.».

هَزَّ الحُصَانُ رَأْسَهُ مُرَحِّباً..

ابْتَسَمَ سَعْدُ.. لوَّحَ بِيَدِهِ..

هَزَّ الحُصَانُ ذَنَبَهُ... اقْتَرَبَ مِنْ سَعْدٍ بِهُدُوءْ..

اسْتَغْرَبَ اُلْمُدَرِّبُ.. تفاجَأَ أبو سَعدْ..

أَشَارَ سَعْدٌ بِيَدِهِ إِلى الحُصَانِ أَنْ تَعَالَ.. جَاءَ الحُصَانُ عَلَى الفَوْرِ..

«هَلْ تَسْمَحُ لِي بِالرُّكُوْبِ عليهِ يا سَيِّدِي؟..».

«أَخْشَى أَنْ يُؤْذِيكَ».

«يَبْدُو لَطِيْفاً مَعِي..».

«نَعَمْ.. يَبْدُو لَطِيْفاً.. عَلَى غَيْرِ عَادَتِهِ..».

«أبي.. هَلْ تَسْمَحُ لي..».

الأب: «لَكِنْ بِحَذَرٍ»..

المدرِّب: «سَأَرْفَعُكَ إليهِ.. وأَبْقَى بِجَانِبِكَ تَحَسُّباً لِأَيِّ خَطَرٍ..».

الحُصَانُ كَانَ هَادِئاً لِلْغَايَةِ.. تَنَقَّلَ بِسَعْدٍ وكَأَنَّهُ يُلاَعِبُهُ..

دَارَ بِهِ.. تَحَرَّكَ بِجِسْمِهِ وَأَقْدَامِهِ وأدَّى رَقْصَةً رَائِعَةً..

أُصِيْبَ الأَبُ والمُدَرِّبُ بالدَّهْشَةِ..

لَمْ يرَ المدرِّبُ عَرْضًا مِثْلَ هذا مِنْ قَبْل..

طَلَبَ مِنْ سَعْدٍ مُشَارَكَتَهُ السِّيْركْ في عَرْضِ اللَّيْلَةِ.. يُقَدِّمُ عَرْضًا عَلَى الحُصَانِ البنِّيّ..

قالَ الأَبُ: «لَكِنَّهُ قَدْ يُؤْذِي ابْنِي!!».

المُدَرِّب: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ تَصَرَّفَ بِلُطْفٍ وَوَدَاعَةٍ؟! لا تَقْلَقْ..».

في السِّيركْ صَفَّقَ الجُمْهُورُ مُدَّةً طَوِيْلَةً... طَوِيْلةً، وَهُمْ يُشَاهِدُونَ سَعْداً مُسْتَمْتِعًا بِرَقْصَةِ الحُصَانِ البُنِّي..

سَعْدُ أَظْهَرَ بَرَاعَةً فَائِقَةً..

ازْدَادَ حَمَاسَةً بَعْدَمَا شَعَرَ بِتَشْجِيْعِ الجُمْهُورِ لَهُ...

أَثْبَتَ سَعْدُ أَنَّ الحُصَانَ لطيفٌ.. لطيفٌ.. عَزِيْزُ النَّفْسِ.. يَرْفُضُ أَنْ يَضْرِبَهُ الْمُدَرِّبُ.. يُقَدِّمُ أَفْضَلَ العَرُوضِ دُوْنَ عُنْفٍ..

بَعْدَ العَرْضِ..

اتَّفَقَ مُدِيْرُ السِّيركْ مَعَ سَعْد أَنْ يُشَارِكَ فِي بَاقِي العُرُوْضِ الَّتِي يُقَدِّمُها في مَدِيْنَتِهِ خِلاَلَ أُسْبُوعٍ كَامِلٍ.. يَحْصَلُ فِي النِّهَايَةِ على الحُصَانِ كَأَجْرٍ لَهُ قَبْلَ أنْ يَنْتَقِلَ السِّيرك إلى مَدِيْنةٍ أُخْرَى..

فَرِحَ سَعْدُ بِهَذَا العَرْضِ..

وَعَدَهُ أَبُوْهُ بِأَنَّهُ سَيَبْنِي لِلْحُصَانِ بَيْتاً صِغَيْراً في حَدِيْقَةِ المَنْزِلِ، يَنْتَهِي قَبْلَ نِهَايَةِ عُروضِ السِّيرك..



اشْتَهَرَ سَعْدُ في المَدِيْنَةِ كَأَفْضَلِ مُدَرِّبٍ لِلأَحْصِنَةِ..

عَاشَ الحُصَانُ البنّيُّ بَقِيّةَ حَيَاتِهِ سَعِيْداً بِبَيْتِهِ الجَدِيدْ.. مَعَ أَصْدِقَائِهِ الجُدُدْ.





أبو صابر



مَدْرَستي تَقَعُ على نَاحِيَةِ الشَّارِعِ المُقَابِلِ لِمَنْزِلي.. وأنا أُحِبُّ مَدْرَسَتِي، ولي فيها أَصْدَقَاءٌ كُثُرْ.. وكُلُّ يَوْمٍ أَتَعَلَّمُ فيها أَشْيَاءَ جَدِيْدَةً ومُفِيْدَة.

بَيْنَ مَنْزِلي ومَدْرَسَتِي طَرِيْقٌ لِلسَّيَّارَاتِ.. وَاسِعٌ وعَرِيْضٌ.. وعِنْدَ طَرَفَيْ الشَّارِعِ إشَاراتٌ كَبِيرةٌ، (انْتَبِهْ: مَدْرَسة)..

السَّياراتُ التي تَعْبُرُ الطَّرِيْقَ تُخَفِّفُ مِنْ سُرْعَتِها لِكَيْ لا تُشَكِّلَ خَطَراً على الطلاَّبِ العَابرين، وخاصَّةً عِنْدَ الصَّبَاحِ وَقْتَ دُخُولِ المَدْرَسَةِ وبَعْدَ الظُّهْرِ عِنْدَ خُروجِهِمْ مِنها عائِدينَ إلى بُيُوتِهم.. ولكِنَّ هُنَاكَ بَعْضُ السَّائِقِينَ لا يَهْتَمُّوْنَ بِذَلِكَ وَيَقُودُونَ سَيّارَاتِهِمْ بِجُنُونٍ.

مُعْظَمُ أَصْدِقَائي يَأْتي آباؤهُمْ لاِصْطِحَابِهِم مِنَ المَدْرَسَةِ، أَمّا أَنَا فَقَدْ كُنْتُ أَفْتَخِرُ بِأَنَّ بَيْتِي قَرِيْبٌ قَرِيْبٌ.. فلا أَسْتَيْقِظُ بِوَقْتٍ مُبْكِرٍ جِدًّا.. وَأَصِلُ إلى البَيْتِ بِوَقْتٍ سَرِيعَ، وَبِذَلِكَ لا تُزْعِجُنِي السَّيَّاراتُ ولا زَحْمَتُها ولا أَتَأَخَّرُ بِالذَّهَابِ إلى المَدْرَسَةِ وبالعَوْدَةِ إلى البَيْتِ..

بَعْضُ الأَصْدِقَاءِ يَحْسِدونَنِي على ذلكْ... ويَتَمَنُّونَ أَنْ يَكُونَ بيتُهم قربَ المدرسةِ...

مُشْكِلَتِي الوَحِيدَة هي عُبُوْرُ الطَّرِيْقِ، فإنا أَخْشَى السيَّاراتَ كَثِيْراً، وأَخْشَى مِنْ سَائِقٍ مُتَهَوِّرٍ يُسْرِعُ دُوْنَ أَنْ يَهْتَمَّ بِوُجُودِ طُلاّبٍ صِغَارٍ ولِذَلِكَ عِنْدَما أُريدُ عُبُورَ الشَّارِعِ مِنْ جَانِبٍ إلى آخَرَ أَنْظُرُ فِي كُلِّ اتِّجَاهْ، وَبَعْدَ أَنْ أَتَأَكَّدَ مِنْ عَدَمِ وُجُودِ سَيّارةٍ قَرِيْبَةٍ أُسْرِعُ رَاكِضًا نَحْوَ الجَانِبِ الآخَرْ.

قُرْبَ بَيْتِي يُوْجَدُ دُكَّانٌ صَغِيرٌ يَشْتَرِي الجِيْرَانُ مِنْهُ حاجَاتٍ مِنْ خُضَارٍ وفَاكِهَةٍ ومُثَلَّجَاتْ...

صَاحِبُ الدُّكَّانِ (أبو صابر) يُحِبُّ الأَطْفَالَ كثيراً. عِنْدَما يَأْتُونَ في الصَّبَاحِ وعِنْدَ انْتِهَاءِ المَدْرَسَةِ يُسَاعِدُ الأَهَالي والأَبْنَاء لِيَضَعُوا سيَّاراتِهم بِشَكْلٍ جَيِّدٍ فلا يُعَرْقِلُ السَّيْرَ، وكَانَ يَسْمَحُ لِلْجَمِيعِ بِأَنْ يَقِفُوا أَمَامَ مَحَلِّهِ بِانْتِظَارِ أَوْلاَدِهِمْ، وكَانَ يَتْرُكُ دُكّانَهُ أَحْيَاناً لِيُنَظِّمَ السَّيْرَ عِنْدَما يَشْتَدُّ الزُّحَامْ..

(أبو صابر) يُحِبُّ طُلاّبَ المَدْرَسَةِ.. يُحِبُّ آباءَهُم.. يُحِبُّ المدرِّسينَ.. يُحِبُّ المَدْرَسَةَ.. ولَمْ يَكُنْ يَبِيْعُ التَّلامِيْذَ ما يضُرُّهُمْ مِنْ حَلَوِيّاتٍ رخِيْصةِ الثَّمَنِ وضَارّةٍ لِصِحَّتِهِم...

وفي إحْدَى المرّاتِ كَسَرَ أبو صابر رِجْلَهُ وهُوَ يُحَاوِلُ أَنْ يُسَاعِدَ التَّلامِيْذَ في عُبُوْرِ الشَّارِعِ.. فَقَدْ صَدَمَتْهُ سَيّارَةٌ مُسْرِعَةٌ..

نَسِيْتُ أَنْ أُخْبِرَكُمْ عن اسْمي.. أنا اسْمي (صابر).





رحلةٌ إلى الماضي



عزيز يَحْلُمُ دَائِماً بِأَنَّهُ يَعِيشُ في زَمَنٍ سَابِقٍ، ويَتَمَنَّى لَوْ يَعُودُ مِئَاتَ الأَعْوَامِ إلى الوَرَاءِ..

صَدِيْقُه عُثمان يَسْتَهْزِىءُ بِهَذِهِ الأُمْنِيَةِ، ويَقُولُ لِعَزيز: كَيْفَ تَتَمَنّى العَوْدَةَ إلى المَاضي وأَنْتَ تَعِيْشُ في عَصْرِ التَقَدُّمِ؟ بالماضي لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ سَيَّاراتٌ ولا طُرُقَاتٌ ولا مُكَيِّفَاتُ هَوَاءٍ ولا أَقْمَارٌ صِناعِيَّة، ولوْ عَرَفَ السَّابِقُونَ مَا سَتَكُونُ عَلَيْهِ اليَوْمَ لَتَمَنُّوا أَنْ يَعِيْشُوا فِي المُسْتَقْبَلِ ولَيْسَ في الماضي..

قالَ عَزيز: أنا لا أقْصدُ كلَّ ما تفكِّرُ بهِ، إني أحبُّ العَوْدَةَ إلى الماضي بِالْمَعْرِفَةِ والتَّفْكِيْرِ، أُحِبُّ قِرَاءَةَ التَّارِيْخِ، وزِيَارَةِ المَتَاحِفِ ورُؤْيَةَ الآثَارِ القَدِيْمَة..

أَخْرَجَ عزيز مِنْ جَيْبِهِ قِطْعَةً مَعْدَنِيَّةً قَدِيْمَةً جِدًّا.. ويَبْدُو عَلَيْهَا آثَارُ الزَّمَنِ.. وقال: أُنْظُرْ إلى رَوْعَةِ هَذِهِ العُمْلَةِ التَّارِيْحِيّة..

ضَحِكَ عُثمان وقال: هَذِهِ العُمْلَةُ لا أسْتَطِيْعُ أَنْ أَشْتَرِي بها شَيْئاً.. أنا أُريدُ عُمْلَةً جَدِيدةً لأَذْهَبَ إلى مَدِيْنَةِ الأَلْقَابِ أو المَطْعَمِ أو أَيِّ مَكَانٍ أَلْهُو فِيْهِ.. هذِهِ العُمْلَةُ لا قِيْمَةَ لها..

أجَابَهُ عزيز: هَذِهِ العُمْلَةُ النادِرَةُ لها قِيْمَةً عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ قيمَتها..

قالَ عُثمان: أَنْتَ دَائِماً أفْكَارُكَ غَرِيْبَةٌ..

قالَ عزيز: أَبَداً.. عِنْدَما نَعُوْدُ إلى الماضي ونَعِيْشُ كما كانوا يَعِيْشُونْ، نَعْرِفُ قِيْمَةَ ما نَحْنُ فِيْهِ الآنَ مِنَ النِّعَمِ.. ونُدْرِكُ أنّ المُسْتَقْبَلَ سيكونُ أعظمُ مما يمكنُ أنْ نتصورهُ..

عثمان: ربَّما.. لَكِنَّنِي أُفَكِّرُ بالحَاضِرِ أكثرَ من الماضي والمُسْتَقْبَل..

عزيز: أنا أُحِبُّ الماضي والحاضرَ والمستقبلَ..

عثمان: وأنَا أَشْعُرُ بِصُدَاعٍ بِرَأْسِي. كُلَّمَا تَكَلَّمْتُ مَعَكَ بهذا المَوْضُوعِ.. هيّا نَلْعَبُ الآنَ (في الحاضرِ).. وغَدًا نُفَكِّرُ ماذا سَنَفْعَلْ؟





نورة واللُّعْبَة



عادتْ نورة من منزلِ صديقتِها فاتن التي تسكنُ في منزلٍ مقابلٍ لمنزلِهِا، وكانتْ نورة قد وعدَتْها بأنْ تعودَ إلى منزِلِها وتحضرَ معها لُعبتَها الجميلةَ التي تحبُّ أن تسمِّيها (دودو).

و (دودو) لعبةٌ جميلةٌ عبارةٌ عنْ دُبٍّ صغيرٍ ملونٍ يرقصُ ويغني ويتكلمْ..

دخلتْ نورة إلى غرفتِها وبعدَ قليلٍ.. عادتْ إلى صالةِ المنزلِ حيثُ كانتْ تجلسُ أمُّها.. صارَتْ تبحثُ دونَ فائدة..

سألتها أمها عمّا تبحثْ؟!

قالتْ: أبحثُ عن لُعبتي (دودو).

أجابتها الأمُّ: لا أدري أينَ هي؟! لم أرَها هنا..

سَأَلتْ نورة أباها.. وأخاها نبيل الأكبرَ منها سناً بقليلٍ.. وأختها الصغيرة لبنى..

لكنّ أحداً لم يرَ لُعبتها..

اتّهَمَتْ نورة أختها الصغيرة لبنى بأنّها أضاعتْ دودو، فهي لا تحسنُ التعاملَ مع الألعابِ.. وربما رمَتْها منَ النافذةِ..

ثُمَّ قالتْ: ربما نبيل تخلّصَ من دودو، لأنهُ يغارُ مني.. وبعد ذلكَ قالتْ لأمِّها: أنتِ مسؤولةٌ.. كيف اختفتْ لُعبتي؟

وقالت لأبيها: عليكَ أن تفعلَ شيئاً لتعيدَ إليَّ لعبتي. وراحتْ نورة تبكي..

وقفتْ الأسرةُ كلُّها حائرةً لا تدري ماذا تفعلْ؟

كلُّ أفرادُ عائلةِ نورة يعرفونَ كمْ تحبُّ نورة لُعبتها هذه؟

على الفورِ.. أسرعوا جميعاً يبحثونَ في كلِّ مكانٍ..

مضى وقتٌ يبحثونَ دونَ فائدة..

وكانَ حزنُ نورة يزدادُ واللعبةُ مفقودةٌ..

ولم تستطِعْ نورة أنْ تنامَ تلكَ الليلة..

وفي الليلِ تذكَّرَتْ نورة شيئاً..

قفزتْ منْ سريرِها.. توجّهَتْ نحوَ حقيبةِ المدرسةِ.. تذكرتْ أنّها وضعتْ لُعبتَها في الحقيبةِ لأنّها تريدُ أن تأخذَها معها صباحَ غدٍ إلى المدرسةِ لتراها مدرِّساتِها وصديقَاتِها..

ضحكَ الجميعُ ممّا حدثْ..

احمرَّ وجهُ نورة خجلاً.. واعتذرتْ لأَنها اتهمتْ أختَها وأخاها.. وسبَّبتْ للأسرةِ جميعاً كلَّ هذا التعبْ..





السَّمَكَةُ الكبيرةُ



ذهبَ الصَّيَّادُ كعادتهِ كلَّ صباحٍ إلى شاطىءِ البحرِ حاملاً عدّةَ صيدهِ، مؤملاً النفسَ بصيدٍ وفيرٍ..

رمى الصيادُ شبكتَهُ مرةً تلوَ المرة، وكانتْ تخرجُ كلَّ مرةٍ دونَ أن تعلقَ بها سمكةٌ واحدةٌ..

وفجأةً تحرَّكَتْ الشبكةُ بعنفٍ، فرحَ الصيادُ وسحبَ الشبكةَ بعد صراعٍ معِ السمكة، كانتْ سمكةٌ كبيرةٌ فرحَ بها، وأخذَها لتراها زوجتهُ قبلَ أَنْ يبيعَها..

زوجةُ الصيادِ ما أنْ رأَتْ السمكةَ حتى فرحتْ وأصابتْها دهشةٌ كبيرةٌ، فهذهِ هي المرةُ الأولى التي يعودُ زوجُها بمثلِ هذا الصيدِ الثمينِ..

قالتْ لهُ: ما رأيكَ أنْ أقطعها وأنظِّفها ونأكلُ بعضاً منها وتبيعُ بعضَها الآخرَ.. فإذا نظّفتُها وقطعتُها يصبح سعرُها أعلى.. فهي كبيرةٌ وقدْ يَعْجَزُ واحدٌ منَ الناسِ عنْ شِرَائِها..

وافقَ الصيادُ امرأتَهُ.. وسعدَ لأَنها أصبحتْ راضيةً عنهُ، فهي دائماً غاضبةٌ منهُ لأنهُ فقيرٌ، وحظُّهُ عاثرٌ.. ولا يصطادُ سمكاً كثيراً..

على الفورِ قامتْ المرأةُ تنظِّفُ السمكةَ.. وما أنْ فتحتْ المرأةُ السمكةَ لتنظِّفَها حتى اكتشفتْ بها خاتماً من ذهبْ، وعليهِ جوهرةٌ عظيمةٌ لونُها أحمرٌ لمْ ترَ مثيلاً لها في حياتِها..

كادَ الصيادُ يُغْمَى عليهِ من هَوْلِ المفاجأةِ.. وبعدَ أنْ هدأَ هو وزوجتُهُ واستعادا تفكيرَهُما، قرّرا أنْ يحملَ الرجلُ الخاتمَ ويذهبَ به إِلى سوقِ الصاغةِ ويبيعَهُ لمنْ يدفعُ أعلى سعرٍ..

صارَ الصيادُ يدورُ منْ محلٍّ إلى آخرَ عارضاً الخاتمَ وحاولَ البعضُ أنْ يرخِّصَ السِّعْرَ، فيما خافَ بعضُ أصحابِ الحالِ من أنْ يكونَ الصيادُ قدْ سرقَ الخاتَمَ من مكانٍ ما فلم يقبلوا أنْ يشتروه منهُ.. وبعدَ أنْ تأخَّر الوقتُ وغربتْ الشمسُ، قرَّرَ الصيادُ العودةَ إلى بيتِهِ، لكنهُ كانَ خائفاً من كلامِ زوجتِهِ القاسي.. فقالَ في نفسِهِ لِأَدخلَ هذا المحلَّ ربّما أنجحُ في بيعهِ ولو بسعرٍ قليلْ.

دخلَ الصيادُ المحلَّ، وعرضَ الخاتمَ على البائعِ.. ما أَنْ رأى البائعُ الخاتمَ حتى أمسكَ بهِ بقوةٍ وصاحَ هذا هو الخاتمُ.. مِنْ أينَ أتيتَ بهِ.. مِنْ أينْ؟ خافَ الصيادُ وكادَ يهربُ لولا أن تداركَ البائعُ نفسَهُ، وشرحَ لهُ أنَّهُ كانَ يقومُ وزوجتُه برحلةٍ بحريةٍ في القاربِ، فهبَّتْ ريحٌ عنيفةٌ وحاولَ هو وزوجتُه أن يمسِكا أطرافَ القاربِ بقوةٍ.. وفي أثناءِ ذلكَ سقطَ هذا الخاتمُ من يدِ زوجتِهِ ومعه خاتمٌ آخر..

فرحَ الصيادُ بما قالهُ الرجلُ وأخبرهُ بقصةِ السمكِ.. قالَ لهُ الصائغُ: سأعطيكَ ألفَ دينارٍ لأنهُ خاتمٌ عزيزٌ جداً على زوجتي وهو أيضاً غالي الثمن.. ولكني سأعطيكَ عشرةُ آلاف دينارٍ لو أتيتني بالخاتمَ الثاني، فهو غالٍ جداً.. وزوجتي تعتزُّ بهِ فقدْ ورثتْهُ عن أمِّها..

فرحَ الصيادُ بعرضِ الصائغِ.. وقرّرَ أنْ يبدأ عمليةَ البحثِ عن الخاتمِ.. لكن مِنْ أينَ يأتي بسمكةٍ كبيرةٍ مثلَ تلكَ السمكة؟ تكونُ قد ابتلعتْ الخاتمَ الثاني.

وخرجَ الصيادُ من لحظتهِ إلى البحرِ وفي المكانِ نفسهِ بدأ يرمي الشبكةَ.. وكانَت تخرجُ أسماكٌ صغيرةٌ لا قيمةَ لها فيعيدُ رميها في البحرِ..

ومضتْ الأيامُ على هذهِ الحالْ... أسابيعٌ طويلةٌ مرَّتْ.. حتى كادَ الصيادُ يُصابُ باليأسِ، وكادَ المالُ الذي أخذهُ من الصائغُ ينفدُ..

وفي ظهرِ يومٍ حارٍ جداً.. في الوقتِ الذي لا يفضلُ فيهِ الصيادونَ الصيدَ، رمى الصيادُ شبكتهُ وانتظرَ.. فاهتزتْ الشبكةُ بعنفٍ.. وبدأَ يصارعُ سمكةً كبيرةً مثلما فعلَ في المرَّةِ السابقة..

وبعدَ صراعٍ عنيفٍ أخرجَ الرجلُ السمكة وكانتْ ضخمةً وتشبهُ السمكةَ الأولى. فأخذها على الفورِ إلى امرأتِهِ.. وفي الطريقِ شاهدَهُ رجلٌ فاستوقفَهُ قائلاً:

أيها الصيادُ العزيزُ.. هل تبيعني سمكتكْ؟

قال: لا يا سيدي.. آنا آسفْ؟

قال: سأشتريها بمئةِ دِينارْ..

ضحكَ الصيادُ وقال: مئةُ دينار؟! ما أتفهَ هذا المبلغْ..

هناكَ مَنْ دَفَعَ أكثرَ من هذا المبلغِ بكثيرٍ.

فأجابَهُ الرجلُ: يا صديقي، المئةُ دينارٍ مناسبةً، ولكني سأدفعُ مئتين.. وظلَّ الصيادُ يرفضُ والرجلُ يمشي وراءَهُ.. حتى وصلَ إلى بيتهِ.. وقبلْ أنْ يدخلَ قال الرجلُ:

اسمعني يا صديقي.. أنا أهوى الأسماكَ الكبيرة سأدفعُ لكَ ألفَ دينارٍ نقداً.. وهذا عرضي الأخير..

لم يتكلمْ الصيادُ.. دخلَ بيتهُ وأغلقَ البابَ في وجهِ الرجلِ.

استقبلت المرأةُ زوجَها بالزغاريدِ.. حملتْ السمكةَ ووضعتْها على الطاولةِ وفتحتْ بطنَها.. تظنُّ أنها ستجدُ الخاتمَ الآخرَ لتفوزَ بعشرةِ آلافِ دينار.. لكنها لمْ تجدْ شيئاً.. وأُصيبَ الصيادُ بصدمةٍ.. وطلب من زوجتِهِ أنْ تبحثَ في السمكةِ.. وكررتْ البحثَ وضغطتْ عليها مراراً دونَ فائدة.. فجلس الرجلُ يبكي وروى لزوجتهِ قصةَ الرجلِ الذي تبعهُ ليشتري السمكةَ بألفِ دينار..

فصاحتْ به.. أُخرجْ إليهِ فوراً.. إلحقْ بهِ، سيكونُ ما زالَ في الطريقِ.. واُعْرِضْ عليهِ أنْ يشتري السمكةَ..

وخرجَ الصيادُ يركضُ في كلِ مكانٍ حتى عثرَ على الرجلِ في السوقِ.. فقدمَ لهُ السمكةَ قائلاً:

عفواً يا سيدي أنا آسفْ.. سأبيعُكَ السمكةَ.

تأمَّلَ الرجلُ السمكةَ.. ثم هزَّ رأسهُ متحسِّراً وقال:

خسارة.. لم تعدْ تنفعُني..

ولما همّ بالرحيلِ.. قالَ الصيادُ: إذنْ سأبيعكَ إياها بخمسمائةِ دينارٍ فقطْ..

ضحكَ الرجلُ ولمْ يُجِبْهُ..

قالَ الصيادُ: خلاصْ.. بمئةْ.. بمئةٍ لا غير..

قالَ الرجلُ: يا سيدي أنا رجلٌ أحبُّ الأسماكَ الكبيرةَ حيثُ أحنطُها وأضعُها في قصري الكبيرْ.. والسمكةُ لم تعدْ تنفعُ للتحنيطِ..

فأُصيبَ الصيادُ بحسرةٍ شديدةٍ..

لأنهُ أضاعَ فرصةً لا تتكرَّرُ باعتقادهِ أنه سيجدُ الخاتمَ.. وندمَ.. وقديماً قالوا: تندمُ الآن.. ولاتَ حينَ مَنْدَمِ..





أين ينتهي البحر



كَانَ عَقْلِيَ الصَّغيرُ يُوهِمُني أنَّ البحرَ يَنْتَهِي عِنْدَ مُنْتَهَى النَّظَرِ، وكنتُ أظنُ واهماً أنّ الشمسَ وقتَ المغيبِ تغسلُ وجهَهَا بماءِ البحرِ، وتستريحُ بعدَ ذلكَ منْ عناءِ عملِها طوالَ النهارِ فتنامُ ليلاً حتى مطلعِ الفجرْ...

اعتقدتُ طويلاً، ولمْ أسألَ الناسَ متحققاً منْ صحةِ اعتقادي، ربما لأنني أحبُّ دائماً الاحتفاظَ بخيالاتي «المتحمِّسَةِ» كَيْلا تدوسها خيولُ الحقيقةِ.. اعتقدتُ ــــ واهماً أيضاً ــــ أنّ خط نهايةِ البحرِ الوهميّ في عقلي يسكنُ سداً صلباً، يحولُ دونَ تسرُّبِ الماءِ منَ البحرِ فلا يتحوّلُ إلى وادٍ سحيقٍ عميق.. سداً يقفُ كالجبلِ الشامخِ، يحجزُ الماءَ عنْ تدفقهِ...

ظننتُ أنّ العالمَ ينتهي عندَ هذهِ النقطةِ.. وأنّ الماءَ لو تسرَّبَ منْ فجوةٍ ما لَسَالَ في الفضاءِ..

ياااه.. يا لهُ من خيالٍ مضحكٍ..

ومعْ ذلكَ لمْ أكنْ أريدُ تغييرَ «الحقيقة»..

لكني اكتشفتُ ــــ غصباً عني ــــ أنّ الأحلامَ شيءٌ و«البحرَ» شيءٌ آخر..



عِنْدَما اُصْطَحَبَنِي أبي برحلةٍ بحريةٍ بإلحاحٍ شديدٍ مني.. نظرتُ إلى بعيدٍ بعيدٍ.

وكلما أوغلتْ السفينةُ في أعماقِ البحرِ؛ ابتعدَ السدُّ الوهميّ عني حتى كادَ يتلاشى.. وكنتُ أظنُّني أقتربُ منهُ.

لمْ أجرؤْ على البوحِ بهذا الوهمِ «الحقيقة»..

وددتُ الصُّراخَ بأعلى صوتٍ.. آمرُ البحّارةَ بأنْ يقودوا السفينةَ نحوَ «السدِّ»..

كانتْ ضرباتُ قلبي تشتدُّ بارتفاعِ السفينةِ وهبوطِها..

صعدتُ إلى أعلى مكانٍ في السفينةِ.. ساعدني أحدُ البحّارةِ لأصلَ إلى منارةِ السفينةِ... أعطاني منظاراً كبيراً.. اعتقدتُ أخيراً أني سأشاهدُ نهايةَ البحر.. اعتقدَ البحَّارُ أنني سعيدٌ بما أراهُ من بحرٍ عظيمٍ.. صرتُ أبحثُ في كلِّ اتجاهٍ.. أبحثُ عن نهايةِ البحرِ، لا عن هيبتِهِ وجلالِهِ..

تخيّلتُ في عقلي الصغيرِ كيفَ يمكنُ للبحرِ أنْ يتجمَّدَ في نقطَةٍ ما من الأرضِ، ويصبحُ صلباً كالصخرِ..

وفيما بعدُ اكتشفتُ وهمَ طفولتي.. أحلامُ نهاياتِ البحرِ..

وحَزِنْتُ عِنْدَمَا اكْتَشَفْتُ: بَرَاءةَ الأحْلامِ من حقيقتِهَا..



لكنَّ بعضَ أحلامي الطفوليةِ تحقّقَتْ..

رضيتُ من بقايا الطفولةِ الساحرةِ..

علمتُ أنّ في الأرضِ قطعاً من بحرٍ متجمدٍ..

رأيتُ بعينيّ كيف يصبحُ البحرُ جامداً كالصخر (حقاً حقاً)؟.

عرفتُ أنّ هناكَ مناطقُ شاسعة متجمدةً تماماً.. وأنّ الحرارةَ عندَ طرفَيْ الأرضِ في شمالِها وجنوبها وما يحيطُ بنقطةِ ارتكازِها التي نراها في مجسّماتٍ أرضيّة، تهبطُ بشكلٍ مخيفٍ، ويصبحُ ميزانُ الحرارةِ دائماً تحتَ الصِّفْر بعشراتِ الدرجاتِ..

رأيتُ كيفَ يصبحُ هذا البحرُ الهادرُ قطعةً مِنَ الأرضِ..؟

وكيفَ يسيرُ الناسُ بمراكبٍ متزحلقةٍ تجرُّها كلابٌ فوقَ ماءٍ متجمِّدٍ..

وهناكَ يحفرُ صيّادون «البحر»..

نعمْ..

يشقّونَهُ بفأسٍ أو منشارٍ، لا لِيَغْرُسوا شجرةً بلْ لِيَرْموا خيوطَ صيودهمِ الدقيقةِ وفي رأسِها حديدةٌ مسننةٌ عليها شريحةُ سمكٍ شهيّة، تجذبُ رائحتُها الأسماكَ منْ أعماقِ بحرٍ متجمّدٍ في قمّتهِ.. سائلٌ في قعرهِ..

تخيّلتُ في عقلي ــــ الذي ما زالَ يحلُم ــــ كيفَ يستقرُّ الجامدُ فوقَ متحركِ؟

وكيف يحفظُ الباردُ الدافىءْ؟

ويثبتُ ناسٌ ويسيرونَ بهدوءٍ وسكونٍ واطمئنانٍ فوقَ جليدٍ يخفي أمتاراً من أعماقِ مائيةٍ متحركةٍ..



دهشتُ أكثرَ عندما رأيتُ جبالاً بيضاءً.. جبالاً ناصعةً..

ودهشتُ أكثرَ وأكثرَ عندما علمتُ أنّ هذهِ الجبالُ الضّخمةُ ليستْ سوى قمماً لجبالٍ مخفيةٍ..

وأنّ ما في البحرِ منها ما هو أضخمُ بمراتٍ مِنْ قِمَمِها الظاهرة..

ولاحظتُ أنّ سكانَ القطبِ المتجمِّدِ بيوتُهم من صخرٍ مائيٍّ متجلّدٍ.. وكذلكَ أثاثُ بيوتِهمْ..

عجبتُ كيفَ أنّ بيوتَهم هذهِ مصنوعةٌ مِنْ قطعِ ثلجٍ مرصوصةٍ بِدِّقةٍ بالغةٍ، وبطريقةٍ عجيبةٍ، تجعلُ البيتَ دافئاً من الداخلِ، فلا يتسلَّلُ بردٌ إلى ساكنيهِ.. وكأنّهمْ يردِّدونَ قولَ الشاعرِ العربيِّ القديمِ: وداوِني بالتي كانتْ هي الداءُ...



درستُ في مدرستي بعدَ ذلكَ أنّ السّحبَ العظيمةَ التي نراها عادةً في فصلِ الشتاءِ، عبارةٌ عن ماءٍ متجمعٍ في طبقاتِ الجوِّ العليا..

تنقلَهُ الرياحُ إلى حيثُ أَمَرَها اللَّهُ.. لتُسْقِطَ ماءً.. يبقى على حالهِ أو يتحوَّلُ برداً أو ثلجاً..

أدركتُ أشياءَ كثيرةً لم أكنْ أعرِفُها..

وعلمتُ أنّ الهواءَ الذي يدخلُ في رئتيّ يحوي هو أيضاً كميةً كبيرةً من ماءِ..

وأنّ جسمي الذي أعيشُ فيه كانَ في الأصلِ ماءً وتراباً..

ذهبَ الترابُ بأصلهِ وشكلهِ وبقيَ الماءُ المتغلغلُ في تفاصيلِ الجسدِ.. منْ لحمٍ وعظمٍ ودمٍ.. فلا توجدُ خليةٌ حيةٌ بغيرِ ماءٍ..

وقد كانَ العربُ قديماً يقولونَ لمنْ ماتَ: «ذهبَ ماؤهُ»، وهذا يعني أنّ الماءَ سرُّ الحياةِ..

ألمْ يقل اللَّهُ تعالى: { وجعلنا من الماء كل شيء حي }؟

وعلمتُ أنّ الماءَ هوَ الحياةُ نفسها..

حتى الدماءَ التي تسري في أنحاءِ الجسمِ إذا جفَّتْ وذهبَ ماؤُها لا يبقى غيرُ ذراتٍ حمراءٍ باهتةً اللونَ..

وكنتُ ألاحظُ ذلكَ إذا جرحتُ نفسي أثناء لعبي مع أقراني الصغار..

ومثل هذا عصائر الفاكهة، لو تركتُ في كأس عصيراً حتى جفَّ تماماً لمَا بقي غيرُ بقايا ملونةٍ في قعر الكأس..

وقد لاحظتُ أن أمي تضيفُ إلى الحليبِ المجفَّفِ أضعافاً من حجمهِ ماءً ليصبحَ حليباً سائلاً أشربُهُ..

وعلمتُ أنّ الإنسانَ يستطيعُ البقاءَ حيًّا أسابيعَ طويلةً من دونِ أنْ يأكلَ لقمةً واحدةً، لكنّه يموتُ إذا لم يشربْ ماءً لأيامٍ قليلةٍ وربما لساعاتٍ، كما أنّ الإنسانَ يستطيعُ أن يحيا على لُقَيماتٍ بسيطةٍ طوالَ عمره لكنه لا يستغني عن كميةٍ وافرةٍ من الماءِ ليشربَها يومياً..

ورأيتُ المريضَ الذي لا يستطيعُ تناولَ الطعامِ والشرابِ يقومونَ بحقنهِ بمصلٍ في شرايينهِ، وهذا المصلُ عبارةً عن ماءٍ وبعضُ المغذياتِ..

ورأيتُ أيضاً حِرْصَ الناسِ الشديدِ على الماءِ في البلادِ التي ليس بها ينابيعٌ وأمطارُ..

رأيتُهمْ كيفَ يصنعونَ من ماءِ البحرِ المالحِ ماءً حلواً طيبَ المذاقِ..

رأيتُ الينابيعَ على أنواعِها..

الصافي الباردُ الرقراقُ، الفوّارُ الحارُّ، المعدنيُّ الأحمرُ مثلَ حديدٍ مهترىءٍ..

علمتُ أنَّ في أعماقِ البحرِ ينابيعُ كثيرة، وفي جوفِ الأرضِ أنهاراً لا تُعَدُّ، وفي الجبالِ بين الصخورِ مخابىءُ مياهٍ عجيبة..

لم أكنْ لأصدِّقَ أنَّ مياهَ البحرِ التي أراها واحدةً متصلةً قد تكونُ في بعض الأماكنِ من البحارِ أو المحيطاتِ مياهاً متعددةً.. وبحاراً منفصلةً.. يحدُّها جدارٌ مائيٌ وهميٌّ حقيقيٌّ، لا يمكنُ للعينِ أنْ تراهُ بوضوحٍ.. فالمياهُ متلاصقةٌ متلاحمةٌ، ولهذا أسماكٌ ولذلك أسماكُ.. للأولِ حرارةٌ وللثاني حرارةٌ مختلفةٌ.. ومواصفاتٌ مختلفةٌ..

لم أصدقْ كما قلتُ في أولِ الأمرِ.. ولكنّها حقيقةٌ أقربُ إلى حلمٍ..

وعلمتُ أن الكرةَ الأرضيةَ هي في الواقعِ كرةٌ مائيةٌ.. فالماءُ يشكِّلُ أكثرَ من ثُلُثَيْ الأرضِ.. واليابسةُ ليستْ سوى جزيرةٍ تشكِّلُ الثلثَ فقطْ أو أقلّ..

فأدركتُ أنَّ الماءَ هوَ الذي يحملُ الأرضَ وليستْ الأرضَ هي التي تحملُ الماءَ..

وعرفتُ أنّ عمقَ الأرضِ يسيلُ.. وأنّ اليابسةَ تسبُح على بحرٍ ملتهبٍ.. يخرجُ إلينا من حينٍ لآخرَ من فوهاتِ براكينٍ نراها في العالمِ..



ورأيتُ أيضاً أنّ البحرَ في حقيقتهِ ثائرٌ.. لا كما يبدو هادئاً وديعاً..

وقد شاهدتُ ــــ وشاهدَ العالمُ مثلي ــــ ما حدثَ في شرقِ آسيا الجنوبي يوم اكتسحَ الماءَ أعالي الجبالِ، في مشهدٍ قلّما يتكرَّرُ، سمِّي حينها بكارثةِ تسونامي..

ورأيتُ فيضاناتٍ عجيبةٍ في الفلبين وسيريلانكا والهند وأعاصيرُ هوجاءَ في أنحاءٍ متفرقةٍ من العالمِ، حيثُ تنقضُ رياحٌ مصحوبةٌ برعودٍ ومياهٍ جارفةٍ تتركُ الأرضَ خراباً ودماراً..



ليسَ هذه فقطْ..

بلْ علمتُ أنّ ماءً في زمنٍ بعيدٍ بعيدٍ تحوَّلَ إلى فضاءٍ أغرقَ الأرضَ كلَّها ولمْ يبقَ غيرُ سفينةٍ واحدةٍ عليها بعضُ أجدادنا المؤمنينَ الذينَ أبقوا على الأرضِ بشراً، ولولاهم لغرقَ الناسُ جميعاً، كما تقولُ قصةُ النبي نوح عليه وعلى نبينا السلام...

وبعد ذلكَ كلهِ.. ما زلتُ أحلمُ بأنّ للبحر آخراً..

ركبتُ سفناً وقطعتُ بحاراً من شطآنٍ إلى شطآنٍ..

لكني ما زلتُ أحلمُ بأنّ للبحرِ نهايةً..

لكن، أينْ ينتهي البحرُ؟؟ ما زلتُ أحلمُ..





بَقَرَةُ جُحا

كَثيراً ما نَسْمَعُ عَنْ مَثَلٍ عَرَبِيٍّ يَقولْ: (قَدّ بَقَرَة جُحا) أَوْ (أَغْلى مِنْ بَقَرَةِ جُحا)، فَهَلْ تَعْرِفون يا أَصْدِقائي ما هِيَ بَقَرَةُ جُحا؟ وَكَيْفَ صَارَتْ قِصَّةُ هَذِهِ البَقَرَةُ مثلاً يدورُ عَلى أَلْسِنَةِ النَّاسِ مُنْذُ سِنِينَ طويلةً؟؟

لِنَسْتَمِعْ مَعَها إلى ما هَذِهِ الحِكَايَةُ الطَّرِيفَةُ:

تَقُوْلُ الحِكَايَةُ إنَّ جُحا سَمِعَ في يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ أَنَّ البَقَرَ الأَبْيَضَ اللَّوْنَ يَجْلِبُ الحَظَّ لِصَاحِبِهِ، وَقَدْ كَانَ البَعْضُ فِي الماضي ــــ كَما هِيَ الحَالُ فِي هَذِهِ الأَيَّامْ ــــ يُؤْمِنُونَ بِالحَظِّ وَبِالأَشْيَاءِ الَّتِي يَرُونَ أَنَّهَا تَجْلُبُ السَّعَادَةَ وَالمَالَ وَالصِّحَةَ أَوْ تُبْعِدُ الحَسَدَ.. وَطَبْعاً أَنْتُمْ تَعْرِفُونَ أَنَّ هَذَا الكَلامَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلاَ قِيْمَةَ لَهُ.. فَلَيْسَ هُنَالِكَ تَمِيْمَةٌ وَلاَ وَرَقَةٌ وَلاَ بَقَرَةٌ وَلاَ شَيْءٌ يَجْلُبُ الحَظَّ لِلإِنْسَانِ وَأَنَّ عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَبْقى مُتَفائلاً دَائماً وَحَتَّى فِي أَصْعَبِ الأَحْوَالِ..

وَلِنَعُدْ الآنَ إِلى القِصَّةِ حَيْثُ نَجِدُ جُحَا يَبْحَثُ فِي الأَسْوَاقِ عَنْ بَقَرَةٍ بَيْضاءَ بَعْدَما سَمِعَ بِعَجَائِبِ الأَبْقَارِ ذَاتِ اللَّوِن الأَبْيَضِ..

لَكِنَّ بَحْثَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَيُّ فَائِدَةٍ فَهَذَا البَقَرُ نَادِرُ الوجُودِ.. وَكَادَ جُحَا يَيْأَسُ مِنَ العُثُورِ عَلَى بَقَرَةٍ نَاصِعَةِ البَيَاضِ.. فَصَارَ يُفَكِّرُ بِبَقَرَةٍ رَمَادِيَّةٍ..

وَفَجْأَةً قَالَ لَهُ أَحَدُ التُّجَّارِ أَنَّهُ سَمِعَ عَنْ بَقَرَةٍ بَيْضَاءَ يَمْلُكُها مُزَارِعٌ فِي قَرْيَةٍ قَرِيْبَةٍ لَكِنَّها عَزِيْزَةٌ عَلَيْهِ وَلاَ يَبِيعُها بِغالِي الثَّمَنِ..

وَهَذَا أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ، فَكُلُّ مَا هُوَ نَادِرُ الوجُودِ وَمَطْلُوبٌ مِنَ النَّاسِ يَكُونُ ذا قِيْمَةٍ عَالِيَةٍ حَتَّى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِالفَعْلِ قِيْمَةٌ حَقِيْقِيَّةٌ..

عَلَى الفَوْرِ.. اُنْتَقَلَ جُحا إلى القَرْيَةِ القَرِيْبَةِ سَاعِياً وَرَاءَ البَقَرَةِ البَيْضاءِ..

الْتَقَى جُحا صَاحِبُ البَقَرَةِ وَكَانَ كَبِيراً بِالسِّنِّ فَعَرَضَ عَلَيْهِ شِرَاءَ البَقَرَةِ بِسِعْرٍ بَاهِظٍ لَمْ يُعْرَضْ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ... وَصَدَفَ أَنَّ المُزَارِعَ كَانَ بِحَاجَةٍ لِلمَالِ فَطَلَبَ مبلغاً أكبرَ، وَعَادَ جُحَا بِرِفْقَةِ البَقَرَةِ البَيْضَاءِ سَعِيداً بها.. يَظُنُّ أنَّها سَتُفْتَحُ لَهُ أَبْوابَ الحَظِّ وَالمَالِ وَالسَّعَادَةِ...

وَبَعْدَ أَنْ انْتَشَرَتْ قِصَّةُ البقرةِ فِي بَلْدَةِ جُحا.. قَامَ لِصٌّ وَسَرَقَ البَقَرَةَ مِنْ حَظِيْرَتِها.. وَلَمَّا اكْتَشَفَ جُحا السَّرِقَةَ كَادَ يَمُوتُ مِنَ الحُزْنِ.. وَقَرَّرَ أَنْ يُفَتِّشَ كُلَّ بُيوتَ البَلْدَةِ بَاحِثاً عَنْها.. لَكِنَّهُ لَمْ يَجِدْ لها أَثَراً..

السارقُ كَانَ ذكياً جداً... وضعَ خطةً عجيبةً..

قامَ السَّارِقُ بِصَبْغِ البَقَرَةِ باللَّوْنِ الأَسْوَدِ فلا يَعْرِفُها أَحَدٌ في البَلْدَةِ.. وأخفاها فَتْرَةً طويلةً.. وبَعْدَ أنْ تأكَّدَ أنَّ جُحا فَقَدَ الأَمَلَ بالعثورِ عَلَيْها قرَّرَ تنفيذَ الشقِّ الثاني مِنْ خطَّتِهِ..

ذَهَبَ اللِّصُّ إلى مَنْزِلِ جُحا وقَالَ لَهُ إنَّهُ بَيْنَمَا كَانَ في سوقٍ للمَاشِيَةِ خارجَ البَلْدَةِ شاهَدَ بَقَرَةً بيضاءَ مَعْروضَةً لِلْبَيْعِ فقرَّرَ شِرَاءَها على الفَوْرِ مِنْ أَجْلِ صَدِيقِهِ وَجَارِهِ وابْنِ بَلْدَتِهِ جُحا.. وساوَمَ البائعَ طويلاً لكِنَّ الثمنَ كانَ باهظاً ورغمَ ذلكَ اشتراها مِنْ أَجْلِ جُحا وَأَخَذَها إلى حظيرةِ بيتهِ وأطعَمَها وسقاها ثم تَرَكها تَرْتاحُ وحَضَرَ إلى مَنْزِلِ جُحا لِيُبَشِّرَهُ بِالبَقَرَةِ الجديدةِ..

طارَ عقلُ جُحا مِنَ الفَرَحِ وعلى الفَوْرِ دَفَعَ مبلغاً كبيراً لِلْجارِ الصديقِ دُوْنَ مُنَاقَشَةٍ وهَرَعَ نَحْوَ بَيْتِهِ لِيَأخُذَ البقرةَ.. وكَانَ الجارُ الكاذبُ قدْ غسلَ البقرةَ وأزالَ عنها الطلاءَ الأسودَ حتى استعادتْ لَوْنَها الناصِعَ البياضِ..

وهكذا انْطَلَتِ الحِيْلَةُ على جُحا وعادَ بِبَقَرَتِهِ القديمةِ على أساسِ أَنَّها بقرةٌ أُخرى، سعيداً بِعَوْدَةِ «الحظِّ» إليهِ واعداً نَفْسَهُ أَنَّهُ لَنْ يَتْرُكَ البقرةَ أبداً وسَيَسْهَرُ على حِراسَتِها فِي اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهارِ.. ومَعِ الأَيَّامِ عَرَفَ النَّاسُ قِصَّةَ جحا والبقرة وانْتَشَرَتْ فِي جميعِ البلادِ، وصاروا يَتَنَدَّرُونَ وَيَقُولُونَ عَنْ كُلِّ شيءٍ كَلَّفَ أكثرَ مِنْ قِيْمَتِهِ: «أَغْلى مِنْ بَقَرَةِ جُحَا».

وصارتْ قِصَّةُ جُحَا وبَقَرَتُهُ مثلاً في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ...



صَاحِبُ القَصْرِ وصديقُهُ القديمُ



في مكانٍ بعيدٍ بعيدٍ.. على قِمَّةِ رَبْوَةٍ خَضْرَاءَ عاليةٍ، مُحَاطةٌ غالباً بِسُحُبٍ بَيْضاءَ مثلَ ثلجٍ نَاصِعٍ.. مُتَوَهِّجٍ تَحْتَ الشَّمْسِ، يكادُ متأملٌ يُسْحَرُ بِمَرْأَى سَماءٍ تَحْتَضِنُ ربوةً بِحُنُوٍّ وسَكِيْنَةٍ.. يَشْعُرُ فِي اللَّيَالي بِقُدْرَتِهِ عَلَى لَمْسِ نُجُومٍ مُرْتَجِفَةٍ، تبدو من هاهنا دانيةً مثلَ ثِمَارِ شَجَرٍ.. يكادُ عابرٌ في عَتْمَةِ (ظُلْمَةِ) دُروبٍ طويلةٍ لا يَحْتاجُ ضَوْءُ قِنْدِيلٍ أَو شُعَاعُ سِرَاجٍ..

هُنَاكَ.. حيثُ ينامُ قمرٌ وتغفو عصافيرٌ دونَ خَوْفٍ مِنْ صَيَّادٍ يَأتيها بَغْتَةً (فَجْأةً).. تسيرُ أرانِبُ بِخُشوعٍ آمنٍ في جِوارِ ثعالبٍ، وتَرْقُدُ (تَنَامُ) حِمْلانٌ قُرْبَ ضِباعٍ..

هُناكَ..

في أعلى سَنامِ الرَّبْوةِ قصرٌ حَجَريٌّ قديمٌ..

قَرْمِيْدٌ سقفهُ.. صَخْرٌ جُدْرانُهُ.. عالٍ جبينُهُ. مُرْتَفِعَةٌ هامَتُهُ..

مَنارَتُهُ تَخْرِقُ الفضاءَ، تَرْمِي بِشِبَاكِها حيثُ تسكبُ أنواراً بِهَيْبَةِ شموخٍ، بلا اسْتِئْذَانٍ..

يُطِلُّ القَصْرُ بِبَهاءٍ باهِرٍ على حَدائقَ وتِلالٍ وَوِدْيانٍ ومُروجٍ.. مُعْلِناً نَفْسَهُ حارِساً أميناً للوحةٍ فنيةٍ طَبِيعِيَّةٍ سَاحِرَةٍ مُبْدِعَةٍ صَافِيَةٍ..



وفي أيامٍ شتويةٍ.. وقتما تَتَكَدَّرُ سماءٌ (يتغيرُ لونُها)، تغيبُ مناراتُ القصرِ الشامخةِ لِلْعُلا بينَ غيومٍ مُتَكَدِّسَةٍ كَقُطْنٍ حَالِكٍ (شَدِيدِ السَّوادِ) تَتَدَلَّى مِنْ فَوْقٍ إلى تَحْتٍ، تَتَمَدَّدُ مِنْ أسفلٍ إلى أعلى.. تبدو تِلالاً قُطْنِيَّةً تَنْحَدِرُ بِقُوَّةٍ.

سَيِّدُ القَصْرِ وَصَاحِبُهُ لاَ يَسْتَسْلِمُ لِجَبَرَوتِ طبيعةٍ..

يَأْبَى أَسْتَارُ شتاءٍ تَحجبُ أنواراً مُرْسَلَةً جذباً لتائهينَ ضائعينَ فِي عتمةِ ليلٍ.. يطلبهُمْ حثيثاً (سريعاً) كما يطلبُ سراجُ نورٍ فراشاتٍ هائمةٍ ترنو (تَحِنُّ) لدفءٍ وقَبَسٍ (شُعْلَةُ نَارٍ) مِن أَمَلٍ.

عِنْدَها يَسْتَنْفِرُ خَدَمُ القَصْرِ وَعَسَسُهُ (حُرَّاسُهُ)، يَنْطَلِقُونَ بِأَمْرِهِ، يَزْرَعُونَ قَنَادِيلاً عَلَى أَطْرَافِ الرَّبْوَةِ.. فِي زَوَايَا طُرُقَاتٍ وَدُروبٍ، إِسْعافاً (إنقاذاً) لِعَابِري لَيْلٍ كَالِحٍ (مُتَجَهِّمٍ عَابِسٍ) هدياً لتائهينَ تَحْتَ لَطْمِ عَوَاصِفٍ.. دَعْوَةً لِمُشَرَّدِينَ بَاحِثِينَ عَنْ مَأْوَى (ملجأٍ) دافىءٍ، يَلُوذُونَ بِهِ (يَحْتَمُونَ بِهِ)، يَقِيْهِمْ سِياطُ بَرْدٍ وَبَلَلُ شِتَاءٍ وَقَرْصَةُ جُوْعٍ.. وَمَنْ يَعْرف جوع يعرف أن قَسَاوَته فِي بَردٍ أشدّ وأمر..



القَصْرُ وَاسِعٌ وَاسِعٌ، غُرَفُهُ كَثِيرةٌ كَثِيرةٌ.. تُحيطُهُ بَسَاتِينٌ مُمْتَدَّةٌ تَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي البَصَرُ.. مِئَاتُ العُمَّالِ يَعْمَلُونَ دُوْنَ مَلَلٍ..

يَزْرَعُونَ أنواعاً مِنْ أَشْهَى فَاكِهةٍ وخُضْرَاوَاتٍ.. أَرْضُ الرَّبْوَةِ خَصْبَةٌ خَصْبَةٌ، لاَ تَبْخَلُ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي أَحْشَائِها (بَطْنِها)، لاَ تَحْتَاجُ سَماداً وَلاَ جُهْداً كَبِيراً، مَاءٌ يَسِيلُ حولَها مِنْ كُلِّ صَوْبٍ، عشبٌ ضارٌ لاَ يَنْبَتُ بِهَا.. تُرَابُهَا نَظِيفٌ.. فَاكِهَتُهَا لَذِيذَةٌ.. كُلُّ مَا عَلَيْهَا يَعْجَزُ وَاصِفاً عَنْ وَصْفِهِ وَسَاحِراً عَنْ سِحْرِهِ وَفَنَّاناً عَنْ فَنِّهِ وَشَاعِراً عَنْ شِعْرِهِ..

فِي الربوةِ حَرَكَةٌ دَائِبَةٌ (جَادّةٌ مُنْهَمِكَةٌ)، أَعْمَالٌ مُسْتَمِرَّةٌ لا تَتَوَقَّفُ.. مِثْلَ خَلِيَّةِ نَحْلٍ أَو ثَكَنَةِ جَيْشٍ. صَاحِبُ القَصْرِ هَادىءٌ رَزِينٌ (حَلِيمٌ وقورٌ رصينٌ).. لَطِيفٌ فِي تَعَامُلِهِ، وَهُوَ دَائِماً سَعِيدٌ مُبْتَسمٌ بَشُوشٌ.. عُمَّالٌ يُحِبُّونَهُ.. أَزْهَارٌ.. أَشْجَارٌ.. فَرَاشَاتٌ.. حَتَّى حَيَوَانَاتُ الزَرَائِبِ (حَظِيرةُ الْمَاشِيَةِ) عِنْدَمَا تَشُمُّ رَائِحَتَهُ تُطْلِقُ أَصْوَاتاً تَدُلُّ عَلَى رِضًى وحبورٍ (سرورٍ).

كُلُّ مَنْ فِي القَصْرِ يُقَلِّدُ السيِّد الكَرِيمَ.. حَرَسٌ.. خَدَمٌ.. حَاشِيَة.

هُوَ لاَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ.. عَلاَ شَأْنُ أَحَدِهِمْ أَوِ انْخَفَضَ..

كُلٌّ مُتَساوونَ سَوَاسِيَةً، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، يُسَاويهم بِنَفْسِهِ، فِي مَشْرَبٍ وَمَأْكَلٍ وَمَلْبَسٍ، طَعَامُهُمْ طعامُهُ، ثِيَابُهُمْ ثِيَابُهُ، لو شَاهَدْتَهُ بِرِفْقَتِهِمْ مَا فَرَّقْتَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ..

لاَ يَبْخَلُ عَلَيهِمْ بِعَطاءٍ.. لاَ يُهِينُهُمْ.. لاَ يُكَلِّفُهُمْ مَا لاَ يُطِيقُونْ..

عَلَى هَذِهِ الحالْ عَاشَ سَاكِنو القَصْرِ بِوِئامٍ وَسَلامٍ وَمَحَبَّةٍ، عَاشُوا دُونَ أَنْ تُكَدِّرَ صَفْوَ حَيَاتِهِمْ شَائِبَةٌ (عِلَّةٌ).



مَرَّتْ أَيَّامٌ هَنِيئَةٌ سَعِيدةٌ.. لَيْسَ فِيهَا مَا يُقْلِقُ مِنْ مُزْعِجَاتٍ..

تَوَالَتْ سنونٌ وَأيَّامٌ آمنةٌ مُسْتَقِرَّةٌ..

كَبُرَ سَيِّدُ القَصْرِ.. وَبَلَغَ أولادُهُ الثلاثةُ: رُسْتم، حَمْزة، تَيْمُور سِنَّ فُتُوَّةٍ وَشَبَابٍ..

سَارَ الأَبَنْاءُ عَلَى مِنْوَالِ (أُسلوبِ) أَبِيهِمْ.. عَمِلُوا بِأَيديهِمْ، لَمْ يُمَيِّزُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ عُمَّالِ القَصْرِ وَزَارِعِي حَدَائِقِهِ.. لَمْ يَكُنْ زَائِرٌ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَصْغَرِ عَامِلٍ فِي القَصْرِ..

عَاشَ الجَمِيعُ أَيَّامَهُمْ بِهُدُوءٍ.. يَتَزَوَّجُونَ.. يَتَعَلَّمُونَ.. يَزْرَعُونَ.. يَحْصُدُونَ.. كَانَتْ أَعْدَادُهُمْ تَزْدَادُ إِمَّا بِأَوْلادٍ جُدُدٍ أَو بِعُمَّالٍ جُدُدٍ.. وَكَانَ صَاحِبُ القَصْرِ يَبْنِي لِعُمَّالِهِ بيوتاً حولَ قصرِهِ تَبْدُو للرَّائِي (للنَّاظِرِ) قصراً مُصَغَّراً عَنْ قَصْرٍ كَبِيرٍ.. لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ إِبْعَاداً لَهُمْ عَنْ قَصْرِهِ.. بَلْ لأَنَّ قَصْرَهُ ضاقَ بِسَاكِنِيهِ كَمَا إِنَّهُ أَرَادَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَقِلُّوا بِبُيوتٍ خَاصَّةٍ وَيَعِيشُوا حَيَاةً طَبِيعِيةً..

سَيِّدُ القَصْرِ مُتَزَوِّجٌ مِنْ زَمَنٍ بَعِيدٍ.. لَكِنَّ أحداً لا يعرفُ زَوْجَهُ.. لَمْ تَكُنْ تَظْهَرُ على ناسٍ أَبَداً.. وَحَتَّى عَلَى نِسَاءِ كبارِ مُعَاوِنِيْهِ..

طَلَبَتْ بَعْضُ نِسَاءٍ إِذناً بِزِيَارَتِها.. كَانَ طَلَبُهُنَّ يُرَّدُ دَائِماً بِلُطْفٍ بالغٍ.

كُنَّ يَتَعَجَّبْنَ مِنْ هذا السِّرِّ، يَتَسَاءَلْنَ عَنْ سِرِّ سَيِّدَةِ القَصْرِ الَّتِي لا تَخْرُجُ مِنْ جَنَاحِهَا وَلاَ يَعْرِفُها أَحَدٌ..



ومعْ مُضِيِّ الأيَّامِ خَبَا (خَفَّ، بَهَت) كُلُّ حديثٍ عَنْهَا وَكَادَ النَّاسُ يَنْسُونَ وجُودَها وَلَمْ يَعُدْ كلامٌ عَنْهَا رَائِجاً (سَائِداً). وفي ليلةٍ صَيْفِيَّةٍ..

في وقتٍ مُتَأَخِّرٍ..

انْعَدَمَتْ فِيهِ أَصْواتُ البَرِّيةِ (المَخْلُوقَاتِ) وَالنَّسَائِمُ السَّاكِنَة.

لَمْ تَكُنْ تُسْمَعُ أَصْوَاتُ طُيُورٍ وَحَشَرَاتٍ..

شَقَّ صَمْتًا بدِيعاً (رائعاً) صَرْخَةٌ مِثْلَ صَاعِقَةٍ مُدَوِّيةٍ.. انْفَجَرَتْ مِنْ ذَاكَ الجناحِ المَنْسِيِّ.. المُحَرَّمِ على ساكنِي القَصْرِ وحدائِقِهِ..

صَرْخَةٌ وَاحِدَةٌ كَافِيَةٌ لِتُوقِظَ الجميع.. أَشَاعَتْ رُعْبًا وَخَوْفًا وَهَلَعاً (شِدَّةُ فَزَعٍ)..

صَرْخَةٌ يَتِيمَةٌ جَعَلَتْهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ بُيُوتِهِمْ فِي ثِيَابِ نَوْمٍ..

يَعدونَ (يركُضونَ) نَحْوَ القصرِ هَلِعِينَ خَائِفِينَ فَزِعِينَ..

الصوتُ انبعثَ (هبَّ، تدفَّقَ) مِنَ الجَنَاحِ المُحَرَّمِ، صَارُوا يَتَهَيَّبُونَ (يَحْذَرُونَ) مِنْ نَبَأٍ جَلَلْ (عَظِيمْ). يَا تَرَى مَا هَذَا الخَطْبُ (المَكْرُوهُ) الكَبِيرُ وَالمَوْقِفُ الخَطِيرُ الذي حَدَا (دَفَعَ) سَيِّدَ القَصْرِ لِلْصُّرَاخِ بِهَذَا الشَّكْلِ المُرِيعِ (المُخِيفِ)؟؟؟

تَرَقَّبَ النَّاسُ أَمَامَ القَصْرِ.. لَمْ يَجْرؤْ وَاحدٌ مِنْهُمْ عَلَى دُخُولِهِ..

كَانُوا يَسْمَعُونَ صَوْتَ نَشِيجِ (بُكَاءِ) سَيِّدِهِمْ، لَكِنْ يَسْتَحِيْلُ عَلَيْهِمْ دُخُولَ الجَنَاحِ المُحَرَّمِ..

ظَلُّوا وَاقِفِينَ يَتَرَقَّبُونَ ساعاتٍ..

عُيُونُهُمْ مَشْدُودةٌ إِلَى نَوَافِذِ القَصْر..

اِنْتَظَروا حَتَّى بَدَأَتْ أَشِعَّةُ شَمْسٍ تَتَكَوَّمُ بَعِيداً ثُمَّ تَتَسَلَّلُ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ (مُرْتَفَعٍ) بَعِيدةٍ.. وَرَاحَ ضَوْءٌ يَنْبَسِطُ (يَنْتَشِرُ) غَامِراً تلالاً وَوَدِيانَ وَسُهُولاً...

لَكِنَّهُمْ ظَلُّوا مُسَمَّرينَ (ثَابِتينَ) فِي أَمَاكِنِهِمْ، كَأَنَّ الحَيَاةَ تَوَقَّفَتْ عِنْدَ صَرْخَةٍ شَقَّتْ عَنَانَ سَمَاءٍ (ما ظهرَ منها إذا نظرنا إليها)، صَرْخَةٌ مَا تَزَالُ تَتَرَدَّدُ فِي آذَانٍ مُضْطرِبَةٍ تَرَكَتْ أَثَرًا فِي وُجُوهٍ وَاجِمَةٍ (عَابِسَةٍ مِنْ شِدَّةِ هَمٍّ).



عِنْدَ ارْتِفَاعِ قُرْصِ الشَّمْسِ، شَعَرَ النَّاسُ بِحَرَكَةٍ مُرِيْبَةٍ (مُشْتَبَهٌ فِيهَا).

تَرَقَّبُوا.. أَرْهَفُوا (رَكَّزُوا) أَسْمَاعَهُمْ.

تَسَلَّلَتْ خَادِمَةٌ صَغِيْرَةُ السنِّ..

سَلَكَتْ أَبْوَاباً خَلْفِيَّةً لِلْقَصْرِ، نَقَلَتْ إِلَيْهِمْ نَبَأً (خبراً):

سَيِّدَةُ القَصْرِ مَاتَتْ... سَيِّدَةُ القَصْرِ مَاتَتْ..

تَعَالَتْ أَصْوَاتُ بُكَاءٍ... دُمُوعٌ تَسَاقَطَتْ.. بَكُوا كَأَطْفَالٍ صِغَارْ..

تَعَالَتْ أَصْواتُ بُكَاءٍ مَعْ أَنَّ أَحَداً لَمْ يَرَ وَجْهَ المَيِّتَةِ فِي حَيَاتِهِ، كَانَتْ لُغْزاً مُحَيِّراً، مِثْلَمَا هُوَ مَوْتُهَا الآنْ..

مَعْ ذَلِكَ تَأَثَّرُوا حُبًّا بِسَيِّدِ القَصْرِ وَأَبْنَائِهِ.. رَفَعُوا أَكُفَّ صَلَوَاتٍ.. سَأَلُوا اللَّهَ لَهَا الرَّحْمَةَ..

اَنْتَظَروا تَشْييعَ مَيِّتْ..

تَرَّقبُوا خُرُوجَ جُثَّةٍ لِيَدْفُنُوها وَيُقِيمُوا لها وَاجِبَ عَزَاءٍ كَبِيرٍ يَلِيقُ بِهَا وَبِزَوْجِهَا..

مَضَى وَقْتٌ.. لَكِنَّ جثةً لَمْ تَخْرُجْ..

طَالَتْ غَيْبَةُ سَيِّدِ القَصْرِ وَأَبْنَائِهِ..

انْتَظَرُوا النَّهَارَ كُلَّهُ.. تَعِبُوا.. جَاعُوا.. لَكِنَّهُمْ ظَلُّوا وَاقِفِينَ مُنْتَظرِينَ مُتَرَقِّبينَ..

أَتَى المَسَاءُ ثَقِيلاً..

عَادُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ قَسْرًا (مُرْغَمِينْ)..

فِي صَبَاحٍ بَاكِرٍ تَالٍ.. خَرَجَ الأَبْنَاءُ كَعَادَتِهِمْ كَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ..

تَوَجَّهُوا لِعَمَلٍ مَع عُمّالٍ دُونَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا كَلِمَةً وَاحِدَةً.. كَمَا أَنَّ أَحَداً لَمْ يَسْأَلْ سُؤَالاً وَاحِداً..

انْصَرَفَ عُمَّالُ البَسَاتِينِ وَالحَدَائِقِ والزَّرَائِبِ.. كُلٌّ يَعْمَلُ عَمَلَهُ..

تَبَادَلُوا نَظَرَات..

تَرَقَّبُوا خُرُوجَ سَيِّدِهِمْ.. لَكِنَّهُ لَمْ يَظْهَرَ طَوَالَ اليَوْمِ..

مضى يَوْمٌ.. يَوْمَانِ.. ثَلاَثَةٌ.. أَيَّامٌ وَأَيَّامٌ..

الحَالُ بَقِيَتْ عَلَى مَا هِي عَلَيْهِ.. سَيِّدُ القَصْرِ غَائِبٌ عَنْ مَزَارِعِهِ..



بَعْدَ أَيَّامٍ..

وَفِي يَوْمٍ شَدِيدِ قَيْظٍ (حَرٍّ).. وَدُونَ تَوَقُّعٍ، ظَهَرَ سَيِّدُ القَصْرِ رَاكِبًا فَرَسًا أَسودَ ضَخْماً.. يَحْمِلُ بِيَمِينِهِ سَوْطاً رآهُ عُمَّالُهُ لأَوَّلِ مَرَّةٍ.. لَمْ يَكَدْ هؤلاءِ يَرُونَ سَيِّدَهُمْ حَتَّى تَوَقَّفُوا عَنِ العَمَلِ وركضوا نَحْوَهُ بِسَعادَةٍ عَفَوِيَّةٍ، فَانْهالَ عَلَيْهِمْ بِسَوْطِهِ (أَوْسَعَهُم ضَرْباً)، وَشَتَمَهُمْ سَاخِطاً آمراً بِالعَوْدَةِ إلى عَمَلِهِمْ..

تَغَيَّرَتْ أَحْوَالُ صَاحِبُ القصرِ رَأْساً عَلَى عَقِبٍ.. وبدا وَجْهُهُ قَبِيحاً دَمِيماً..

تَبَدَّلَ مِنْ إِنْسَانٍ طَيِّبُ قَلْبٍ هَادِىءُ طَبْعٍ وَدُودٌ إِلَى شَرِسٍ عَنِيفٍ قاسٍ سَيِّيءْ..

أولادُهُ: رُسْتُم حَمْزة تَيْمُور نَالَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّا نَالَ غيرهم من أقبحِ الأَوْصَافِ..

ازْدَادَتْ تَصَرُّفَاتِهِ سوءاً يوماً بَعْدَ يَوْمٍ.. وَكَأنَّ روحاً شَرِيرةً تَلَبَّسَتْهُ..

تَعَجَّبَ الجَمِيعُ مِمَّا يحدُثُ.. لَمْ يجرؤْ أَحدٌ عَلَى صَدِّهِ (مَنْعِهِ)، حَتَّى أَوْلاَدُهُ طَرَدَهُمْ مِنَ القَصْرِ.. سَكَنُوا بُيوتَ عُمّالٍ.. لَمْ يَعْتَرِضُوا.. تَحَمَّلُوا تَصَرُّفَاتِهِ تقديراً للصَّدْمَةِ الهَائِلَةِ الَّتِي أَلَمَّتْ بِهِ بِوَفَاةِ زَوْجِهِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ سعادَةٍ وفرحٍ تليدٍ (قديمٍ)، فكانَ مَوْتُها شرارةَ نَارٍ أَوْقَدَتْ نارَ قَلْبِهِ وَأَحْرَقَتْ كُلَّ شَيءٍ جَمِيلٍ فِي نَفْسِهِ.



