صاحب القصر وصديقه القديم





للأطفال



قصة: الدكتور طارق البكري





في مكان بعيد بعيد.. على قمة ربوة خضراء عالية، محاطة غالبا بسحب بيضاء  مثل ثلج ناصح.. متوهج تحت شمس، يكاد متأمل يسحر بمرأى سماء تحتضن ربوة بحنو وسكينة.. يشعر في الليالي بقدرته على لمس نجوم مرتجفة، تبدو من هاهنا دانية مثل ثمار شجر.. يكاد عابر في عتمة(ظلمة) دروب طويلة لا يحتاج ضوء قنديل أو شعاع سراج..

هناك..

حيث ينام قمر وتغفو عصافير دون خوف من صياد يأتيها بغتة (فجأة).. تسير أرانب بخشوع  آمن في جوار ثعالب, وترقد (تنام) حملان قرب ضباع..

هناك..

في أعلى سنام الربوة قصر حجري قديم..

قرميد سقفه.. صخر جدرانه.. عال جبينه.. مرتفعة هامته..

منارته تخرق الفضاء، ترمي بشباكها حيث تسكب أنوار بهيبة شموخ، بلا استئذان..  

يطل القصر ببهاء باهر على حدائق وتلال ووديان ومروج.. معلنا نفسه حارسا أمينا للوحة فنية طبيعية ساحرة مبدعة صافية..

وفي أيام شتوية.. وقتما تتكدر سماء (يتغير لونها)، تغيب منارات القصر الشامخة للعلا بين غيوم متكدسة كقطن حالك(شديد السواد) تتدلى من فوق الى تحت، تتمدد من أسفل الى أعلى.. تبدو تلالا قطنية تنحدر بقوة.

سيد القصر وصاحبه لا يستسلم لجبروت طبيعة..

يأبى أستار شتاء تحجب أنوارا مرسلة جذبا  لتائهين ضائعين في عتمة ليل.. يطلبهم حثيثا (سريعا) كما يطلب سراج نور فراشات هائمة ترنو(تحن) لدفء وقبس (شعلةُ نّار) من أمل..

عندها يستنفر خدم القصر وعسسه(حراسه)، ينطلقون بأمره، يزرعون قناديل على أطراف الربوة..  في زوايا طرقات ودروب، إسعافا (إنقاذا) لعابري ليل كالح (متجهم عابس)، هديا لتائهين تحت لطم عواصف.. دعوة لمشردين باحثين عن مأوى(ملجأ) دافىء، يلوذون به (يحتمون به)، يقيهم سياط برد وبلل شتاء وقرصة جوع..

ومن يعرف جوع يعرف أن قساوته في برد أشد وأمر..

***

القصر واسع واسع، غرفه كثيرة كثيرة.. تحيطه بساتين ممتدة تنتهي حيث ينتهي البصر..

مئات  العمال يعملون دون ملل..

يزرعون أنواعا من أشهى فاكهة وخضراوات.. أرض الربوة خصبة خصبة، لا تبخل بشيء مما في أحشائها(بطنها)، لا تحتاج سمادا ولا  جهدا كبيرا، ماء يسيل حولها من كل صوب، عشب ضار لا ينبت بها.. ترابها نظيف.. فاكهتها لذيذة.. كل ما عليها يعجز واصفا عن وصفه وساحرا عن سحره وفنانا عن فنه وشاعرا عن شعره..

في الربوة حركة دائبة (جَادّةٌ مُنْهَمِكٌة)، أعمال مستمرة لا تتوقف.. مثل خلية نحل أو ثكنة جيش.

صاحب القصر هادئ رزين (حليمٌ وقورٌ رصين).. لطيف في تعامله، وهو دائما سعيد مبتسم بشوش..

عمال يحبونه.. أزهار.. أشجار.. فراشات.. حتى حيوانات الزرائب (حَظيرَةُ الْماشِيَةِ) عندما تشم رائحته تطلق أصواتا تدل على رضى وحبور (سرور).

كل من في القصر يقلد السيد الكريم.. حرس خدم حاشية.

هو لا يفرق بينهم.. علا شأن أحدهم أو انخفض..

كل متساوون سواسية، وأكثر من ذلك، يساويهم بنفسه، في مشرب ومأكل وملبس، طعامهم طعامه، ثيابهم ثيابه، لو شاهدته برفقتهم ما فرقت بينهم وبينه..

لا يبخل عليهم بعطاء.. لا يهينهم.. لا يكلفهم ما لا يطيقون..

على هذه الحال عاش ساكنو القصر بوئام وسلام ومحبة، عاشوا دون أن تكدر صفو حياتهم شائبة (علة).

