زمن ما كان لي









قصص قصيرة





زمنٌ ما كان لي















محمد الأحمد









2006م













قصص المجموعة







1.           زمن متوقف

2.           زمن بحجم الأفق

3.          عيناك دوت كوم

4.          زمن الرجل الآخر

5.          خفة زمن

6.          زمن مضى

7.          زمن الأبيض البريء

8.          زمن فارغ للشمس

9.          انفلات زمن

10. زمن الكليلة

11. ولد وبنت وزمن

12. لعبة زمن

13. ما آل اليه

14. غريم زمن

15. زمن بارز

16. زمن العزلة

17. فاصلة زمن

18. روى بعض ما لم يرو بعض

19. زمن علبة الحليب الفارغة

20. بساتين القلب اني مقيم بك زمناً

21. بقية زمن

22. زمن الابن

23. رئيس سابق لم اعرفه

24. زمن ما كان لي























بلونٍ اشتهيه، زمنُ الرواية هذا؛

أتمناه

أن يحوطني كضوء غامر،

يغمرني كسرد ساحر...

يغسلني كماء هادر، يخترقني كتيار،

كنشوة، كاجتياح،

كحنين مباغت...

كي احبك أكثر!









زمن الرجل الآخـــــر



لم أكن أدري إلى أين ستصل بي الخطوة التالية؟

بقيت استمع  دون تركيز لما تقوله  بتواصل كسير عن خسارتها الحياتية، كنت  شارداً مع تلك التي صيرتني أتابعها بشغف مُسكر متداخلة بالظلال المتدرجة وكأنها لم تكن ظلالاً متتابعة بتسلسل فحسب، و إنما  ملحقة بصور مليئة ابتدعها فنان مقتدر يعرف إمكانية ريشته الطيعة  فأعطته بيسر ما لم تعطه لغيره.

كانت الظلال أداته البالغة، ولم تكن له أية أداة غيرها تثبت مقدرته، فاعطى عالماً متكاملاً.. فيه النقاء، ونقيضه. عالم تكدس في عمق عميق، وانتشر في بعد مكين.. كنت أقول لها، ما لم يكن بذهني. كأني افتعل سماعها وإصغائي وأنا ليس كذلك. كان ذهني مفتوحاً إليه، وحده.. ذلك العمق الذي لم تكن تريد أن تطلعني عليه .. كأنه ثالثنا ويضحك عند كل هروب،  ضحكة رنانة تجلجل في الفضاء المغلق.. هادرة بحلاوة واثق مقتدر، يدري أين تحل به القدم.. بدت لي أجمل الضحكات على الإطلاق ..

بقيتُ أتأمل الخطوط المتقاطعة، المترابطة مع أخرى غيرها، وهي تشكل جملاً تقول، ولا تصمت. وكأنها بداعة لا يمكن لإنسان أن يعبرها، ممتدة ومتواصلة بعمق. أتأمل الخطوط التي لم تكن خطوطاً ظاهرة، وحسب .. بل كانت  حقيقة شاخصة استطاع بمقدرة العارف أن يعطيها ببروز معانٍ كبيرة، عصية ، قريبة إلى الخطوط التي ترسمها اليد المجردة من الفرجال أو المسطرة .. كأنه قد رسم العصي الدقيقة، وأغمسها في الحبر، ولم يكن قد وضع عاكسة ضوء في مكانٍ ما فاشرق بدرجة قياسية جعل الفرح غامراً، و أعطى للعصا الواحدة ظلاً عميقاً.. افترش أمامي عالماً مشوقاً، تنتظرني قراءته، وحقاً كنت أحدق غير مصدق، منغمس في محاولة اكتشاف ما بدا لي واضحاً.

بقيت مجموعة أخرى بين أصابعي اقلبها كأني قد درست هذا الحيوان البحري الذي بدا شوكي الجلد، نجمي الشكل رابضاً بين الصخور عند السواحل الرملية، ومن دقة الصورة استطعت أن أرى بوضوح سطحين: سطح علوي داكن يسمى السطح الظهري، وسطح سفلي فاتح اللون هو السطح البطني، ويدعى أيضا بالسطح الفموي، ويحتوي السطحان على أخاديد الحركة، ومنهما تخرج مجاديف على شكل اذرع.

راحت تفتعل عدم المبالاة بالذي سحرني وتعدّ نفسها الى ما تريد.. تركتني أحاول اكتشاف الكيفية الذكية لهذا الإنسان الذي لم اعرفه.. كالمبهور بصدق و إعجاب إلى ما عمل به.