وَمَرَّتْ أَيَّامٌ.. كَانَتْ تَصَرُّفَاتِهِ تَزْدَادُ ثِقْلاً يَوْماً بَعْدَ يَوْمٍ..

دَارَتْ أَخْبَارُ القَصْرِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ.. تَحَدَّثَ نَاسٌ عَنْها فِي قُرَىً وَبِلادٍ.. تَعَاطَفَ نَاسٌ مَعَهُ وَاسْتَغْرَبَ نَاسٌ.. وبَغَضَ آخرُونَ تَبَدُّلَهُ.. حَاوَلَ أَبْنَاؤهُ بِجُهْدٍ إِنْقَاذَ أَبِيهِمْ مِنْ كَرْبِهِ (شِدَّةُ الحُزْنِ)، لَكِنَّهُ كَانَ صَلْباً كَجُلْمُودٍ (صَخْرٍ).

لَمْ يَتَخَلَّ الأَبْنَاءُ عَنْهُ وبعضُ مُخْلِصِيْنَ وَأَوْفِيَاءَ.. صَبَروا عَلَى ظُلْمِ سَيِّدِهِم الحادِثِ (المُسْتَجِدِّ) وَتَحَمَّلُوا اسْتِبْدَادَهُ.. أَمّا سَائِرُ العُمَّالِ (بَقِيَّتُهُمْ وَأَغْلَبُهُمْ) فَقَدْ رَحَلُوا هَرَباً مِنْ ظُلْمِ سَيِّدِهِمْ الَّذي يُحِبُّونَهُ، وَرَاحوا يَبْحَثُونَ عَنْ مَصْدَرِ رِزْقٍ جَدِيدٍ لَهُمْ وَلِأَوْلاَدِهِمْ.. صَبَرُوا زَمَناً، تَحَمَّلوا أذًى وَسُخْطاً.. وَلمّا يَئِسوا مِنْ صَلاَحِ أَمْرِ سَيِّدِهِمْ حَمَلُوا أَمْتِعَتَهُمْ وَرَحَلُوا مُضْطَرِّينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أَنْ تَهْدَأَ نَفْسُهُ وَيِطِيْبَ خَاطِرُهُ وَيَعُودَ لِسَابِقِ عَهْدِهِ بَعْدَ زَوَالِ أَحْزَانٍ شَحَنَتْ (ملأت) قَلْبَهُ غَضَباً وَكَمَداً (حُزناً شديداً).

سارَتْ أَيَّامٌ سَيْرَ سُلْحُفَاةٍ عَجُوزٍ.. مَضَتْ ثَقِيلةً ثَقِيلةً..

بَسَاتِينٌ غَنّاءٌ (عَامِرَةٌ) ومُروجٌ خَضْرَاءُ تحوَّلَتْ إلى هَشِيمٍ (يَابِسُ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ).

جَفَّتْ ضَرُوعُ الحَيَوَانِ وحَلَّ عُبوسٌ وَتَجَهُّمٌ مَكَانَ بَسْطٍ وَانْشِرَاحٍ.. هَوَاءٌ كَئِيبٌ، نسيمٌ حزينٌ.. بَدَتْ أرْضاً مَهْجُورةً مِنْ زَمَنٍ.. نَضَبَ المَاءُ (انْقَطَعَ)، نَتَنَ الهَوَاءُ (فَسَدَ)، تَصَحَّرَ التُّرَابُ الطَرِيُّ.. لَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ عَلَى مُخَاطَبَةِ سَيِّدِ القَصْرِ.. حَتَّى أولادُهُ انْقَطَعَتْ صِلَتُهُمْ بِهِ..

وَعِنْدَمَا يَرَوْنَهُ هادئاً يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ سَيَعُودُ كَمَا عَهِدُوهُ.. يَنْفَجِرُ بُرْكَاناً غَاضِباً يَشْتَدُّ ضَراوةً (وَحْشِيَّةً) وقَسْوَةً وَجَوْراً (ظُلْمًا)..



بَاتَ القَصْرُ مُرْعِباً للنَّاسِ جميعاً.. لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ مَنْ يَلُوذُ بِهِ ساعَةَ ضِيْقٍ.. كَانَتْ صَيْحَاتُ رَجُلٍ تَخْرُقُ سَكِيْنَةً، يَتَرَدَّدُ صَدَاهَا لِيُجَاوِزَ تِلالاً وَوِدْيَاناً مُجَاورةً.

تَنَاقَلَ نَاسُ الخَبَرَ.. حَتَّى وَصَلَ إِلَى بِلاَدٍ بَعِيدةٍ.. إِلى صديقِ طُفُولَةٍ وَصِبَا.. صديقُ عَهْدٍ قديمٍ كَانَ يَعِيشُ فِي بَيْتِ سَيِّدِ القَصْرِ يَوْمَ كَانَ طِفْلاً.. يَوْمَ كَانَ وَحِيدُ وَالدَيْهِ.. وَالداهُ اللَّذَانِ خَرَجا فِي يومٍ عَاصفٍ لتفقُّدِ صديقٍ مَرِيضٍ فِي بلدةٍ بَعِيدةٍ وَلَمْ يَعُودا.. فُقِدَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ.. عَاشَ طُفُولَتُهُ مع صَدِيْقِهِ الَّذِي كَانَ خَادِماً وَنَدِيماً (أَنِيساً).

عَرَفَ الرَّجُلُ سَبَبَ غَضَبِ صَدِيْقِهِ.. كَانَ يكرهُ الموتَ.. يَكْرَهُ مَوْتَ مَنْ يُحِبّ.. خافَ على زَوْجِهِ فَحَبَسَهَا فِي جَنَاحِ محرمٍ كَيْلا تُصابَ بِسُوْءٍ.. لَكِنْ كَيفَ يَخْتَبِىءُ إِنْسَانٌ مِنْ قَدَرٍ؟؟؟ وساعةُ الموتِ لا رادَّ لها.

هذا الصديقُ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ صَدِيقِهِ بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ.. كَانَ ابناً لِمُزَارِعٍ يَعْمَلُ عِنْدَ أَبِيهِ.. كَانَتْ لَهُمَا أَحْلاَمٌ كَبِيرةٌ.. عندما بَلَغَا الفُتُوَّةَ وَالشَّبَابَ غادَرَ الصديقُ الطموحُ معْ والدِهِ المُزَارِعِ إِلَى قَرْيَتِهِ البَعِيدَةِ..

مَضَى يَعْمَلُ حَتَّى بَلَغَ مَكَانةً عَالِيَةً وَأَصْبَحَ غَنِيًّا مِثْلَ صَدِيْقِهِ.. لَكِنَّ الصِّلَةَ بَيْنَهُمَا انْقَطَعَتْ لِبُعْدِ المَسَافَاتِ وَمَشَاغِلِ الحَيَاةِ..

عِنْدَمَا وَصَلَتْ أَخْبَارٌ إِلَيْهِ تَذَكَّرَ أَيَّاماً خَالِيَةً.. أَدْرَكَ سِرَّ مَا أَصَابَ صديقٌ قديمٌ.

قَرَّرَ الصديقُ السَّفَرَ إلى قَصْرِ صَدِيقِهِ.. قَرَّرَ تَرْكَ تِجَارَتِهِ وَزِرَاعَتِهِ وَأَمْوَالِهِ وَالسَّفَرَ بِرِفْقَةِ زَوْجِهِ وَأَوْلاَدِهِ وَعُمَّالٍ لَهُ.. أَحَسَّ بِأَنَّ عَلَيْهِ وَاجِباً عَلَيْهِ القِيَامُ بِهِ. فَقَدْ كَانَتْ صداقَةُ طُفُولَةٍ بَيْنَهُمَا مِنْ أَرْوَعِ مَا يَحْمِلاَنِهِ مِنْ ذِكْرَى.. بَلْ كَانَتْ أَجْمَلَ أَيَّامِ حياةٍ..

رَأَى أَنَّ وَاجِبَهُ اليَوْمَ يَفْرِضُ عَلَيْهِ مُحَاوَلَةُ إِنْقَاذِ صَدِيقِهِ مِنْ ظُرُوفٍ صَعْبَةٍ.. جَهَّزَ قَافِلَةً كَبِيرةً.. أَحْضَرَ عُمَّالاً وَمُزَارِعِينَ وَخَدَماً..



عِنْدَمَا بَلَغَ أَطْرَافَ رَبْوَةٍ حَذَّرَهُ نَاسٌ مِنَ الاقْتِرَابِ.. فَصَاحِبُ القَصْرِ غَرِيْبُ الأَطْوَارِ.. كَمَا يَقُولُونْ.. تَابَعَ الرَّجُلُ طَرِيْقَهُ.. لَمْ يَنْصُت (يَسْتَمِعَ) لأحَدٍ..

وَصَلَتِ القَافِلَةُ عِنْدَ مُنْتَصَفِ لَيْلٍ...

أَمَرَ الرَّجُلُ عُمَّالَهُ ألاَّ يَقْتَرِبُوا مِنَ القَصْرِ وَأَنْ يَسْكُنُوا بُيُوتاً مَهْجُورةً بعيدةً..

بَعْدَ سَاعاتٍ قَلِيلةٍ اسْتَعَادَ الرِّجَالُ نَشَاطَهُمْ فَخَرَجُوا مَعْ طُلُوعِ الشَّمْسِ..

تَوَجَّهُوا نَحْوَ بَسَاتِينٍ مُحْتَرِقَةٍ وَرَاحُوا يَحْفُرونَ وَيُقَلِّبُونَ تُرابَ أَرْضٍ وَيَرُشُّونَ مَاءً لِيَسْتَعِيْدَ رُطُوْبَتَهُ اسْتِعْدَاداً لِزِرَاعَتِهِ مِنْ جديدْ..

لَفَتَ ذَلِكَ اهتمامُ أولادُ صَاحِبِ القَصْرِ وَمَا تَبَقَّى مِنْ عُمَّالٍ أَوْفِيَاءٍ فَاتَّجَهُوا نَحْوَهُمْ وَعَرَفُوا قِصَّةَ الرَّجُلِ الصَّدِيقِ.. وفَرِحُوا كَثِيراً بِوُصُولِهِمْ وَعَمِلُوا معاً لِتَعُودَ الأَرْضُ كَمَا كَانَتْ..



ص َاحِبُ القَصْرِ لَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ مِنْ قَصْرِهِ إِلاَّ نَادِراً، فَقَدْ أَنْهَكَهُ الحُزْنُ وَالأَلَمُ وَالغَضَبُ.. وَأَصَابَهُ ضَعْفٌ وَنُحُوْلٌ (نَحَافةٌ).. كَانَ يَخْتَلِسُ (يَسْرِقُ) النَّظَرَ مِنْ حِيْنٍ لآخرَ سَعِيداً فِي نَفْسِهِ لِعَوْدَةِ الحَيَاةِ إِلَى بَسَاتِينِهِ.. كَانَ الصديقُ يَعْرِفُ مَا تَعْنِي الأَرْضُ لِصَدِيقِهِ..

بَعْدَ أَيَّامٍ.. بَعْدَ أَنْ انْتَعَشَتْ الأَرْضُ، اقْتَرَبَ الرَّجُلُ مِنْ نَافِذَةِ غُرْفَةِ صَدِيقِهِ القَدِيمِ.. جَلَسَ تَحْتَ النَّافِذَةِ.. صَارَ يَنْشُدُ أُغْنِيَةٌ قَدِيمةٌ كَانَا يُغَنِّيَانِهَا مَعاً عِنْدَمَا كَانَا فِي رَيْعَانِ الشَّبَابِ (أَوَّلُهُ وأَفْضَلُهُ):

الأَرْضُ الَّتِي نُحِبُّهَا.. قِطْعَةٌ هُنَا.. تَحْيا بِنا ونَحْيَا بها.. هَيّا بِنَا نَزْرَعُها.. وإن مَضَتْ أَعْمَارُنَا.. وَلَمْ نُعَمِّرْها.. حَيَاتُنَا سُدًى حَيَاتُنَا سُدًى كُلُّ يَوْمٍ تَحْيا أَرْضُنَا بِنَا.. أَرْضُنَا الَّتِي نَحْيَا بِهَا.. مِنْ أَجْلِهَا... هِيَ مِثْلَنَا.. تَحْيا من أَجْلِنَا... الأَرْضُ الَّتِي نُحِبُّهَا.. قِطْعَةٌ مِنَّا.. دُهِشَ صَاحِبُ القَصْرِ مَمَّا سَمِعَ.. صَوْتُ صَاحِبٍ قَدِيمٍ؟؟ صَاحِبٌ عَاشَ مَعَهُ سِنِينَ طَوِيلةً بَعْدَمَا فَقَدَ أَبَوَيْهِ فِي لَيْلَةٍ عَاصِفَةٍ.. شُعُورٌ رَهِيبٌ يَوْمَ فَقَدَ وَالِدَيْهِ.. ذَاكَ شُعُورُ نَفْسِهِ تَكَرَّرَ يَوْمَ وَفَاةِ زَوْجِهِ الَّتِي يُحِبُّ.. أَعَادَ الصَّوْتُ لَهُ ذِكْرَيَاتٍ كَثِيرةً، أَيْقَظَ فِي نَفْسِهِ أَحْلاَمُ مَاضٍ بَعِيْدْ.. مَا أَصْعَبَ محنة عِنْدَمَا تَتَكَرَّرَ مرتين..

قصص إسلامية



الْمَرْأَةُ العَجُوزُ



وَقَعَتْ أَحْدَاثُ هذهِ القِصَّة في عهدِ خِلافةِ أبو بَكْرٍ الصِدّيق رضيَ اللَّهُ عَنْهُ وعِنْدها كان عَمَرُ بْنُ الخَطَّاب رضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يراقبُ ما يفعلهُ أبو بَكْر ويأتي بضِعْفِ ما يفعلُ حتى ينالَ الخيرَ ويسبِقُهُ إلى أَعْلى مَرَاتِبِ الجنَّة.. وشَدَّ انْتِبَاهُ عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ أبا بَكْر يخرجُ إلى أَطْرَافِ المدينةِ بعد صلاةِ الفجرِ ويَمُرّ بكوخٍ صغيرٍ ويَدْخُلُ به لِسَاعَاتٍ ثُمّ يَنْصَرِفُ لِبَيْتِهِ... وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ ما بِدَاخِلِ البَيْتِ ولا يدرِي ما يَفْعَلُهُ أبو بكر الصِدِّيق داخِلَ هذا البيتِ لأنَّ عُمَرَ يَعْرِفُ كُلَّ ما يَفْعَلُهُ أبو بَكْرِ الصِدِّيق مِنْ خَيْرٍ إلا ما كان من أَمْرِ هذا البيتِ الَّذِي لا يعلمُ عُمَر سِرَّهُ!!

مَرَّتِ الأَيامُ وما زالَ الصِدِّيقُ يزورُ هذا البيت، إِلى أنْ قَرَّرَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ دُخُولَ البيتِ بَعْدَ خُروج أبو بَكَرٍ مِنْهُ لِيُشَاهِدَ بِعَيْنِهِ ما بِدَاخِلِهِ ولِيَعْرِفَ ماذا يَفْعَلُ فيهِ الصِدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ بَعْدَ صلاةِ الفَجْرِ!!

حِيْنَمَا دَخَلَ عُمَرُ في هذا الكُوخِ الصَّغِيرِ وَجَدَ سَيِّدةً عَجُوزَ لا تَقْوَى على الحِرَاك كما أَنَّها عَمْياءُ العَيْنَيْنِ.

سَأَلَ عُمَرُ: مَاذا يفعلُ هذا الرَّجُلُ عِنْدَكُمْ؟ (يَقْصِدُ أَبو بَكْرٍ الصِدِّيق) فَأَجَابَتِ العَجُوزُ وقالتْ: واللَّهِ لا أَعْلَمُ يا بُنَيّ! فهذا الرَّجُلُ يَأْتِي كُلَّ صَبَاحٍ ويُنَظِّفُ لي البَيْتَ ويَكْنُسُهُ وَمِنْ ثُمَّ يُعِدُّ لِي الطَّعَامَ ويَنْصَرِفُ دُونَ أَنْ يُكَلِّمَني!!؟؟

جَثَمَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَقَالَ عِبَارَتَهُ المَشْهُورَةُ وَهُوَ يَبْكِي: «لَقَدْ أَتْعَبْتَ الخُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِكَ يا أبا بَكْرٍ».





خَلُّو بَيْني وبَيْنَ ناقَتي



الرَّحْمَةُ يا أَصْدِقَائِي أَنْبَلُ الصِّفَاتِ التي يجبُ أنْ يتمتَّعُ بها الصغيرُ والكبيرُ، والراحمونَ يرحمُهُم اللَّهُ، ومعاملةُ الناسِ بالرَّأْفَةِ والسَّمَاحَةِ لا يعني ذلكَ تحقيراً لنفسِكَ أو إهانةً لها، لأن العَفْوَ عِنْدَ المقدرة لا يزيدُ الإنسانُ الحليمُ إِلا رُقِيًّا في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرة.

ولا شكَّ أبداً أنكم لا تُؤذونَ حتى قطةً صغيرةً، حتى النباتَ الذي لا يشعرُ يجبُ ألاَّ نُؤْذِيَهُ، دونَ فائدةٍ فقد نُهِينَا نحنُ المسلمونَ أن نَقْتلَ عصفوراً للتسليةِ أو نقطعَ شجرةً لِمُجَرَّدِ الَّلهْوِ.

الرحمةُ عنوانُ الإنسانية، والردُّ على المسيءِ بالإحسانِ يُضفي على الإنسانِ بهاءً ولا أروع.

وَلْنَنَظُرْ يا أصدقائي إلى هذه القصةِ المدهشةِ، والتي جَرَتْ مع رسولِنَا الكريمِ، وأصحابِهِ مِنْ حَولِهِ يُرَاقبونَ أَفعالَهُ وأَقْوَالَهُ العظيمة.

هيا بنا نستمع إلى هذه الحادثة، ثم نتدارسُها، ونحاول أن نطبِّقها في حياتنا، وفي كلّ أمورنا، فمنها تفوحُ رائحةُ المِسْكِ الآتي من جَنباتِ السِّيرةِ الطاهرة.

كانَ الرسولُ الكريمُ جالساً في المسجدِ وحَوْله كِبارُ الصَّحَابةِ مِنْهم أَبو بكر وعُمر وعُثمانُ وعليّ، فَدَخَلَ الحَلَقَةَ رجلٌ من أهلِ الباديةِ وراحَ يقولُ بِغِلْظَةٍ ودونَ احترام:

يا محمَّد، اعْطِنِي ممّا أعطاكَ الله.

يا للغرابة، أَيُخَاطَبُ خَيْرُ البشر بهذا الأسلوبِ الفظِّ، لقد هزَّ أسلوبه هذا الصحابةَ الكرامْ، وظهرَ عليهم الغضبُ، فأشارَ إليهم رسولُ اللَّهِ أَنْ اُهْدَأوْا.

ثُمّ دَخَلَ إلى بَيْتِهِ وأَخْرَجَ للسَائِلِ بعضَ المالِ والطعامِ، وقال: هل أحسنتُ إليك؟

فقال الأَعْرابيّ: لا.. ولا أَجْمَلْتَ «أيْ ما صنعتَ معروفاً».

يا سبحانَ الله، إنّ هذه الكلمةُ جَعلَتِ الصَّحَابةَ الكرامَ يقفونَ غاضبينَ وأَيديهم إلى مقابِضِ سُيُوفِهِم، فالأَعرابيّ أهانَ رسولَ اللَّهِ بينَ أَصحابِهِ.

فَمَنَعَهُمُ الرسولُ الحليمُ مِنَ القِيَامِ بِأيِّ عملٍ، فتفرّقوا، ثم أعطى الرَّجُلَ وقال له: والآنْ هَلْ أَحسنتُ إليكَ؟

فقالَ الرجلُ بهدوءٍ ورِضًى: نَعَمْ، فجزاكَ اللَّهُ من أهلٍ وعشيرةٍ خيراً.

فقالَ الرسولُ :

لقد قلتَ ما قلت، وفي نفوسِ أصحابي منكَ شيءٌ، فإذا كان الغدُ فتعالَ وقُلْ أمامهم إنكَ قد قنعتَ ورضيتَ، فذلك أحسنُ وأوفقُ، وأسلمْ لك ولهم.

وفي اليومِ التالي جاءَ البدويّ إلى المسجدِ، وجلسَ مع صَحَابةِ رسولِ اللهِ ، كواحدٍ منهم، يلفُّه الحياءُ ويكسوهُ الخجلُ، وينظرُ إلى الأرضِ.

فدعاهُ الرسولُ إلى جوارِهِ، ثم قال:

لقد زدتُ صاحبنا هذا على ما أعطيناهُ من قبل، فزعم أنَّهُ رَضِيَ، فطلبتُ إليهِ أنْ يقولَ ذلكَ أمامَكُم، ثم التفتَ إلى البدويّ وقال: أليسَ كذلك؟ فقال: نعم يا رسول اللَّهِ، فجزاكَ اللَّهُ من أهل وعشيرة خيراً.

فابتسمَ النبيّ وقال: «إنّما مَثَلي ومَثَلُكم ومثل هذا الرجل كَمَثَلِ رجل شَرَدَتْ له ناقةٌ، قطعتْ زِمامَها، وانطلقتْ هاربة، فَأراد بعضُ الناسِ أن يساعدوه على الإمساكِ بها، فقاموا يلاحقونها من هنا وهناك، فما زادوها إلا ابتعاداً ونفوراً.

فقالَ صاحبُها للناسِ: يا معشرَ الناسِ، كُفُّوا عن الملاحقةِ، وخلّوا بيني وبين ناقتي فأنا أَدرى بها منكم وأعلمُ، فتوقفوا عن المتابعةِ والجري، ثم إنّ الرجلَ جمع بيدهِ شيئاً من نَبَاتِ الأَرضِ، وتقدَّمَ على مهلٍ من الناقةِ، يلوِّحُ لها بما يحملُ، حتى ارتدَّتْ إليهِ هائدةً مستسلمة، فأمسكَ بِزِمَامها وعادَ بها.

ثم قال رسولُنا العظيم:

فلو تَرَكْتُكُم بالأَمْسِ تفعلونَ ما تريدون وقتلتمْ الرجل لَبُؤْتُمْ بِإِثْمِهِ، وَتَحَمَّلْتُمْ دَمَهُ.











أَجْوَدُ النَّاسِ



تَرَاهَنَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ عَمَّنْ هُوَ أَجْوَدُ النَّاسِ فِي عَصْرِهِمْ فقالَ أَحَدُهُمْ: أَجْوَدُ النَّاسِ في عَصْرِنَا قَيْسُ بنُ سَعْدَ بْنُ عَلْقَمه، وَقالَ آخرٌ: أجودُ النَّاسِ في عَصْرِنا عَبدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَر، وقالَ الثالثُ: أَجْوَدُ النَّاسِ في عَصْرِنَا عُرَابة الأَوْسي، فَتَشَاجَرُوا في ذلك فأَكْثَرُوا في الجِدَال، فقالَ لهمُ النَّاسُ، يمضي كُلُّ واحدٍ مِنْكُمْ إلى صَاحِبِهِ يَسْأَلُهُ حَتَّى نَنْظُرَ ما يُعْطِيهِ وَنَحْكُمَ على العَيَان.

فقامَ الأَوَّلُ وذهبَ إلى عبدِ اللَّهِ بن جعفر فصادفَهُ وهو يجهِّزُ نَفْسَهُ لِبَعْضِ أَسْفَارِهِ على راحِلَتِهِ، فقال: يا بْنَ عمِّ رسول اللَّهِ أنا ابْنُ سبيلٍ منقطعٍ، أريدُ رَفْدَكَ لأَسْتَعِينَ بِهِ، وكانَ قَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ فَأَخْرَجَ رِجْلَهُ وقالَ خُذْها «أَيْ الدَّابَّة» بما عَلَيها، فَأَخَذَهَا فإذا عَلَيها مَطَارفُ خَزّ «أي أثوابُ حرير» وأَلْفَا دِينار.

ومَضَى الآخرُ إلى قيسِ بْنِ سعدْ فَقَرَعَ البابَ فخرجتْ إليهِ جاريةٌ فقالتْ: ما حاجَتُكْ؟ فإِنَّهُ نائمٌ.

قال: ابنُ سبيلٍ منقطعٍ، أَتَيْتُ إِلِيهِ يُعِينُنِي على طَرِيقي.

فقالتْ: حاجَتُكَ أهونُ عليَّ من إِيقاظِهِ، ثُمّ أَخْرَجَتْ له صرّةً فيها ثلاثمائةِ دينار، وقالتْ له: امضِ إلى مَعَاطِنِ الإبلِ «أماكِن بروكِ الإبل» فَاخْتَرْ لكَ مِنْ راحلةٍ فَارْكَبْها وامضِ راشداً فَمَضَى الرجلُ فأخذَ المالَ والراحلةَ، ولمّا استَيْقَظَ قيسٌ أَخْبَرَتْهُ الجاريةُ بالخَبَرِ فَأَعْتَقَهَا.

وراحَ الثالثُ إلى عرابة الأوسي فَوَجَدَهُ قَدْ عُمِيَ، وَقَدْ خَرَجَ مِنَ المَنْزلِ يُريدُ المَسْجِدَ، وهوَ يمشي بينَ عَبْدَيْنِ، فقالَ: يا عرابة، ابنُ سبيلٍ منقطعٍ يريدُ رَفْدَكَ، فقال: واسَوْأَتَاهُ، واللَّهِ ما تَرَكَتِ الحقوقُ في بيتِ عرابة الدِّرْهَم الفَرْدَ، ولكنْ يا أخي خُذْ هَذَيْنِ العَبْدَيْنِ.

فقَالْ: ما كنتُ بالذي أَقُصُّ جَنَاحَيْكَ.

فقال: واللَّهِ، لا بدَّ مِنْ ذلك، وَإِنْ لَمْ تَأْخُذْهُمَا فَإِنَّهُمَا حَرّان، فَنَزَعَ يَدَهُ مِنَ العَبْدَيْنِ، وَرَجَعَ إلى بَيْتِهِ، وَهَذَا الجِدَارُ يَلْطُمُهُ وهذا الجِدَارُ يَصْدُمُهُ حتى أثَرَ في وَجْهِهِ.

فلمّا اجْتَمَعُوا حَكَمُوا لِعُرَابة الأوسي بالجُودِ.





الطِّفْلُ اليَتيْمُ



بَعْدَ مضيّ أسبوعٍ واحدٍ على ولادةِ خيرِ الكائناتِ محمد رسول الله ، انتظرَتْ أمّهُ آمنةُ بنتُ وهب المراضِعَ من قبيلةِ بني سعد، لتَدْفَعَهُ إلى إحداهن، لِتُرْضِعَهُ وتهتمّ بهِ، وكانتْ هذِهِ من عادةِ قبائلِ أشرافِ العربِ، الذينَ يبعثونَ أبناءَهم إلى الباديةِ في اليومِ الثامنِ من وِلادتِهِم، ثم لا يعودونَ إلى بيوتِهم حتى يَبْلُغوا الثامنة من عمرهم.

وتأخّرتِ المراضعُ عن الوقتِ المحدّد لَهُنّ، فتطوّعت ثُوَيْبَةَ، جاريةُ عمّهِ أبي لهب، وهو من وُجَهَاءِ قُريشٍ وَسَادَتِها، وراحتْ تُرْضِعُهُ، وتُرْضِعُ مَعَهُ عَمّه حمزة، وكان قد وُلِدَ في العامِ نفسه مع رسولِ اللَّهِ .

وبعدَ مدةٍ وجيزَةٍ، وصلتْ مراضعُ بني سعد إلى مكّة المكرّمة، وكنّ يَتَسَابَقْنَ إلى ضمِّ أبناءِ الأَغْنِيَاءِ، ليأخذُنَ المالَ الوفيرَ مقابِلَ العنايةِ بهم، بينما كنّ يَعْرِضْنَ عن رسول الله لأن يتيمٌ فقيرُ الحالِ، وأمّهُ لا تملكُ من المالِ الكثير.

فأخذتْ كلُّ مُرْضِعَةٌ منهنَّ ولداً وبَقِيَتْ واحِدَةٌ لم تحظَ بولدٍ من أبناءِ الأَثْرِيَاءِ، وكانتْ هذهِ المرضعةُ تُدْعَى حليمة السعدية، وهي سيدةٌ كريمةٌ طيبةٌ مشهورةٌ بين قومِهَا بالصدقِ والوفاءِ، فقالت لزوجها:

واللَّهِ أَنِّي أكرهُ أَنْ أرجعَ معْ صُوَيْحَبَاتِي ولم آخذْ رضيعاً، واللَّهِ لأذهبنَّ لمحمدِ بنِ عبدِ المطّلب اليتيم وَلآخِذَنّهُ.

فوافق زَوجُها الحارثُ بن عبد العزى على قرارها وقال لها: خُذيهِ، عسى أنْ يَجعلَ اللَّهُ لنا فيه بَرَكَة.

وهكذا يا أصدقائي أَخَذَتْ حليمةُ هذا النورُ والرحمةُ والضياءُ، فكانَ حظَّها عظيماً أنْ تربِّي خيرُ البشرِ وأفضلَ الخَلْقِ بين يَدَيْها بِضعَ سنين.

وبعد أنْ وَصَلَتْ حليمة ومَعَها هذا الطفلُ الذي أَضاءَ الدنيا بنور الإسلامِ والإيمانِ حَدَثَتْ أمورٌ غريبةٌ، فبعد أنْ كانتَ حليمةُ فقيرةً، وتملكُ أغناماً ضعيفةً، سَمِنَتْ الأَغْنَامُ، ودرَّ لَبَنُهَا بكَثْرة، وباركَ اللهُ لها في كلِّ ما عندها.

وكيف لا يحدثُ ذلكَ، وقد أَنعمَ اللَّهُ عليها بهذا الشرفِ العظيمِ، وهذا العملُ الذي تَغْبطُهَا عَليهِ الملائكةُ.

وقَضى رَسُولُنا عليهِ الصلاةُ والسلامُ عامَيْن كامِلَيْنِ في الصحراءِ، تُرْضِعُهُ حليمةُ السعدية، وَتَخْضِنُهُ اُبْنَتُها الشيماءُ، وبعدَ عامينِ عادتْ بهِ حليمةُ إلى أُمِّهِ آمنة فَأَرْجَعَتْهُ أُمُّهُ إليها حتى يكونَ فِي صِحّةٍ أَفضلَ ويكبرُ قليلاً في أَجواءِ الباديةِ الصافية.

ونعلمُ يا أَصْدِقائي من قُصَصِ السِّيرةِ الشريفةِ أنّ رسولَ اللَّهِ وبعدَ أن أَتَمَّ مِنَ العمرِ ثلاثَ سنواتٍ، وبينَما كانَ يلعبُ خلفَ بيوتِ بني سعدٍ وخيامِهِم وكان مَعَهُ أخوهُ مِنَ الرِّضَاعِ وَهُوَ فِي مِثْلِ سِنِّهِ، فجأةً رَكَضَ الطِّفْلُ مُسْتَنْجِداً بحليمة: أخي محمدٌ أخذهُ رَجُلانِ عليهِمَا ثيابٌ بيضُ، فأَضْجَعَاهُ فَشَقَا بَطْنَهُ وَرَاحَا يُقَلِّبَانِهِ.

تقولُ حليمة: خرجتُ أنا وأبوهُ نحوَهُ: «تقصدُ زوجَها الحارث» فوجدناهُ قائماً سليماً، ولكنّه أصفرُ اللونِ، فقلتُ لهُ: ما لكَ يا بني؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ : جاءَني رجلان يا أمّاهُ، عليهِمَا ثيابٌ بيضٌ، فأَضْجَعَانِي فَشَقَا بطني، فالتَمَسَا فيهِ شيئاً لَمْ أَدْرِ ما هو.

فَخَافَتْ حليمة، وحَمَلَتْهُ فوراً إلى مكّة ولكنّ أمَّهُ آمنةُ أعادتْهُ إليها بعدَ أنْ اطمأنّتْ عليهِ.

وقضى رسولُ اللَّهِ خمسُ سنواتٍ ترعاهُ حليمة وتَهْتّمُ به، وبعدَ أن رَجِعَ إلى مكّة، أَخَذَتْهُ أمُّهُ إلى المدينةِ المنورةِ «وكانَ اسْمُهَا يَثْرب» لِيَرَاه أخوالُ جَدِّهِ مِنْ بَني النَّجَّار.

وقالتْ لهُ: هذا هو البيتُ الذي ماتَ فيهِ أبوكَ، وهنا دُفِنَ.

عند ذَلكَ صَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ وقد غَالَبَهُ حزنٌ شديدٌ، فَخَفَفَتْ عنهُ أُمُّهُ، ومَسَحَتْ على رأسِهِ، فَتَبَسَّمَ وذهبَ عنهُ الحزنُ. وظلّ رسولُ اللَّهِ مع أمِّه شهراً كاملاً، وعندما أرادت العَوْدةُ إِلى مكّة، وفي طريقِ العودةِ، مَرِضَتْ آمنة، وأَصْبَحَتْ غيرُ قادرةٍ على الكلامِ، ولمْ تمضِ أيامٌ حتى ماتَتْ. بكى رَسُولُ اللَّهِ وبكى كلُّ من عَرَفَ قِصَّتُهُ، لقدْ أصبحَ محمدٌ محروماً من الأمِّ والأَبِ.

ولكنَّ اللَّهَ لمْ يتركَ هذا الصبيُّ الصغيرُ، فآواهُ وهداهُ، حتى أصبحَ هادياً للبشريّةِ جمعاءُ.

الصلاةُ والسلامُ عليكَ يا رسولُ اللَّهِ ، ففي قصَّتِكَ مُوَاساة، لِكُلِّ أيتامِ الأرضِ، ولكلِّ مصيبةٍ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنيا.





مِنْ مَكَّةَ إِلى الأَقْصَى

بَعْدَ أَنْ قَامَ رَسولُ اللَّهِ بِرِحلةِ الإسراءِ المباركةِ مِنْ مكَّةَ المكرَّمَةَ إلى بيتِ المقدسِ، وصلّى بالأَنبياءِ إماماً، ثم عَرَجَ بهِ إلى السَّمَواتِ العُلا، ورأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ ما رَأى، عادَ إلى فِرَاشِهِ وكانَ لَمْ يَزَلْ دافئاً.

وحدّثَ رسولُنا الكريمُ أهلَ قُرَيْشٍ بهذهِ الرِّحْلةِ المعجزةِ، وأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بما رأى من الآياتِ العظيماتِ.

