ذاكرة الألم

ذاكرة الألم



د.طارق البكري





عاد من رحلته يائسا بائسا ..

تخط  قدماه في الأرض السهله ، تفوح منه رائحة عطر أنثوي يثير الغرائز .

ظن أنه تحررمن قيود التاريخ وحواجز الزمن ..

تناسى أنه خليط من ماض وحاضر ، نتاج هذاالنسيج المركب ، ابن هذا الزمان الذى يحاول الانفكاك منه وما استطاع الى ذلك سبيلا ...

أصر بينه وبين نفسه على أنه مغامر ناجح .... أثبت أخيرا رجولته المنسية المسكونة بغلالات رقيقة من الألم والجوع والفقر والمكوث طويلا على أعتاب أصحاب الشأن وفي طوابير العاطلين الباحثين عن عمل ....

نسي أن هنالك ملايين مثله ...

طموحه الذي تكسر على صخرة الواقع لم يجبر .. بحث  لنفسه عن  مغامرة حقيقية مهما كلفه ذلك من عرق جبين .. المهم أنه أثبت للعالم ولنفسه أنه رجل قادر على كسر القيود  ... يستطيع التغلب على ما يفرضه الناس عليه من حجر  لأنه عاطل ... لكنه  لم يقصر بحثا عن عمل شريف ...

عمل حتى في تمديد المجاري الصحيه ، مع أنه يملك شهادة عاليه ...

صديقته التى أحبها في الجامعة تخلت عنه أمام أول طارق باب يملك شقة وسيارة وحسابا في البنك ..

ما زال يتحسر على نفسه، يتنهد ..

  لم تستطع كل كميات الخمور الرديئة التى شربها لأول مرة أن تمحي ذاكرة الألم ...

ظل يمشي لا يدري إلى أين يذهب؟

يريد أن يرغم نفسه على الإيمان أن المغامرة الأخيرة أشعرته بالبطوله ..  بل إنه اليوم هو البطل الحقيقي ،  يضاهي أبطال السينما العالميه ، وجهه شاحب الذي لوحته الشمس بنارها كان يلمح الى عكس ما يريد ..

" ما أحلاها من ليلة .. "

عاد يهذي  .. الخمر خربت رأسه لكنها لم  تمح ذاكرة الألم  ..

أخيرا وصل ..

فتح  نافذته المطلة على الشارع المظلم ..

الشارع  أشد سوادا من غابة في غابة ليس فيها قمر ..

الناس في حارته ينامون بعد صلاة العشاء مباشرة .  عملهم يبدأ مع أذان الفجر.. يخرجون  رجالا ونساء وأطفالا يبحثون عن أرزاقهم في كل مكان ولا يبقى في الحارة أحد .. قد  يظنها  العابرون  مليئة بالأشباح ..

ليلا أو نهارا الحركة فيها تقتصر على وقتين لا ثالث لهما :

بعد أذان الفجر وعند عودة الناس منهوكين متعبين حتى الثمالة قبيل مغرب الشمس ...

يتسللون إلى غرفهم الرطبة وفرشهم العفنة ... يفعلون الشئ الوحيد الذى يحبونه ..  يلقون على رؤوسهم بطانيات بالية يغرقون في نوم عميق مثل ألات

علاها الصدأ ...

هو وحده تمرد اكتشف نفسه قي تلك الليله ..

مزق شهادة الجامعه شعر أن وجوده لا فائدة منه ..

اكتشف فجأة أنه شئ ما لا يمت الى ماض أو حاضر ..

تجسد الواقع الذى لا يجسد واقعه ...  فكر ربما لأول مرة في سني عمره الذي تجاوز الأربعين قرر التمرد مع سبق الاصرار والترصد ..

مساكين أهل هذا الحي الفقير ..

فقير ؟؟؟

بل معدم  ، فارغون لا تغريهم الحياة  ..

لا يهمهم  إلا الكدح من الفجر حتى غروب الشمس وبين المغرب والعشاء  يمارسون الغريزة إذا استطاعوا ..

فقط لينسوا للحظات قليلة تعب النهار وشقاوة الحياة  ..

وغالبا ما يعجزون ..

وحده قرر اختراق حدود العقل  وذاكرة الألم ...

  رسم في رأسه أفكار الموت البطئ  ،الموت لا يمكن إنها حياة حينما يعز الموت ..

غسل يده بصابونة قديمة حركها بصعوبه تحت الماء مثل الثلج يابسه من ندرة الاستعمال  ..

"لا أقبل أن أكون ذلك الإنسان اللاشئ .."

اللاشئ حقيقة الفراغ ..

يدمر التفاصيل الصغيرة حتى الإنسان نفسه .

مغامرة حقيقية خاضها . لم يكن يملك إلا تلك الدراهم البسيطة ..

أضاعها كلها في ليلة حمراء ، كان يعلم أن تلك الغانية تضحك عليه ، توهمه أنه بطل أنه رجل مع أنه في الحقيقة  لا يدرك معنى الرجولة ..

لم يترك فرصة لنفسه .

شرب حتى الثمالة من أردأ أنواع الشراب , لم يستطع تغييب ذاكرة الألم  .. استجمع كل قواه المتبقية ..

غسل رأسه في طست نحاسي ورثه عن أجداده ..

نقع رأسه في الطست ،   الماء بارد بارد ..

أيقن أن لا فائدة من كل ذلك .

النور بدأ يتسلل برفق ،  ذاكرة الألم على حالها ..  الحارة تغرق في ضوء جديد ،  وجه الغانية الساخر وهي تطرده بعد أن أخرج من جيبه آخر الدراهم لا يستطيع  نسيانه  ..

" لا بأس المهم أنني تأكدت من رجولتي  أو على الأقل هذا ما بدا لي " .

يتمتم أمام المرآة المتكسرة المجروحه من كل جانب الموروثه هي أيضا عن أجداده ..

" لماذا تعلمت ألم يكن الأجدر بي أن أكون فرانا أو بناء ؟؟.."

عاد الى صمته ..

ارتدى ثوبه الوحيد مرة ثانيه لم يغسل فمه ...

بقايا الخمر الردئ ما زالت تفوح من  فمه  .

ذهب الى محطة القطار القريبة ،  اندس داخل الدرجة الأخيرة ..

تلك الدرجة التى يبقى فيها الناس وقوفا فترة طويلة طويله ..

ترك القطار يسير به حيثما شاء ..

يتخفى من قاطع التذاكر يبحث عن تذكرة واقعة على أرض القطار يبحث عن محطة جديدة تبعده عن حارته عن ذاكرة الألم عن تلك الغانيه الحمقاء التى ضحكت عليه و نزعت جيوبه من قروشه البسيطه ،  ثم رمته كقشرة موز تدوسها الاقدام .

View bakri's Full Portfolio
tags: