العالم يحتفل بعيد ميلاده

قصة قصيرة:

العالم يحتفل بعيد ميلاده!



الضوء يتسلل من تجاويف الخشب العفن.. والصمت بلا حدود..

عندما تمر السيارات تمزق وشاح السكون المنسكب كعباءة شتوية في ليلة اختبأت فيها النجوم..



اليوم يحتفل كل العالم بميلاده.. ولا يدري أهي ليلة نحس، أم سعادة، الكل حول العالم يرقص ويغني.. وهو يقبع في قبوه الذي لا يربطه بسطح الأرض سوى نافذة علوية من الخشب العفن.. نخرها السوس.. قبل سنين طويلة خرج الى الدنيا.. أخبرته أمه أنه ولد في رأس السنة، والده خرج هائما يبحث عن وسيلة نقل تحمل زوجته الى المستشفى.. فدهسته سيارة مسرعة.. لم يعلموا عن موته إلا في اليوم التالي، أما هو فقد ولد على يد جارته العجوز.. وحمل ميلاده هذ التاريخ، واسمته أمه باسم والده..



ابتسم.. هو يبتسم مرة واحدة في كل عام، عندما يتذكر عيد ميلاده، وهل ذلك غريب على رجل جاء الى الحياة على جثة أبيه؟



«كم أكرهك.. لن أدعك تمص ثديي.. لولاك لما مات أبوك»..



رمته كعظمة للكلاب الشاردة..



من يصدق أن أما تكره الأمومة؟.. تحمل رضيعها مسؤولية القتل؟



بل.. منذ متى يحاكم الأطفال؟



بل.. كيف يحاسب إنسان على جريمة لم يقترفها؟



«أكرهك.. أنت مثل جلد حمار نتن.. ألحق بأبيك خير لك»..



الجارة العجوز أم عمّار، هي في الحقيقة ليست أما لعمار ولا لغيره، وهي لم تتزوج في الأصل.. فقد كانت دميمة قبيحة، ولديها تشوهات في يديها، وشفتها العليا تلتصق بأنفها.. وهذا شكلها في سن الصبا.. فتخيل شكلها وهي فوق الستين.



فمن يتزوج مثل هذه المرأة؟ قبح وفقر وتشوّه خلقي.. ما أقسى هذا العالم الذي تحكمه معايير قد يفقد الناس بعضها.. فيصبحون «عظاما للكلاب الشاردة»



أم عمار.. رغم كل بشاعتها.. ورغم هروب الرجال منها وعزوفهم عن الزواج بها اغتصبت أكثر من ثلاث مرات، كان ضعفها، ووحدتها، وعدم وجود من يحميها.. كل ذلك يشكل إغراء لرجال كرهوا دمامتها.. وأفرغوا ـ مع ذلك ـ شهواتهم في جسدها المشوّه.



كان يحدق في المرآة المتصدئة.. والابتسامة الساخرة تلوي شفتيه الى اليمين..



مرة.. وهو في الرابعة أو الخامسة.. شاهد آخر اغتصاب لها.. كما لو كان يحلم بشيء لا يعرفه..



المشهد لايزال ماثلا أمام عينيه.. يراه كشريط سينمائي شديد الجودة.. امرأة فوق الستين.. تفتح شهية لصوص.. لم يجدوا في البيت شيئا سوء هذا اللحم المجعد.. وضعوه أمامهم.. جعلوه يراقب ما يحدث.. كان خائفا.. مرتعدا.. ثم هربوا وتركوها تموت عارية بين يديه..



وماذا يمكن لطفل في الخامسة أن يفعل.. وهو يرى مثل هذا المشهد المأساوي.. الأليم؟.. وماذا يستطيع ان يفعل سوى ان يحفر هذا المشهد في خياله الغض الطري.. وهو لا يعرف غيرها.. ولم يذق غير طعم صدرها الجاف.. ومرارة دمعها الذي كان يسيل في كل حال وحين..



قصيرة قامتها.. ولعله ورث عنها هذه القامة، مع أنها ليست أمه الحقيقية.. التي لا يدري ما اذا كانت لاتزال تعيش حتى اليوم.. وحتى لو كانت حية، هل ستقبل أن يرتمي في أحضانها.. وهو كبير، بعد أن رفضته وهو صغير محتاج لحليبها؟..



من حين لآخر، توقظه المفرقعات التي تتردد احتفاءً بالسنة الجديدة، تنثر خيالاته وتعيده لواقعه.. يبتسم من جديد.. العالم يحتفل بعيد ميلاده.



د. طارق البكري

View bakri's Full Portfolio