صورة "يوغلينا" تتكاثر بطريقة الانشطار الطولي البسيط.. فيها نواة منقسمة الى نواتين، والسوط مكوناً سوطين، وكذلك البلعوم والمخزن  ثم انقسام الجسم طولياً ويكون فردين مستقلين. وصور أخرى لديدان مسطحة، حيوانات ملساء مضغوطة من السطحين. ديدان دقيقة الملامح، كأنها ديداناً شريطية وحيدة الجنس. بقيتُ أحدق في صورة تالية لجسم "الهايدرا" في المياه العذبة، وهي ملتصقة من قاعدتها على أوراق وسيقان النباتات المائية .. لقطات أخرى لشعب مرجانية، وشقائق البحر متناثرة بشكل غابات بديعة نامية في قيعان المحيطات.. أحياء مجهرية، لن تهم إلا مختصاً في علم الأحياء.. نماذج متناهية في الصغر، كبرت، وصارت  حية بالغة الدقة.. وثمة أخرى لحشرات بنية اللون يكسو جسمها طبقة من مادة خضراء كأنها لزجة لشدة وضوحها، يتراوح طول الواحدة من ( 3 - 5) سنتمترات لها رأس وصدر وبطن..  

لم أر ذلك الرجل، ولم أتعرف عليه قالت أنه فضّ التعامل، يصعب عليها التفاهم معه، كل ذلك بسبب عدم قدرته معها على الإنجاب.. بقيت الدمعة تنزل وراء الأخرى كلما كانت تروي لي من سيرته.. عرفت منها بان زواجهما كان تحدياً بعد قصة حب عنيف.. لكنه تغير إلى ما لا تستطيع أن تصفه بعد أن كان وديعاً وودوداً.. وتفوح منه رائحة (الهايبو ).

أراه الآن في صورة فوتوغرافية  علقت بنسخ عدة هنا، وهناك على الجدران.. بلحية اشرأب بياضها بصفرة الغليون الذي رسم دخانه دوائر محلقة بتسلسل منظم، وقد غطى عينيه بنظارة سوداء قاتمة، فلم استطع أن أدقق بملامحه.

- مثله يبقى خالداً بفنه.

صور ما قدرت على عدها، ملأت أرجاء البيت، موضوعات حية لا تحتاج أي تعليق.. يعرف حدود عدسته، ومساحتها.. فاقتطع عاملاً كاملاً، له العمق الفاعل بأكثر من الكلام. كأنه يدري كم هي مكلفة الأسئلة، فأجابها دون عناء.. مشكلة عمقاً حقيقياً لما أردت السؤال عنه.. فكل مجموعة وثقت مرحلة من حياته، ومنجزه العبقري العظيم.

- ألهذه الدرجة يعشق الصور؟

   سألتها عندما خرجت ألي بكامل زينتها.. كأنها أوشكت أن تبوح بكل شيء، وان تكشف العمق المجهول لذلك الزمن الذي تجمد.. لكنها لم تفعل سوى أن تمط شفتيها بسخرية، وتدخل الى المطبخ.. أردت سؤالها عن المرأة التي لا تشبهها وبدت لي حاضرة في اكثر من مجموعة.. جعلني ذلك عاجزاً عن كل شيء، بقيت انتظر، وكان هو يضحك بتواصل كأنه يواصل قوله:

- قبضت على الزمن أوقفته في تلك العلبة التي أسميناها كاميرا‍.

وقفت عند صورة كأني اعرف المكان الذي التقطت فيه، وكأني عشت فيه مدة طويلة، ولي فيه ذكريات عميقة أردت أن أجد فرصة للتذكر، لكنها أطلقت ضحكة مفتعلة قلقلت اتزاني، كدتُ احلق  في مدى  الفضاء المفتوح المكبل بطوق فراشات ملونة تسعى الى احتراقها. شعرتُ كلما حولت نظري الى حلاوة هذا البيت، بنظامه وحلاوة مقتنياته.. عرفتهُ نبيلاً، وإنسانيا كامل الحضور في كل غياب ..

أوشكت على التراجع. لكنها حضرت من المطبخ في اللحظة الأخيرة تحمل قدحاً من عصير الليمون، قبل أن انسل كاللص من هذه الصومعة، واترك كل النزوات الى من يقدرها بأقل قيمة من الإنسانية التي رأيتها، حدجتني بنظرة عتب مرير، وهي تقول:

- عليك إبدال ملابسك؟

  بقيت كالحائر وجوفي يلتهب عطشاً، لا ادري من اين تبدأ الخطوة، وأنا انظر الى نفسي كأنني اكتشفها  مع هذه المرأة في بيت مغلق.. كانت تحدثني بأنها اشترت ملابس كثيرة، وبضمنها ملابس أطفال لمختلف المراحل.. وراحت كالطفلة، تخرج لي لعبها، و هي تضحك بسعادة عفوية، كأنها في حلمٍ يتحقق .. كنت انظر إلى صور صقور تنقض من أعالي شاهقة على فرائسها وجبال جليدية بيض منعكسة على الماء وشكلت مثلثاتها معينات زخرفية بديعة.. أطفال سعداء يذهبون إلى المدارس، مكتبة في قبو عميق بدت كأنها تحمل ألغازا، تغري بالقراءة، تغري بالاكتشاف.. امرأة  يحتضنها زوجها وتنظر بطرف عينيها إلى آخر، طبيبة تستأصل جنيناً عمره ثلاثة اشهر، امرأة ميتة في المستشفى، قبل الولادة، ومعها الجنين.  

- حتى علبة الحليب والرضاعة .

    وفتحت دولاباً، كان مليئاً بلعب الأطفال.. وهي تتقافز متراقصة كالمهووسة ..

- أحقاً سيكون لي طفلاً، وسأهبه كل هذي اللعب؟ ..

بينما بقيتُ أنا وجلاً لا أدري ماذا سأفعل في الخطوة التالية.. تقدمت  مني ضاحكة بضجة أوشكت أن تستفز فيَّ همجيتي.. عيناها واسعتان ، وشفتاها قرمزيتان مليئتان بهمس خفي.. فقلت:

- كيف تجرأتي على إحضاري إلى هنا ..

- أنت خائف؟

لم أكن كذلك، ولكن الصمت استمر يملأ الفواصل.. وبقيتُ انظر إليها، قامتها الهيفاء ببعد أهيف يستفزُ الدم في العروق، ويضج بها ضجيجاً يهددها بقسوة.. أوشكت أن اقترب، لامزق ذلك الاحتدام الصاخب، ولكني اكتفيت بلمسة يدها التي تفيض دفئاً شهياً. وعيني معلقة الى صورة انتظمت بتناسق فني رائق.. فقلت :

- أود أن نغير المكان؟

أخذتها من يدها، ودخلنا إلى غرفة أخرى وفي الغرفة صارت أمامي صورة جداريه (2 × 5م) ملئت الذي أسند إليه سرير النوم.. من اليمين عازف بيانو أشعث الشعر، طويلة، مقطب الحاجبين بقسوة أب مؤنب. لم أتأكد من الوهلة الأولى انه (بتهوفن)، و إلى جانبه (باخ) يضع قوس الكمان على صدغه كأنه ينتظر إشارة بدئه بالعزف وآخر لم اعرفه يحتضن آلة (التشيلو) العملاقة جالساً على طرف الكرسي دون ان يستند اليه، وخلفه (بليغ حمدي) يدخن سجارته، واغلق عينيه بقوة. بينما (جواد سليم)، و (بيكاسو) كانا ينظران بدقة الى عمل كل منهما، كأنهما يتبادلان الرأي بالإيماءات.. وبقي (كازنتزاكي) يوزع ابتسامته الضيقة بين (نجيب محفوظ)،  والزوج الذي ميزته القبعة، والنظارة الداكنة. ولم اعجب بتفاوت العصور التي عاشها هؤلاء الفطاحل في تلك اللحظة التي جمعتهم مع العشرات من الذين لم اعرفهم ، و إنما عجبت بذلك التداخل العميق، وكأنه النقطة التي يلتقي بها الزمن عندما تصبح الكتلة صفراً بعد أن انطلقت بسرعة الضوء نحو الأعلى وعادت إلى مكانها. بقيت أرنو ورغم ذلك بقيت ضحكته  تجلجل خلفنا حتى وليت الأدبار خارجاً دون أي عذر.





زَمَــنٌ متوقف



إلتقيته مصادفة، أثناء عبوري الشارع متعاكسين في الوجهة كل يمشي إلى غايته، ولم اكن في حالتي الطبيعية، إذ كنت قلقا جدا بشأن ابنتي الوحيدة، بعد أن دخلت زوجتي إلى الصيدلية تسال عن الدواء،  ولم تخرج منها، ودخلت وراءها بعد أن سئمت الانتظار وجدت كل الوجوه لا اعرفها، وبقيت حائرا كالمخذول ولا ادري في أي مكان سأجد أماً هلعة تركت ابنتها في المستشفى، تعاني سكرات موت قائم، وتبحث في كل الصيدليات عن دواء لم تجده! .. كان أمراً مروعا عندما بقيت انظر طويلا إليه، واستبد بي ارتجاف مقيت، احترت في تفسيره من غير تصديق، كما حلم ما، بين زحمة تناقضات تداخلت ببعضها.. كأنما عينيه المتلألئتين قد وقفتا شاخصتين عند عينيّ لا تريدان أن تنخفضا.