***

مرت أيام هنيئة سعيدة.. ليس فيها ما يقلق من مزعجات..

توالت سنون وأيام آمنة مستقرة..

كبر سيد القصر.. وبلغ أولاده الثلاثة: رستم، حمزة، تيمور سن فتوة وشباب..

سار الأبناء على منوال (أسلوب) أبيهم.. عملوا بأيديهم، لم يميزوا أنفسهم عن غيرهم من عمال القصر وزارعي حدائقه.. لم يكن زائر يفرق بينهم وبين أصغر عامل في القصر..

عاش الجميع أيامهم بهدوء.. يتزوجون.. يتعلمون..يزرعون.. يحصدون.. كانت أعدادهم تزداد إما بأولاد جدد أو بعمال جدد.. وكان صاحب القصر يبني لعماله بيوتا حول قصره تبدو للرائي (للناظر) قصرا مصغرا عن قصر كبير.. لم يفعل ذلك إبعادا لهم عن قصره.. بل لأن قصره ضاق بساكنيه كما إنه أراد لهم أن يستقلوا ببيوت خاصة ويعشوا حياة طبيعية..

سيد القصر متزوج من زمن بعيد.. لكن أحدا لا يعرف زوجه.. لم تكن تظهر على ناس أبدا.. وحتى على نساء كبار معاونيه..

طلب بعض نساء إذنا بزيارتها..  كان طلبهن يرد دائما بلطف بالغ.

كن يتعجبن من هذا السر، يتساءلن عن سرّ سيدة القصر التي لا تخرج من جناحها ولا يعرفها أحد..

ومع مضي الأيام خبا (خف، بهت) كل حديث عنها وكاد الناس ينسون وجودها ولم يعد كلام عنها رائجا (سائدا).

وفي ليلة صيفية..

في وقت متأخر..

انعدمت فيه أصوات البرية (المخلوقات) والنسائم الساكنة.

لم تكن تسمع أصوات طيور وحشرات..

شق صمتاً بديعاً (رائعاًَ) صرخة مثل صاعقة مدوية.. انفجرت من ذاك الجناح المنسي.. المحرم على ساكني القصر وحدائقه..

صرخة واحدة كافية لتوقظ الجميع .. أشاعت رعبا وخوفا وهلعا (شدة فزع)..

صرخة يتيمة جعلتهم يخرجون من بيوتهم في ثياب نوم..

يعدون( يركضون) نحو القصر هلعين خائفين فزعين..

الصوت انبعث (هب، تدفق) من الجناح المحرم، صاروا يتهيبون (يحذرون) من نبأ جلل(عظيم).

يا ترى ماهذا الخطب (المكروه) الكبير والموقف الخطير الذي حدا (دفع) سيد القصر للصراخ بهذا الشكل المريع (المخيف)؟؟؟

ترقب الناس أمام القصر.. لم يجرؤ واحد منهم على دخوله..

كانو يسمعون صوت نشيج ( بكاء) سيدهم، لكن يستحيل عليهم دخول الجناح المحرم..

ظلوا واقفين يترقبون ساعات..

عيونهم مشدودة الى نوافذ القصر..

انتظروا حتى بدأت أشعة شمس تتكوم بعيدا ثم تتسلل من وراء أكمة (مرتفع) بعيدة.. وراح ضوء ينبسط (ينتشر) غامرا تلالا ووديان وسهولا...

لكنهم ظلو مسمرين (ثابتين) في أماكنهم، كأن الحياة توقفت عند صرخة شقت عنان سماء (ما ظهر منها إذا نظرنا إليها)، صرخة ما تزال تتردد في آذان مضطربة تركت أثرا في وجوه واجمة (عَابِسٌة مِنْ شِدَّةِ هَمٍّ).

عند ارتفاع قرص الشمس، شعر الناس بحركة مريبة (مُشْتَبَهٌ فِيها).

ترقبوا.. ارهفوا (ركزوا) اسماعهم.

تسللت خادمة صغيرة السن..

سلكت أبواباً خلفية للقصر، نقلت إليهم نبأ (خبرا):

سيدة القصر ماتت... سيدة القصر ماتت..

تعالت أصوات بكاء... دموع تساقطت..  بكوا كأطفال صغار..

تعالت أصوات بكاء مع أن أحداً لم ير وجه الميتة في حياته، كانت لغزا محيرا، مثلما هو موتها الآن..

مع ذلك تأثروا حباً بسيد القصر وأبنائه.. رفعوا أكف صلوات.. سألوا الله لها الرحمة..

انتظروا تشييع ميت..

ترقبوا خروج جثة ليدفنوها ويقيموا لها واجب عزاء كبير يليق بها وبزوجها..

مضى وقت.. لكن جثة لم تخرج..

طالة غيبة سيد القصر وأبنائه..

انتظروا النهار كله.. تعبوا.. جاعوا.. لكنهم ظلوا واقفين منتظرين مترقبين..

أتى المساء ثقيلاً..

عادوا إلى بيوتهم قسرا(مرغمين)..

في صباح باكر تال.. خرج الأبناء كعادتهم كأن شيئا لم يكن..

توجهوا لعمل مع عمال دون أن يتكلموا كلمة واحدة.. كما أن أحدا لم يسأل سؤالا واحداً..

انصرف عمال البساتين والحدائق والزرائب.. كل يعمل عمله..

تبادلوا نظرات..

ترقبوا خروج سيدهم.. لكنه لم يظهر طوال اليوم..

مضى يوم.. يومان.. ثلاثة.. أيام وأيام..

الحال بقيت على ما هي عليه.. سيد القصر غائب عن مزارعه..

بعد أيام..  

في يوم شديد قيظ (حر).. ودون توقع، ظهر سيد القصر راكبا فرسا أسود ضخما.. يحمل بيمينه سوطا رآه عماله لأول مرة.. لم يكد هؤلاء يرون سيدهم حتى توقفوا عن العمل وركضوا نحوه بسعادة عفوية، فانهال عليهم بسوطه (أوْسَعَهُم ضرْباً)، وشتمهم ساخطاً آمرا بعودة إلى عملهم..

تغيرت أحوال صاحب القصر رأسا على عقب.. وبدا وجهه قبيحا دميما..

تبدل من إنسان طيب قلب هادئ طبع ودود إلى شرس عنيف قاس سيء..

أولاده: رستم حمزة تيمور نالهم أكثر مما نال غيرهم من أقبح الأوصاف..

ازدادت تصرفاته سوءا يوما بعد يوم.. وكأن روحا شريرة تلبسته..

تعجب الجميع مما يحدث.. لم يجرؤ أحد على صده (منعه)، حتى أولاده طردهم من القصر.. سكنوا بيوت عمال.. لم يعترضوا.. تحملوا تصرفاته تقديرا للصدمة الهائلة التي ألمت به بوفاة زوجه التي كانت سبب سعادة وفرح تليد (قديم)، فكان موتها شرارة نار أوقدت  نار قلبه وأحرقت كل شيء جميل في نفسه..

ومرت أيام..

كانت تصرفاته تزداد ثقلا يوما بعد يوم..

دارت أخبار القصر من مكان إلى مكان..

تحدث ناس عنها في قرى وبلاد.. تعاطف ناس معه واستغرب ناس.. وبغض آخرون تبدله..

حاول أبناؤه بجهد انقاذ أبيهم  من كربه (شدة الحزن)، لكنه كان صلبا كجلمود ( صخر).

لم يتخلّ الأبناء عنه وبعض مخلصين وأوفياء.. صبروا على ظلم سيدهم الحادث (المستجد) وتحملوا استبداده.. أما سائر العمال (بقيتهم وأغلبهم) فقد رحلوا هربا من ظلم سيدهم الذي يحبونه، وراحوا يبحثون عن مصدر رزق جديد لهم ولأولادهم..  صبروا زمنا، تحملوا أذى وسخطا.. ولما يئسوا من صلاح أمر سيدهم حملوا أمتعتهم ورحلوا مضطرين يدعون ربهم أن تهدأ نفسه ويطيب خاطره ويعود لسابق عهده بعد زوال أحزان شحنت(ملأت) قلبه غضبا وكمدا( حزنا شديدا).

سارت أيام سير سلحفاة عجوز.. مضت ثقيلة ثقيلة..

بساتين غنّاء (عامرة) ومروج خضراء تحولت إلى هشيم (يَابِسُ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ).

جفت ضروع الحيوان وحل عبوس وتجهم مكان بسط وانشراح..هواء كئيب،نسيم حزين..

بدت أرضا مهجورة من زمن.. نضب الماء (انقطع)، نتن الهواء (فسد)، تصحر التراب الطري..

لم يجسر أحد على مخاطبة سيد القصر.. حتى أولاده انقطعت صلتهم به..

وعندما يرونه هادئا يعتقدون أنه سيعود كما عهدوه.. ينفجر بركانا غاضبا يشتد ضراوة (وحشية) وقسوة وجوراً (ظلما)..

بات القصر مرعبا للناس جميعا..

لم يعد  هناك من يلوذ به ساعة ضيق..

