هيغل

جمالية (هيغل) الخالدة

(1770-1831م)

بقلم: محمد الأحمد

أي مبحث يتحدث عن الجمال، لابد له أن يمرّ عميقاً بوجهة نظر الفيلسوف الألماني (هيغل HEGEL)، لأنه أعطى في الجمال مبحثا كبيرا وعظيما في تحسس الجمال، من وجهة النظر المادية الخالصة، على مدى التاريخ، وبقي لامعاً كأحد كبار فلاسفة التاريخ، بالإضافة إلى الفيلسوف الإيطالي (فيكو)، والفيلسوف الفرنسي (أوغست كونت)، و(كارل ماركس)، أو سواهم، وقد ناقش فكرة الجمال باعتبارها علماً خالصا، وعلاقة هذا العلم العريض بالإنسان المبدع الذي تطور بشكل فائق على ظهر البسيطة، بأفضلية حسه العميق بالطبيعة، والحيوان، والغريزة، (الشكل الاستطيقي باعتباره يخدم هدف التعبير عن كل اللحظات الأساسية في شمولية العمل الفني )، وبقي يتطور بشكل غير محدود عبر نظره الثاقب، ككائن راقي بين من يشاركونه العيش على كوكب الأرض، موعزا بان هذا الإنسان لن يكف عن تذوقه، وسوف يفقد إنسانيته لو كف عن التذوق، (من هذا المنظور، نجد الموضوعات المسيحية اشدّ تعقيدا من تلك التي كانت دارجة في العصور القديمة، ففي الخرافات المقدسة، وفي التمثلات المسيحية بشكل عام، يتجاوز الأيمان بالمسيح وبقدسيين آخرين- فكرة الجمال )، فكان (هيغل) فاعلا بعصره ومؤمناً بأن الفلسفة لابد أن تكون بنت عصرها، وأية فكرة بعيدة غير مهتمة بهمومه لن تفهم جيدا إلا إذا وضعت ضمن سياق ذلك العصر، وهمومه، وقضاياه الأساسية، إذ عاش الرجل أكثر من واحد وستين عاما (1770-1831م)، وقد عاصر إحداث كونية، وأساتذة كبار، فكان تلميذا نجيبا لأستاذ الجيل كله (كانط) رائد الفلسفة العالمية المتحرر نحو طريق النور، والحقيقة، والتقدم، الذي كان أستاذ للجميع بلا منازع من (فيكته) إلى (شيلنك)، وكتبه الشهيرة كانت محظورة في الجامعة، و(ذلك لأن الأساتذة التقليديين المتعصبين كانوا يراقبون الطلاب لمعرفة ماذا يقرأون في خلواتهم أو غرفهم قبل النوم، ولأن كانط كان ممنوعا من قبل الأصوليين المسيحيين فإن الطلاب ما كانوا يتجرؤون على قراءته علنا )، وقد شغف (هيغل) بمنهج فلسفته العقلانية التنويرية، وقد عقد آمالا كبيرة على الثورة الفرنسية (1789م)، كذلك كان معجبا باندلاع الثورة الصناعية الإنكليزية، التي انطلقت أول الأمر من (إنكلترا) وشاعت بكل أوروبا الصناعة، ومعها اندلعت من هناك مبادر السيطرة على التكنولوجيا، والطاقة، وانطلقت الآلات الحديثة تبرز تقنياتها المتطورة فيها منذ وقت مبكر، بشكل ملفت، وتحقق التقدم بتخفيف معاناة الإنسان والسيطرة على الطبيعة، ومواردها الحية، الغنية بالطاقة وتسخيرها لخدمة البشرية، فكانت تلك جوهر المنطلقات الفكرية الحقيقية التطبيقية لفلسفة (هيغل)، وقد بدا تأثيره على كل الفلسفات المعاصرة التي جاءت بعده، (كلها خرجت من معطفه بشكل أو بآخر)، بفضل رياديته في مسّ صميم شريحة عالية من المجتمع الإنساني الذي أصبحت جلّ مفرداته صناعية، فجاءت مستلهمة من أطروحاته الدقيقة و تدعم رأيه، وما كان يصدر من غيره كرد فعل، ضده، جعله يطور أفكاره بها، فالفلسفة الوجودية خرجت من معطفه، وكذلك الفلسفة الماركسية، أما الفلسفة الوضعية أو التحليلية الإنكليزية، فقد تشكلت ضده أو كرد فعل عليه وعلى أطروحاته وأفكاره الأساسية، وصارت كدرس قويم، حيث لا توجد جامعة في العالم إلا وهي تدرس فلسفته، وتشرحها، وتحللها، وتنقدها، وبات للفلسفة الـ(هيغل)ـية أساتذة كبار وبقيت بذاتها كالفلسفة (الأرسطوطاليسية)، أو الفلسفة (الديكارتية)، وفلسفة (هيغل) ليست بالصعبة والغامضة، ولكنها تتطلب بذلاً واضحاً أجل فهم النص الـ(هيغل)ـي، لانه شاسع المثال، وعريض الاطلاع فيه شمولية كبيرة لاستعراض