واسْتَغْرَبَ المُشْركُونَ حديثَ رسولِ اللَّهِ، وكَذَّبوه، وادَّعوا أنَّ الرِّحلةَ بين مكّة وبيتِ المقدسِ تَقْطَعُهَا الإِبلُ في شهورٍ، فكيفَ يَقْطَعُهَا ذهاباً وعودةً ويَظَلُّ فِرَاشُهُ دافئاً.

فَسَاقَ لهمْ رسولُ اللَّهِ الأَدِلّةَ الدَامِغَةَ، ومنها أَنَّهُ رأى لهمْ قافلةً عائدةً من الشامِ، فيها رجالٌ يَعْرِفُهُمْ، إِلاَّ أَنَّهمْ أَصَرّوا على تَكْذِيبِهِ، غيرَ مصدِّقين أنّه أُسْرِيَ بِهِ لأَنَّه لم يَدَّعِ أنَّهُ قَطَعَها كما يَقْطَعُونها على ظُهُورِ الإِبلِ. وقدْ وَصَلَ الخبُر إلى أَبي بَكرِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، عندما ذَهَبَ المُشْرِكُونَ إليهِ يقولونَ لهُ: إنّ صاحِبَكَ يقولُ كَذَا وكذا، مدّعِينَ أنّه كلامٌ كذبٌ وغيرُ معقولْ. فكانَ رَدُّهُ رَدُّ الرَّجُل الواثِقُ المؤمِنُ: واللَّهِ إنْ كانَ قَال ذَلِكَ فَقَدْ صَدَقَ. فَما أَبْلَغَ ما قالَهُ هذا الرَّجلُ العظيمُ، وهذا ما دعا رسُولُنا الكريمُ إلى تسميته بــ «الصِّدِّيق» فقد صَدّقَهُ حين كَذَّبَهُ النَّاسُ، وهاجَرَ مَعَهُ في أقسى مراحلِ الدَّعْوةِ وأشدّها خطراً، ونزلَ فيهِ قرآنٌ يُتْلَى ويتعبّدُّ بِقِرَاءَتِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.











قِطْعَةُ البْرُونْز



نَحْنُ دَائِماً نَسْمَعُ ونَقْرَأُ قِصَصَ الصَّالِحِينَ في تُراثِنَا العريقِ، ونستمِدُّ منها العِبَرَ البالغةَ، والحِكَمَ المفيدةَ، وتكونُ في قلوبِنا كالإِشْرَاقاتِ المضيئةِ.

وسَأَرْوِي لَكُمْ يا أحبَّائي قِصّةً من أروعِ ما يُمْكِنُ أَنْ نَسْمَعَهُ في حادثةٍ وَقَعَتْ قبلَ مِئاتِ السنينِ ولكنّها تؤكّدُ على المثالِ الراقي، والخُلُقِ الرفيعِ، والإيمانِ العميق.

بطلُ قِصّتنا هو الخليفةُ الراشدي الثاني عُمَرُ بن الخطّاب رضي الله عنه، وأنْتُمْ تَعْرِفُونَ يا أَصدقائي عَدالةَ هذا الإنسان الفذّ، ورَجَاحَةَ عَقْلِهِ، وصَلاَبَتِهِ في الحقِّ، وشدَّتِهِ فِي حِفْظِ الأمانة.

وفي الحادثةِ، أنَّ عُمَرَ الفاروق، رأى اُبنَهُ عبدُ اللَّهِ وفي يدِهِ قطعةُ نقدٍ برونزية، وهذا النوعُ من النّقْدِ لَمْ يَكُنْ لهُ قيمةٌ كبيرةٌ ولم يكنْ رائجاً لقلّة قِيمتِهِ، فسألَ الخليفةُ ابنَهُ: مِنْ أَينَ لكَ هذا وليسَ في جيبِ أبيكَ ولا في بيتِهِ مِثْلَهُ؟

وهُوَ يقصدُ أنَّهُ لا يملكُ مِنَ المالِ شيئاً، يا سبحانَ اللَّهِ، خليفَةٌ كبيرٌ، يحكمُ الأمّةَ، وتحتَ يديهِ أموالُها وغنائِمُها، وليسَ في بيتِهِ حتى قِطعَةَ نقدٍ برونزية، ورَغْمَ ذلكَ لم يتغاضَ عنْ وجودِهَا في يدِ ابنِهِ ويقولُ ليستْ ذاتَ أَهَمِّيَةً، بل سألَهُ بِحَزْمٍ عن مَصْدَرِها.

فقَالَ الغُلامُ، بصِدْقٍ وإِيمانٍ، فهوَ لا يخافُ مِنْ أَبِيهِ لأنَّ أباهُ يُعَامِلُهُ كَرَجُلٍ، ولم يكذِبْ لأَنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ الصِّدْقَ مَنْجَاةٌ، وأنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الكاذِبين.

قال: هي مِنْ أبي موسى الأشعريّ.

وكانَ أبو موسى في ذلكَ الحينِ مسؤولاً عن بيتِ مالِ المسلمينْ، وهذا البيتُ هو عبارةٌ عن مكانٍ تُخَزَّنُ فيهِ الأموالُ وكلُّ ما تَمْلُكُهُ الدَّوْلَةُ من مَنْقولاتٍ وغنائِمُ حَرْبٍ وزكاةٍ وضرائبٍ وجِزْيَةٍ.

فماذا فعلَ الفاروقُ رضي الله عنه؟

لم يَسْكُتْ الخليفةُ، بَلْ أَخَذَ بِيَدِ اُبنِهِ وَقَصَدَ أبا موسى، وصاحَ بِهِ قائلاً: «أنتَ أعطيتَ ابني هذهِ القطعة؟» فقال: نعم يا أميرَ المؤمنين، فقال عُمَرُ غاضباً، ولماذا؟ قالَ أبو موسى: أحصيتُ مالَ المسلمينَ فوجدتُهُ ذهباً وفضةً وليسَ فيهِ من البرونز سوى هذهِ القطعةُ، فلم أَشَأْ أنْ أُحَرِّرَ بها قائمةً مفردةً فَأَعْطَيْتُهَا عبد الله.

بعد أنْ سَمِعَ عُمَرُ مَقَالَةَ أبي موسى، كيف ستكونُ يا أصدقائي ردّة فعلِ الفاروقِ رضي الله عنه؟ هل سَيَهْدأُ ويمضي مَعَ اُبنهِ بعد أنْ تأكّدَ أنّ القطعةَ مِنْ بيتِ المالِ، وأنّ ابنَهُ حَصَلَ عليها بِرضى أبي موسى، بلْ على العَكْسِ، لقدْ اشتدّ غضبُ الخليفةِ، وصاح: «يا أبا موسى، أَبَحَثْتَ في أولادِ المسلمينَ فما وجدتَ غلاماً أفقر من ابنِ عُمَر؟ أَطِفْتَ في بيوتِ المدينةِ فما وجدتَ بيتاً يقبلُ الحرامَ ويتعاملُ بهِ إلاّ بيتِ عمر؟، أَمَا وَجَدْتَ في أبناءِ المسلمينَ مَنْ يستحقُّ الصَّدَقَةَ إلاّ اُبْنَ عمر؟

ثُمَّ أَخَذَ عُمَرُ القِطْعَةَ مِنْ يَدِ اُبْنِهِ، وَرَمَى بها إلى أبي موسى وهو يقولْ: «إِنّ الجُنْدَ في الميدانِ يُقاتِلُ، الْحَقْ بِهِ يا أبا موسى».

ما الذي جعلَ الخليفةَ يفعلُ ذلك؟ ولماذا أعادَ القطعةَ زهيدةَ القيمةَ إلى أبي موسى؟ ولماذا عَزَلَ أبي موسى عن مسؤوليّتِهِ في بيتِ المالِ وَأَمَرَهُ بأنْ يَلْحَقَ بساحاتِ الجِهَادِ.

إنّ وَرَعَ الخليفةِ وحرصُهُ على أموالِ المسلمينَ مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ ابنَهُ ولو قطعةً برونزية، وإِنّ تَسَاهُلَ أبي موسى البسيطُ جداً جِداً اعْتَبَرَهُ الخليفةُ تَفْرِيطاً فَعَزَلَهُ عَنْ مَنْصِبِهِ، فكانَ ردُّ فِعْلِهِ أنْ قال: سَمْعاً وطاعة.

هذا هو يا أحبائي الحِرْصَ الذي كانَ يُسَيْطِرُ عَلَى هؤلاءِ الرِّجَالِ، فما من شيءٍ، مهما رَخُصَ إِلاَّ وَلَهُ عِنْدَهُم قيمةٌ، فما أَحْوَجَنَا يا أصْدِقَائي إلى أَنْ نَحْرِصَ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ مهما صَغُرَ وَقَلّ، فقدْ كانوا لا يَسْتَصْغِرُونَ الأُمورَ، بل يُرَاقِبُونَ أَنْفُسَهُم في كُلِّ فِعْلٍ وقَوْلٍ واعْتِقَادٍ.





الرَّجُلُ الصَّالِحُ

يُرْوَى يا أَصْدِقَائي أَنَّ رَجُلاً عَزَمَ مَرَّةً على الرَّحِيْلِ مِنْ قَرْيَتِهِ إِلى بَعْضِ البِلادِ لِقضَاءِ مَصَالحَ لَهُ، وَأَعَدَّ عِدَّةَ السَّفَرِ مِنْ زَادٍ ومالٍ. وفي الطريقِ البَرِّية، اشْتَدَّ عَطَشُهُ بِسَبَبِ حَرَارةِ الشَّمْسِ وَكَثْرَةِ الحَرَكَةِ، وكانَ يَضْطَّرُ لِلْشُّرْبِ المرَّةَ تلوَ الأُخْرى، حتّى نَفَدَ كلُّ الماءِ الذي مَعَهُ.

فَرَاحَ يَدُورُ هُنا وهُنَاكَ بَحْثاً عَنِ الماءِ فَمَا وَجَدَ لهُ أَثَراً، وطلبَ مَنْ يُغِيثَهُ، فَلَمْ يَحْظَ بِمُسَافِرٍ في ذلكَ اليومِ شَديدِ الحَرارةِ.

وَبَعدَ بَحْثٍ طويلٍ، عَثَرَ عَلى بِئْرِ مَاءٍ، فَرَكَضَ نَحْوَهُ حَامِدًا اللَّهَ شَاكِرًا نِعَمَهُ لأَنَّهُ أَنْقَذَهُ مِنَ المَوْتِ الأَكِيدِ.

ن َزَلَ الرَّجُلُ فِي البِئْرِ، وبعدَ عَنَاءٍ ومَشَقّةٍ وَصَلَ إلى قَعْرِ البِئْرِ وراحَ يَشْرَبُ حتى اُرْتَوى وَحَمَدَ اللَّهَ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ البِئْرِ وحَمَلَ حَاجَاتِهِ لِيُتَابِعَ السَّفَرَ.

وَفَجْأَةً لَمَحَ كَلْبًا بِجِوَارِ البِئْرِ، وَأَخَذَ يُرَاقِبُهُ فَرآهُ يَلْهَثُ ويَمْرَغُ لِسَانَهُ فِي التُّرَابِ مِنْ شِدَّةِ العَطَشِ.

حَزَنَ الرَّجُلُ كَثِيراً وعَلِمَ أَنَّ الكُلْبَ يَشْعُرُ بِعَطَشٍ شديدٍ وهوَ الذي كانَ يُعاني مِنْهُ قَبْلَ لَحَظَاتٍ.

أَرادَ الرَّجُلُ أنْ يُحْضِرَ الماءَ لِلْكَلْبِ، ولكِنَّهُ لا يَمْلِكُ أيَّ إناءٍ، وأَخَذَ يُفَكِّرُ، وَيَنْظُرُ يَمِيناً ويَسَاراً.

وفجأةً خَطَرَتْ لَهُ فِكْرَةٌ مُنَاسِبَةٌ، رَفَعَ الرَّجُلُ قَدَمَهُ ثُمَّ خَلَعَ نَعْلَهُ.

نَزَلَ الرَّجُلُ إلى البِئْرِ، ومَلَأَ نَعْلَهُ بِالماءِ، وأَمْسَكَهُ بِفَمِهِ ثُمَّ تَسَلَّقَ جُدْرَانَ البِئْرِ.

وعِنْدَما رآهُ الكَلْبُ جَرى نَحْوَهُ مُسْرِعاً، وأَخَذَ يَشْرَبُ مِنَ المَاءِ والرَّجُلُ مَسْرُورٌ وسَعِيدٌ.

فَشَكَرَ اللَّهَ لِهذا الرَّجُلِ الصَّالِح ذَلَكَ العَمَلُ الطَّيِّبُ وَغَفَرَ لَهُ جَمِيعَ ذُنُوبِهِ وأَدْخَلَهُ الجَنَّةَ.

أَرَأَيْتُمْ يَا أَصْدِقَائي أنَّ عَمَلَ الخَيْرِ مَهْمَا كَانَ صَغِيراً فَإِنَّهُ كَبِيرٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضَيِّعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ.



كَيْفَ تُصْبِحُ النَّارُ بَارِدَةً؟



عَادَتْ نَهْلا مِنْ مَدْرَسَتَها وفي رَأْسِهَا سُؤَالٌ تُريدُ أنْ تَطْرَحَهُ عَلى أَبِيها.

فَوْرَ وُصُولِها.. أَلْقَتْ بِنَفْسِهَا فِي حِضْنِهِ وَقَالتْ:

بابا.. أَخْبَرَتْنَا المُدَرِّسَةُ اليَوْمَ أَنَّ قَوْمَ النَّبِيّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَم وَضَعُوهُ فِي النَّارِ المُحْرِقَةِ، لكِنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا سَليماً مُعَافَى.. أَخْبِرْنِي يا أَبي كَيْفَ حَدَثَ ذلكَ؟

ــــ بَعْدَ أَنْ نَأْكُلَ طَعَامَ الغَدَاءِ يا حَبِيبتي.

ــــ أَرْجُوكَ يا أبي أُريدُ أَنْ أَعْرِفَ القِصَّةَ كُلَّهَا.

ــــ حَاضِرْ يا عزيزتي.

لِنَبْدأْ مُنْذَ أَن رَفَضَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ الإِقْرَارَ بِنُبُوَّتِهِ والاعْتِرَافَ بِرَبِّهِ، وَبَعْدَ أَنْ أَقَامَ لَهُمُ الحُجّةُ عَلى أَنَّ الأَصْنَامَ التي يَعْبُدُونَها لا تَضُرُّهُمْ وَلاَ تَنْفَعُهُمْ، أَمْسَكُوا بِهِ وَحَكَمُوا عَليهِ بِأَنْ يُحْرَقَ بِالنَّار.

ــــ كَيْفَ يا أَبي، أَلَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ رَحْمَةٌ؟

ــــ الكُفْرُ يا حَبِيْبَتِي يُغْلِقُ القُلُوبْ، وهُمْ لا يُرِيدونَ مِنْ أَحَدٍ أَنْ يَدْعُوهُمْ إِلى عِبَادَةِ اللَّهِ الواحِدِ وَتَرْكِ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ.

ــــ وماذا حَدَثَ بعدَ ذلك؟

ــــ انْطَلَقَ جميعُ الناس يَجْمَعُونَ الحَطَبَ اعْتِقَاداً مِنْهُمْ أَنْهُمْ يَقُومُونَ بِشَيءٍ مُقدَّسٍ، وأتى النَّاسُ مِنَ المَنَاطِقِ المُجَاوِرَةِ لِيَشْهَدُوا تَنْفِيذَ الحُكْمِ بِالذي تَجَرَّأَ وَشَتَمَ الآلِهَةَ وَحَطَّمَها وسَخِرَ مِنْ صَانِعِيها وعَابِدِيها.

واخْتَارُوا مَكَاناً فَسِيحًا وحَفَرُوا حُفْرَةً عَمِيقةً، مَلَؤُوها بِالحَطَبِ، ثم أَشْعَلُوا النَّارَ وَعَلَتْ أَلْسِنَةُ اللَّهَبِ، وقَيَّدُوا يَدَيْ إبراهيمَ وَقَدَمَيْهِ اسْتِعْداداً لِوَضْعِهِ بالنَّارِ، وكانَ يقولُ: «لا إِلهَ إلاَّ أنتَ سُبْحَانَكَ، لَكَ الحَمْدُ وَلَكَ المُلْكُ ولاَ شَرِيكَ لَكَ».

ورُمِيَ إبراهِيمُ الخَليلُ إلى النَّارِ بواسِطَةِ مِنْجَنِيقٍ، وهي آلةٌ كانتْ تُسْتَخْدَمُ بِالحَرْبِ شَبيهَةٌ بالمِدْفَع، فقالَ عليهِ السلامُ: «حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكيلْ».

وَهُنَا يا نَهْلا، أَتَدْرِينَ ما حَدَثْ؟ لَقَدْ جَاءَتْ نَجْدَةُ اللَّهِ مِنَ السَّمَاءِ لِنَبِيِّهِ الصَّابِرِ المُحْتَسِبِ، وَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ تَكُونَ النَّارُ بَرْداً وسَلاَماً، فَلَمْ يَبْقَ في الأَرْضِ نارٌ إلاَّ أُطْفِئَتْ.

ــــ قَالَتْ نَهْلاَ بِدَهْشَةٍ: وَمَاذَا حَدَثَ بَعْدَ ذلكَ؟

ــــ نَفَذَ الأَمْرُ الإلهي وهَبَطَ إِبْرَاهِيمُ فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وَكَانَ الناسُ مِنْ حَوْلِهِ مُسْتَغْرِبينَ وَلاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ.

عِنْدَهَا صَاحَ أَبُوهُ أَزَرَ بَعْدَمَا رأى ذلكَ: «نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ يا إبراهيمُ».

وأَحْرَقَتْ النَّارُ قُيُودَهُ، وَجَلَس إبراهيمُ يُسَبِّحُ اللَّهَ وَيَشْكُرُهُ.

ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْنِهمْ سليماً مُعَافَى لا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَضُرُّوهُ بِشَيءٍ، وَاسْتَمَرَّ إبراهيمُ الخليلُ بعدَ ذلكَ في صِرَاعِهِ مَعِ الباطِلِ لا يَهْدَأُ وَلاَ يَلِينُ.

وَهكذا هِيَ يا حبيبتي قِصَصُ الأَنْبِيَاءِ الصَّابِرينَ الِّذِينَ يَنْصُرُهُمْ اللَّهُ دائماً على مَكْرِ أَعْدَائِهِ.

والآن هيَّا بِنَا إلى مائدةِ الطَّعَامِ.



حَدِيقَةُ الفُقَراء



كانَ هُنَالِكَ رجلٌ مُزَارِعٌ طيِّبُ القَلبِ، لديهِ حديقةٌ يَزْرَعُ فِيها أنوعًا مِنَ المَزْروعَاتِ، وكانَ يوزِّعُ فِي كُلِّ مَوْسمٍ جِزءًا كَبِيْرًا مِنْ إِنْتَاجِ الحَدِيقَةِ عَلَى الفُقَراءِ.

فباركَ لهُ ربُّهُ في حديقتهِ، وكان ثَمَرُها من أَطيبِ الثِّمارِ، فعاشَ حياةً سعيدةً رغيدةً، وكلُّ النَّاسِ يَدْعونَ لَهُ بالخَيْرِ والتَّوْفِيقِ.

وبَعْدَ أَنْ تُوفِّيَ الرَّجُلُ، طمَعَ أَبْنَاؤه، وحَجَبُوا ثَمَارَ الحَدَيقَة عَنْ الفُقَراء. وَذَلِكَ لأَنَّهُم كَانوا يَطْمَعُون بِكُلِّ ما تَعْطِيه الحَديقَة لَهُمْ.

وَكَانَ فِيهِم ولدٌ عَاقِلٌ صَالِحٌ مثلُ أبيهِ، فقالَ: يَا إخوَتِي، إتّقُوا اللَّهَ وَلاَ تَقْطَعُوا عَادَةَ أَبِيكُم الطيِّبة، فإنّ اللَّهَ يرزُقَكُمْ بَدَلَ مَا تعطونَهُ للفُقَراء. لَكِنّ إخوتهُ رفَضوا كَلاَمَهُ وقَرّروا أَنْ يَذْهَبوا فِي وَقْتٍ قَبْلَ مَجِيء الفُقَراءِ ويَأْخُذوا كُلَّ مَا تَنتجهُ الحديقة. لَكن اللَّهَ أَرسلَ ريحاً عاصفةً محرقةً، تَرَكَت الحديقةَ سوداءَ كالفحمِ، وأَصحابُها لا يعلمون.

وقُبَيلَ الصُّبْحِ نادوا بعضهُمْ بَعْضًا بصَوتٍ خافِتٍ، وَأَوصى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بألاَّ يَتَكَلَّموا حَتَّى لا يحسَّ بِهِم أَحَد.

وَفَتحوا البابَ ودَخلوا، فوَجَدوا الأشجارَ محترقةً وليسَ فيها ثمرٌ، قالوا: لَقد ضَلَلْنا وتُهْنا عَنْ حَديقَتِنا بسببِ الظَّلاَمِ، وهذه ليسَتْ حديقَتُنا، فسَمعوا صوتَ أخِيهم الطيّب وهُوَ يَقول: بل إنَّها حَديقتُكُم عَيْنُها، وَقَد أحْرَقَها ربُّكم لأَنَّكُم أرَدْتُم حِرْمَانَ المَساكِينِ مِنْها.

واسودّتْ وجوهُهُم مِنَ الحزنِ وراحَ كلُّ مِنهم يلومُ أخاهُ ويقولُ له: أنتَ الذي أشرتَ علينا بهذهِ الفكرةِ الملعونةِ، وكلُّ واحدٍ منهم يتبرّأُ من التُّهْمَةِ ويتَّهِمُ الآخر.

وَهَذِهِ عاقبةُ الذينَ يَطمعونَ بما رَزَقَهُمُ اللَّهُ ولا يقدّمونَ من الخيرِ الَّذِي أَعطَاهُم لِلْفُقَرَاءِ والمَسَاكِين.



قصص منوعة



بائِعُ الْحَلْوَى



«ما أَثقلَ هذا الشُّبَّاكَ.. لا أَسْتَطِيعُ فَتْحَهُ».

«ياه.. ما أجملَ الْهَواءَ.. إنّه بَارِدٌ.. لكنَّهُ لَطِيفٌ رَائِعٌ..».

«أوراقُ الشَّجَرِ جميلةٌ جدًّا.. تبدو خضراءَ نظيفة..».

«رائحةُ الْعُشبِ المغْسولِ بِالْمَطَرِ تُنْعِشُنِي».

«تُرى.. هَلْ ذَهبَ كلُّ الأطفالِ إلى مَدارِسِهم؟! لا أَرى أَحداً في الشَّارع!!».

«إِنِّي أَرى خَيالَ رَجُلٍ قادمٍ مِنْ بَعيد، إِنه الْعَمُّ الطَّيبُ صلاح، بائعُ الْحَلوى اللذيذة، يدفعُ أَمامَهُ عَربةً خَشبِيَّةً، تَحْمِلُ صُندوقاً زُجَاجِياً يَلْمَعُ باسْتِمْرارٍ، بِداخِلِهِ أَصْنافٌ مِنَ الْحَلْوى يَسيلُ لَهَا اللُّعَابُ».

«الْعَمُّ صَلاح يَهْتَمُّ بالنَّظافَة، يَحْفَظُ الْحَلوى في صُندوقٍ مُغْلَقٍ، لا يَصِلُ إليها الغبارُ، ولا تُهاجِمُها الحشراتُ الضَّارة، لا يَلْمَسُ قِطَعَ الْحلوى بِيَدِه، بل يَستَخْدِمُ أَداةً خاصةً لِحَمْلِها، ثُمَّ يَضَعُها في عُلَبٍ بِلاسْتِيكِيَّةٍ صَغيرةٍ، يُقَدِّمُهَا لِلْمُشْتَرينَ في أكياسٍ شَفَّافَةٍ، وَبذلِكَ اكْتَسَبَ الْعَمُّ صلاح مَحَبَّةَ الكبارِ وَالصِّغارِ لِجَوْدَةِ بِضاعَتِه وَلإخْلاصِهِ في عَمَلِهِ وَنظافَتِهِ وَحُبِّهِ لِلآخرين».

«تُعْجِبُني نظافةُ الْعَمِّ صلاح.. أَنا أُحِبُّ الْأَشْياءَ النَّظِيفَةَ، لا أُحِبُّ الْحَشَراتِ، لا أُحِبُّ الذُّبابَ وَطَنينَهُ الْمُزعِج..».

«الْعَمُّ صَلاح لا يَسْمَحُ لِذُبابَةٍ بالاقْتِرابِ، لأَنَّهُ يَحْفَظُ الْحَلْوى في مَكانٍ مُحْكَمِ الْإِغْلاقِ..».

«اقْتَرَب الْعَمُّ صَلاح مِنَ النَّافِذَةِ تُرى مَاذا يُريدُ مِنِّي..».

قَالَ: «هَلْ أَنْتَ مَريضٌ يا يُوسُفُ؟! دَخَلَ جَميعُ طُلابِ مَدْرَسَتِكَ فُصُولَهُمْ وَأَنْتَ لا تَزالُ في بَيْتِكَ!!».

قال يوسُف: «أَعجَبَني هذا الصباحُ الجميلُ».

قالَ الْعَمُّ صلاح: «هيَّا يا يُوسُفُ.. أَسْرِعْ إِلى مَدْرَستِك، ما عَرَفْتُكَ إِلا نَشِيطاً..».

قالَ يوسُف: «حاضِرْ يا عَمِّ صلاح.. سَأَنْزِلُ حَالاً».

خَرَجَ يُوسُفُ مِنْ بَيْتِهِ، قَالَ الْعَمُّ صَلاح: «هَيَّا.. ارْكُضْ كَيْلاَ تَتَأَخَّر أَكْثَرَ».

لَمْ يَهْتَمّ يُوسف بِكَلامِ الْعَمِّ صَلاحٍ، وَأَخْرَجَ مِنْ جَيْبِهِ وَرَقَةً نَقْدِيَّةً يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِي قِطْعَةَ حَلْوَى...

قَالَ الْعَمُّ صَلاح: «أَنْتَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ مَدْرَسَتِكَ وَتُرِيدُ أَيْضاً أَنْ تُضَيِّعَ وَقْتاً إِضَافِيًّا بِأَكْلِ الْحَلْوَى؟!

لَنْ أَبِيعَكَ أَيَّةَ قِطْعَةِ حَلْوى، وَلَوْ دَفَعْتَ لِي ثَمَناً مُضَاعَفاً، سَأَمْنَعُ عَنْكَ الْحَلْوى اللَّذِيذَةَ حَتَّى لا تَتَأَخَّر مَرَّةً ثَانِيةً».

فُوجِىءَ يُوسُفُ بِمَوْقِفِ الْعَمِّ صَلاحٍ: «هذا أَمْرٌ لا يهُمُّنِي.. أَنْتَ الَّذِي سَتَخْسِرُ.. سأشتري مِنْ مَكانٍ آخر»، وَلمَّا هَمَّ بالذِّهاب، قَال الْعَمُّ صَلاح بِهُدوءٍ: «أَعِدُكَ أَنَّنِي سَأُعْطِيكَ غَداً أَكْبَرَ قِطْعَةِ حَلْوَى مُكَافَأَةً لَكَ لَوْ خَرَجْتَ إِلى الْمَدْرَسَةِ فِي وَقْتٍ مُبَكِّرٍ».

يُوسُفُ غَضِبَ جِدًّا مِنَ الْعَمِّ صَلاحٍ، قَالَ: «لاَ أَحْتَاجُ لِأَيَّةِ قِطْعَةِ حَلْوَى تَأْتِيني مِنْكَ.. لَنْ أَشْتَرِي مِنْكَ شَيئاً بَعْدَ الْيَومِ، ابْتَعِدْ عَنْ طَرِيقِي، سَوْفَ أَطْلُبُ مِنْ كُلِّ أَصْدِقَائِي أَلا يَشْتَرُوا مِنْكَ».

تَبَسَّمَ الْعَمُّ صَلاَحٍ، وَوَعَدَهُ بِقِطْعَتَيْنِ مِنَ الْحَلْوَى لَو الْتَزَمَ بِمَا طَلَبَهُ مِنْهُ: الْأُولى مُكَافَأَة لَهُ عَلى نَشَاطِهِ، والثَانِيَةِ لِيُعَرِّفُهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَيَهْتَمُّ بِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْمالِ.

قَالَ يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ: «مَا أَثْقَلَ دَمَّ بَائِعِ الْحَلْوَى.. كَيْفَ يَتَدَخَّلُ في شُؤوني أَنَا حُرٌّ.. أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ».

«إِنَّهُ لَيْسَ أَبِي وَلَيْسَ مَسْؤُولاً عَنِّي.. كَيْفَ يَمْلِكُ هذِهِ الابْتِسَامَة وَيَظَلُّ يَبْتَسِمُ وَقَدْ قُلْتُ لَهُ ذَلكَ..».

سَار يُوسُف إِلى الْمَدْرَسَةِ بِهُدُوءٍ..

قَضَى نَهَارَهُ يُفَكِّرُ، صُورَةُ الْعَمِّ صَلَاح وَهُو يَبْتَسِمُ لَمْ تُفَارِقْ خَيَالَهُ... «هذَا الرَّجُلُ الْفَقِيرُ الْمِسْكِينُ، الَّذِي لاَ يَمْلِكُ شَيْئاً، يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيني قِطْعَتَيْنِ مِنَ الْحَلْوَى دُوَن مُقَابِلٍ؟!» وَصَارَ يُرَدِّدُ فِي قَلْبِهِ: «لاَ شَكَّ أَنَّهُ يُحِبُّنِي».

شَعُرَ يُوسُفُ أَنَّ بَائِعَ الْحَلْوَى حَرِيصٌ عَلى الْعِلْمِ رَغْمَ أَنَّهُ لاَ يَعْرِفُ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ، يُرِيدُ لِلْصِّغار أَنْ يَتَعَلَّمُوا، لِأَنَّهُ يُحِبُّ الْعِلْمَ كَمَا يَقُولُ دَائِماً، حَتَّى إِنَّهُ يَطْلُبُ مِنَ التَّلامِيذِ أَحْيَاناً أَنْ يُعَلِّمُوهُ الْقِرَاءَة وَالْكِتَابةَ..».

قَالَ يُوسُفُ: «لَقَدْ كَانَ الْعَمُّ صَلاحٍ كَريماً لَطِيفاً نَصُوحاً، كَيْف أَرُدُّ إِحْسَانَهُ بِالْإِسَاءَةِ؟! لَقَدْ فَعَلَتُ خَطَأً جَسِيماً.. هَلْ سَيَقْبَلُ اعْتِذَارِي؟ بِالتَّأْكِيدِ سَيَقْبَلُهُ.. إِنَّهُ طَيِّبُ الْقَلْبِ..».

ظَلَّ يُوسُفُ طَوَالَ الْيَوْمِ مَشْغُولَ الْفِكْرِ..

بَعْدَ انْتِهَاءِ دَوَامِ الْمَدْرَسَةِ خَرَجَ يُوسُفُ مُسْرِعاً لِيَعْتَذِرَ مِنَ الْعَمِّ صَلاَحٍ، الَّذِي كَانَ غَالِباً مَا يَقِفُ بِعَرَبَتِهِ وَصُنْدُوقِهِ الزُّجَاجِيِّ أَمَامَ مَدْخَلِ الْمَدْرَسَةِ.

الْعَمُّ صَلاحٍ لَمْ يَكُنْ مَوْجُوداً فِي مَكَانِهِ الْمُعْتَادِ..

عَادَ يُوسُفُ إِلى الْبَيْتِ حَزِيناً لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الاعْتِذَارِ لِلْعَمِّ صَلاحِ: «لَقَدْ كَانَ الْعَمُّ صَلاَحٍ أَفْضَلَ مِنِّي رَغْمَ أَنِّي كُنْتُ قَاسِياً مَعَهُ فَقَدْ كَان لَطِيفاً مَعِي، لَمْ يَقُلْ كَلِمَةً وَاحِدَةً تُزْعِجُنِي، كُلُّ مَا يُرِيدُهُ مَصْلَحَتِي.. رَغْمَ فَقْرِهِ الشَّدِيدِ سَيُكَافِئُنِي لَوِ الْتَزَمْتُ بِأَمْرٍ هُوَ وَاجِبٌ عَلَيَّ.. مِسْكِينٌ يا عَمِّ صَلاح.. كَمْ أَخْطَأْتُ فِي حَقِّكَ؟!».

ظَلَّ يُوسُفُ عَلى هذِهِ الْحَالِ طَوَالَ النَّهَارِ.

بَعْدَ أَنْ ذَاكَرَ دُرُوسُه وَأَكْمَلَ جَمِيعَ وَاجِبَاتِهِ.. ذَهَبَ إِلى فِرَاشِهِ وَغَرِقَ فِي نَوْمٍ عَمِيقٍ.

فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، قَامَ يُوسُفُ مِنْ فِرَاشِهِ مُبَكِّراً، جَهَّزَ نَفْسَهُ بِنَشَاطٍ، خَرَجَ إِلى مَدْرَسَتِهِ، لَمْ يَجِدِ الْعَمُّ صَلاَحٍ فِي الطَّرِيقِ، وَقَفَ يُوسُفُ أَمَامَ بَابَ الْمَدْرَسَةِ.. رَاحَ يَنْظُرُ فِي كُلِّ اتِّجَاهٍ.. الْعَمُّ صَلاَحٍ لَمْ يَظْهَرْ، دَخَل الْمَدْرَسَةَ كَيْلا يَتَأَخَّر عَنْ صَفِّهِ.

بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمَدْرَسَةِ كَانَ الطُّلابُ يَسْأَلُونَ عَنِ الْعَمِّ صَلاَّحِ... قَرَّرَ يُوسُفُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ فِي بَيْتِهِ.

الْعَمّ صَلاَحٍ يَسْكُنُ فِي سِرْدَابِ بَيْتٍ قَدِيمٍ هُوَ وَزَوْجَتُهُ الْعَجُوزُ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمَا أَوْلاَدٌ، النَّاسُ يَقُولُونَ: «إِنَّ ابْنَهُمَا الْوَحِيدَ مَاتَ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ».

قَرَعَ يُوسُفُ بَابَ بَيْتِ الْعَمِّ صَلاح... فَتَحَتْ لَهُ امْرَأَةٌ عَجُوزٌ، سَأَلَهَا: «أَيْنَ الْعَمُّ صَلاَحٍ؟».

قَالَتْ بِحُزْنٍ: «إِنَّهُ مَرِيضٌ... وَحَرَارَتُهُ مُرْتَفِعَةٌ جِدًّا».

قَالَ: «لِمَاذَا لَمْ يَذْهَبْ إِلى الْمُسْتَشْفَى؟».

قَالَتْ: «أَنَا كَبِيرَةٌ في السِّنِّ.. وَهُوَ لاَ يَسْتَطِيعُ الْوُقُوفَ عَلَى قَدَمَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْمَرَضِ».