كانت صيحات رجل تخرق سكينة، يتردد صداها ليجاوز تلالاً وودياناً مجاورة..

تناقل ناس الخبر..

حتى وصل إلى بلاد بعيدة..

الى صديق طفولة وصبا.. صديق عهد قديم كان يعيش في بيت سيد القصر يوم كان طفلا.. يوم كان وحيد والديه.. والداه اللذان خرجا في يوم عاصف لتفقد صديق مريض في بلدة بعيدة ولم يعودا.. فقدا في تلك الليلة.. عاش طفولته مع صديق الذي كان خادما ونديما (أنيسا).

عرف الرجل سبب غضب صديقه..

كان يكره الموت..

يكره موت من يحب..

خاف على زوجه فحبسها في جناح محرم كيلا تصاب بسوء..

لكن كيف يختبىء إنسان من قدر؟؟؟

وساعة الموت لا راد لها..

هذا الصديق كان أكبر من صديقه بسنة أو سنتين.. كان ابنا لمزارع يعمل عند أبيه.. كانت لهما أحلام كبيرة.. عندما بلغا الفتوة والشباب غادر الصديق الطموح مع والده المزارع الى قريته البعيدة ..

مضى يعمل حتى بلغ مكانة عالية وأصبح غنياً مثل صديقه.. لكن الصلة بينهما انقطعت لبعد المسافات ومشاغل الحياة..

عندما وصلت أخبار إليه تذكر أياما خالية.. أدرك سرّ ما أصاب صديق قديم.

قرر الصديق السفر إلى قصر صديقه ..

قرر ترك تجارته وزراعته وأمواله والسفر برفقة زوجه وأولاده وعمال له..  أحس بأن عليه واجبا عليه القيام به. فقد كانت صداقة طفولة بينهما من أروع ما يحملانه من ذكرى.. بل كانت أجمل أيام حياة..  

رأى أن واجبه اليوم يفرض عليه محاولة إنقاذ صديقه من ظروف صعبة..

جهز قافلة كبيرة.. أحضر عمالا ومزارعين وخدما..

عندما بلغ أطراف ربوة حذره ناس من الاقتراب.. فصاحب القصر غريب الأطوار.. كما يقولون..

تابع الرجل طريقة.. لم ينصت (يستمع) لأحد...

وصلت القافة عند منتصف ليل...

أمر الرجل عماله ألا يقتربوا من القصر وأن يسكنوا بيوتا مهجورة بعيدة..

بعد ساعات قليلة استعاد الرجال نشاطهم فخرجوا مع طلوع الشمس..

توجهوا نحو بساتين محترقة وراحوا يحفرون ويقلبون تراب أرض ويرشون ماء ليستعيد رطوبته استعدادا لزراعته من جديد..

لفت ذلك اهتمام أولاد صاحب القصر وما تبقى من عمال أوفياء فاتجهوا نحوهم وعرفوا قصة الرجل الصديق.. وفرحوا كثيرا بوصولهم وعملوا معا لتعود الأرض كما كانت..

صاحب القصر لم يكن يخرج من قصره الا نادرا، فقد أنهكه الحزن والألم والغضب.. وأصابه صعف ونحول(نحافة)..

كان يختلس (يسرق) النظر من حين لآخر سعيدا في نفسه لعودة الحياة الى بساتينه..

كان الصديق يعرف ما تعني الأرض لصديقه..

بعد أيام..

بعد أن انتعشت الأرض، اقترب الرجل من نافذة غرفة صديقه القديم..

جلس تحت النافذة..

صار ينشد أغنية قديمة كانا يغنيانها معا عندما كانا في ريعان الشباب (أَوّله وأفْضلُه):

الأرض التي نحبها..

قطعة منا..

تحيا بنا ونحيا بها..

هيا بنا نزرعها..

وإن مضت أعمارنا.. ولم نعمرها..

حياتنا سدى

حياتنا سدى

كل يوم تحيا أرضنا بنا..

أرضنا التي نحيا بها..

من أجلها..

هي مثلنا..

تحيا من أجلنا...

الأرض التي نحبها..

قطعة منا..

دهش صاحب القصر  مما سمع..

صوت صاحب قديم؟؟

صاحب عاش معه سنين طويله بعدما فقد أبويه ليلة عاصفة..

شعور رهيب يوم فقد والديه..

ذاك شعور نفسه تكرر يوم وفاة زوجه التي يحب..

أعاد الصوت له ذكريات كثيرة، أيقظ في نفسه أحلام ماض بعيد..

ما أصعب محنة عندما تتكرر مرتين..

5/4/2005

View bakri's Full Portfolio