جريدة القبس- جراح ساخنة

طارق البكري يرش الملح على جراحنا الساخنة؟



المصدر

http://www.alqabas.com.kw/magazine_details.php?id=12398&word=طارق%20البكري

في أقل من ساعة تصفحت بعمق مجموعة د.طارق البكري القصصية الجديدة الصادرة عن دار الرقي للطباعة والنشر والتوزيع في بيروت، ولا يرجع ذلك الى براعة خاصة في القراءة، إنما إلى سلاسة اللغة المكتوبة بها المجموعة القصصية القصيرة وسهولة الحوار، وإلى إنسانية الفكرة أيضا التي تشدك من أول حرف في المجموعة الى آخر كلمة في كل قصة من قصصها الـ 13 القصيرة، وكذلك الى ذلك الاحساس الدافق من خلال اللقطة الذكية التي يلتقطها فنان متمكن جيدا من أدواته وفنه، لذلك تبلغك آلامه وأحاسيسه في بساطة ويسر، وتترك في القلب غصة وانبهارا في الوقت نفسه، بتلك الكاميرا اللفظية ـ إذا جاز لي التعبير ـ التي تعطي للمشهد واللحظة عمقها بصفاء وشفافية.



كل قصص المجموعة الثلاث عشرة لا تخلو من جرح وألم، ولكنه عند طارق البكري ألم انساني لا يفقد صاحبه أهميته ويجعلك تقترب منه اقترابا حميما وتتحالف معه كأنه صديق عزيز تتمنى لجرحه الشفاء، وان كان الأديب يحملك من خلال سرده الموجز والبليغ على احترام هذا النموذج الانساني لا الاشفاق عليه، وأبلغ مثل على ذلك في قصة «صديقي» الذي ما ان تنتهي من قراءتها حتى تحس كأن هذا البطل صديقك انت، وأنك لو كنت مكان الأديب وبعمق إحساسة لما فعلت غير ما فعل، ولذلك فأنت في كل ما ورد من نماذج وأبطال لقصصه مصدق ومتألم ومعجب في الوقت نفسه بهذا النموذج الفريد، الانطباع نفسه ينطبق على احدى قصص المجموعة «حاضر سيدي»، الواضح فيها انه لا يصح الا الصحيح، فعلى رغم بساطة وتواضع المستوى الاجتماعي للبطلة الا انها تنتصر على من سواها، لأنها تختلف عن كل من تعامل معه البطل من لهو واسفاف، هذا التناقض الواضح بين الأبيض والأسود، ذلك الذي تجلى في قيم هذه البطلة وغيرها من النسوة التي يلهو بهن الحبيب، الذي لا يحس ولا يملك ذلك الاحساس الراقي أصلا الموجود معه دوما، وتأتي المفارقة حين تثور المرأة المكبلة بأحاسيس ثقيلة وخلفية أكثر ثقلا، من امرأة تشفق عليها في البداية لكنك لا تملك لها في نهاية القصة سوى الاحترام، تماما كما فعل البطل الذي جن لغيابها وراح يبحث عنها، انظر ماذا يقول الكاتب الأديب ليرسم لك صورة هذه المرأة المستكينة ومشاعرها تجاه هذا السيد الجبار المتغطرس، صورة كاريكاتيرية ولكنها تمس شغاف قلبك وتجعلك في النهاية تقف معها. يقول على لسان البطلة: «حاضر سيدي.. قالتها بصوت منكسر لا تملك حتى ان تعبر في ملامح وجهها عن الرفض.. أبدت الاعجاب.. وافقت فورا على كل ما قاله.. في نفسها كل امكانات التمرد.. لكنها امرأة محطمة أو على الأكثر بقايا حطام.



كانت أفكارها مجمدة.. أحاسيسها مكبلة.. عيونها فاترة، تمشي كآلة تحركها أداة التحكم عن بعد.. «حاضر سيدي، تكفيه هذه العبارة، لا يريد منها أكثر، يثق بأنها ستنفذ أوامره بدقة تامة.. يعلم انها تكرهه، وتود لو تغرس أنيابها في لحمه تمزق جسده بأظافرها التي تبدو له كمخالب نمرة شرسة في قفص من حديد».