أَسْرَعَ يُوسُفُ وَاتَّصَلَ بِرِجَالِ الْإِسْعَافِ الَّذِينَ نَقَلُوهُ إِلى الْمُسْتَشْفَى حَيْثُ قَامَ الْأَطِّبَاءُ بِمُعَالَجَتِهِ، قَالُوا لاَ بُدَّ أَنْ يَظَلَّ يَوْمَيْنِ فِي الْمُسْتَشْفَى، وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْتَاحَ فِي الْمَنْزِلِ أُسْبُوعاً كَامِلاً قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إِلى الْعَمَلِ.

انْتَشَرَ خَبَرُ مَرَضِ بَائِعِ الْحَلْوَى فِي جَمِيعِ أَنْحَاءِ الْحَيِّ... قَرَّرَ يُوسُفُ وَأَصْدِقَاؤُهُ جَمْعَ مَصْرُوفِهِم الْيَوْمِيِّ وَتَقْدِيمِهِ لِلْعَمِّ صَلاَح حَتَّى يَشْفَى وَيعُودُ لِلْعَمَلِ... جَمَعُوا نُقُودَهُمْ، وَكَلَّفُوا يُوسُفَ أَنْ يُنَفِّذ الْمُهِمَّةَ.

فِي الْمَسَاءِ عَادَ يُوسُفُ إِلى بَيْتِهِ، أَخْبَرَ وَالِدَيْهِ بِمَا حَدَثَ.. فَرِحَا جِدًّا بِإنْقَاذِ الْعَمِّ صَلاَح وَتَعَاوُنِ جَمِيعِ أَصْدِقَائِهِ.. رَاحُوا جَمِيعاً يَدْعُونَ لَهُ بِالشِّفَاءِ.

دَخَلَ يُوسُفُ غُرْفَتَهُ، ذَاكَرَ دُرُوسَهُ ثُمَّ نَامَ مِنْ شِدَّةِ التَّعَبِ.

فِي صَبَاحِ الْيَومِ التَّالِي خَرَجَ يُوسُفُ مُبَكِّراً إِلى الْمَدْرَسَةِ... فُوجِىءَ بِالْعَمِّ صَلاحٍ أَمَامَ مَدْخَلِ بَيْتِهِ، يَحْمِلُ قِطْعَتَينِ كَبِيرَتَيْنِ مِنَ الْحَلْوَى، قَالَ الْعَمُّ صَلاَحٍ: «لَقَدْ كُنْتُ مُتَأَكِّداً أَنَّكَ لَنْ تَتَأَخَّرَ مَرَّةً ثَانِيةً عَنِ الْمَدْرَسَةِ، لِذلِكَ حَضَرْتُ إِلى هُنَا وَانْتَظَرْتُكَ».

لاحَظَ الْعَمُّ صَلاَح دَمْعَةً تَسْقُطُ عَلى خَدِّ يُوسُفَ، سَأَلَهُ عَنِ السَّبَبِ.. قَالَ: «لَقَدْ حَلُمْتُ بِكَ هذِهِ اللَّيْلَة؛ لَقَد كَان كَابوساً مريعاً».

حَكَى لَهُ يُوسُف حِكَاية الْحُلْمِ.

ضَحِكَ الْعَمُّ صَلاَح وَسَأَلَهُ:

«هَلْ سَتَفْعَلُ مِثْلَمَا فَعَلْتَ فِي مَنَامِكَ لَوْ وَقَع ذَلِكَ لِي فِي الْحَقِيقَةِ؟».

قَالَ يُوسُفُ بِلا تَرَدُّدٍ: «لاَ نَتَمَنَّى لَكَ إِلاَّ الصِّحَّةَ وَالْعَافِيَةَ، آسِفُ يَا عَمِّ صَلاح.. لَقَدْ أَخْطَأتُ فِي حَقِّكَ.. أَعِدُكَ أَنِّي لَنْ أَتَأَخَّرَ مَرَّةً أُخْرَى عَنِ الْمَدْرَسَةِ».

قَالَ الْعَمُّ صَلاَح: «هَيَّا اذْهَبْ إِلى الْمَدْرَسَةِ الْآنَ.. قَبْلَ أَنْ يَتَأَخَّرَ الْوَقْتُ».

اقْتَرَبَ يُوسُفُ وَقَبَّلَ رَأْسَ الْعَمِّ صَلاَحٍ ثُمَّ مَضَى مُسْرِعاً إِلى الْمَدْرَسَةِ.



كَانَ أَبِي طَبِيْبَاً..



قَرْيَتِيْ بَعِيدَةٌ.. لَمْ تَصِلْها الطُّرُقَاتُ الْمُعَبَّدَةُ... لَمْ تَصِلْهَا الْكَهْرَبَاءُ إلاَّ فِي الْسَّنَوَاتِ الأَخِيْرَةِ..

في وَسَطِ الْقَرْيَةِ عَيْنُ ماءٍ بَاردٍ.. تُحِيْطُ بِها بُيُوْتٌ مُبَعْثَرَةٌ بِعَشْوَائِيَّةٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ..

بُيُوتُ الطِّيْنِ لاَ تَزَالُ كَمَا كَانَتْ.. الْنَّاسُ بُسَطَاءٌ كَمَا كَانُوا..

أَغْلَبُ سُكَّانِها مِنْ كِبَارِ السِّنِ.. الشَّبَابُ غَادَرُوا إمَّا لِلْدِّرَاسَةِ وإما لِلْعَمَلِ.. يُعُودُونَ إِلَيْهَا فِيْ الْعُطُلاَتِ والْمُنَاسَبَاتِ، السَّعيدَةِ مِنْهَا وَالْحَزِينَةِ..

أمَّا أنا فَقَدْ وُلِدْتُ فِي الْعَاصِمَةِ وَعِشْتُ فِيها.. حَيْثُ يَعْمَلُ أَبِي طَبيباً... اشْتَهَرَ، تَنَافَسَتْ عَلَيْهِ الْمُسْتَشْفَيَاتِ الْكُبْرَى.. مُدَرَّجَاتُ الْتَّدْرِيسِ الجَامِعِيَّةِ..

نَشَأْتُ في الْعَاصِمَةِ الْكَبِيرَةِ.. دَرَسْتُ في أَحْسَنِ مَدَارِسِها، حَصَلتُ عَلَى أَفْضَلِ تَعْلِيمٍ.. ذَهَبْتُ إِلى أَفْضَلِ الأَمَاكِنِ فِيها..

لَكِنِّي.. في نِهَايَةِ كُلِّ أُسْبوعٍ تَقْرِيْباً.. أَتَخَلَّى عَنْ كُلِّ ذَلِكَ.. أَتَوَجَّهُ بِرِفْقَةِ أَبِي وَأُمِّي فِي رِحْلَةٍ طَوِيْلَةٍ تَسْتَغْرِقُ سَاعَاتٍ، نَسْتَخْدِمُ الْقِطَارَ، ثُمَّ سَيَّارَةَ الأُجْرَةِ، وَأَخِيراً نَسْتَخْدِمُ الدَّوَابَ، لِأَنَّ الْطُّرُقَ الْمُعَبَّدَةَ لَمْ تَكُنْ قَدْ وَصَلَتْ إِلى قَرْيَتِي بَعْدُ.

اعْتَدْتُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحَ ذَلِكَ شَيْئاً مِنِّي..

أَعُوْدُ مِنَ الْمَدْرَسَةِ ظُهْراً.. يَعُوْدُ أَبِي مِنْ عَمَلِهِ.. أُمِّي تُجَهِّزُ حَاجَاتِ السَّفَرِ.. فِي الْمَسَاءِ نَكُوْنُ فِي الْقَرْيَةِ..

أَهْلُ الْقَرْيَةِ اعْتَادُوا عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا.. يَنْتَظِرُونَنَا مَسَاءَ كُلِّ أَرْبِعَاءِ.. يُجَهِّزُونَ لَنَا الْطَّعَامَ الْمُصَنَّعِ فِي بُيُوتِهِمْ.. أَبِي يُحِبُّ طَعَامَ الْقَرْيَةِ الصِّحِيِّ اللَّذِيذَ..

أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ نَقْضِيهَا عَلَى الْطَّرِيْقِ.. بَعْدَ وُصُولِنَا إلَى الْمَنْزِلِ، يَنْتَقَلُ أَبِي فَوْرَاً إِلى عِيَادَةٍ مُلاَصِقَةٍ أَعَدَّهَا خِصِّيْصًا لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ.. يَتَفَقَّدُ حَالَها..

نَظَافَتَهَا.. يَسْأَلُ الخَالةَ (أمَّ قَاسِمْ) عَنْ تَعْقَيْمِ الأَدَوَاتِ والإِبَرْ.. يَطْمَئِنُّ مِنَ الخَالَةِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَهِيَ الَّتِي تُحَضِّرُ الْمَنْزِلَ.. تُجَهِّزُ العِيَادَةَ... تُخْبِرُ أَبِي عَنْ صِحَّةِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ.. يَتَأكَّدُ أَنَّ الْأُمُورَ عَلَى مَا يُرَامُ.. يُعُوْدُ إِلى البَيْتِ لِتَنَاوُلِ طَعَامِ الْعَشَاءِ.. يَقُوْلُ لِأُمِّي جُمْلَةً حَفَظْتُها: «أَمَامَنا يَوْمَانِ مُرْهِقَانِ.. لِنَنَمْ الآنَ... نَسْتَيْقِظُ صَبَاحًا بِنَشَاطٍ وافِرٍ..».

نَقْضِي يَوْمَيْنِ فِي الْقَرْيَةِ.. نَعُوْدُ مَسَاءَ الْجُمُعَةِ إلى الْعَاصِمَةِ بِفَرَحٍ أَكْبَرَ وسَعَادَةٍ لاَ تُوْصَفُ..

أَهْلُ قَرْيَتِي فُقُرَاءُ.. عِيادَةُ أَبِي مَجَّانِيَّةٌ. لاَ يَأْخُذُ مِنَ الْمَرْضَى قِرْشاً واحِدَاً..

يُسَاعِدُهُمْ.. يُعْطِيهُمُ الْدَّوَاءُ.. يُجْرِي لَهُمُ العَمَلِيَّاتِ الْجِرَاحِيَّة، مَنْ يَحْتَجْ مِنْهُمْ إِلى عِنَايَةٍ خَاصَّةٍ يُرْسِلُهُ إِلى الْعَاصِمَةِ.. يُدْخِلُهُ الْمُسْتَشْفَى عَلَى حِسَابِهِ الخَاصّ..

تَمْضِي عُطُلاَتُ الأُسْبُوعِ غَالِباً بِانْشِغَالٍ تَامٍ.. بِاسْتِثْنَاءِ حَالاَتٍ خَاصَّةٍ، يَضْطَّرُ فِيها أَبِي لِلْبَقَاءِ في العَاصِمَةِ، أو لِلْسَّفَرِ لِلْمُشَارَكَةِ في مُؤْتَمَرٍ، أو لِلاطِّلاَعِ عَلَى تَطَوُّرٍ ما في مَجَالِ الطِّبِّ... لَكِنَّهُ عِنْدَمَا يَعُوْدُ يُخَصِّصُ أَيَّاماً إضَافِيَّةً لِلْقَرْيَةِ، يَتْرُكُنا أنا وأُمِّي في العَاصِمَةِ مِنْ أَجْلِ مُتَابَعَةِ دِرَاسَتِي..

أَحْبَبْتُ أَبِي..

أَخْلَصَ في عَمَلِهِ.. صَدَقَ في تَعَامُلِهِ.. لَمْ يَنْتَظِرْ جَزَاءً وَلاَ شَكُوراً..

الأَطِبَّاءُ.. الْمُمَرِّضُونَ... الْعَامِلُوْنَ في الْمُسْتَشْفَى، يَظُنُّونَ أَنَّ أَبِي يَخْتَفِي يَوْمَيْ الْخَمِيسِ والجُمُعَةِ مِنْ أَجْلِ الرَّاحَةِ والْاسْتِجْمَامِ.. لَمْ يُخْبِرْ أَحَداً عَنْ أَفْعَالِهِ الَّتِي أَفْخُرُ بِهِا.

عوَّدَنِي أَبِي عَلَى ذَلِكَ..

أَخْرُجُ مَعَهُ رَاضِيَاً.. أَتَوَجَّهُ إلى الْعِيَادَةِ لِأُسَاعِدَهُ فِي الْعَمَلِ.. أُنَظِّمُ دُخُولَ الْمَرْضَى.. أَضْبِطُ الْمَوَاعِيدَ.. أَكْتُبُ الأَسْمَاءَ.. أُقَدِّمُ مَنْ يَحْتَاجُ إلى عِلاَجٍ فَوْرِيٍّ..

أُمِّي أَيْضًا.. لَمْ تَشْكُ فِي حَيَاتِها.. عَاشَتْ سَعِيْدَةً سَعِيْدَةً.. تَسْبِقُنَا إلى العِيَادَةِ..

تُنَظِّفُها مَعِ الْخَالَةِ (أمّ قاسم).. تُرَتِّبُ الأَوْرَاقَ.. تُعَقِّمُ الأَدَوَاتَ.. تَسْتَقْبِلُ الْمَرْضَى بِوَجْهٍ بَشُوشٍ ضَاحِكٍ.. فَخُورَةٌ مِثْلِي بِأَبِي.. تَفْرَحُ عِنْدَمَا تَرَى مَرِيضًا يَخْرُجُ مِنَ الْعِيَادَةِ رافِعَاً يَدَيْهِ؛ يَدْعُو لِأَبِي أَنْ يَحْفَظَهُ مِنَ الأَمْرَاضِ والأَوْجَاعِ..

يُخَصِّصُ أَبِي صَبَاحَ الجُمُعَةِ لِيَزُورَ بُيُوْتَ الْمَرْضَى الَّذِينَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الذَّهَابَ إلى العِيَادَةِ.. أَتَنَقَّلُ مَعَهُ مِنْ بَيْتٍ إلَى بَيْتٍ، نَظَلُّ عَلَى هَذِهِ الحَالْ حَتَّى مَوْعِدَ الْصَّلاَةِ.. نَسْبِقُ المؤذِّنَ إِلى الْمَسْجِدِ، نَجِدُ أَهْلَ الْقَرْيَة بِانْتِظَارِ أَبِي، يُرَحِّبُونَ بِهِ.. يَشْكُرُونَهُ.. يَسْتَحِي أَبِي... يَقُوْلُ لَهُمْ: «لاَ شُكْرَ عَلَى وَاجِبٍ»..

يُتَمْتِمُ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ: «ادْعُ لِي يا جَدِّي.. إدْعُ لي يا عَمّي، يا أَخِي.. ادْعُ لي.. ادْعُوا لَنَا بِالْخَيْرِ..».

أَحْبَبْتُ أبِي..

وَدَدْتُ أنْ أعِيْشَ عُمْرِي كُلَّهُ حَامِلاً حَقِيْبَتَهُ.. أَتَنَقَّلُ مَعَهُ لِأَرى الْبَسْمَةَ عَلَى وُجُوهِ الْنَّاسِ.. أَسْمَعُ الأَلْسِنَةَ تَدْعُو لَهُ..

كُنْتُ فَخُوْراً جِدًّا بِمَا يَفْعَلُ.. عِشْتُ سَعِيداً سَعِيداً..

فِي البَدْءِ.. رَفَضْتُ هذِهِ الحَيَاةُ القَاسِيَةُ..

تَسَاءَلْتُ: «أَبِي.. لِمَاذَا نَفْعَلُ هَذَا كُلَّ أُسْبوعٍ؟! أَلاَ أَسْتَحِقُّ قِسْطًا مِنْ الْرَّاحَةِ، بَعْدَ عَنَاءِ أُسْبُوعٍ كَامِلٍ مِنَ الْدِّرَاسَةِ والْحِفْظِ وَوَجَعِ الرَّأْسِ؟! أُرِيْدُ الْذَّهَابَ إلى السِّيْنِمَا.. إلى الْمَسْرَحِ.. إلى الْبَحْرِ.. أَلَسْتُ مِثْلَ أَصْدِقائي؟!..».

لَمْ يَكُنْ أَبِي رَجُلاً قاسِياً.. لاَ يُحِبُّ الْنقَاشَ..

يَقُولُ بِهُدُوءٍ:

«فَرْحَةُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ بِوُجُودِنَا بَيْنَهُمْ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ فَرْحَةٍ.. نُدَاوي آلاَمَهُمْ.. نَمْسَحُ دُمُوعَهُمْ..».

أَقولُ:

«وَأَنَا.. أَلاَ أَسْتَحِقُّ أَنْ أَفْرَحَ مِثْلَهُمْ؟!».

يُجيبُ: «ألاَ تَشْعُرُ بِالْفَرَحِ عِنْدَمَا تَدْخُلُ الْفَرْحَةُ إلى قُلُوب النَّاسِ؟».

في الحقيقةِ، أنا أُحِبُّ أَبي كَثِيراً، ومُعْجَبٌ بِهِ وَبِأَعْمَالِهِ، لَكِنِّي أَشْعُرُ بِشَيءٍ في داخِلِي يَشُدُّنِي إلى اللَّعِبِ، رُبَّمَا كانَتْ حَاجَتِي الْفِطْرِيَّةِ لِلاخْتِلاَطِ مَعَ مَنْ هُمْ في مِثْلِ سِنِّي.

تَقُولُ أُمِّي: يا بُنَيّ، إِنَّ الْمُتْعَةَ الحَقِيقِيَّةَ في العَطَاءِ وَفِي إسْعَادِ الآخَرِينَ وإنِّي أَشْكُرُ اللَّهَ ثُمَّ والِدَكَ الَّذِي سَمَحَ لي بِمُشَارَكَتِهِ بإسْعَادِ الآخرينْ».

هُنا قُلْتُ لِأَبي:

«أَحْتَاجُ إلى عُطْلَةٍ أُسْبُوعِيَّةٍ حَقِيْقِيَّة..

وأنتَ يا أبي.. أَلاَ يَحْتَاجُ جَسَدُكَ إلى راحَةٍ؟!».

يقولُ: «راحَتي عِنْدَما أرى الَّذِينَ نَشَأْتُ بَيْنَهُمْ يَعِيشُونَ بِلاَ آلامٍ وأَوْجَاعٍ.. راحَتِي في مُسَاعَدَتِهِمْ..».

أقولُ: «أَنْتَ لَسْتَ مَسْؤولاً عَنْهُمْ!!».

يَحْزَنُ أَبِي.. يَقُولُ:

«كَيْفَ لا؟! أَلَيْسُوا هُمْ أَهْلِي؟! لِكُلٍّ مِنْهُمْ فَضْلٌ عَلَيَّ.. قَرْيَتِي هِيَ وَطَنِي الصَّغيرُ.. وأَهْلُها هُمْ عائِلَتِي..».

وَلِكَثْرَةِ مُنَاقَشَتِي إيَّاهُ أَخْبَرَنِي أَبِي مَرَّةً بِأَمْرٍ ما كُنْتُ أَعْرِفُهُ.. قالَ:

«أَهْلُ القَرْيَةِ وَقَفُوا مَعِي عِنْدَما مَاتَ جَدُّكَ.. كنتُ صَغيراً.. ساعَدُونِي.. تابَعْتُ دِراسَتي.. ساعَدُونِي أنا وأُمِّي.. جَمَعُوا لِيَ المَاْلَ لِأَذْهَبَ إلى الْمَدِينَةِ حَيْثُ دَرَسْتُ الطِّبْ.. اسْتَمَرّوا في مُسَاعَدَتِي حَتَّى نِلْتُ مِنْحَةً ومُسَاعَدَةً مِنَ الْجَامِعَةِ..».

مَسَحَ أَبي دَمْعَةً سَالَتْ عَلَى خَدِّهِ.. تابَعَ حَدِيثَهُ قالاً:

«وَقَفوا معَ أبي، رَحِمَهُ اللَّهُ، عِنْدَما أَصَابَهُ الْمَرَضُ.. جَدَّتُكَ.. أَلاَ تَذْكُرُهَا.. رَحِمَهَا اللَّهُ، عَانَتْ.. تَحمَّلَتْ.. صَبَرَتْ... أَكْرَمَها أَهْلُ القَرْيَةِ.. أَلاَ يَسْتَحِقُّ هَؤُلاَءُ بَعْضاً مِمّا أَعْطُونِي؟!».

أَضَافَ:

«وفَوْقَ ذَلِكَ يا بُنَيَّ.. أَلَيْسَ مِنْ وَاجِبِي مُسَاعَدَةُ مَنْ يَحْتَاجُ إلى مُسَاعَدَتِي؟!».

«لاَ تَنْسَ يا بُنَيَّ أنَّ مُسَاعَدَةَ الآخَرينَ أَفْضَلُ شَيْءٍ يُمْكِنُ أنْ نَفْعَلَهُ في حَيَاتِنَا..».

فَرِحْتُ.. نَعَمْ فَرِحْتُ..

فَهِمْتُ مُعَانَاةَ أبي.. شَعَرْتُ بإحْسَاسِهِ.. بِوَفَائِهِ.. بِعَطَائِهِ.. أَصْبَحَتْ رِحْلَةُ الذَّهَابِ إلى القَرْيَةِ في عُطْلَةِ نِهَايَةِ الأُسْبوعِ مُتْعَةٌ كَبِيرَةٌ.. أَنْتَظِرُها بِفَارِغِ الصَّبْرِ..

مَضَتِ الأَيَّامُ عَلَى هذِهِ الحَالُ..

حتَّى جَاءَ اليَوْمُ الَّذِي بَكَيْتُ فِيْهِ..

بَكَتْ أُمِّي كَمَا لَمْ يَبْكِ أَحَدٌ مِنْ قَبْلُ..

جَاءَ الْيَوْمُ الَّذِي بَكَتْ فِيْهِ القَرْيَةُ كُلُّهَا..

جَاءَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ كِبَاراً وصِغَاراً.. لَمْ يَتَّسِعْ بَيْتُنَا.. مَلأوا الأَدْرَاجَ... مَدْخَلُ العِمَارَةَ.. الْشَّارِعَ.. الْمَسْجِدُ أَيْضًا ازْدَحَمَ بالْمُصَلِّينِ.. يَدْعُونَ لَهُ بِالْرَّحْمَةِ... تَنَافَسَ أَهْلُ القَرْيَةِ عَلَى حَمْلِ نَعْشِهِ.. نَقَلُوهُ في مَوْكِبٍ مَهِيْبٍ إلى مَدَافِنِ قَرْيَتِنَا.. دَفَنُوهُ هُنَاكَ، تِلْكَ كانَتْ آخرُ وصَايا أَبي..

كُنْتُ فَخُوراً بِأَبي.. صَارَ حديثُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ في مَجْلِسِ العَزَاءِ، أَخْبَروا أَصْدِقَائي.. جِيرَانِي... أَخْبَروا الْمُغَزِّينَ.. أَخْبَرُوا أَصْدِقَاء أبي مِنَ الْأَطِبَّاءِ.. إلى أينَ كانَ أبي يَذْهَبُ في عُطْلَةِ نِهَايَةِ الأُسْبوعِ.. وأنَّهُ كانَ يُنْفِقُ الْكَثيرَ مِنَ الْجُهْدِ والْوَقْتِ والْمَالِ حتَّى يُدْخِلَ الفَرْحَةَ إلى قُلُوبِهِمْ.

تَرَحَّمُوا عَلَيْهِ.. قالوا: «خَسَارَةٌ لاَ تُعَوَّضُ..».

مَضَتِ الأَيَّامُ..

كَبِرْتُ.. تَخَرَّجْتُ في الجَامِعَةِ.. تَزَوَّجْتُ..

أَصْبَحَ عِنْدِي أَوْلاَدٌ..

أَذْهَبُ في عُطْلَةِ نِهَايَةِ كُلِّ أُسْبوعٍ إلى قَرْيَتِي.. إلى عِيَادَةِ أَبي..

تُسَاعِدُني زَوْجَتِي.. أَوْلاَدِي.. ابْنَةُ الخَالَةِ (أمُّ قاسم)..

أَقولُ بَعْدَ تَنَاوُلِ طَعَامَ عَشَاءِ يَوْمِ الأَرْبِعَاءِ:

«أَمَامَنَا يَوْمَانِ مُرْهِقَانِ.. لِنَنَمْ الآنَ.. نَسْتَيْقِظُ صَبَاحًا بِنَشَاطٍ وافِرٍ»..

أنا الآنَ طبيبٌ مثلَ أبي.. كلَّما رآني أَهْلُ الْقَرْيَةِ قالوا: «رَحِمَ اللَّهُ أَبَاكَ.. مَنْ خَلَّفَ مَا مَاتَ..».

فَخَرْتُ بِأَبِي حَيًّا ومَيْتَاً.. أُريدُ أنْ يَفْخَرَ بي أَوْلاَدِي كَمَا فَخَرْتُ بِأَبِي.



شَهْد والأَطْبَاقُ الْمُتَكَسِّرَة



الْعَامُ الدِّراسِيُّ عَلَى الأَبْوَابِ..

شَهْد تَسْتَعِدُّ لِمَرْحَلَةٍ جَدِيْدَةٍ..

كانَتْ تَشْعُرُ فِي الأَسَابِيْعِ الأَخِيْرَةِ مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ أَنَّها أَصْبَحَتْ شَابَّةً، لِقُرْبِ انْتِقَالِها إلى الْمُتَوَسِّطَةِ.. والابْتِدَائِيَّة لِلأَطْفَالِ..

اسْتَعَدّت شَهْد.

جَهَّزَتْ: حَقِيْبَةً كَبِيْرَةً.. ثِيَاباً.. أَقْلاَماً.. أَوْرَاقاً..

«لَقَدْ كَبِرْتُ.. أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٌ وأَدْخُلُ الأَوَّلَ مُتَوَسِّطْ، فَلاَ يَعُودُ أَحَدٌ يُعَامِلُنِي كَطِفْلَةٍ صَغِيْرَةٍ».

شَهْد تُخَاطِبُ نَفْسَها في الْمِرآةِ:

«سَأَدْرُسُ بِكُلِّ طَاقَتِي.. أُرِيْدُ الْنَّجَاحَ الْمُتَفَوِّقِ.. بَعْدَ سَنَوَاتٍ أَدْخُلُ الثَّانَوِيَّةَ، بَعدَ الثَّانَوِيَّة أَدْخُلُ الْجَامِعَةَ.. ما أَجْمَلَ أَنْ يَكُونَ الإنْسَانُ فِي الجَامِعَةِ!».

«سَأَتَخَصَّصُ فِي طِبِّ الأَطْفَالِ.. رُبَّمَا أَدْرُسُ الْهَنْدَسَةَ مِثْلَ أَبِي أَوْ الْأَدَبَ مِثْلَ أُمِّيْ.. أو الْحُقُوقِ لِأَكُونَ مُحَامِيَّةً.. نَعَمْ، إِنَّهَا مِهْنَةٌ رائِعَةٌ، أُدَافِعُ فِيْهَا عَنِ الْمَظْلُومِيْنَ...».

فَكَّرَتْ شَهْد:

«لا.. لا.. لَنْ أَدْرُسَ الحُقُوْق.. لا أُرِيْدُ أَنْ أَكُوْنَ مُحَامِيَّة.. سَأَكُوْنُ مُدَرِّسَةً.. مَنْ يَعْلَمْ؟!».

«الْمُهِمُّ الآنَ أنَّني سَأَدْخُلُ الْمَرْحَلَةَ الْمُتَوَسِّطَةَ.. وَبَعْدَهَا يَصِيْرُ خَيْراً..».

ابْتَعَدَتْ شَهْد عَنِ المِرآة..

دَخَلَتْ الْمَطْبَخَ.. أُمُّهَا تُحَضِّرُ طَعَامَ الغَدَاءِ..

قَالَتِ الأُمُّ: أَهْلاً بِاُبْنَتِي الحَبِيْبَة.. وَصَلْتِ فِي الْوَقْتِ المُنَاسِبِ، هيّا.. حَضِّرِي الأَطْبَاقَ عَلَى الْمَائِدَةِ..

قَالَتْ شَهْد بِاسْتِنْكَارٍ شَدِيْدٍ:

«أَنَا أَنْقُلُ الأَطْبَاقَ.. لمَاذَا لاَ تَقُوْمُ بِذَلِكَ خَادِمَتُنَا فَاطِمَة.. ثُمَّ إِنِّي ما زِلْتُ صَغِيْرَةً عَلَى هذِهِ الأَعْمَالِ..».

ــــ «صَغِيْرَةٌ.. صَغِيْرَةٌ؟!.. عَجَباً.. مُنْذُ قَلِيْلٍ كانَ صَوْتُكِ يُلَعْلِعُ فِي الْبَيْتِ.. تَقُولِيْنَ «أَنَا كَبِيْرَةٌ.. أَنَا كَبِيْرَةٌ».. صَوْتُكِ وَصَلَ إِلَى الْمَطْبَخِ.. كُنْتِ تَتَحَدَّثِيْنَ إِلى نَفْسِكِ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ.. كَأَنَّكِ تُلْقِيْنَ خِطَاباً أَمَامَ جُمْهُورٍ كَبِيْرٍ».

أَضَافَتِ الأُمُّ:

«ثُمَّ، فَاطِمَةَ مَشْغُولَةٌ بِغَسْلِ الطَّنَاجِرِ.. هَيَّا لا تَكُوْنِي كَسُوْلَةً..».

اتَّجَهَتْ شَهْدُ نَحْوَ الأَطْبَاقِ لِتَنْقُلَها إِلى الطَّاوِلَةِ..

قَالَتِ الأُمُّ:

«انْقُلِي الأَطْبَاقَ بِهُدُوءٍ.. احْمِلِي أَقَلَّ مِمّا تَسْتَطِيْعِيْنَ حِمْلَهُ..».

شَهْدُ تُرِيْدُ إنْهَاءَ الْمُهِمَّةِ بِأَسْرَعِ وَقْتٍ مُمْكِنٍ.. هِيَ لا تُطِيْقُ أَعْمَالَ الْمَنْزِلِ.

حَمَلَتِ الأَطْبَاقُ دُفْعَةٌ واحِدَةٌ.. حَاوَلَتْ نَقْلَهَا إِلى الْطَّاوِلَةِ..

خَطْوَةٌ.. خُطْوَتَانِ.. تَعَثَّرَتْ.. وَقَعَتْ.. سَقَطَتِ الأَطْبَاقُ عَلَى الأَرْضِ.. أَصْبَحَتْ قِطَعاً مُتَنَاثِرَةً..

هَرَعَتِ الأُمُّ وَالْخَادِمَةُ.. خَوْفاً مِنْ تَعَرُّضِ شَهْدٍ لِسُوءٍ..

قَامَتْ شَهْدُ بِسَلاَمٍ.. تَأَمَّلَتِ الْأُمُّ الْأَطْبَاقَ الْمُتَكَسِّرَةَ.. لَمْ تَتَكَلَّمْ.. لَمْ تُعَاقِبْ ابْنَتَهَا.

قَالَتْ لِفَاطِمَة:

«أَرْجُوكِ يا فَاطِمَة.. جْمَعِي الْأَجْزَاءَ الْمُتَنَاثِرَةَ.. أطْفِئِي الْنَّارَ تَحَتَ الطَّعَامِ.. سَأَذْهَبُ إِلى غُرْفَتِي لِأَرْتَاحَ..».

سَارَتِ الْأُمُّ بِهُدُوءٍ.. أَسْرَعَتْ فَاطِمَة تَجْمَعُ الْأَطْبَاقَ الْمُتَنَاثِرَةَ..

كَانَتْ شَهْدُ تُرَاقِبُ ما يَحْدُثُ... خَائِفَةٌ مِنْ غَضَبِ أُمِّهَا..

.........

..........

بَعْدَ قَلِيْلٍ، جَاءَ الْأَبُ فِي وَقْتِهِ الْمُعْتَادِ.. فَتَحَتِ الْأُمُّ الْبَابَ.. اسْتَقْبَلَتْهُ بِابْتِسَامَةٍ كَبِيْرَةٍ.. قَالَتْ: «ما رَأْيُكَ يا زَوْجِيَ الْعَزِيْزَ أَنْ أَدْعُوكَ الْيَوْمَ لِلْغَدَاءِ فِي الْمَطْعَمِ عَلَى حِسَابِي؟».

قَالَ ضَاحِكاً:

«أَكِيْدٌ أَنَّكِ حَرَقْتِ طَبْخَةَ الْيَوْمِ.. لاَ بَأْسَ.. هَيَّا بِنَا قَبْلَ أَنْ تُغَيِّري رَأْيَكِ»..

ذَهَبَتْ شَهْدُ بِرِفْقَةِ أَبَوَيْهَا، رَغْمَ أنَّها حَاوَلَتِ الْتَّهَرُّبَ مِنَ الدَّعْوَةِ. أُمُّهَا أَصَرَّتْ عَلَى ذَهَابِهَا مَعَهُمَا..

شَعَرَتْ شَهْدُ بِالْذَّنْبِ.. زَادَ حُزْنُهَا صَمْتُ أُمِّهَا.. فَهِيَ لَمْ تُفَاتِحْهَا بِالْأَمْرِ.. لَمْ تُحادِثْ أَبَاها بِالْمَوْضُوعِ..

قَضُوْا وَقْتاً مُمْتِعاً.. عَادُوا بَعدَ الغَدَاءِ فَرِحِيْنَ مُبْتَهِجِيْنَ..

فِي الْمَسَاءِ.. اجْتَمَعَتِ الْعَائِلَةُ الصَّغِيْرَةُ بَعَدْ صَلاَةِ الْعِشَاءِ كَالْعَادَةِ..

الأُمُّ لَمْ تَكُنْ كَعَادَتِها..

لاَحَظَ الْأَبُّ ذَلِكَ.. قَالْ: «ما بِكِ يا زَوْجَتِي العَزِيْزَة؟!».

قَالَتْ: «لاَ شَيءْ..».

قالْ: «أُلاَحِظُ حُزْناً فِي عَيْنَيْكِ؟!».

تَدَخَّلَتْ شَهْدُ قَائِلَةً:

«هَلْ تَسْمَحِيْنَ لِي بِالْحَدِيْثِ يا أُمِّي؟».

قالتْ: «لا ضَرُورَةَ لِذَلِكُ.. الْمَوْضُوْعُ انْتَهَى..».

أَصَرَّ الْأَبُ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا حَدَثْ..

أَخْبَرَتْهُ شَهْدُ..

الْأَطْبَاقُ لَمْ تَكُنْ عَادِيَّةً..

إنَّها هَدِيَّةٌ مِنَ الْجَدَّةِ يَوْمَ زَوَاجِ ابْنَتِهَا..

الجَدَّةُ مَاتَتْ قَبْلَ وِلاَدَةِ شَهْد بِشُهُورٍ قَلِيلَةٍ..

كَادَ الأَبُ يَنْفَجِرُ غَاضِباً..

نَظَرَ فِي عَيْنَيْ زَوْجَتِهِ.. رَأَى فِيها دَمْعَةً تَتَلأْلأْ..

اقْتَرَب مِنْ زَوْجَتِهِ. ضَمَّهَا إِلَى صَدْرِهِ. قَالْ:

«آسِفٌ جِدًّا.. أَعْلَمُ ما تَعْنِي لَكِ هَذِهِ الْأَطْبَاقُ!».

