القِطَّة البيضَاءْ

أنقذه اهتزازُ هاتفهِ النقَّال في جيبهِ،من إعلان استسلامه لموجات الأشعة فوق الأنثوية،التي تبثها عينا الفتاة العشرينية الجالسة في الجهة المقابلة له،فتجتاح طلائعُها فضاءَ رجولتهِ وتقوِّض حصونها واحداً تلو الآخر،وأيقظه من مطارداته العبثية للدوائر البيضاء،التي تتشكل من دخان نارجيلتها،بعد أن تنفثهُ رافعةً رأسها ومباعِدةً بين شفتيها،بحركةٍ فيها من الغنجِ ما يكفيهِ سبعة أيامٍ بلياليها من رسم الصور والتخيلات،والتفكير بمشاعر فنجان القهوة الموشَّح بحرير أصابعها،والشال الأسود الملتف كثعبانٍ مسالمٍ مطمئنٍ على مرمر جِيدها،والنربيج*الذي يصلِّي ليمتدَّ عُمرُ جمرات النارجيلة إلى ما لا نهاية.

نظرَ إلى شاشةِ الهاتف :

ـ استلام رسالة بلوتوث (Bluetooth) من " القطة البيضاء " ؟

القطة البيضاء !! .. نظرَ مجدَّداً إلى الفتاة مستغرِباً عجزَهُ عن الوصول إلى مثل هذا التشبيه البليغ،على الرغم من إحساسهِ بكلِّ ما ينطوي عليهِ من ألفةِ ونعومةِ ودلالِ القطط،وجمالِ وصفاء وبراءة البياض،وكيف لم يخطر ببالهِ أياً من التشابيه المماثلة،والتي يطلقها عادةً على بعض الفتيات الجميلات ، كالفرس الأصيلة أو الظبية الشاردة أو الفراشة الرقيقة،وعلى بعضهنَّ القبيحات،كالفيلةِ النهِمة أو العقربة السامَّة أو الدجاجة البلهاء !

استطاعت عدةُ كلماتٍ متفرقةٍ من حديث الفتاة إلى صديقاتها أن تجتاز حاجز ضوضاء المقهى،وتصلَ إلى مسامعه كمواءِ قطةٍ منزليَّةٍ تعلنُ باستحياء عن حلولِ موعد طعامها،منبِّهةً إياه للرسالةِ التي ماتزالُ على باب هاتفهِ منتظِرةً الإذن بالدخول. فقرَّر بدون تردُّدٍ :

ـ موافق .

ثوانٍ معدودة واهتزَّ الهاتف مُعلناً وصولَ الرسالة،اهتزَّ قلبهُ، فتحها ليرى قمراً مُكتملاً يتوسَّطُ بضعة نجومٍ،وكلمة " قمر" بلون أحمر الشفاه.

بحثَ سريعاً في حافظةِ هاتفهِ عن صورةٍ مناسبةٍ،فوجد صورةً للشمس كان قد التقطها في وقتٍ سابقٍ بعدسةِ هاتفهِ.غيَّر اسم الصورة إلى "شمس النساء" وأرسلها لينتشي فرحاً برؤية الفتاة تنظر إلى هاتفها مبتسمةً ومن ثم تمرِّره إلى صديقاتها،فيتبادلنَ فيما بينهنَّ الضحكات والهمسات.

توالتْ الرسائل والصور،أيادٍ متشابكة،قطط متعانقة،ورود ملوَّنة. جميعها مذيَّلةً بعبارات : "بفكر فيك" ، "أنت عمري" ، "الأماكن كلها مشتاقة لك".

لم يجد في هاتفهِ ما يوافقُ رسائل الفتاة،فأخذ يرسل لها ما يراهُ مناسباً من مقاطع أغاني "فيروز" التي يحتفظ بالكثير منها في ذاكرة هاتفه : "نحنا والقمر جيران" ، "راجعين يا هوى" ، " أنا عندي حنين"...

انشغلَ بالرسائل المتبادلة عن الأحاديث التي كانت تدور بين أصدقائه من حوله،حتى أنه نسي وجوده بينهم، وفقد إحساسه بالوقت،ولم يعلم بمضيِّ ساعتين على وجوده في المقهى إلا عندما قام أصدقاؤه بطلب فاتورة مشروباتهم استعداداً للمغادرة. وكانت "القطة البيضاء" قد طلبتْ برسالةٍ نصّيةٍ التعرف عليه،فأسرع بكتابة رقم هاتفه في رسالةٍ طالباً فيها أن تتصل به بعد مضي ساعةٍ،ليكون قادراً على الحديث معها بأريحيَّة تامة،وتأكَّدَ من تمام إلإرسال، ثم تعمَّد أثناء مروره بجوار الفتاة مغادراً،أن يرمقها بنظرةٍ تحمل كل المشاعر الجميلة التي عاشها خلال ساعتين من الزمن.المشاعر التي لم يتذوق لطعمها مثيلاً منذ أن رماهُ قدره في بلاد الظمأ والرمال.