وفي أكثر من قصة من قصص المجموعة الثلاث عشرة يبدو عمق ارتباط الكاتب بالجذور وبالتواصل الانساني معها كما في قصة «المرأة الغامضة» وفيها تصل رسالة الأديب بسلاسة ومن دون جهد لتمكنه من أدواته، لكنه ايضا من خلال هذا الارتباط بالماضي والجذور، يعري المجتمع الذي غالبا ما يدخل في تصوره الوحيد لمثل هذا النوع الغامض من النساء الذي اشترى منزلا صغيرا في حي شعبي لا تنتمي اليه، وتأتي كل يوم بسيارتها الأنيقة وسائقها الذي يقف خارج المنزل، وما لا يدخل معها اذن لماذا تأتي؟ وتمكث بعض الوقت؟ الكل يتساءل ويتلصص لكنهم لا يعرفون شيئا ولا يرون مكروها، ومع ذلك يظل يتردد اتهام وحيد حول هذا الغموض عن سلوك المرأة.. هكذا هو المجتمع لا يجد سوى سوء السلوك ليوصم به امرأة لا يعرف عنها شيئا، ولم ير منها مكروها، وان كانت الحقيقة الوحيدة تتضح في نهاية القصة لتصفع هؤلاء النمامين الذين لم يجدوا غير وصمات العار ليلصقوها بامرأة كل ذنبها أنها لا تسمح لأحد بالتدخل في خصوصياتها، تلك الخصوصيات النبيلة، ولكن ما دامت تسدل ستائرها ولا يعرف عنها شيئا، فان المجتمع يتصرف بكل قسوة في شأنها، فيضع الحيثيات من عنده ويصدر الحكم ولا مجال للبراءة أو الاستئناف أو النقض والابرام، ما دامت البطلة امرأة.. وفي قصته «شجرة التفاح»، يربطك بكل ما هو عزيز وقديم حتى لو كان ذلك لا يروق للجيل الجديد.. لكن يأتي وقت نعرف فيه جيدا ماذا يعني هذا القديم وكيف ترتبط به كما يرتبط الوليد بالحبل السري وهو في بطن أمه.



باختصار في كل قصص المجموعة لا تملك الا ان تدهشك اللقطة كما في قصة «الساعة المنبهة» التي تبين اهمية الزمن والتمرد عليه ايضا حتى لو كان ذلك في الحلم، والحوار المحكم لإيضاح هذا المعنى. يقول طارق البكري في قصته التي لا تخلو من حكمة وفلسفة على لسان البطل:



«حتى أجمل الساعات تبدو لي دميمة قبيحة، لا أجد لها وصفا في الطبيعة، هناك عداوة مزمنة بيني وبين الزمن، لم أتغلب يوما على هذه العقدة.. لكن هل سيسمحون لي بذلك؟ هل يقبل أحد بهذا التمرد؟ سأطرد من عملي من دون شك، لن يلتزم احد معي بموعد للقاء، فأنا متمرد ضد الزمن، وهل سيسكت علي الزمن؟ سيفضحني أمام المكان واللامكان.. سيقودني في طرقات لا زمن فيها ربما أعرى.. أجوع.. أتشرد..».



ثم يواصل اعترافه وثورته وأحلامه غير المسموح له بها الى آخر القصة حتى لا أفسد عليك متعتك.



وكما يقول الناشر في مقدمة المجموعة القصصية «ان المؤلف استطاع بقلمه الرشيق صياغة عباراته واضفاء الرموز والغموض غير المضلل، وفعلا انه يوهمنا في بعض القصص بأننا استطعنا كشف هذا الغموض، وحله، لكن على العكس يمتاز البناء الشكلي والمضمون كذلك بالحيوية البالغة».



وأقول على رغم ان المجموعة لا تتركها من يديك قبل ان تقرأها بالكامل، الا انك تحتاج الى إعادة قراءتها لتستمتع بجماليات الفكرة والاسلوب وتفحص مفردات الاسلوب المكثف والزاخر بالأحاسيس الانسانية والعمق في اللقطة.. وعلى رغم كل هذه الحصيلة، فانك لا تملك الا ان ترى في هذا العمل الأدبي نوعا من رش الملح على جراحنا الاجتماعية حتى نتألم لها ونتعاطف مع أبطالها، والمؤلف المتخصص في اللغة العربية وآدابها والحاصل على الدكتوراه في الكتابة للأطفال وهي الأصعب من الكتابة للكبار، استطاع ان يوصل رسائله الأدبية من خلال هذه المجموعة من دون أدنى مشقة أو تكلف.


View bakri's Full Portfolio