قَالَتْ: «الْخَطَأُ خَطَئِي.. ما كَانَ ضَرُورِياً أَنْ أَطْلُبَ مِنْ شَهْد الْقِيَامَ بِالْمُهِمَّةِ.. سَمِعْتُهَا تَقُولُ لِنَفْسِها إِنَّها أَصْبَحَتْ كَبِيْرَةً، أَرَدْتُ أَنْ أُشْعِرَهَا بِأَنَّهَا كَبِيْرَةٌ،، أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا..».

قَاطَعَتْهَا شَهْد: «لا يا أُمِّي.. أَنا الْمُخْطِئَةُ.. حَاوَلْتُ نَقْلَ الْأَطْبَاقِ دُفْعَةً واحِدَةً.. كَانَتْ أَثْقَلَ مِا تَوَقَّعْتُ».

تَوَرَّدَ وَجْهُ شَهْد خَجَلاً..

احْمَرَّتْ عَيْنا الْأُمِّ حُزْناً..

غَمَرَ الْأَبُ زَوْجَتَهُ وابْنَتَهُ.. وَقَالْ: «كَمْ أنا سَعِيْدٌ بِكُمَا.. تَبْحَثَانِ عَنِ الْأَعْذَارِ لِبَعْضِكُمَا بَعْضاً.. كَمْ أَنْتُمَا جَمِيْلَتَانِ لَطِيْفَتَانِ.. لَقَدْ كَبُرَتْ ابْنَتِي فِعْلاً.. أَيَّامٌ قَلِيْلَةٌ، وَتَدْخُلِيْنَ الْمُتَوَسِّطَة..».

سَكَتَ الْأَبُ قَلِيْلاً ثُمَّ قَالْ:

«بِمَا أَنّكِ كَبِرْتِ يَا شَهْد، سَأَذْهَبُ مَعَكِ غَداً لِشِرَاءِ مَجْمُوْعَةِ أَطْبَاقٍ مُشَابِهَةٍ لِلَّتِي انْكَسَرَتْ..».

إِلْتَفَتَ الْأَبُ إلى زَوْجَتِهِ... قَالَ بِعَطْفٍ:

«أَعْلَمُ أَنّ أَغْلَى الْأَطْبَاقِ ثَمَناً لا تَعْنِي لَكِ مِثْلَ هَذِهِ الأَطْبَاقُ الْمُتَكَسِّرَةُ..».

هُنَا.. خَطَرَتْ عَلَى قَلْبِ الْأَبِ وَعَقْلِهِ فِكْرَةٌ عَجِيْبَةٌ..

قَامَ فَوْراً وَنَادى الْخَادِمَة: «فَاطِمَة.. فَاطِمَة.. أَحْضِرِي الْأَطْبَاقَ الْمُتَكَسِّرَةَ..».

مَدَّ الْأَبُ عَلَى الْأَرْضِ بِسَاطاً كَبِيْراً..

أَخْرَجَ الْقِطَعَ الْمَكْسُورَةَ مِنَ الْكِيْسِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْخَادِمَةُ..

بَدَأَ يَجْمَعُهَا... يُلْصِقُ مَا يُمْكِنُ لَصْقُهُ بِمَادَّةٍ شَدِيْدَةِ الْإِلْتِصَاقِ..

أَمْضَى وَقْتاً طَويلاً تُسَاعِدُهُ شَهْدُ فِي عَمَلِهِ..

تَمَكَّنَا بَعْدَ جُهْدٍ كَبِيْرٍ مِنْ إعَادَةِ أَرْبَعَةِ أَطْبَاقٍ إِلى حَالَتِهَا السَّابِقَة..

الْأَطْبَاقُ البَاقِيَةُ لَمْ تَنْفَعَ مَعَها الْمُحَاوَلاَتِ.. كَانَتْ قِطَعاً صَغِيْرةً جِدًّا..

شَعَرَتْ شَهْدُ أَنْ الْإِنْجَازَ الحَقِيْقِي يَكُوْنُ فِي إتْقَانِ الْعَمَلِ مَهْمَا كانَ بَسِيْطاً، وإِنْ تَطَلَّبَ جُهْداً كَبِيْراً وَوَقْتاً إِضَافِيًّا..

أَدْرَكَتْ أَنَّها لَوْ تُسْرِعْ فِي عَمَلِهَا لَمَا سَقَطَتِ الْأَطْبَاقُ مِنْهَا.. وَلَمَا حَدَثَتْ كُلُّ هذِهِ الْمُشْكِلاَتِ..

فَرِحَ الأَبُ بِإِنْجَازِهِ..

فَرِحَتْ شَهْدُ بِمَا تَعَلّمَتْهُ..

فَرِحَتْ الْأُمُّ بِمَشَاعِرِ الْحُبِّ والْإِخْلاَصِ.

كَانَتْ سَعِيْدَةً سَعِيْدَةً لِأَنَّ ابْنَتَهَا كَبُرَتْ فِعْلاً..

تَحْتَرِمُ مَشَاعِرَ الآخَرِيْنَ.. تَعْمَلُ لِإِسْعَادِهِمْ..

دَخَلَتْ شَهْدُ الْمَدْرَسَةَ.. اشْتَرَكَتْ فِي جَمَاعَةِ الْخِدْمَةِ الاجْتِمَاعِيَّة.. وَجَمَاعَةِ البِيْئَة..

شِعَارُها: «إِنْجَازُ الْشَّيْءِ بِإِتْقَانٍ مَهْمَا تَطَلَّبَ مِنْ وَقْتٍ أَفْضَلُ مِنْ إِنْجَازِهِ بِسُرْعَةٍ دُوْنَ إِتْقَانٍ»..



العَرُوسَةُ نُوسَة

«واحِدْ... اثْنَانْ... ثَلاَثَةْ..

هُووو... بَ... للاّ

وَاحِدْ... اثْنَانْ... ثَلاَثَةْ..

هُووو... بَ... للاّ..».

قَالَتْ سَوْسَنْ:

«أَنْتِ عَرُوسَةٌ ثَقِيْلَةُ الدَّمِ.. مَلَلْتُ مِنْكِ.. شَعْرُكِ لَمْ يَعُدْ يُعْجِبُنِي.. لَمْ يَعُدْ يَصْلُحُ لِلْتَّسْرِيْحِ.. جُزْءٌ كَبِيْرٌ مِنْهُ سَقَطْ.. ثِيَابُكِ قَدِيْمَةٌ مُقَطَّعَةٌ.. بِصَرَاحَة.. أَنْتِ بَشِعَةٌ.. بَشِعَةٌ.. بَشِعَةٌ..».

عَادَتْ سَوْسَنْ تَرْمِي لُعْبَتَها إِلى الأَعْلَى ثُمَّ تَلْتَقِطُهَا..

«وَاحِدْ.. اثْنَانْ.. ثَلاَثَةْ..

هُووو... بَ... للاّ..».

خُصُلاَتِ شَعْرِ نُوْسَة الأَشْقَرَ تَتَأَرْجَحُ فِي الهَوَاءِ.. سَاقَاهَا الطَّوِيْلَتَانِ تَتَحَرَّكَانِ بِلاَ قُيُودْ..

«أووو..فْ..زَهِقْتُ مِنْكِ.. لَمْ أَعُدْ أُحِبُّكِ.. لاَ أُرِيْدُكِ.. أَصْبَحْتِ ثَقِيْلَةَ الدَّمِ..».

نَظَرَتْ سَوْسَن إِلى العَرُوسَةِ نُوسَة بِغَضَبٍ:

«نَعَمْ.. لاَ أُحِبُّكِ.. أُرِيْدُ أَنْ تَكُونَ عِنْدِي أَلْعَابٌ جَدِيْدَةٌ كَثِيْرَةٌ مِثْلَ صَدِيْقَتِي سَلْوى.. لاَ أُرِيْدُ لُعْبَةً قَدِيْمَةً بَشِعَةً.. مِثْلَكِ».

عَادَتْ سَوْسَن تَرْمِي عَرُوسَتَها فِي الهَوَاءِ ثُمَّ تَلْتَقِطَهَا..

«واحِدْ.. اثْنَانْ.. ثَلاَثَةْ..

هُووو... بَ... للاّ..».

فَجْأَةً..

أَمْسَكَتْ سَوْسَنَ العَرُوسَةَ نُوسَةَ بِشَعْرِهَا.. لَوَّحَتْ بِهَا.. قَذَفَتْهَا بِكُلِّ قُوَّةٍ.. اصْطَدَمَتْ بِالْحَائِطِ..

سَقَطَتْ عَلَى الأَرْضِ تَتَلَوَّى مِنَ الأَلَمِ..

نَظَرَتْ سَوْسَنُ إلى لُعْبَتِهَا الْمِسْكِيْنَةِ.. قَلَّبَتْ شَفَتَيْهَا بِسُخْرِيَّةٍ.. ثُمَّ خَرَجَتْ مِنَ الْغُرْفَةِ.

وَضَعَتْ العَرُوسَةُ يَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا..

«آخ.. آخ.. كَمْ يُؤْلِمُنِي رَأْسِي.. يَا لِهَذِهِ الفَتَاةُ الْمُتَوَحِّشَةُ الغَرِيْبَةُ الأَطْوَارِ..».

قَالَتْ نُوسَة:

«عَجِيْبٌ أَمْرُ سَوْسَنْ.. لَقَدْ نَسِيَت كُلَّ أَيَّامَنَا الْحُلْوَة، إِنَّهَا نَاكِرَةٌ لِلْجَمِيْلِ لاَ تَعْرِفُ الوَفَاءَ..

ضَحَّيْتُ بِرَاحَتِي وَوَقْتِي وَحَيَاتِي مِنْ أَجْلِ سَعَادَتِهَا ثُمَّ أَصْبَحَتْ تَكْرَهُنِي.. لا تَكْتَفِي بِذَلِكَ فَقَطْ، بَلْ تَحْسُدُ صَدِيْقَتَها عَلَى أَلْعَابِهَا».

«تَقُوْلُ إِنِّي بَشِعَةٌ، يا لِلْغَرَابَةِ!! كانَتْ تَلْعَبُ مَعِي... تَقْضِي مُعْظَمَ الْوَقْتِ بِالْتَّكَلُّمِ إلَيَّ، الآنَ بَعْدَمَا أَصْبَحْتُ قَدِيْمَةً لا تُرِيْدُنِي.. إنَّها نَاكِرَةٌ لِلْجَمِيْلِ حَقًّا.. تَظُنُّ أَنَّها تَسْتَطِيْعُ التَّخَلِّي عَنِّي بِهَذِهِ البَسَاطَةِ، يَجِبُ أَنْ أَضَعَ حَدًّا لِتَصَرُّفَاتِهَا الغَرِيْبَةِ.. سَأُعَلِّمُهَا دَرْسَاً لَنْ تَنْسَاهُ فِي حَيَاتِهَا».

تَسَلَّقَتْ نُوسَةُ دُولاَبَ مَلاَبِسِ سَوْسَنْ... وَصَلَتْ إلى ظَهْرِ الدُّولاَبِ.. أَخْفَتْ نَفْسَهَا بَيْنَ بَعْضِ الأَمْتِعَةِ الْمَوْضُوَعَةِ فَوْقَهُ، فِي مَكَانٍ يُمْكِنُهَا مِنْهُ مُرَاقَبَةُ سَوْسَن دُوْنَ أَنْ تَرَاها.

بَعْدَ قَلِيْلٍ.. عَادَتْ سَوْسَنُ إلى الْغُرْفَةِ.. نَظَرَتْ حَيْثُ تَرَكَتِ الْعَرُوسَةَ؛ لَمْ تَجِدْهَا.. بَحَثَتْ عَنْهَا فَوْقَ السَّرِيْرِ.. تَحْتَ السَّرِيْرِ.. بَيْنَ مَلاَبِسِهَا.. تَحْتَ الْطَّاوِلَةِ.. لَمْ تَجِدْهَا..

لَمَحَتْ وَرَقَةً صَغِيْرَةً مَوْضُوْعَةً عَلَى الْطَّاوِلَةِ.. حَمَلَتِ الْوَرَقَةَ.. قَرَأَتْ:

«عَزِيْزَتِي سَوْسَنْ..

أَزْعَجَتْنِي كَثِيْراً تَصَرُّفَاتُكِ.. لَمْ أَعُدْ أَحْتَمِلْ.. لَنْ أَسْمَحَ لَكِ بَعْدَ الْيَوْمِ أَنْ تَشْتُمِيْنِي.. إنِّي نَادِمَةٌ عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي أَضَعْتُهُ مَعَكِ مِنْ أَجْلِ إِسْعَادِكِ.. أَنْتِ لاَ تَسْتَحِقِّيْنَ الفَرَحَ الَّذِي أَعْطَيْتُكِ إيَّاهُ.. قَرَّرْتُ الْبَحْثَ عَنْ فَتَاةٍ صَغِيْرَةٍ لَطِيْفَةٍ تُحِبُّنِي وَأُحِبُّهَا.. تَحْتَرِمُنِي وَأَحْتَرِمُهَا..

الآنْ.. أَقُولُ لَكِ وَدَاعاً.. أَتَمَنّى أَنْ تَحْصَلِي عَلَى عَرَائِسَ كَثِيرَةٍ أَجْمَلُ مِنِّي.. مِثْلَ صَدِيْقَتُكِ سَلْوَى.. الَّتِي تَغَارِيْنَ مِنْهَا.. وَتَحْسُدِيْنَها..

الْإِمْضَاءُ: العَرُوسَةُ».

جَلَسَتْ سَوْسَنُ أَمَامَ مِرْآتِهَا الصَّغِيْرَةِ:

«لاَ بَأْسْ.. لا بَأْسْ.. لَقَدْ كُنْتُ أُرِيْدُ التَّخَلُّصَ مِنْهَا.. فَعَلَتْ خَيْراً عِنْدَمَا رَحَلَتْ مِنْ تِلْقَاءه نَفْسِهَا».

نَظَرَتْ سَوْسَنُ مِنَ الْنَّافِذَةِ.. عَادَتْ إِلى الْمِرآةِ.. تَأَمَّلَتْ سَقْفَ الْغُرْفَةِ.

«همم... مَاذ أَفْعَلُ الآنَ؟».

«لِأَذْهَبَ إِلى صَدِيْقَتِي سَلْوَى.. أُحِبُّ اللَّعِبَ بِأَلْعَابِهَا.. قَدْ تُعْطِيْنِي عَرُوسَةً جَدِيدةً».

نُوسَة تُرَاقِبُ بِاهْتِمَامٍ..

«سَأَلْبَسُ أَحْلَى ثِيَابِي.. وَأُسَرِّحُ شَعْرِي».

نَظَرَتْ سَوْسَنُ مُجَدَّداً فِي المِرآةِ..

حَزِيْنَةً كانَتْ..

لا تُرِيْدُ الإعْتِرَافَ بِذَلِكَ..

تُحَاوِلُ الكَذِبَ عَلَى نَفْسِهَا..

صَارَتْ تُغَنِّي..

تَذَكَّرَتْ أَنَّ هذِهِ الأُغْنِيَةَ كَانَتْ تُغَنِّيْهَا لِلْعَرُوسَةِ نُوسَة..

وَقَفَتْ تُمَشِّطُ شَعْرَها..

تَذَكَّرَتْ شَعْرَ نُوسَة..

هُنَا كانَتْ تَجْلِسُ نُوسَة..

هُنَالِكَ تَنَامُ..و..و..

تَسَاءَلَتْ: «هَلْ كَانَ اخْتِفَاءُ نُوسَة ضَرُورِيًّا لِأَعْرِفَ مَكَانَتَها عِنْدِي؟».

«هَلْ كُنْتُ ظَالِمَةً مَعَهَا إِلَى هَذَا الحَدِّ؟».

هزّتْ سَوْسَنْ كَتِفَيْهَا دُوْنَ مُبَالاَةٍ، تُحَاوِلُ طَرْدَ مَشَاعِرِ النَّدَمِ.. قَامَتْ تُحَضِّرُ نَفْسَهَا لِلْذَهَابِ إلى بَيْتِ سَلْوَى..

نُوسَة تُرَاقِبُ مَا يَحْدُثْ.

نَظَرَتْ سَوْسَن مُجَدّداً في المِرآةِ..

«تَعَوَّدَتْ عَلَى وُجُودِ نُوسَة مَعِي بِاسْتِمْرَارْ.. تُرَافِقُنِي إِلى أَيِّ مَكَانٍ أَذْهَبُ إِلَيْهِ.. لَكِنْ.. لَكِنْ.. أَصْبَحَتْ مُمِلَّةً.. صَدِيْقَتِي سَلْوى لَدَيْهَا العَدِيْدُ مِنَ الْأَلْعَابِ وَالْعَرَائِسِ.. وَأَنَا أَمْلِكُ عَرُوسَةً وَاحِدَةً فَقَطْ».

نُوسَة تَسْمَعُ كُلَّ الكَلاَمِ.. تَنْصُتُ بِاهْتِمَامْ..

ارْتَدَتْ سَوْسَن ثِيَابَهَا.. عَادَتْ تَنْظُرُ فِي المِرآةِ:

«لَكِنِّي لَسْتُ غَنِيَّةً مِثْلَ سَلْوَى»..

«أَنَا أَعْلَمُ أَنّ الْحَسَدَ حَرَامٌ.. فَلِمَاذَا أَحْسُدُهَا وأَغَارُ مِنْهَا.. لِمَاذَا لَمْ أَكُنْ رَاضِيَةً بِلُعْبَتِي «نُوسَة»؟!

كَانَتْ رَائِعَةً.. رائِعَةً»..

سَقَطَتْ سَوْسَنُ جَالِسَةً فِي مِقْعَدِهَا الصَّغِيْرِ..

نُوسَة تُرَاقِبُ بِاهْتِمَامْ..

قَالَتْ سَوْسَن بِحَسْرَةٍ:

«آهٍ يا نُوسَة.. أَيْنَ أَنْتِ؟ لِمَاذَا تَخَلَّيْتِ عَنِي؟!».

كَمْ أَنَا مُخْطِئَةٌ بِحَقِّكِ..

مَنْ سَيَلْعَبُ مَعِي الآنْ؟

يَتَحَمَّلُ إزْعَاجِي الْمُسْتَمِرّ؟

يُنْصِتَ إلى حِكَايَاتِي وَيُشَاهِدُ رُسُومَاتِي؟

يَحْرُسُنِي عِنْدَمَا أَنَامْ؟

لِمَنْ سَأُغَنِّي وَأَرْقُصْ؟

آهٍ.. يا نُوسَة.. لَوْ أَعْرِفُ أَيْنَ أَنْتِ لَرَكَضْتُ إلَيْكِ مُعْتَذِرَةً..

آهٍ.. يا نُوسَة.. كَمْ أَنَا نَاكِرَةً لِلْجَمِيْلِ.. ولِلْصُّحْبَةِ الرَّائِعَةِ..

لَوْ وَافَقَتْ سَلْوى عَلَى إِهْدَائِي عَرُوسَةً مِنْ عَرَائِسِهَا لَنْ أَشْعُرَ أَنَّها لِي.. مُلْكِي وَحْدِي..

صَدِيْقَتِي.. لُعْبَتِي.. لَنْ تَأْخُذَ مَكَانَ نُوْسَة أَبَداً.. وإنْ كَانَتْ أَجْمَلُ مِنْهَا وأَكْبَرُ.. وأَجْدَدْ».

نُوسَة تَسْمَع وتُشَاهِدُ كُلَّ شَيْء.

حَدَّقَتْ سَوْسَنُ في المِرآةِ..

مَسَحَتْ دَمْعَةً سَقَطَتْ عَلَى خَدِّهَا..

قَامَتْ.. ارْتَدَتْ ثِيَابَ الْمَنْزِلِ؛ قَرَّرَتْ عَدَمَ الذَّهَابِ إلى صَدِيْقَتِهَا سَلْوى.

خَرَجَتْ مِنَ الْغُرْفَةِ لِتَغْسِلَ وَجْهَهَا..

بِسُرْعَةٍ خَاطِفَةٍ.. قَفَزَتْ نُوسَة مِنْ ظَهْرِ الدُّولاَبِ.. أَلْقَتْ بِنَفْسِها فَوْقَ السَّرِيْرِ..

عَادَتْ سَوْسَن بَعْدَ لَحَظَاتٍ قَلِيْلَةٍ.. الحُزْنُ فِي عَيْنَيْهَا.. اقْتَرَبَتْ مِنَ النَّافِذَةِ.. لَمْ تَبْحَثْ عَنْ نُوسَة.. ظَنَّتْ أَنّها رَحَلَتْ وَلَنْ تَعُودْ..

عَادَتْ تَنْظُرُ فِي المِرآةِ.. لَمَحَتْ شَيْئاً عَلَى السَّرِيْرِ.. الْتَفَتَتْ بِسُرْعَةْ..

قَفَزَتْ مِثْلَ غَزَالَةٍ صَغِيْرَةٍ.. أَمْسَكَتْ عَرُوسَتَهَا بِيَدَيْهَا الاثْنَتَيْنِ..

شَدَّتْها إلى صَدْرِهَا بِشَوْقٍ شَدِيْد..

حَضَنَتْهَا بِقُوّةٍ.. قَبّلَتْهَا مَائَةَ قُبْلَةْ..

قَالَتْ بِلَهْفَةٍ: «أَيْنَ كُنْتِ.. أَيْنَ كُنْتِ؟!.

أَهَكَذَا هِنْتُ عَلَيْكِ؟!

هَلْ صَدَّقْتِ أَنَّنِي مَلَلْتُ مِنْكِ وَأَصْبَحْتُ أَكْرَهُكِ؟!

كَلاَمٌ طَائِشٌ.. قُلْتُهُ عَنْ جَهْلٍ..

لَنْ أُبَدِّلَكِ أَبَداً.. بِكُلِّ عَرَائِسِ الدُّنْيَا»..

ثم عادت وضمتها إلى صَدْرِها بِحَنَانٍ..

«وَاحِدْ.. اثْنَانْ.. ثَلاَثَةْ..

هُوبَ.. للاّ..

هُوبَ.. للاّ..».

«أَنْتِ بَشِعَةٌ.. بَشِعَةٌ.. لَكِنَّنِي أُحِبُّكِ.. أُحِبُّكِ.. أُحِبُّكِ.. يا أَغْلى عَرُوسَةً بالوجُودِ».



مُغَامَرَاتُ لُوْلْوَة

ــــ 1 ــــ

دَخَلَتْ لُوْلْوَة حَدِيقَةً قَرِيْبَةً مِنْ مَنْزِلِهَا

شَاهَدَتْ مَجْمُوَعةَ أَوْلاَدٍ يَدُوسُونَ الأزْهَارَ

اقْتَرَبَتْ مِنْهُمْ وَطَلَبَتْ أنْ يَتَوَقَّفُوا عَنْ ذَلِكْ

لَمْ يَعْبَأ الأَوْلاَدُ بِها وظَلّوا يَلْعَبُونْ

غَضِبَتْ لُولْوة وَأَسْرَعَتْ إلى حَارِسِ الحَدِيقَةِ واشْتَكَتْ لَهُ

رَكَضَ الحَارِسُ نَحْوَ الأَوْلاَدِ وَطَرَدَهُمْ

عَادَت لُولْوة إلى المَنْزِلِ وَأَخْبَرَتْ أمَّهَا وأَباها

فَرِحَ أَبُوهَا بِعَمَلِهَا وَقَالْ: تَسْتَحقِّينَ قُبْلَةً كَبِيْرَةً

ضَحِكَتِ الأمُّ وَقَالَتْ: أَلاَ تَسْتَحِقُّ مَعِ القُبْلَةِ هَدِيَّةً أَيْضًا؟؟

ــــ 2 ــــ

ــــ عَادَتْ أُمُّ لُولْوة مِنْ عَمَلِهَا مُتْعَبَةً

ــــ كَانَ الأَبُ والبِنْتُ يُحَضِّرَانِ لَهَا مُفَاجَأَةً

ــــ لُولْوة زَيَّنَتِ المَنْزِلَ بِأَحْلَى زِيْنَةٍ

ــــ الأَبُ أَحْضَرَ أَجْمَلَ الهَدَايَا

ــــ (دَخَلَتِ الأُمُّ المَنْزِلَ) ما هَذِهِ المُفَاجَأَةُ السَّعِيْدَةُ؟

ــــ لُولْوة: هَذَا أَقَلُّ شَيءٍ يا أمِّي الغَالِية

ــــ الأَبْ: احْتَرْنَا مَاذا نُقَدِّمُ لَكِ

ــــ أَخْرَجَتِ الأُمُّ هَدَايا مِنْ كِيْسٍ مَعَهَا:

ــــ وَأَنَا أَحْضَرْتُ لَكُمَا أَجْمَلَ الهَدَايا

ــــ (تَغْمُرُ الأُمُّ لُولْوة وَيَقولُ الأَبُ:)

ــــ مَا أَجْمَلَ أُسْرَتَنا السَّعِيْدَةَ

ــــ 3 ــــ

لُولْوة: أُمّي هَلْ الصَّيْفُ أَجْمَلُ أَمِ الشِّتَاءُ؟

الأُمُّ: لِكُلِّ فَصْلٍ جَمَالُهُ

لُولْوة: أَنا أَحِبُّ الصَّيْفَ

الأُمُّ ضَاحِكَةً: وَلِمَاذا؟

لُولْوة: بِصَرَاحَةٍ لأَنَّنَا نَكُونُ في إجَازَةٍ

الأُمُّ ضَاحِكَةً: كُنْتُ أَعْلَمُ ذَلِكَ..

لُولْوة: لاَ تَظُنِّي أَنَّنِي أَكْرَهُ المَدْرَسَةَ

الأُمُّ: وَمَنْ قَالَ هَذا؟

لُولْوة: وَلَكِنَّ الإجَازَةَ مُرِيْحَةٌ

الأُمُّ: وأنا أَيْضاً أُحِبُّ الإِجَازَةَ

الأُمُّ: لَكِنَّنا إذا لَمْ نَعْمَلْ كَيْفَ نَحْصُلُ عَلَى المَالِ؟

لُولْوة: وَأَنا إِذا لَمْ أَدْرُسْ كَيْفَ أَتَعَلَّمُ؟؟

الأُمُّ: أَرَأَيْتِ كَيْفَ لِكُلِّ فَصْلٍ فَائِدَتُهُ؟

لُولْوة: وَمَعَ ذَلِكَ فَالإِجَازَةُ أَجْمَلَ...

ــــ 4 ــــ

ــــ أَحْضَرَتْ لُولْوة صُنْدُوقاً صَغِيراً

ــــ أَخْرَجَتْ مِنْهُ مُدَّخَرَاتِ الإِجَازَةِ الصَّيْفِيَّةِ

ــــ ذَهَبَتْ إلى السُّوقِ وَاشْتَرَتْ حَقِيْبَةً جَدِيْدَةً

ــــ وَفِي البَيْتِ قَالَتْ لِأُمِّها:

سَأُعْطِي الحَقِيْبَةَ لِصَدِيْقَتِي نُور

الأُمُّ: هَدِيَّةٌ جَمِيْلَةٌ

أَنا عِنْدِي حَقِيْبَةٌ أُخْرَى وَهِيَ لاَ

الأُمُّ: وأنا سَأَمْلأ الحَقِيْبَةَ بِالكَرّاسَاتِ والأَقْلاَمِ

ــــ الأَبُ: أَفْكَارُكُمَا رَائِعَةٌ

لُولْوة: إِنْ لَمْ أُسَاعِدْ صَدِيْقَتِي مَنْ يُسَاعِدُها؟

الأُمُّ: وَنَحْنُ قَدْ نَحْتَاجُ مُسَاعَدَتَها يَوماً ما..

لُولْوة: الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ..

ــــ 5 ــــ

(مشاهد في الفصل الدراسي)

حَفَظَتْ لُولْوة سُوَراً كثيرةً في الشَّهْرِ الكَرِيْمِ

المُدَرِّسَة: بَارَكَ اللَّهُ بِكِ يا لُولْوة

لُولْوة: رَمَضَانُ يُعْطِينَا القُوَّةَ

طِفْلَةٌ: لَقَدْ تَعَلَّمْنَا أَشْيَاءَ كَثِيْرَةً

المُدَرِّسَة: عَلَيْنَا أَنْ نُحَافِظَ عَلَى ما تَعَلّمْنَاهُ

الطَّالِبَاتُ: نَعَمْ.. نَعَمْ

لُولْوة: سَأُوَاصِلُ حِفْظَ القُرْآنِ كُلَّ يَوْمٍ

طَالِبَةٌ: سَأَتْلُوهُ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ

المُدَرِّسَةٌ: بَعْدَ أَيَّامٍ يَأْتِي العِيْدُ

طَالِبَةٌ: كُلُّ عَامٍ وَأَنْتِ بِخَيْرٍ

المُدَرِّسَة: لَيْسَ العِيْدُ لِمَنْ لَبَسَ الجَدِيْدَ بَلْ لِمَنْ طَاعَاتُهُ تَزِيْدُ

الطَّالِبَاتُ: اللَّهُمّ زِدْ مِنْ طَاعَاتِنَا.. آمينْ

ــــ 6 ــــ

ــــ عَادَتْ لُولْوة مِنْ مَدْرَسَتِهَا مُتْعَبَةٌ

ــــ أُمِّي لَقَدْ تَعِبْتُ.. مَتَى تَنْتَهِي المَدْرَسَةُ

(الأُمُّ ضَاحِكَةٌ:) لَقَدْ مَلَلْتِ مِنْ أَوَّلِ شَهْرٍ..

ــــ لَمْ أَقْصِدُ ذَلِكْ. أُرِيْدُ أَنْ أَكْبُرَ بِسُرْعَةٍ

وَكَيْفَ تَكْبُرِيْنَ بِسُرْعَةٍ؟

ــــ أَنْ أَدْرُسَ دُونَ انْقِطَاعٍ وَأُنْهِي المَدْرَسَةَ بِأَسْرَعِ وَقْتٍ

(تَضْحَكُ الأُمُّ) المُهِمّ أَنْ تَتَعَلّمِي لا أَنْ تُنْهِي المَدْرَسَةَ..

ــــ أَتَمَنَّى أَنْ أَكْبُرَ وأَتَعَلَّمَ وأَنْ أَنْتَهِي مِنَ الدِّرَاسَةِ

لَكِنَّ العِلْمَ لا يَنْتَهِي يَا لُولْوة

ــــ سَأَكْتَفِي بِكُتُبِ المَدْرَسَةِ

عِنْدَها لَنْ تَتَعَلّمِي إلاّ أَشْيَاءُ قَلِيلة

الحَيَاةُ يا ابْنَتِي مَدْرَسَةٌ كَبِيْرَةٌ وكُلَّ يَوْم نَتَعَلَّمُ

كَيْف؟

ــــ كُلُّ يَوْمٍ فِيْهِ تَجْرِبَةٌ وَالعِلْمُ يَتَطَوَّرُ كُلَّ يَوْمٍ

ــــ نَعَمْ صَحِيْحٌ.. وَمَعَ ذَلِكَ المَدْرَسَةُ مُتْعَبَةٌ...

ــــ 7 ــــ

دَخَلَتْ لُولْوة حَدِيْقَةً قَرِيْبَةً مِنْ مَنْزِلِهَا

شَاهَدَتْ مَجْمُوعَةُ أَوْلاَدٍ يَدُوسُونَ الأَزْهَارَ

اقْتَرَبَتْ مِنْهُمْ وَطَلَبَتْ أَنْ يَتَوَقَفُوا عَنْ ذَلِكَ

لَمْ يَعْبَأُ الأَوْلاَدُ بِها وظَلّوا يَلْعَبونْ

غَضِبَتْ لُولْوة وَأَسْرَعَتْ إلى حَارِسِ الحَدِيْقَةِ واشْتَكَتْ لَهُ

رَكَضَ الحَارِسُ نَحُوَ الأَوْلاَدِ وَطَرَدَهُم

عَادَتْ لُولْوة إلى المَنْزِلَ وأَخْبَرَتْ أُمُّها وَأَبَاها

فَرِحَ أَبُوها بِعَمَلِهَا وَقَال: تَسْتَحِقِّينَ قُبْلَةً كَبِيْرَةً

ضَحِكَتِ الأُمُّ وَقَالَتْ: أَلاَ تَسْتَحِقُّ مَعِ القُبْلَةِ هَدِيَّةً أيضاً؟؟

هَلْ أَخْطَأَتْ سَمَاحْ؟



«كَفَى.. تَوَقّفْنَ عَنْ إِثَارَةِ الضَّجِيْجِ..».

«أَوّلُ يَوْمٍ فِي الْمَدْرَسَةِ.. ولا تَحْتَرِمْنَ الْمُعَلِّمَةَ..».

«لا أَسْتَطِيْعُ التَّحَمُّلَ..».

تَضْرِبُ الْمُعَلِّمَةُ بِيَدِها على الطَّاوِلَةِ..

د ج ج ج... د ج ج ج..

الصَّفُّ يَهْدأُ تَمَاماً..

طِفْلَةٌ تَجْلِسُ جَنْبَ طَاوِلَةِ الْمُعَلِّمَةِ..

تَضَعُ يَدَيْهَا على أُذُنَيْها.. تَصْرُخُ:

«آه.. صَوْتُ الضَّرْبَةِ أَوْجَعَ أُذُنَيَّ..».

الْمُعَلِّمَةُ بِغَضَبٍ:

«أَنْتِ قَلِيْلَةُ الأَدَبِ.. قُومِي مِنْ مَكَانَكِ.. قِفِي وَوَجْهُكِ إلى الحَائِطِ.. قَصَاصاً لَكِ على ما فَعَلْتِ..».

«لكنِّي لَمْ أَفْعَلْ شَيْئاً!!».

«كَلاَمُكِ غَيْرُ مُهَذَّبٍ.. ألاَ تَعْلَمِيْنَ أَنَّ احْتِرَامَ الْمُعَلِّمَة واجِبٌ؟».

«لم أُخْطِىءْ حتى أُعَاقَبْ..».

«لا تَرُدِّي عَلَيَّ.. لَنْ أُسَامِحَكِ.. قِفِي أمَامَ الحَائِطِ.. لا أُرِيْدُ سَمَاعَ صَوْتكِ..».

سماحُ تَبْكي.. تَقِفُ كَمَا أَمَرَتْها المُعَلِّمةُ..

الْمُعَلِّمَةُ تَبْدَأُ الدَّرْسَ الأَوّلَ.. الفَصْلُ صَامِتٌ تَمَاماً.. سماح.. حَزِيْنَةٌ.. حَزِيْنَةٌ..

طِفْلَةٌ اسْمُها سَارَة، فَكَّرَتْ أنَّ سَمَاحَ مَظْلُومَةٌ، هي لَمْ تُخْطِىءْ.. الصَّفُّ كُلُّهُ كانَ يُشَاغِبُ.. سارة كانَتْ حَزِيْنَةً.. حَاوَلَتْ أنْ تَشْرَحَ لِلْمُدَرِّسَةِ، الْمُدَرِّسَةُ لَمْ تَسْمَحْ لها بالكَلاَمِ..

يُقْرَعُ الجَرَسُ مُعْلِناً انْتِهَاءَ الحِصَّةِ وبَدْءَ الإِسْتِرَاحَةِ..

التِّلْمِيْذَاتُ يُسْرِعْنَ بِالْخُرُوجِ إلى الْمَلْعَبِ..

سماحُ تَبْقَى في الفَصْلِ.. قُرْبَ الحَائِطِ.. حَزِيْنَةً.. حزينةً..

إقْتَرَبَتْ سارة مِنْ سماح.. اعْتَذَرَتْ مِنْها.. قالَتْ: «لِنَذْهَبَ إلى الْمَلْعَبِ».. لَمْ تَتَكَلَّمْ سماح.. ظَلَّتْ في مَكَانِها.. خَرَجَتْ سارة تلْحَقُ بِرَفِيْقَاتِها.

لاَحَظَتِ الْنَّاظِرَةُ وُجُوْدَ سماحَ دَاخِلَ الفَصْلِ.. لِوَحْدِهَا.. لا تُشَارِكُ رَفِيْقَاتِها اللَّعِبَ والمَرَحَ..

النَّاظِرَةُ دَخَلَتْ بِهُدُوءٍ: «ما بِكِ يا حبيبتي؟.. لماذا أَنْتِ هُنَا وَحْدَكِ؟! هَلْ اشْتَقْتِ لِأُمِّكِ وأبيكِ... تُرِيْدِيْنَ العَوْدَةَ إلى المَنْزِلِ؟!».

قالَتْ بِمَرَحٍ: «هيّا.. هيّا.. أُخْرُجِي إلى اُلْمَلْعَبِ.. الْعَبِي مَعْ صَدِيْقَاتَكِ.. سَتَعُوْدِيْنَ إلى البَيْتِ بَعْدَ سَاعَاتٍ قَلِيْلَةٍ..».

لَمْ تَتَكَلَّمْ سماح.. دُمُوْعُها سَالتْ على خَدَّيْها..

النَّاظِرَةُ: «ما الذي يُزْعِجُكِ؟! أَخْبِرِيْنِي.. أنا مِثْلُ أُمُّكِ..».

فَجْأَةً عَادَتْ سارة لِتَطْمَئِنَّ على سماح..

«أما زِلْتِ هُنا يا سماح!..».

تَلتَفِتُ الطِّفْلَةُ لِلْنَّاظِرِةِ.. تَقُولُ:

«سماحُ حَزِيْنَةٌ لِأنَّ الْمُعَلِّمَةَ اتَّهَمَتْهَا بِقِلَّةِ الأَدبِ.. وعَاقَبَتْهَا..».

قَالَتِ النَّاظِرَةُ: «أَخْبِرِيْنِي بِمَا حَدَثَ.. سماح لا تُرِيْدُ قَوْلَ سَبَبَ حُزْنِها..».

عَرَفَتِ النَّاظِرَةُ كُلَّ الحِكَايَةَ..

شَكَرَتْ سارة لِصِدْقِها وقَوْلِها الحَقَّ، ولِأَنَّها لَمْ تَتْرَكْ سماح وَوَقَفَتْ إلى جَانِبِها... ولَمْ تَتَهَرَّبْ مِنْ خَطَئِها وتَنْسِبَهُ إلى غَيْرِها..

احْتَضَنَتِ النَّاظِرَةُ سماح وسارة.. قالتْ:

«لا بأسَ يا سماح.. يبدو أنَّ الصِّياحَ أَزْعَجَ الْمُعَلِّمَةَ.. هي لَمْ تَقْصِدْ أَنْ تُؤْذِيْكِ.. لَكِنَّها فَهِمَتْكِ خَطَأً..».

«وأنْتِ يا سارة.. كَمْ أَنْتِ قَوِيَّةٌ وشُجَاعَةٌ.. لا تَخَافِيْنَ قَوْلَ الصِّدْقِ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكِ..».

أَرَادَتْ سماحُ أنْ تَشْرَحَ لِلْنَّاظِرَةِ... قَالَتْ بِصَوْتٍ مُرْتَجِفٍ:

«أنا.. أنا.. لم أُخْطِىء في شَيءٍ.. شَعَرْتُ بِأَلَمٍ حَادٍ في أُذُنَيَّ مِنْ شِدَّةِ الضَّرْبِ على الطَّاوِلَةِ.. رَفَعْتُ صَوْتِي دُوْنَ قَصْدِ إِهَانَةِ أَحَدْ..».

«ظَنَّتْ أنَّكِ تَسْتَهْزِئِيْنَ بها..».

«لَمْ أَقْصِدْ ذَلِكَ..».

«نَعَمْ يا حَبِيْبَتِي.. أَنَا مُتَأَكِّدَةٌ.. أَنْتِ طِفْلَةٌ مُهَذَّبَةٌ.. مُؤَدَّبَةٌ..».

«إنَّها لا تُحِبُّنِي».

«هي تُحِبُّكِ.. وتُحِبُّ كُلَّ رَفِيْقَاتُكِ بِالْمَدْرَسَةِ.. كانَتْ مُنْزَعِجَةً بِسَبَبِ الضَّجَّةِ داخِلَ الفَصْلِ.. أَرَادَتْ ضَبْطَ التِّلْمِيْذَاتِ..».

«هذا لَيْسَ ذَنْبِي.. أنا كُنْتُ أَجْلِسُ دُوْنَ أَنْ أَتَكَلَّمْ.. دُوْنَ أَنْ أُشَاغِبْ.. أَجْلِسُ أَمَامَها مُبَاشَرَةً..».

«لا تَحْزَني يا سماح.. سَأُعَالِجُ الأمرَ بِنَفْسِي.. اذْهَبِي الآنَ والْعَبِي مَعَ رَفِيْقَاتَكِ..».

الْمُعَلِّمَةُ في غُرْفَةِ الْنَّاظِرَةِ:

«هَلْ شَاغَبَتْ سماح وسَاهَمَتْ بالفَوْضَى والضَّجِيْجِ؟».

«هلْ رَفَعَتْ صَوْتَها؟».

«هل أَسَاءَتْ إِلَيْكِ إِسَاءَةً مُبَاشَرَةً..».

أجَابَتْ الْمُعَلِّمَةُ:

«لَمْ تَفْعَلْ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ..».

«لِمَاذَا هَذَا العِقَابُ إذَنْ؟!».

«تَحَدَّثَتْ بأُسْلُوبٍ غَيْرِ مُهَذَّبٍ».

قالَتِ الْنَّاظِرَةُ:

«عَبَّرَتْ بِبَسَاطَةٍ عَنْ مَشَاعِرَ أَحَسَّتْ بِهَا في لَحْظَتِهَا..».

«أَرَدْتُ إشْعَارَ الفَصْلِ كُلِّهِ بِضَرُورَةِ الإِنْضِبَاطِ خَشْيَةَ العِقَابِ».

«لَكِنَّها لَمْ تَفْعَلْ ما يَسْتَلْزِمُ مِثْلَ هَذَا العِقَابْ!..».

«ما ظَنَنْتُ أَنَّها سَتَتَأَثَّرُ إلى هَذا الحدِّ!».

«عَلَيْنَا إِصْلاَحُ الأَمْرِ معها..».

فكَّرَتِ اُلْمُعَلِّمَةُ... قالَتْ:

«الخَطَأُ خَطَئِي أنا، سَوْفَ أُعَالِجُهُ بِنَفْسِي».

في الْيَوْمِ التَّالِي... داخِلَ الفَصْلِ نَفْسِهِ؛

«تعالي يا سماح.. اسْمَعْنَ يا بَنَاتِي العَزِيْزَاتِ.. بالأَمْسِ أَخْطَأتُ بِحَقِّ صَدِيْقَتِكُنَّ سماح.. ما قَصَدَتُ إهَانَتَها.. كُنْتُ غاضِبَةً.. أَعْتَذِرُ مِنْهَا أَمَامَكُنّ جَمِيْعاً..».

إحْمَرَّ وَجْهُ سماح خَجَلاً.. أَحْنَتْ رَأْسَها.. أَلْقَتْ بِنَظَرِها على الأَرْضِ..

اقْتَرَبَتْ مِنَ الْمُعَلِّمَةِ... قَبَّلَتْها.. قالَتْ:

«أنا الَّتِي يَجِبُ أَنْ أَعْتَذِرَ مِنْكِ.. لأَنِّي رَفَعْتُ صَوْتِي أَمَامَكِ.. سامِحِيْنِي..».

قَالَتْ الْمُعَلِّمَةُ ضَاحِكَةً:

«إِذَن.. تَعَادَلْنَا.. أَعْلَمُ أَنَّكِ لَمْ تَقْصِدي الإسَاءَةَ.. مِثْلِي تَمَاماً..».

قَامَتْ سارة.. قَالَتْ:

«أُرِيْدُ أَنْ أَقُولَ شَيْئاً..

أعْتَقِدُ أَنَّا كُنَّا سَبَبَ ما أَصَابَ سماح بالأَمْسِ».

«شاغَبْنَا كَثِيْراً حَتّى أَغْضَبْنَا الْمُعَلِّمَةَ.. عاقَبْتِ سماح بَدَلاً مِنّا.. هي لا تَسْتَحِقُّ العِقَابَ.. نَحْنُ مَنْ يَسْتَحِقُّ العِقَابَ..».

قالَتْ طِفْلَةٌ أُخْرَى:

«نَعَمْ.. هَذَا صَحِيْحٌ».

قَالَتْ ثَالِثَةٌ.. رَابِعَةٌ.. خَامِسَةٌ..

رَفِيقَاتُ سماح اعْتَذَرْنَ مِنْهَا وَمِنَ الْمُعَلِّمَةِ..

قالَتْ سارة: «حَاوَلْتُ شَرْحَ ذَلِكَ لَكِ بِالأَمْسِ.. أَرَدْتُ الإِعْتِذَارَ.. كُنْتُ أَتَمَنَّى الوُقُوْفَ مَكَانَ سماح.. لَكِنَّكِ كُنْتِ غَاضِبَةً».

فَرِحَتْ المعلمة..

فَرِحَتْ سماح..

فَرِحَتْ سارة.

فَرِحَ الفَصْلُ كُلُّهُ..

قَالتْ الْمُعَلِّمَةُ: «أنا الآن لَسْتُ غَاضِبَةً.. ولَنْ أَكُوْنَ بَعْدَ اليَوْمِ.. تَعَلَّمْتُ مِنْكُنَّ دَرْسًا عَظِيْماً.. عَرَفْتُ قِيْمَةَ شَجَاعَةِ الإِعْتِرَافِ بِالْخَطَأِ، وَالتَّرَاجُعِ عَنْهُ دُوْنَ تَكَبُّرٍ..».

انْتَشَرَ الْخَبَرُ في الْمَدْرَسَةِ..

أَقَامَتْ الْنَّاظِرَةُ احْتِفَالاً رَائِعًا كَرَّمَتْ فِيْهِ الْمُعَلِّمَةَ وجَمِيْعَ تِلْمِيْذَاتِ الفَصْلِ..

قرَّرَتْ النَّاظِرَةُ تَسْمِيَةَ الفَصْلِ باسْمِ:

«فَصْلُ الشَّجَاعَةِ واُحْتِرَامِ الآخرينْ».



صَانِعُ الأَحْلاَمِ



تَعِيْشُ رِيمْ فِي بَيْتٍ وَاسِعٍ جَمِيلٍ تُحِيْطُ بِهِ أَشْجَارٌ عَالِيَةٌ مِنْ كُلِّ اتِّجَاهٍ.. وَحَدِيْقَةٌ جَمِيْلَةٌ مَزْرُوعَةٌ بِالزُّهُورِ وَالنَّبَاتَاتِ الخَضْرَاءِ المُتَنَوِّعَةِ.. وَفِي زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَلْعَابٌ مُسَلِّيَةٌ.

فِي بَيْتِ رِيمْ أَلْعَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ الأَشْكَالِ وَالأَحْجَامِ..

سَيَّارَاتٌ.. طَائِراتٌ.. عَرَائِسٌ تَمْشِي تَلْعَبُ وَتُغَنِّي.. أَقْرَاصُ حَاسُوبٍ كَثيرة فيها مَا تَشْتَهِيْهِ مِنَ الأَلْعَابِ الإلْكتُرُونِيَّةِ.. وَغَيرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ كَثِيرٌ..

رِيمْ عُمْرُها عَشْرُ سِنِينَ.. تَعِيشُ مَعْ أُسْرَتِها الصَّغِيْرَةِ المُكَوَّنَةِ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ وَثَلاَثَةِ أُخْوَةٍ أَكْبَرَ مِنْهَا..

رِيمْ تَعِيْشُ مَعْ أُسْرَتِها سَعِيْدَةً.. تَقْضِي مُعْظَمَ وَقْتِهَا بَعْدَ المَدْرَسَةِ فِي البَيْتِ وَالحَدِيقَةِ..

مُدَرِّسَاتُ رِيمْ يُحْبِبْنَها لأَنَّها مُتَفَوِّقَة وَمُتَمَيِّزَة...



فِي يَوْمٍ طَلَبَتْ إِحْدَى المُدَرِّساتِ مِنْ طَالِبَاتِ فَصْلِ ريم أنْ تَتَحَدَّثَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَنْ أَحْلاَمِها.. فَرِحَتْ الصَّغِيرَاتُ بِذَلِكَ.. وَتَسَابَقْنَ لِرِوَايةِ أَحْلاَمِهِنَّ..

سُعَاد حَلَمَتْ بِأَنَّها تُحَلِّقُ فِي الفَضَاءِ تَرْكَبُ السُّفُنَ الفَضَائِيَّةَ وَتَطِيْرُ بِالهَوَاءِ مِنْ نَجْمَةٍ إِلَى نَجْمَةٍ.. نُورا حَلَمَتْ بِأَنّها صَارَتْ أمًّا وَجَدّةً وَعِنْدَها بَنَاتٌ وأَوْلادٌ وأَحْفَادٌ...

نِسرين تَحْلُمُ بِالسَّفَرِ وَالتَّنَقُّلِ بَيْنَ البِلاَدِ... قَالَتْ إِنَّهَا زَارَتْ فِي مَنَامِهَا دُوَلاً كَثِيرةً، وبعضُها زَارَتْها حَقِيقةً، مِثْلَ مَكَّةَ وَالمَدِيْنَةَ وَالقَاهِرَةَ.. وتَحْلَمُ أَنْ تَزُورَ بَارِيسْ لِتُشَاهِدَ ديزني لاندْ وبُرْجَ إِيفلْ...

منى تَحْلُمُ أَنَّهَا مِنْ أَصْحَابِ الملايينِ.. تَعِيْشُ فِي قُصُورٍ وَتَمْلُكُ سَيَّارَاتٍ لاَ حَصْرَ لَهَا وَلاَ عَدَدْ..

وَمَضَتْ الطالِبَاتُ يَتَسَابَقْنَ فِي الحَدِيْثِ حَتَّى جَاءَ دَورُ ريمْ...

قَالَتْ المُدَرِّسَةُ: نَعَمْ يَا ريمْ، هَيّا.. لَمْ يَبْقَ غَيْرُكِ.. أَخْبِرينا بِمَاذا تَحْلَمِينَ؟

لَمْ تَتَكَلَّمْ رِيمْ.. احْمَرَّ وَجْهُهَا خَجَلاً.. قَالَتْ: لاَ أَعْلَمُ.. أَنَا... أَنَا فِي الحَقِيقَةِ لاَ أَعْرِفُ مَا مَعْنَى أَحْلامْ؟

اسْتَغْرَبَتْ المُدَرِّسَةُ: ماذا؟؟ غيرُ مَعْقُولٍ.. أَنْتِ تَمْزَحِيْنَ..

جميعُ الطالباتِ صِرْنَ يَضْحَكْنَ بِسُخْرِيَةٍ: عَجِيبٌ.. إِنْسَانٌ حَيٌّ لا يحلمُ.. غيرُ معقولْ.. أَلاَ تَعْرِفِينَ مَا هِيَ الأَحْلاَمُ؟ قَالَتْ المُدَرِّسَةُ ذَلِكَ بِدَهْشَةٍ.. وَظَلَّتْ زَمِيلاتُ رِيمْ يَضْحَكْنَ طَوَالَ النَّهَارِ...



عَادَتْ رِيمْ إِلَى بَيْتِهَا حَزِينةً.. رَأَتْهَا أُمُّها.. أَحَسَّتْ بِحُزْنِهَا.. سَأَلَتَهَا: مَا بِكِ يَا حَبِيبَتِي؟

أَخْبَرَتْها رِيمْ بِمَا حَدَثَ.. أَصَابَ الأُمُّ العَجَبَ.. قَالَتْ: لاَ تَقْلَقِي يَا حُلْوَتِي.. مُشْكِلَتُكِ بَسِيطَةٌ وَسَنَجِدُ لَها حَلاًّ..



فِي عَصْرِ ذَلِكَ اليَوْمِ ذَهَبَتْ رِيمْ بِرِفْقَةِ أُمِّها إِلَى طَبِيبٍ مَشْهُورٍ يُدْعَى صَانِعُ الأَحْلاَمِ..

رَوَتْ رِيمْ لِلطَّبِيبِ قِصَّتَها.. وَبَدَتْ طَوَالَ الوَقْتِ حَزِينَةً...

قَالَ الطَّبِيبُ مُبَسِّطاً الأمرَ وَمُخَفِّفاً الأَلَمَ عَنْ رِيمْ: لاَ تَحْزَنِي يَا ابْنَتِي.. الأَمْرُ بَسِيطٌ وَيَحْدُثُ كَثِيراً..

قَامَ الطَّبِيبُ عَلَى الفَوْرِ وَأَحْضَرَ أَدْوِيَةً عَجِيبةً غَرِيبةً..

صَارَ يَخْلُطُ بَعْضَها مَعَ بَعْضٍ.. هَذِهِ نُقْطَةٌ وَتِلْكَ نُقْطَتَانِ.. وَهَاتيك ثلاثٌ..

وَضَعَ الطَّبِيبُ الخَلْطَةَ فِي أُنْبُوبٍ زُجَاجِيٍّ شَفَّافٍ وَقَالَ لِرِيمْ: اسْمَعِينِي وَانْتَبَهِي لِمَا أَقُولُ.. ضَعِي ثلاَثَ نِقَاطٍ فِي عَيْنِكِ اليُمْنَى وَنِقْطَتَيْنِ فِي عَيْنِكِ اليُسْرَى قَبْلَ أَنْ تَنَامِي مُبَاشَرَةً وَلاَ تَفْتَحِي عَيْنَيْكِ حَتَّى تَسْتَيْقِظِي فِي الصَّبَاحِ... وَغَداً تَعَالي لِتُخْبِرِينِي عَنْ أَحْلاَمِكِ.. سَوْفَ تَأْتِي الأَحْلاَمُ وَتَهْجُمُ عَلَيْكِ مِثْلَ خُيُولٍ مُسْرِعَةٍ...

كَانَ صَانِعُ الأَحْلاَمِ مُتَأَكِّداً مِنْ كَلاَمِهِ وَمُطْمَئِناً لِمَا يَقُولُ..

فَرِحَتْ رِيمْ وَأُمُّهَا وَعَادَتا إِلَى البَيْتِ سَعِيْدَتَيْنِ بِمَا حَدَثَ...



فِي صَبَاحِ اليَوْمِ التَّالِي رَنَّ هَاتِفُ صَانِعُ الأَحْلاَمِ... كَانَتْ رِيمْ هِيَ المُتَّصِلَةُ..

أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا لَمْ تَحْلُمْ عَلَى الإِطْلاَقِ.. وَلَمْ تَشْعُرْ بَأَيِّ تَغْيِيْرٍ..

فَكَّرَ الطبيبُ.. هَذِهِ أَوَّلُ مَرَّةٍ لاَ يَنْفَعُ الدَّوَاءُ..

قَالَ بَعْدَ تَفْكِيْرٍ: اسْمَعِي يَا ريمْ.. أَضيفي نِقْطَةً أُخْرَى لِكُلِّ عَيْنٍ...

وَفِي اليَوْمِ التَّالِي، اتَّصَلَتْ رِيمْ لأَنَّ العِلاَجَ لَمْ يُؤَدِّ إِلَى نَتِيجَةٍ..

قَرَّرَ الطَّبِيبُ تَغيير خَلْطَةِ الدَّوَاءِ.. ظَنَّ أَنَّ الدَّوَاءَ فِيهِ خَطَأٌ.. كَرَّرَ المُحَاوَلَةَ وَأَعَادَ تَصْنِيْعَ الدَّوَاءِ مِنْ جَدِيْدٍ وَطَلَبَ مِنْ رِيمْ الطَّلَبَ نَفْسَهُ لِكَنَّ التَّجْرِبَةَ كَانتْ فَاشِلَةً...

أُصِيْبَ الطبيبُ بإِحْباطٍ شَدِيدٍ.. كَيْفَ؟ لاَ يُمْكِنُ؟ جَرَّبْتُ الدَّوَاءَ عَلَى نَفْسِي وَنَجَحَ.. جَرَّبْتُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ... يَجِبُ أَنْ أَكْتَشِفَ السِّرَّ.. يَجِبُ أَنْ أَكْتَشِفَ السِّرَّ..



ذَهَبَ الطَّبِيبُ إلَى بَيْتِ رِيمْ، فَاسْتَقْبَلَتْهُ أُسْرَتُها جَمِيعاً.. كُلُّهُمْ يُرِيدُونَ اكْتِشَافَ سِرِّ رِيمْ..

طَلَبَ الطَّبِيبُ صَانِعُ الأَحْلاَمِ مِنْ وَالِدِ رِيمْ أَنْ يَسْمَحَ لَهُ بِدِخُولِ غُرْفَتِها.. وَالتَّجَوُّلَ فِي أَنْحَاءِ المَنْزِلِ، لأَنَّ هُنَاكَ مُشْكِلَةٌ يَجِبُ اكْتِشَافُها..

فَتَحَ الطَّبِيبُ غُرْفَةَ رِيمْ.. وَجَدَ أَجْمَلَ الأَثَاثِ.. وَجَدَ ثِياباً رَائِعَةً بَاهِظَةَ الثَّمَنِ.. وَفِي كُلِّ زَاوِيةٍ مِنْ غُرْفَتِهَا رَأَى لُعَباً مُتَرَاكِمَةً.. أَحَسَّ الطَّبِيبُ الَّذِي يَصْنَعُ الأَحْلاَمَ لِلنَّاسِ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ صُنْعِ حُلُمٍ جَدِيدٍ.. رِيمْ لَدَيْها كُلُّ مَا تُرِيدُ.. تَحْصُلُ عَلَى كُلِّ الأَشْيَاءِ الجَمِيلةِ الرَّائِعَةِ حَتَّى دُونَ أَنْ تَطْلُبَها.. دُونَ أَنْ تَحْلُمَ بِهَا..

فَكَّرَ الطَّبِيبُ.. تُرى أَيْنَ المُشْكِلَةُ؟؟؟ لاَ بُدَّ مِنْ مُشْكِلَةٍ؟؟

فَجْأَةً قَفَزَ الطَّبِيبُ صَائِحاً: وَجَدْتُها.. وَجَدْتُها..

إِلْتَفَّ حَوْلَهُ الجَمِيْعُ.. بِصَوْتٍ وَاحِدٍ: مَاذَا.. مَاذَا.. مَاذَا وَجَدْتَ؟

هَزَّ الطَّبِيبُ رَأْسَهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ.. ثُمَّ قَالَ مُوَجِّهاً كَلاَمَهُ لِرِيمْ: غَداً.. غداً.. غداً أَعُودُ وَمَعِي دَواؤكِ الشافِي بِإِذْنِ اللَّهِ...

فَرِحَتْ رِيمْ.. فَرِحَتْ أُسْرَتُها.. وَلَمْ تَسْتَطِعْ رِيمْ النَّوْمَ تِلْكَ اللَّيْلَة..



فِي صَبَاحِ اليَوْمِ التَّالِي عَادَ صَانَعُ الأَحْلامِ بِوَقْتٍ مُبْكِرٍ يَحْمِلُ كِيساً كَبِيراً كَبِيراً... رِيمْ شَعَرَتْ بِالخَيْبَةِ مَا أَنْ رَأَتْ الرَّجُلَ.. ظَنَّتْ أَنَّ الطَّبِيبَ أَحْضَرَ لَهَا أَلْعاباً جَدِيدةً.. أَنَا لا أُرِيدُ ألعاباً.. أُرِيدُ أَحْلاماً.. ضَحِكَ صَانِعُ الأَحْلامِ: أَعْلَمُ ذَلِكَ.. لاَ تَقْلَقِي..

لَمْ يَنْتَظِرَ الرَّجُلُ لَحْظَةً لِيَشْرَحَ.. كَانَ شَوْقُ أُسْرَةِ رِيمْ أَكْبَرُ مِنَ الإِنْتِظَارِ... وَضَعَ الكِيْسَ عَنْ ظَهْرِهِ.. فَتَحَ الكِيْسَ فِي بَهْوِ غُرْفَةِ الإِسْتِقْبَالِ.. وَأَخْرَجَ مِنْهُ كُتُباً جَمِيلةً رَائِعَةً مَلِيئةً بِالدَّهْشَةِ وَالرَّوْعَةِ وَالأَحْلامِ..

كَانَتِ الكُتُبُ هَذِهِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ بَعِيدٍ..

كُتُبٌ تَتَحَدَّثُ مَعَ بَعْضِهَا.. وَتَتَحَدَّثُ مَعَ النَّاسِ..

كُتُبٌ تَتَكَلَّمُ وتُحَاوِرُ وَتَفْرَحُ وَتَضْحَكُ وَتَبْكِي.. وَتَتَأَلَّمُ.

أُصِيْبَتْ رِيمْ بِالحُزْنِ...

قَالَتْ مُتَهَكِّمَةً: كُتُبٌ.. كُتُبٌ.. كُتُبٌ... يَا لِهَذِهِ المُفَاجَأَة.. ظَنَنْتُكَ سَتَأْتِيْنِيْ بِدَوَاءٍ وَأَتَيْتَنِي بِمَا يُصِيْبُنِي بِالمَلَلِ..

قَالَ لَهَا: اُنْتَظِري وَاخْتَارِي وَاحِداً مِنَ الكُتُبِ..

حَمَلَتْ رِيمْ أَحَدَها..

سَمِعَتِ الكُتُبَ تَتَكَلَّمُ تُرَحِّبُ بِهَا.. تَرْقُصُ بَيْنَ يَدَيْها...

صَاحَتْ بِدَهْشَةٍ: وَاوْ كُتُبٌ تَتَكَلَّمُ وَتَتَحَرَّكُ..

قَالَ لَهَا: بَلْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ... سَوْفَ تَكْتَشِفِيْنَ حَقِيقَتَها بِنَفْسِكِ..

صَاحتْ ريم: أَشْكُرُكَ يَا عَمِّي العَزِيزْ... هَذَا فعلاً مَا أَفْتَقِدُ إِلَيْهِ.. وَأَحْتَاجُهُ.. أَشْكُرُكَ مِنْ قَلْبِي..

قَالَ لَهَا مُؤَكِّداً كَلامَها: لَدَيْكِ كُلُّ الأَشْيَاءِ الجَمِيلةِ الرَّائِعَةِ.. لَكِنَّكِ لاَ تَمْلُكِيْنَ مَكْتَبَةً مِثْلَ هَذِهِ المَجْمُوعَةِ مِنَ الكُتُبِ.. إِنَّها قِصَصٌ رَائِعَةٌ.. إِقْرَئِي كُلَّ يَوْمٍ قِصَّةً.. وَاحْلُمِيْ كَمَا تَشَائِينَ وَبِمَا تَشَائِيْنَ..

وَخَرَجَ صَانِعُ الأَحْلاَمِ سَعِيداً بِاكْتِشَافِهِ.. مُتَأَكِّداً أَنَّهُ اكْتَشَفَ سِرَّ ريمْ وَأَنَّها سَتَحْلُمُ دُونَ شَكٍّ...



فِي اليَوْمِ التالي ذَهَبَتْ رِيمْ إِلَى مَدْرَسَتِها رَكْضاً.. بَحَثَتْ عَنْ مُدَرِّسَتِها قَبْلَ دُخُولِها الفَصْلَ.. قَالَتْ لَهَا بِفَرَحٍ كَبِيرٍ ظَاهِرٍ: آنِسَتِي.. آنِسَتِي.. أُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكِ عَنْ حُلُمٍ جَمِيلٍ رَأَيتُهُ لَيْلَةَ أَمْسٍ..

وَصَارَتْ رِيمْ تَرْوِي لِلْمُدَرِّسَةِ وَلِزَمِيلاتِهَا بِالمَدْرَسَةِ عَنْ أَحْلاَمِهَا.. رَوَتْ لَهُنَّ أَنَّها حَلُمَتْ بِأَمِيرٍ يَعِيْشُ فِي مَمْلَكَةٍ بَعِيدَةٍ.. وَكَانَ أَبُوهُ المَلِكُ يُعِدُّهُ لِتَوَلِّي العَرْشَ مِنْ بَعْدِهِ، يُدَرِّبُهُ عَلَى حَمْلِ السَّيْفِ وَقَتْلِ النَّاسِ وَظُلْمِ الرَّعِيَّةِ بِلَا ذَنْبٍ وَلاَ سَبَبٍ، لَكِنَّ الأَمِيْرَ الصَّغِيْرَ لَمْ يَكُنْ رَاضِياً عَمَّا يَفْعَلُهُ أَبُوهُ، فَقَرَّرَ الهَرَبَ إِلَى مَدِيْنَةٍ بَعِيْدَةٍ مِنْ مُدُنِ المَمْلَكَةِ، وَغيَّرَ مَلاَبِسَهُ وَشَكْلَهُ وَعَاشَ بَيْنَ النَّاسِ وَاحِداً مِنْهُمْ..

وَفِي المَدِينَةِ عَمِلَ الأَمِيرُ الصَّغِيرُ عَمَلاً بَسِيطاً مُرهقاً.. هَمُّهُ خِدْمَةُ النَّاسِ وَرَفْضِ الظُّلْمِ..

وَلَمَّا رَأَى صَاحِبُ عَمَلِهِ الجَدِيدِ إِخلاصَهُ وَوَفَاءَهُ وَصِدْقَهُ وَإِيمَانَهُ، زَوَّجَهُ لابْنَتِهِ الوَحِيدَةِ.. وَعَاشَا بِسَعَادَةٍ وَهَنَاءٍ..

وَفِي المُقَابِلِ كَانَ المَلِكُ حَزِيناً عَلَى فَقْدِ ابْنِهِ الوَحِيْدِ وَعَاشَ مَهْمُوماً كَئِيباً، وَأَصْبَحَ الرُّعْبُ يُلازِمَهُ لِمَا فَعَلَ بِالشَّعْبِ مِنْ ظُلْمٍ وَتَنْكِيْلٍ...

لَكِنَّ الأَمِيرَ الصَّغِيرَ عِنْدَمَا عَلِمَ بِمَا جَرَى لِوَالِدِهِ، عَادَ إِلَيْهِ يُوَاسِيهِ وَيَنْصَحُهْ بِتَرْكِ الظُّلْمِ وَأَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ النَّاسِ.

فَاعْتَذَرَ الأَبُ مِنْ ابْنِهِ وَمِنَ الشَّعْبِ وَتَنَازَلَ عَنِ المُلْكِ لابْنِهِ الشَّابِ الَّذِي حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ، وَكَانَ النَّاسُ سُعَدَاءُ بِحُكْمِهِ العَادِلِ وَعَاشَ بَيْنَهُمْ دُونَ أَنْ يُشْعِرَهُمْ بِأَنَّهُ مَلِكٌ عَلَيْهِمْ...

وَرَاحتْ رِيمْ تَرْوِي لِصَدِيقَاتِهَا وَمُدَرِّسَتِها كَثِيراً مِنَ القِصَصِ وَالأَحْلاَمِ..

وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ فِي الفَصْلِ مُسْتَغْرِبَاتٍ مُنْدَهِشَاتٍ.. لَكِنَّهُنَّ كُنَّ سَعِيداتٍ بِمَا تَرويهِ لَهُنَّ مِنْ حِكَايَاتٍ رَائِعاتٍ يوماً بعْدَ يَوْمٍ...



وَفِي أَحَدِ الأَيَّامِ، جَلَسَتْ رِيمْ فُي غُرْفَتِهَا بَيْنَ تِلاَلِ القِصَصِ الجَمِيلَةِ، وَفِيْمَا كَانَتْ تُقَلِّبُ بَيْنَهَا وَقَعَ بَصَرُها عَلَى كِتَابٍ كَبِيرٍ ضَخْمٍ لَمْ تَلْحَظْ وُجُودَهُ مِنْ قَبْلُ..

قَالَتْ: ياه.. مَا هَذَا الكِتَابُ الكَبِيرُ.. لَمْ أَرَهُ قَبْلَ الآنْ..

أَزَالَتِ الكُتُبَ الصَغِيرَةَ مِنْ فَوْقِهِ.. حَمَلَتِ الكِتَابَ.. كَانَ ثَقِيلاً جِداً.. أَعَادَتْهُ إِلَى الأَرْضِ.. تَأَمَّلَتْ غِلاَفَهُ السَّمِيْكُ الثَّقِيلُ.. قَرَأَتِ العُنْوَانَ التَّالِي بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ: (فَرَاشَةُ الغَابَةِ الغَرِيبةِ) ثُمَّ قَالَتْ: تَبْدُو قِصَّةً رَائِعَةً.. يَا لَهُ مِنْ كِتَابٍ..



شَعَرَتْ رِيمْ بِرَغْبَةٍ شَدِيدةٍ فِي قِراءَةِ القِصَّةِ..

لَكِنَّ القِصَّةَ طويلةٌ طويلةٌ.. وتَحْتَاجُ إلى ساعاتٍ وساعاتٍ لِقِرَاءَتِهَا.. ومَوْعِدُ نَوْمِها اُقْتَرَبَ..

نَظَرَتْ رِيمْ إِلَى السَّاعَةِ.. الوَقْتُ تَأَخَّرَ..

قالتْ: لا بأسَ.. سأَقْرَأُ صَفَحَاتٍ قَلِيلةٍ ثُمَّ أُكْمِلُها غداً.. ومَنْ يدري رُبَّما عِنْدَما أنامُ أَحْلُمُ بِالْفَرَاشَاتِ والزُّهُورِ..

وصارتْ رِيمْ تَضْحَكُ وتَضْحَكُ...

أَمْسَكَتْ رِيمْ الغِلافَ الثقيلَ وبَدَأَتْ تَرْفَعُهُ بِصُعوبَةٍ.. أَحَسَّستْ بِتَيَّارٍ هَوَائِيٍّ شَدِيدٍ يَمْتَصُّها إلى دَاخِلِ الكِتَابِ..

وَقَبْلَ أَنْ تُفَكِّرَ بِالمُقَاوَمَةِ اخْتَفَتْ رِيمْ دَاخِلَ الكِتَابِ الضَّخْمِ... وَهَدَأَتِ الغُرْفَةُ تماماً...



لَمْ تُدْرِكْ رِيمْ مَا حَدَثَ..

كَانَتْ المُفَاجَأةُ صَدْمَةً.. لَمْ تَكُنْ تَتَوَقَّعُ ذَلِكَ أَبداً..

فَتَحَتْ عَيْنَيْها عَلَى ضَوْءٍ قَوِيٍّ قَوِيٍّ.. نَظَرَتْ حَوْلَها.. تَأَمَّلَتِ المَكَانَ، وَجَدَتْ نَفْسَها فِي بُسْتَانٍ مِنَ الوُرُودِ الجَمِيلَةِ.. وَالنَّبَاتَاتِ الرَّائِعَةِ مِنْ أَلْوَانٍ وَأَحْجَامٍ مُخْتَلِفَةٍ..

لاحَظَتْ رِيمْ أَنَّ هَذَا البُسْتَانَ الَّتِي هِيَ فِيهِ الآنَ هُوَ نَفْسُهُ البُسْتَانُ المَوجُودُ عَلَى صَفْحَةِ الغِلاَفِ..

فِيْمَا بَدَتِ الغَابَةُ العَجِيبةُ الغَرِيبَةُ مُلاصِقَةٌ لِلْبُستانِ..

قَالتْ: رِيمْ: مَا هَذَا الَّذِي يَحْدُثُ.. غَيْرُ مَعْقُوْلٍ..

نَظَرَتْ رِيمْ حَوْلَها مِنْ جَدِيدٍ وَتَسَاءَلَتْ: تُرَى أَيْنَ الفَرَاشَةُ؟؟ لا أراها الآنَ!

ثُمَّ قالتْ: يَا لِلْعَجَبِ.. هَلْ يُعْقَلُ أَنَّنِي الآنَ فِي قَلْبِ الكِتَابِ.. لَيْتَنِي أَسْتَطِيْعُ قِرَاءَةَ القِصَّةِ لِأَعْرِفَ مَاذَا سَيَحْدُثُ لِيَ الآنَ..



نَظَرَتْ رِيمْ تَحْتَها.. وَجَدَتْ نَفْسَها فَوْقَ شَيْءٍ نَاعِمٍ.. رَائِحَتُهُ طَيِّبَةٌ...

تُرى مَا هذا الشيءُ؟؟

أَرَادَتِ القِيَامَ لَكِنَّهَا لَمْ تَسْتَطِعْ.. اعْتَقَدَتْ أنَّها رُبَّما تَكُونُ مُكَبَّلَةً.. لَكِنَّها أَحَسَّتْ بِخِفَّةٍ شَدِيدةٍ.. وَبَدَأَ المَكَانُ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ يَهْتَزُّ وَيَتَرَاقَصُ..

خَافَتْ رِيمْ.. أَصَابَهَا رُعْبٌ شَدِيدٌ..

أَرَادَتْ تَحْرِيكَ يَدَيْهَا وَالتَّمَسُّكَ بِطَرَفِ شَيْءٍ ما لِتَتَمَكَّنَ مِنَ النُّهُوضِ.. لَكِنَّها لَمْ تَسْتَطِعْ.. نَظَرَتْ إلى يَدَيْها.. كَانَتِ المُفَاجَأَةُ الكُبْرى.. لَقَدْ تَحَوَّلَتْ رِيمْ نَفْسُها إِلَى فَرَاشَةِ الغَابَةِ الجَمِيلةِ..

اكْتَشَفَتْ رِيمْ أنَّها أَصْبَحَتْ تُشْبِهُ تَماماً الفَرَاشَةَ الَّتِي عَلى غِلافِ الكِتَابِ..

لَمْ تَسْتَطِعْ ضَبْطَ نَفْسِها..

خَافَتْ.. صَارَتْ تَبْكِي..

سَقَطَتْ دُمُوعُها على المَكَانِ الَّذِي كَانَتْ تَسْتَلْقِي فَوْقَهُ فَاكْتَشَفَتْ أنَّهُ لَيْسَ سِوى وَرْدَةٌ كَبِيرةٌ جَمِيلةٌ.. اهْتَزَّتِ الوَرْدَةُ عِنْدَمَا سَقَطَتْ دُمُوعُ رِيمْ عَلَيْهَا وَقَالَتْ: لِمَاذَا تَبْكِي يَا رِيمْ؟. لَقَدْ سَقَطَتْ دُمُوعُكِ الدَّافِئَةِ عَلَى وَجْهِي..

حَضَنَتْهَا الوَرْدَةُ بِرِفْقٍ..

مَسَحَتْ دُمُوعِهَا بِأَوْرَاقِهَا المُلَوَّنَةِ..

قَالَتْ بِصَوْتٍ جَمِيْلٍ يَفُوحُ مِنْهُ العِطْرُ: لاَ تَحْزَنِي يَا حَبِيبَتِي. نَحْنُ نَتَرَقَّبُ وُصُولَكِ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ بَعِيدٍ.. صَبْرُنَا كَادَ يَنْفَدُ.. فَقِصَّتُنَا تَحْتَاجُ لأَحْلامِكِ لِتَبْدَأَ وَتَكْتَمِلْ..



تَفَاجَأَتْ رِيمْ بِالفَرَاشَةِ.. وبدا لها أنَّ سَيْلَ المُفَاجَآتِ سَيَتَوَالَى وَلَنْ يَتَوَقَّفَ..

قَالَتْ بِخَوْفٍ: يَكفي.. يكفي.. أَنَا نَائِمةٌ؟ أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ أُرِيدُ العَوْدَةَ إِلَى البَيْتِ.. أُرِيدُ أَنْ أَعُودَ فَتَاةً صَغِيرةً كَمَا كُنْتُ... لاَ أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ فَرَاشَةً...

حَرَّكَتْ وردةٌ كَبِيرةٌ لَمْ تَلْحَظْهَا رِيمُ مِنْ قَبْلُ عُنُقَها الطَّوِيلُ.. كَانَتْ تَسْمَعُ هذا الحِوَارَ وقَالتْ بِصَوْتٍ سَاحِرٍ أَجْمَلُ مِنْ صَوْتِ العَنْدَلِيبِ: أَتَدْرِيْنَ أَيَّتُهَا الفَرَاشَةُ الجَمِيلةُ، أنَّ مَصِيرَ هَذِهِ الوُرودِ مُتَوَقِّفٌ كُلَّها وَتِلْكَ الغَابَةِ بِأَسْرِهَا عَلَيْكِ.. فَأَنْتِ جِئْتِ لِتُنْقِذِيْنَا جَمِيعاً مِنْ خَطَرٍ أَكِيْدٍ.. جِئْتِ لِتُنْقِذِيْنَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنْ جُمُودٍ وَخُمُولٍ وَكَسَلٍ.. أَشْيَاءٌ تُشْبِهُ المَوْتَ.. فَهَذِهِ النَّسْمَةُ العِطْرِيَّةُ اللَّطِيْفَةُ الَّتِي مَرَّتْ مُنْذُ قَلِيلٍ جَعَلَتْ جَمِيْعَ الأَزْهَارِ تَتَرَاقَصُ طَرَباً. لَمْ تَأْتِ إِلاَّ مِنْ أَجْلِكِ فَرَحاً بِكِ وَتَرْحِيْباً بِقُدُومِكِ.. فَنَحْنُ مُنْذُ سِنِينَ نَنْتَظِرُ أَنْ تَأْتِيَ إِلَيْنَا وَتُنْقِذِيْنا.. نَنْتَظِرُ فَرَاشَةً كَمَا أَخْبَرَنَا حُكَمَاءُ غَابَتِنَا.. قَالُوا بِأَنَّ يوماً مَا سَتَأْتِي فَرَاشَةٌ رَائِعَةٌ وتُنْقِذُنَا مِنْ جُمُودِنا وَتَحَجُّرِنا.. ونَحْنُ كِدْنَا نَنْسَى هذا الكلامَ وَنَظُنُّ أَنَّهُ لَنْ يَتَحَقَّقَ لَوْلا قُدُومَكِ الآنَ أَيَّتُها الفَرَاشَةُ.. فَلاَ تَتْرُكِينَا فَهَذِهِ مَسْؤُولِيَّتَكِ..

فِي هَذِهِ اللَّحظَةِ.. اهْتَزَّتِ الفَرَاشَةُ بِقُوَّةٍ بَعْدَمَا صَفَّقَتِ الوردةُ الَّتِي تَحْمِلُها بِأَوْرَاقِهَا.. لِتُعْلِنَ لِجَمِيْعِ الورودِ إِشَارةَ الاسْتِيْقاظِ مِنَ السُّبَاتِ وَالعَوْدَةَ لِلْحَيَاةِ.. العَوْدَةُ لِلأَرْضِ.. لِلْحُبِّ.. لِلْوَطَنِ.. لِلْعَطَاءِ.. كَانَتِ الوُرُودُ كُلُّها غَارِقَةً بِنَوْمٍ عَمِيْقٍ.. وَالطَّبِيعةُ غَائِبَةً فِي سُبَاتٍ طَوِيلٍ.. تَتَرَقَّبُ وُصُولَ الفَرَاشَةِ لِتُوقِظَهَا وتُحَيِّيْهَا مِنْ جَدِيدْ..

عَلَى الفَوْرِ ابْتَهَجَتِ الطَّبِيْعَةُ وَسَمِعَتْ رِيمْ أَصْوَاتَ الطُّيُورِ تُغَنِّي.. وَالمِيَاهُ تَتَسَابَقُ فِي النَّهْرِ وَتَتَدَفَّقُ مِنَ الجَدْولِ.. وَالضَّفَادِعُ تَنِقُّ.. وَالنَّسَائِمُ تَمْلأُ المَكَانَ سِحْراً ورَوْعَةً..

عَادَتْ زَقْزَقَةُ البَلاَبِلِ تُسْمَعُ فِي كُلِّ مَكَانٍ.. وَغَنَّت كَمَا لَمْ تُغَنِّ مِنْ قَبْلُ..

رَأَتْ رِيمْ كُلَّ مَشَاهِدِ الطَّبِيعَةِ السَّاحِرَةِ.. وَسَمِعَتْ أَلْحَاناً لَمْ تَسْمَعْهَا مِنْ قَبْلُ..

لَمْ تُصَدِّقْ عَيْنَيْهَا وَلَمْ تَقْتَنِعْ بِمَا رَأَتْ وَسَمِعَتْ وَوَعَتْ...



رَفَعَتْ رِيمُ الفَرَاشَةُ رَأْسَها.. نَفَضَتْ جَنَاحَيْهَا.. كَانَا جَمِيلَيْنِ بَدِيْعَيْن، تَأَمَّلَتْ مَنْظَرَها البَهِيَّ الرَّائِعَ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ.. لَمْ تُدْرِكْ مَا سِرُّ هذِهِ الفَرَاشَةِ الَّتِي تَأْتِيْ فَجَأْةً لِتُحْيِيْ الطَّبِيْعَةَ البَدِيْعَةَ بَعْدَ زَمَنِ سُبَاتٍ طَوِيل..

أَدْرَكَ طَائِرُ البَجَعِ العَجُوزِ مَا يَدُورُ فِي رَأْسِ رِيمْ...

اقْتَرَبَ مِنْهَا وَقَالَ لَهَا بِصَوْتِهِ الرَّخِيْمِ العَرِيْضِ: أَيَّتُها الفراشةُ الجَمِيلةُ.. قِصَّتُنا كُلُّها تَدُورُ حَوْلَ فَرَاشَةٍ.. وَنَحْنُ أَشْيَاءٌ نُجَمِّلُ القِصَّةَ وَلَسْنَا أَبْطالاً لها.. الكِتَابُ الَّذِي دَخَلَتْ إِلَيْهِ رَسَمَهُ رسَّامٌ فنَّانٌ سَاحِرٌ، مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُكْمِلَ القِصَّةَ كُلَّها ويَرْسُمَ الفَرَاشَةَ البَطَلَةَ.. رَسَمَ كُلَّ الصُّوَرِ.. وَتَخَيَّلَ شَكْلَ الفراشَةِ على الغِلافِ.. تَخَيَّلَها مِثْلَكِ أَنْتِ تماماً.. لَكِنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ رَسْمِها فِي دَاخِلِ الكِتَابِ... وَقَدْ قَالَ حُكَمَاؤنا مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ أَنَّ يَوْماً سَيَأْتِيْ وَتَدْخُل فِي الكِتَابِ فَرَاشةٌ جَمِيلةٌ اسْمُهَا رِيمْ تُحْيِيْ قِصَّتَنا وتُعِيْدَنا إلى عالمِ الحياةِ لِيَقْرَأَها أَطْفَالُ العَالَمِ...

فَرِحَتْ رِيمُ الفَرَاشةُ لاخْتِيَارِها بَطَلَةً لِقِصَّتِهِمْ.. فَبَعْدَ أَنْ كَانَتْ لاَ تَحْلُمُ.. وَلاَ تَعْرِفُ معنى الأحلامِ.. صَارَتْ حُلُماً لآخَرِيْنَ.. وَبَطَلَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لِقِصَّةٍ جَمِيلةٍ يَحْلُمُ بها أطفالُ العَالَمِ...



وَقَفَتْ رِيمْ تَتَأَمَّلُ بُسْتَانَ الزُّهُورِ، وَصَارَتْ تَتَنَقَّلُ بِبَصَرِهَا مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخرٍ..

شَاهَدَتِ الأَزْهَارَ تَتَمَايَلُ وَالأَشْجَارَ تَهْتَزُّ مِنَ الطَّرَبِ.. وَالغُصُونَ تَتَشَابَكُ كَأَنَّها تَتَصَافَحُ، يُهَنِّىءُ بَعْضُهَا بَعضاً..

تَطَلَّعَتْ رِيمْ إِلَى البَجْعَةِ الحَكِيمَةِ وَسَأَلَتْها: «والآنَ مَاذَا عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ..؟».

قَالَتِ البَجْعَةُ: «عِيْشِيْ حَيَاتَكِ بِشَكْلٍ طَبِيْعِيٍّ.. وَكُلُّ أَبْنَاءُ الطَّبِيعَةِ سَيَكُونُونَ بِخِدْمَتِكِ...».

هُنَا بَدَأَتْ رِيمْ تَشْعُرُ بِالجُوْعِ.. فَدَعَتْهَا الزُّهُورُ لِتَنَاوُلِ وَجْبَةٍ شَهِيَّةٍ صِحيَّةٍ طَبِيعيةٍ مِنْ رَحِيْقِها البَدِيْعِ.. وَصَارَتِ الزُّهُورُ تَقُولُ:

تَعَالِيْ إِلَيَّ يَا رِيمْ.. هُنَا طَعْمُ اللَّيْمُونِ.

قَالَتْ أُخْرى: لا.. تَعَالِيْ إِلَيَّ أَنَا.. لَدَيَّ طَعْمٌ لَيْسَ لَهُ مَثِيْلٌ...

وَصَارَتْ كُلُّ زَهْرَةٍ تَعْرُضُ طَعْمَهَا اللَّذِيْذَ على رِيمْ تَطْمَعُ أَنْ تَكُونَ أَوَّلُ مَنْ تَأْكُلَ مِنْهَا فِي الغَابَةِ الجَمِيْلَةِ..

وَصَارَتِ الزُّهُورُ تَتَمَايَلُ وَتَتَحَرَّكُ وَتَتَنَافَسُ فِيْمَا بَيْنَهَا لِتَحْظَى بِشَرَفِ مُلاَمَسَةِ الفَرَاشَةِ رِيمْ..

اسْتَغْرَبَتْ رِيمْ فِي البَدْءِ:

كَيْفَ يُمْكِنُ لِي أنْ آكلَ رَحِيْقَ الأَزْهَارِ..

قَالُوا لَهَا: الآنَ أَنْتِ فَرَاشَةٌ وَلَسْتِ إِنْسَاناً.. تَعَاليْ اقْتَرِبِيْ لاَ تَخَافِيْ..

اقْتَرَبَتْ رِيمْ مِنْ رَأْسِ وَردةٍ قُرْبَهَا جَرَّبَتْ طَعْمَهَا. كَانَ لَذِيذاً جداً..

قالتْ: مَا أَطْيَبَ طَعْمَكِ أَيَّتُها الوردةُ الطَّيِّبَةُ..

وَرَاحَتْ رِيمْ تَتَنَقَّلُ مِنْ وَرْدَةٍ إِلَى وَرْدَةٍ تَأْكُلُ مِنْ كُلِّ وَرْدَةٍ قَلِيلاً وَتَمْتَصُّ رَحِيْقَها الجَمِيْلَ..

لَكِنَّ رِيمْ تَوَقَّفَتْ عَنْ أَكْلِ الرَّحِيْقِ وَوَقَفَتْ مُسْتَغْرِبَةً مُنْدَهِشَةً بِحَالَةِ صَدْمَةٍ...

وَقَالتْ: غَرِيْبٌ حَقًّا.. أَنَا لَسْتُ فَرَاشَةً حَقِيقِيَّةً وَآكلُ رَحِيْقَ الأَزْهَارِ..!!!

يَاللعجبْ.. شَيْءٌ غَيْرُ مَعْقُولْ.. لاَ يُصَدَّقْ.

قَالَتِ البجعةُ الحَكِيمةُ: أنتِ الآنَ فَرَاشةً ولستِ إِنساناً، وطعامُكِ طعامُ فراشاتٍ.

لكنَّ ريمْ لَمْ تقبلْ هذهِ الفكرةَ...

وصاحتْ: أُرِيدُ لَبَنًا.. أريدُ خُبْزًا وقِطْعَةَ بَسْكَوِيْتٍ..

ضَحِكَتِ الأَزْهَارُ..

قالتْ زَهْرَةٌ: ماذا.. ماذا؟

بَسْ.. بَسْ.. بَسْ.. كَ... كَ.. ويييييْت.. مَا هَذِهِ الكَلِمَةُ الغَرِيْبَةُ...؟؟؟

ضَحِكَتِ البَجْعَةُ الحَكِيْمَةُ وَقَالَتْ: إنَّها نَوْعٌ مِنَ الحَلْوى يُحِبُّها أَطْفَالُ البَشَر..

قالتْ وَردةٌ كانتْ صامتةً وتراقبُ ما يحدثُ: لكنكِ لمْ تعودي طِفْلَةً أيَّتُها الفراشَةُ الجَمِيلةُ.. هيَّا تعالِيْ إليَّ.. أنا أقدِّمُ إليكِ رَحِيْقِيْ كُلَّهُ وَلِيْمَةً لَكِ.. فَمُنْذُ أَنْ رَسَمَنِيْ الفنَّانُ لَمْ أَحْظَ بِهَذا الشَّرَفِ العَظِيمِ.. هَيّا أَرْجُوكِ..

رَفَضَتْ رِيمُ الفراشةُ كُلَّ هذا الكلامِ.. وَنَفَضَتْ جَنَاحَيْهَا..

حَمَلَها الرِّيْحُ بِرِفْقٍ حَتَّى بَلَغَتِ الغابَةَ القَرِيْبَةَ...



ما أَنْ وَصَلَتْ رِيمْ إلى الغَابَةِ.. وَكَانَتْ أَشْجَارُها قَدْ عَرِفَتْ بِقُدُومِ الفَرَاشَةِ.. صَارَتْ تُصَفِّقُ بِكُلِّ قُوَّةٍ تَرْحِيبْاً بِقُدُومِها..

وَمِنْ شِدَّةِ التَّصفيقِ خَافَتِ الفَرَاشَةُ وَكَادَتْ تَسْقُطُ عَلَى العُشْبِ.. فَبَسَطَتْ شَجَرَةٌ قَرِيبةٌ مِنْهَا غُصْناً لَيِّناً مِنْ أَغْصَانِها وَالْتَقَطَتْها بِأَوْرَاقِها الخَضَراءِ النديَّةِ..

وقالتِ الشَّجَرَةُ:

مَرْحَباً بِكِ يَا أَجْمَلَ فَرَاشَاتِ الدُّنْيا.. نَحْنُ نَنْتَظِرُكِ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيْدٍ.. لاَ يَلِيْقُ بِنَا أَنْ نَتْرُكَكِ تَقَعِيْنَ عَلى أَرْضِ الغَابَةِ.. نَحْنُ هُنَا كُلُّنَا بِخِدْمَتِكِ أَيَّتُها الجَمِيلةُ اللَّطِيفَةُ.. كَمْ اشْتَقْنَا إلى وُصُولِكِ.. كَادَ اليَأْسُ يُصِيْبُنَا بِالمَوْتِ.. نَحْمَدُ اللَّهَ عَلى وُصُولِكِ بِالسَّلامَةِ..

قَالَتِ الفَرَاشَةُ مندهشةً أكثرَ وأكثرَ: يا لِغَرَابَةِ مَا يَحْدُثُ.. يَا لِهَذا العَالَمِ الغَرِيْبِ.. كُلُّ شَيْءٍ يَتَكَلَّمُ وَيَتَحَرَّكُ...

تَحَرَّكَتْ أَغْصَانُ شَجَرَةٍ كَبِيرَةٍ مُسِنَّةٍ..

قَالَتْ بِصَوْتٍ خَافِتٍ:

نَعَمْ يَا صَغِيْرَتِيْ.. صَدِّقِيْ.. اُنْظُرِيْ إلى عُمْرِيَ الطَّويلَ.. وَرَاقِبِيْ أَغْصَانِيَ الَّتِي شَاخَتْ.. وَأَوْرَاقِيَ الَّتِي جَفَّتْ.. وَتَأَمَّلِيْ جَذْعِيَ الضَّخْمَ وَجُذُورِيَ الَّتِي نَبَتَتْ إلى سَطْحِ الأَرْضِ.. هَلْ سَأَكَذِبُ عَلَيْكِ وَأَنَا فِي هَذِهِ السِّنِّ؟؟ تَعَالِيْ يَا حُلْوَتِيْ، تَعَالِيْ لِأَحْضُنَكِ بَيْنَ ضُلُوعِيْ الطَّرِيَّةِ..

خَافَتِ الفَرَاشَةُ عَلَى مَلْمَسِها النَّاعِمِ أَنْ يَتَجَرَّحَ بَيْنَ أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ..

تَرَاجَعَتْ إلى الخَلْفِ..

كَانَ جُوْعُها يَشْتَدُّ وَبَطْنُها تُؤْلِمُها مِنَ الأَلَمِ.

صَاحَتْ: يَكْفِيْ.. يَكْفِيْ.. أُرِيدُ طعاماً.. أَنَا جَائِعَةٌ جَائِعَةٌ.. جَائِعَةٌ..

نَادَتْهَا أَشْجَارُ المَوْزِ وَالخَوْخِ وَاللَّوْزِ...

تَعَالِيْ إلَيْنَا وَذُوقِيْ طَعْمَنَا اللَّذِيْذَ الشَّهِيَّ... تَعَالِيْ لاَ تَخَافِيْ..



نَظَرَتِ الفَرَاشَةُ نَحْوَ ثِمَارِ الأَشْجَارِ الَّتِي تَتَدَلَّى كَأَرْوَعِ مَا تَكُونُ.. رَغِبَتْ فِعْلاً بِالإِقْتِرَابِ مِنْهَا.. فَقَدْ كَانَتْ شَدِيدةُ الجُوْعِ.. وَلَمَّا هَمَّتْ بِالإقْتِرَابِ مِنْهَا اعْتَرَضَ طَرِيْقَها طَيْرٌ صَغِيْرٌ سَرِيعُ الطَّيَرَانِ.. قَالَ لَهَا بِلَهْفَةٍ: لاَ تُصَدِّقِيْ لاَ تَقْتَرِبِيْ مِنْهَا.. ثِمَارُها سَامَّةٌ.. سَتَقْتُلُكِ أَيَّتُها الجَمِيلةُ.. هَذِهِ الأَشْجَارُ سَامَّةٌ.. تُرِيدُ قَتْلَكِ وَالتَّخَلُّصَ مِنْكِ لأَنَّهَا تُحِبُّ النَّوْمَ.. وَتُرِيْدُ أَنْ تَظَلَّ كُلُّ الطَّبِيعَةِ نَائِمةً سَاكِنَةً خَامِلةً مِثْلَها.. هِيَ لاَ تُحِبُّ الحَيَاةَ.. ابْتَعِدِيْ عَنْهَا... ابْتَعِدِيْ..

تَعَجَّبَتْ رِيمْ مِنْ هذا الطَّائِرِ الجَميلِ كَيْفَ يَتَكَلَّمُ.. قَالَتْ: لِمَاذَا تَقْتُلُنِيْ.. وَلِمَاذَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تَسْتَيْقِظَ الطَّبِيعَةُ..؟!

قَالَ العُصْفُورُ: لأَنَّهَا لاَ تُحِبُّ الحَيَاةَ.. وَلاَ النَّشَاطَ.. كُلُّ الأَشْجَارِ كَانَتْ سَعِيْدَةً بِوُصُوْلِكِ إِلاَّ تِلْكَ الأَشْجَارُ الثَّلاَثُ..

لَمْ تَقْتَنِعْ رِيمْ.. نَادَتْها شَجَرَةُ المَوْزِ: تعالِيْ يَا حُلْوَتِيْ.. هَذَا العُصْفُورُ يُرِيدُ أَنْ يَظَلَّ يَأْكُلَ ثِمَارِيْ لِوَحْدِهِ.. وَيُرِيدُ أَنْ يُبْقِيْهَا لِلْطُّيُورِ أَمْثَالِهِ.. تَعَالِيْ لاَ تَخَافِيْ..

كَانَتْ رِيمْ جَائِعَةٌ جِدًّا..

وَهَذِهِ الأَشْجَارُ هِيَ الأَشْجَارُ الوَحِيدَةُ القَرِيبَةُ مِنْهَا وَهِيَ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَ بِسُرْعَةٍ..

أَرَادَتِ الإِقْتِرَابَ مِنْ شَجَرَةِ المَوْزِ وَتَنَاوُلِ مَوْزَةٍ وَاحِدَةٍ تَسُدُّ بِهَا جُوْعَها..

حاولتِ الإقترابَ مِنْهَا فَهَبَّتْ رِيحٌ قَوِيةٌ حَالَتْ بَيْنَها وَبَيْنَ الشَّجَرَةِ..

قالتْ لها الرِّيْحُ: سَأَحْمِلُكِ إِلَى مَكَانٍ جَمِيلٍ مَلِيءٍ بِالْعَسَلِ الطَّيِّبِ الشَّهِيِّ.. وَالثِّمَارِ اليَانِعَةِ الرَّائِعَةِ الحُلْوَةِ الشَّهِيَّةِ.. فَنَحْنُ أَحِبَّاءُ الطَّبِيْعَةِ نُرِيْدُكِ وَسَنَحْمِيْكِ مِنَ الخَطَرِ..

فَجْأَةً وَقَبْلَ أَنْ تَفْرَحَ رِيمُ الفَرَاشَةُ بِمَا حَدَثَ.. وَجَدَتْ نَفْسَها فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى مِنَ الغَابَةِ، قُرْبَ وَاحَةٍ جَمِيلةٍ يُحِيْطُ بِهَا النَّخِيْلُ مِنْ كُلِّ جَانَبٍ.. والأَشجارُ مُنْتَشِرَةٌ عَلَى ضِفَافِهَا..

وقُرْبَ المَاءِ وَرْدَةٌ كَبِيرةٌ مِثْلَ كَأْسٍ ضَخْمٍ مَلِيءٍ بِالعَسَلِ الذَّهَبِيِّ البَرَّاقِ..

اقتربتْ رِيمْ بِسُرْعَةٍ نَاحِيةَ العَسَلِ تُرِيدُ تَنَاوُلَهُ بِسُرْعَةٍ..

فجأةً خرجتْ سمكةٌ مِنَ المَاءِ وَصَاحَتْ بها: انْتَبِهِيْ انْتَبِهِيْ.. هُنَاكَ أَفْعَى خَطِرَةٌ دَخَلَتْ مُنْذُ لَحَظَاتٍ فِي العَسَلِ.. لاَ تَقْتَرِبِيْ مِنْهَا سَتَقْتُلُكِ..

تَرَاجَعَتْ رِيمُ الفرَاشَةُ.. قَبْلَ لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ ظُهُورِ رَأْسِ الأَفْعَى الشِّرِّيْرَةِ..

كَادَتْ تَفْتِكُ بِهَا لأَنَّهَا تُحِبُّ الحَيَاةَ..

فَاهْتَزَّتِ البُحَيْرَةُ غَاضِبَةً وَاُنْقَضَّتِ الطُّيورُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ تَضْرِبُ الأَفْعَى بِمَنَاقِيْرِهَا..

هَرَبَتِ الأَفْعَى لَكِنَّها قَبْلَ أَنْ تَهْرُبَ بَثَّتْ سُمَّها فِي العَسَلِ لِكَيْ يَمُوتَ مَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ..



ذُهِلَتْ رِيمْ مِنْ هَذَا المَشْهَدِ المُرْعِبِ..

كَادَتْ تَمُوتُ لَوْلاَ السَّمَكَةُ وَالطُّيُورُ..

رَاحَتْ رِيمْ تَشْكُرُ السَّمَكَةَ وَالطُّيُورَ عَلَى مَا فَعَلُوهُ مِنْ أَجْلِهَا..

لَكِنَّ رِيمْ مَا زالتْ شَدِيدةَ الجوعِ..

الْتَفَتَتْ فَرَأَتْ شَجَرَةَ جَوْزِ هِنْدٍ ضَخْمَةٍ..

رَأَتِ الشَّجَرَةَ تَنْظُرُ إِلَيْهَا بِلُطْفٍ وَحَنَانٍ.. وَتُحَرِّكُ أَغْصَانَها تَدْعُوها إليها.. لِتَأْكُلَ مِنْ ثِمَارِها الشَّهِيَّةِ وَتَرْتَوِيَ مِنْ مَائِهَا الحُلْوِ اللَّذِيذِ..

صَمَّمَتْ رِيمْ هَذِهِ المَرَّةَ أَنَّ تَصِلَ إِلَى الشَّجَرَةِ مَهْمَا كَانَتِ الأَخْطَارُ..

صَارَتِ الطُّيُورُ تُنَادِيها بِكُلِّ قُوَّةٍ..

الأَشْجَارُ تَهْتَزُّ بِعُنْفٍ..

الرِّيْحُ لَمْ تَسْتَطِعْ مَنْعَ رِيمْ..

مياهُ الواحةِ تَهْتَزُّ بِعُنْفٍ..

زُهُورُ البُسْتَانِ صَارَتْ تَصِيْحُ..

الجميعُ:

تَوَقَّفِيْ. ابْتَعِدِيْ..

لَكِنَّ رِيمْ لَمْ تَعُدْ تَهْتَمُّ..

فَهِيَ إِنْ لَمْ تَأْكُلَ سَتَمُوتُ مِنَ الجُوْعِ...



كَانَتْ رِيمْ فِي قِمَّةِ جُوْعِها..

قَالَتْ: سَآكُلُ مِنَ الشَّجَرَةِ مَهْمَا كَانَ الخَطَرُ.. وَلَوْ كَانَتْ سَامَّةً.. مِنَ الأَفْضَلِ لِيْ أَنْ أَمُوتَ مِنَ السُّمِّ وَأَنَا شَبْعَانَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَمُوتَ مِنَ الجُوْعِ...

وَصَلَتْ رِيمْ إِلَى الشَّجَرَةِ..

ضَحَكَتِ الشَّجَرَةُ ضِحْكَةً مَاكِرَةً..

قَدَّمَتْ لِرِيمْ أَكْبَرَ ثِمَارِها..

وَمَا أَنْ فَتَحَتْ رِيمْ فَمَها لِتَأْكُلَ حَتَّى أَحَسَّتْ بِهَوَاءٍ يَطِيْرُ بِهَا مِنْ جَدِيدٍ..

وَلَمْ تَسْتَطِعِ المُقَاوَمَةَ..

رَاحَتْ تَسْقُطُ وَتَسْقُطُ فِي وَادٍ عَمِيقٍ عَمِيقٍ...

ثُمَّ وَقَعَتْ عَلَى أَرْضٍ طَرِيَّةٍ...

نَامَتْ عَلَى الفَوْرِ مِنْ شِدَّةِ التَّعَبِ...



بَدَأَ النُّورُ يَدْخُلُ المَكَانَ قَلِيلاً قَلِيلاً..

سَمِعَتْ رِيمْ أَصْواتاً حَوْلَها.

رِيمْ.. رِيمْ.. اسْتَيْقِظِيْ.. حَانَ وَقْتُ ذَهَابِكِ إِلَى المَدْرَسَةِ..

فَتَحَتْ رِيمْ عَيْنَيْهَا.. لَمْ تُصَدِّقْ أَنَّها لاَ تَزَالُ عَلَى قَيْدِ الحَيَاةِ.. وَأَنَّها عَادَتْ لِغُرْفَتِها..

وَقَفَتْ عَلَى قَدَمَيْها تَتَأَمَّلُ جَسَدَها كُلَّهُ.. كَانَتْ مُنْدَهِشَةً مِنْ كُلِّ مَا حَدَثَ...

بَحَثَتْ عَنِ الكِتَابِ فَوَجَدَتْهُ لا يَزَالُ فِي مَكَانِهِ..

تَأَمَّلَتْ غِلاَفَهُ فَرَأَتْهُ كَمَا هُوَ وَلَكِنَّ الفَرَاشَةَ اخْتَفَتْ..

لاَحَظَتْ أَنَّ الأَشْجَارَ وَالزُّهُورَ وَالطَّبِيعَةَ حَزِينةً تَنْظُرُ إِلَيْهَا بِأَلَمٍ..

قَالَتْ رِيمْ لِأُمِّهَا: إِنِّي جَائِعَةٌ جَائِعَةٌ... أَكَادُ أَمُوتُ مِنَ الجُوعِ..

ضَحِكَتِ الأُمُّ: تُرى بِمَاذَا كُنْتِ تَحْلُمِيْنَ اللَّيْلَةَ المَاضِيَةَ؟؟

نَظَرَتْ رِيمْ إِلَى يَدَيْها..

قَالَتْ: أَحْلُمُ؟؟

بِمَاذَا أَحْلُمُ؟؟

أَحْلُمُ؟ لَمْ أَكُنْ أَحْلُمُ..

رِيمْ لَمْ تُخْبِرْ أُمَّها بِقِصَّتِها..

لَمْ تُخْبِرْها بِقِصَّةِ الكِتَابِ..

قِصَّةُ فَرَاشَةِ الغَابَةِ...

لِأَنَّها بِالتَّأْكِيدِ لَنْ تُصَدِّقَها.. وَسَتَقُولُ لَهَا بِأَنَّهَا صَارَتْ تَتَخَيَّلُ أَشْيَاءَ لاَ وُجُودَ لَهَا..

لَكِنَّ رِيمْ ظَلَّتْ تَحْلُمُ وتَحْلُمُ وَتَحْلُمُ.. دُونَ أَنْ تَقْتَرِبَ مِنَ الكِتَابِ السِّحْرِيِّ.. فَقَدْ أَغْلَقَتْهُ بِإِحْكَامٍ وَوَضَعَتْهُ فِي صُنْدُوقٍ حَدِيدِيٍّ وَدَفَنَتْهُ فِي أَعْمَاقِ حَدِيقةِ المَنْزِلِ..





(النهاية)



مع تحيات د.طارق البكري

View bakri's Full Portfolio