ودَّع أصدقاءه عند باب المقهى،وتمنى لو أنه كان في غير ذلك البلد الذي يُمنع فيه على الشاب أن يدخل بمفردهِ إلى الأماكن العامة المخصَّصة للعائلات،ليستطيع العودة إلى طاولته والبقاء إلى أن يتمَّ التعارف بينه وبين "القطة البيضاء".

انطلقَ إلى بيتهِ تسبقهُ الأحلام والأماني العبقة بأريج أملٍ ببدء صفحةٍ جديدةٍ في دفتر أيامه.تزيل الصدأ الذي اعتلى قلبَهُ،تسحب من دمه الغبار الذي راكمهُ عُمرٌ من الجفاف،تجدِّدُ في صدره الهواء الذي أفسدته برودة الغربة،وتعيد إلى فراشه الدفءَ الذي طردته ليالي الوحدة واللا انتظار.

في البيتِ،أخذ كتاباً كان قد بدأ بقراءته،واستلقى على سريره محاولاً قتل دقائق الانتظار بالقراءة،لكنه عبثاً حاولَ التركيز في الكلمات.كان كلما وصل إلى نهاية الفقرة الأولى،يكتشف أنه لم يكن يقرأ بل يسترجع في ذاكرته شريط أحداث أمسيته في المقهى. يتأمل الصور التي انطبعت في ذهنه لمواطن جمال قطته البيضاء. من عينيها المتوقِّدتين الضاريتين،إلى شعرها المُذهَّب المتدفق على كتفيهاكشلالٍ من شمسِ أيلول،إلى ابتسامتها الرقيقة التي بسطت نفوذ إشراقها على آخر معقلٍ من معاقل بؤسه الطويل.

وضعَ الكتاب جانباً ونظرَ إلى ساعة يده، كان قد مضى أكثر من ساعةٍ على مغادرته للمقهى ولم يأت الاتصال المنتظر. وجدتْ الشكوكُ والأفكارُ التشاؤمية طريقها إليه،فأخذ ينظرُ إلى ساعة الحائط تارةً،وإلى المنبه تارةً ليتأكد من صحة الوقت الذي تشير إليه ساعة يده. يتصل من هاتف المنزل إلى هاتفه النقَّال ليتأكد من عدم وجود أية مشكلةٍ تقنيةٍ في استقباله للمكالمات. يراجع رسالته الأخيرة للفتاة ليتأكد من صِحَّة الرقم الذي دوَّنه فيها...

أطبقَ على نفسهِ جوُّ الغرفة الذي أُشبع بدخان سجائره المشتعلة منذ دخوله،جثمَ صمتُها الثقيل كصمت القبور على صدره،فخرج إلى الشارع علَّهُ يتنشَّق قليلاً من الهواء الذي يغدو نظيفاً ومنعشاً في مثل تلك الساعة المتأخرة من الليل. طوى بقدميه معظم شوارع الحيِّ النائم،ويدهُ لا تفارق هاتفه المُسجَّى في جيبه كمُحتضِرٍ ينتظرُ معجزةً تعيد إلى قلبه نبض الحياة.شعرَ بألمٍ شديد في قدميه فقرَّر أن يعود إلى البيت ويحاول الاستسلام للنومِ ولاحتمالِ أن الفتاة لن تتصل به هذه الليلة،أو أنها لن تتصل أبداً.

لم يكدْ يغلق الباب حتى شعرَ باهتزاز هاتفه،أخرجه من نعشهِ،ونظر إلى شاشتهِ.ارتعش قلبهُ واشتعلَ نشوةً عندما رأى رقماً غريباً لم يرهُ من قبل،فرَقصَ مسرعاً إلى غرفته ليبدأ المكالمة :

ـ ألو

ـ مساء الخير

ـ صباح النور

ـ آسفة على تأخري في الاتصال بك، فغداً يوم العطلة ...

ـ إن كنتِ ستجعلينني أنتظركِ في أيام العُطل فقط فلا مشكلة.

ضحكتْ الفتاة وتابعت :

ـ كنتُ أريد القول أن أهلي أطالوا في سهرِهم لذلك تأخرت.