تاريخي متعمق، ويحتاج إلى نفس قرائي طويل لاستيعابه، ومن أهم كتبه هو (فينونيولوجيا الروح) أو (علم تجليات الروح الفكرية على مدار التاريخ منذ أقدم العصور وحتى اليوم مرورا بلحظة القرون الوسطى المسيحية)، ومعرفية (هيغل) تكمن في (أنه استعرض الفلسفة في عصره إلى نهاياتها القصوى، ووصل بها إلى نوع من النضج قلّ نظيره ولذلك توهم بأنه ختم العلم والفلسفة)، فبعد موته جمع تلامذته بعض محاضراته (جامعة برلين عن فلسفة التاريخ عامي (1822-1823م)، ونشروها تحت عنوان (دروس في فلسفة التاريخ)، وتجلت عبره النظرية الـ(هيغل)ـية المتكاملة عن أحداث التاريخ، (ومدلولاتها، مفرقا فيها ما بين الأساسي، والثانوي، وكشفاً عن سرّ التاريخ، وجوهره بتقدمه إلى الأمام، مخلفا دروسا وعبرا لا يمكن عبورها ضمن أية ظروف وبناء على أية تضحيات ومصائب بشرية)، وقد كان مؤثرا فيمن أتى بعده، وصارت كتبه من أهم مراجع الفكر العالمي، ومن أهم كتبه الأخرى (علم المنطق)، ثم كتابه (موسوعة العلوم الفلسفية)، وقد نظمه كمكتبة عامرة بالأفكار ومسيرة شاملة لجميع الأيدلوجيات الأرضية، فلم يغفل فيه قول مفكر على مدى عصور التدوين، وناقش عقلانية التفكير الصحيح بالفكرة الأساسية التي ينطلق منها (هيغل) فجوهرها الجلي الواضح بأن العقل يحكم العالم (على الرغم من كل مظاهر الفوضى والحروب الأهلية والمجازر التي نجدها في التاريخ البشري، فهذه الكوارث هي أشياء إجبارية أو ضرورية لتقدم التاريخ، وذلك لأن ثمن التقدم إلى الأمام باهظ، ولابد دون الشهد من إبر النحل )، وقد قارن تاريخيا بما جرى، وفق جدلية تاريخانية للعصور كلها، وخاصة العصر الذي عاش فيه، ومنطق فكرته الأساسية، من منظور عام بان التاريخ، وان يتشابه هنا، أو هناك، فانه لن يعيد نفسه، مطلقاً، فمادامت التكنولوجيا تختزل بالأزمنة، وتذلل للإنسان عقباتها، وان الإنسان الذي بات عليه اليوم، إنسانا جامعا للمعلومات، مخزنا قدرها الأكبر، وهو بخبرة تراكمية، تؤهله لعبور الفجوات، وتسير به للتحدي، (ولذلك فإن كل الأمم التي تقدمت إلى الأمام هي أمم دفعت ثمنا غاليا وتضحيات كبرى كالأمة الفرنسية مثلا، فالثورة الفرنسية قطعت آلاف الرؤوس الإقطاعية، وجرت الدماء أنهارا في شوارع باريس قبل أن يتوصل الشعب الفرنسي إلى نظام سياسي عقلاني جديد، وبالتالي فمسيرة التاريخ الكوني هي مسيرة عقلانية على الرغم من كل شيء، والعقل هو الذي ينتصر في نهاية المطاف، وكذلك النظام، والرفاهية، والحياة الرغيدة، وهذا يعني أن النظام الجديد لا يتشكل إلا بعد المرور بمرحلة الفوضى الخلاقة المدمرة؛ أي التي تدمر أسس النظام القديم، وتكلف الناس تضحيات كبيرة ومرعبة )، لقد أضاف (هيغل)، طولا وعرضا وقد فتح العقل الإنساني، بسلسلة مفاهيم كانت لها الأثر والعمق الفاعل في الفكر الإنساني العام، لأنه العالم الإنسان، الذي وضح مقاييس الجمال، وانسحب مقياسا للإبداع الفني، والتقني، (والفن لا يكتفي بمجرد وصف الروائع، بل يزين أعماله بأشباه هذه الكنوز )، لقد كانت عبقريا في شرح مفرداته الكبيرة والكثيرة العطاء، لأنه كان مفكرا شموليا بلا منازع، وقد أضاء بجدله مساحة الفن بالعلم، وأعطى بلغة جزلة مقاصده الدقيقة، فكان عالما، وناقدا فنيا للجمال، (فان نقدم الفن باعتباره مضمنا أو شكلا ما هو إلا مسالة اختيار للاصطلاح المناسب، لكن بشرط أن ندرك أن المضمون يشكل، و إن الشكل يملأ، وان الإحساس إحساس مشكل وان الشكل شكل يحس- )، وهكذا هو من أصبح مثالا يقتدي به العلماء والأدباء، لأنه بذوق علمي تحليلي، فخلدت كتبه ونشرت إلى جميع لغات الأرض مفاهيمه.



‏16‏ كانون الأول‏، 2006

View alahmed's Full Portfolio