البيت القديم المهجور



البيت القديم المهجور



د.طــارق البكري





تنحّت جانباً... خلف عمود يرفع على هامته سقفاً تزينه خيوط عنكبوتية؛ بعضها اسودّت مع مرور السنين، وأخر حديثة جداً لم يكمل صاحبها نشر أوصالها...

شعّ في عينيه بريق خافت مسكون بأحلام الماضي... بعد غياب طويل اقتضته ظروف قاسية؛ لم تمح آثارها بعد..

تنهّدت خلف زجاج المنزل المكسور، المكسو بغلالة ناعمة من الغبار الساكن في هذا البهو الواسع الممتد، واهتزت أصابعها وهي تحاول الإمساك بمقبض الباب؛ فأصابها ارتعاش ينبض بتلك الأيام المحملة بالألم والملونة بالدماء...

أشاحت عينيها لوهلة.....

استجمعت كل قواها الخائرة...

عندما همّت بالدخول؛ تفرّست بعلامة قديمة كانت قد حفرتها بمفتاح قديم... قبل أكثر من أربعين سنة..

فزعت، لم تقو قدماها الثقيلتان على الانتقال ولو خطوة واحدة لوطىء تراب المكان،  حسبته شيئاً شريفاً لا ينبغي مسّه لسكناه في مكان عزيز عليها... وربما كان اعتداء  على حرمة المكان المحفور في الذاكرة.. مثل نقش على صخرة مصقولة...

عادت بها الذاكرة إلى أيام الطفولة...

لا تزال تذكر بعض الكلمات العربية...

أمها "الجبارة" رفضت الانصياع لأمر إخلاء المنزل؛ ظلّت معسكرة فيه حتى ماتت من الجوع.... صارت الطفلة تبكي ووجدت نفسها بعد ذلك في بلاد بعيدة... تعيش بين أسرة طيبة عوضتها فقدانها للأم والأب...

وقفت مذعورة أمام المشاهد المترائية مثل خيالات تتراقص حولها...



أعمدة متهالكة.. أرضيات متشققة .. جدران متصدّعة ..

عادت الذّاكرة إلى الماضي..

يوم كانت طفلة تملأ الدار ضجيجاً وتطبيلاً..

هناك كانت لعبتها الصغيرة:

"آاااااااااااه "...

ما زالت تتذكر عندما تعثرت قدمها ووقعت على العتبة وسال الدم من أنفها، وتلطخ ثوب أمها الأخضر وهي تحملها لترضيها وتمسح عن عينيها دموع البكاء...

هناك تحت الدرج كانت تجلس لساعات، تعتبره مكاناً خاصاً، تعتبره ملكها لا يجسر أحد على الدنو منه دون إذنها...

كان الجميع يحترم اعتبارها... حتى والدها لم يعترض، رغم أنها جعلت المكان مخزناً دائماً لأشيائها الثمينة...

كانت تعيش حياة رغيدة وسعيدة...

فجأة اختفى أبوها ورأت أمها  تبكي.. لم تكتشف سرّ البكاء، لكن الصغيرة أدركت أن أباها رحل إلى الجنّة شهيداً بعدما تصدى لعصابات مجرمة أتت من بعيد...

طلبت العصابات من أمّها إخلاء المنزل، رفضت وتحصّنت لأيّام دون طعام... تحمل بندقية قديمة تهدّد بها من يحاول اقتحام المنزل...

بقي قليل من الطعام فتركته لطفلتها.. فعاشت الطفلة وماتت الأم بعد أيام من الجوع والعطش...

تذكرت الطفلة "الكبيرة" كل ذلك بعدما قررت العودة إلى وطنها بجواز سفر غربي واسم غربي... إلا أن كل ما هو عربي اشتعل في نفسها عندما جاءت ضمن وفد سياحي...

كانت تسعى للوصول إلى قريتها البعيدة...

فوجئت أن بيتها القديم لا يزال جاثماً على ربوة عالية.. ربما هجره العصابات لشدّة بساطته ولمكانه البعيد عن المدينة...

اشترت الطفلة "الكبيرة" بيتها من الإدارة المدنية في المنطقة...

لم تكشف لأحد سر هذا الشراء. بل أن أحدهم إستهزأ بها وظنّ أنها مغفلة...

لكن.. هل تستطيع ولوج المكان ووطىء بساط الغبار...

إنّه أمر عسير جداً، فهذا الغبار احتضن بلاط الأرض لسنوات طويلة...

عايش نسمات الماضي...

امتلأت رئتاه بعبق الماضي الذي تحلم به ..

قفلت الباب بمفتاح قديم... وضعت لوحة كبيرة عليها اسمها الحقيقي... ليس اسمها الغربي الموجود على جواز السفر،  بل اسمها القديم، وتحته عبارة:

هنا استشهد أبي وأمي وليس لي ذكرى إلا هذا البيت القديم المهجور.

View bakri's Full Portfolio