ـ لا عليكِ .. من يشرب بحراً لا يضيره كوبٌ صغير.

صمتتْ قليلاً وكأنها تفكر في مقصد كلماتهِ،ومن ثم قالتْ :

ـ هل كنتَ في المقهى مرتدياً بنطالاً أسوداً وقميصاً مُقلَّماً وتضعُ نظارةً طبيةً على عينيك؟

استغربَ سؤالها عن أوصافهِ وهو الذي كان يجلس أمامها طوال الوقت في المقهى،ونبَّههُ السؤال إلى اختلاف الصوت الذي سمعهُ في المقهى من خلال بعض الكلمات المتفرقة للفتاة عن الصوت الذي يسمعه عبر الهاتف،والذي يدلُّ بوضوح على وجود اختلافٍ في اللهجةِ والعمرِ. فرَدَّ على سؤالها بسؤال :

ـ ألستِ أنتِ من كانت تجلسُ في المقهى مع فتاتين أخريين وتدخن النارجيلة؟

ـ أنا لا أدخن ابداً .. وقد كنتُ في المقهى مع عائلتي.

ـ إذاً كيف عرفتِ أوصافي؟

ـ لستُ متأكدةً منها،إنما بعد رسالتك الأخيرة لي توقعتُ أنك ستخرج من المقهى،فأخذتُ أنظر إلى الخارجين،حتى رأيتُ شاباً يحمل تلك المواصفات خارجاً مع سيدتين ترافقانه فتوقعتُ أن تكونَ ذلك الشاب لعدم مرور أي شخصٍ آخر.

شعرَ أخيراً بما سببه التدخين المتواصل من جفافٍ في حلقهِ،ومرارٍ في فمه.أحس أن ساقيهِ لم تعودا قادرتين على حمله، فجلس على حافة السريرِ. بعد برهةٍ من الصمت سألها:

ـ كم عمرك؟

ـ سبع عشرة سنة.

ـ لقد كنتُ أجلس في المقهى قبالة فتاةٍ كانت تدخن النارجيلة واعتقدتُ أنها هي "القطة البيضاء" التي كانت تبادلني الرسائل،وقد تجاوبتُ معها على هذا الأساس،لأنني أعجبتُ بها من قبل أن تصلني أولى الرسائل...

ـ إذاً ..

ـ أعتقد أنه عليَّ الاعتذارُ منكِ عن مواصلة هذا الحديث،فأنا لم أتوقع أبداً أن لا تكوني تلك الفتاة،كما أن سنَّكِ أصغرُ بكثيرٍ من أن يسمح لي بالاستمرار.

ـ كم عمرك؟

ـ تسعٌ وعشرون سنة.

ـ حسناً .. إن كان هذا هو قرارك فكما تشاء .. مع السلامة.

ـ في أمان الله.



تذكَّر صديقتهُ التي تعمَّدت في المقهى أن تجعله يجلس في المكان المواجه للفتيات الثلاث قائلةً: "اجلس هنا لتكحِّل عينيك"،مشيرةً إلى الفتيات اللواتي لم يكن قد رآهن بعد.شعرَ برغبةٍ مُلحَّةٍ في الحديث إليها، لكن الوقتَ كان قد تأخر،ففتح رسالةً نصِّيةً في هاتفه ليكتبَ لها:

( يقولون : " الكحلُ أفضلُ من العمى " .. الليلة اكتشفتُ أن العمى أحياناً يكون هو الأفضل!!، واكتشفتُ أيضاً كم جعلني نمطُ الحياة في هذا البلد هشَّاً وساذجاً كمُراهقٍ صغير.)

وبعد مضي بعض الوقت على إرسال الرسالة،وعدم وصول ردٍّ منها، تأكد أنها نائمة وأنه لن يستطيع محادثتها إلا في اليوم التالي.وأيقن أن النومَ لن يستدلَّ إلى طريق عينيهِ خلال ما تبقى من عُمر ليلته الطويلة،فبدَّل ملابسهُ وغادر البيت متوجهاً إلى شاطئ البحر،حيث اشترى كوب قهوةٍ من أحد المحلات،وجلس على صخرةٍ يستمعُ إلى رفيقةِ أيامهِ "فيروز"، وينتظر شروق الشمس وبداية  يومٍ آخرٍ من أيام وحدتهِ القاتلة



* * * * * * * * * * * * *





.النربيج : خرطوم النارجيلة ،كلمة فارسية معرَّبة*

Author's Notes/Comments: 

جدة ـ 7/12/2006

View assadmm's Full Portfolio