كان ذلك عصر يوم غائم سماؤه ملبدة بغيوم قاتمة.

قال لي: كأنك لم تتغير..

تدافعت كلماتي واحتضنته من جديد بعفوية ثرّة بالشوق الكثيف،

وقلت: أما أنت فقد غزاك الشيب!

اطرق برأسه إلى ارض الشارع كشيخ منهوك القوى أخذته نوبة سعال هزته هزاً عنيفاً، ولحظت ملابسه المتسخة جداً، وكأني اقف إلى رجل آخر غير الذي عرفته أبان تلك الأيام في غاية الأناقة، والنظافة، وفي غاية النبل وأنقذ حياتي عندما أصابتني شظية اخترقت بطني وقتلت من كان خلفي.. في حينه، كادت تجهز على حياتي، ذلك الموقف البطولي لم أنسه ما حييت.. فأنا مدين له بحياتي، ولا ادري ماذا سأقول له، وماذا سأفعل من اجله؟ ..

قال: ها هي الدنيا.. لم أرك فيها منذ ستة عشر عاماً أتذكر باني سلمتك نازفا إلى وحدة الميدان الطبية …

فأكملت: عندما خرجت من المستشفى بعد عدة اشهر أخبروني انك أسرت؟

قال: ستة عشر عاما متواصلة!

أردت أن أقول له أشياء كثيرة ولكني ..

قلت: أتذكر قبل أن أصاب كنت تحدثني عن زوجتك الحامل..

ضحك عالياً كعادته.. تضرج وجهه خجلاً ..

قال: ها آنت تراني قد هرمت وأصبحت جداً.

لم تفارق عيني عيناه لحظة واحدة و كأنى نزلت إلى عمق عينيه، ووجدتهما تخفيان أشياء كثيرة كأنهما مغمورتان بفيض من دمع أوشك أن يسح على خديه. عيناه كانتا جاحظتين إليّ، حارتين بالألم قالتا كلاما متزاحماً بعد أن خبا بريقهما ذاك واستحالتا إلى شاهدتي أسى عميق، لم استطع أن ألم بحدودهما المتداخلة كسورتي ماء تنزلان بي مجبراً في عمق غير مدرك... كنا صديقين حميمين نتقاسم معاً العيش في ملجأ واحد ونقاتل في خندق واحد، حتى إجازاتنا كانت في وجبة واحدة، يفهمني وافهمه.. حتى اكتسب بعضاً من طباعي واكتسبت بعضاً من طباعه، أثارت علاقتنا الحميمة كل الحاسدين.. حدثني عن أفراد عائلته وحدثته عن عائلتي، عن أحلامه و أحلامي، وكنت أسال عن حضوره الفضي كلما صادفت أحداً من الأصدقاء الذين كانوا معنا في تلك الحرب..

بقينا في منتصف الشارع، وتمر من حولنا السيارات مسرعة.. تزعق وتزمجر بعنف، فألفنا الضجيج المتواتر من السيارات التي ارتبكت في الشارع، بسببنا.. كانت أياما حافلة بالموت عبرت إلى غير رجعة، والدوي الذي يملأ الذاكرة بقي يصم آذاننا عن منبهات العربات التي تريد أن تمرق عبر الشارع الذي اضطرب السير به.. أحيانا كان سائقوها يطلقون علينا الشتائم، ولم نكن نبالي بأي شيء، كأننا لم نشعر بشيء حولنا، وكان ذلك الدخان المقيت يتسرب من خلف المتاريس التي كانت تحمينا من غباء القنابل القاهرة.. نظرت إلى وجهه وكان يحمل ندبة كبيرة و جديدة، وقبل أن اسأله قال بأنها حدثت له هناك ..

أيامنا تلك حافلة بالحب، و حافلة بالتحدي..

قال لي: هل تزوجت؟

قلت: لي ابنة في سن الزواج، ولكنها مريضة الآن ..

أوشك أن يهب لفعل شيء ما من اجلي كما عهدته، و لكني اكتشفت ثمة غصة ما كانت مليئة بالقهر بقيت مترسبة في نفسه جعلتها الدموع المترقرقة من عينيه تنكشف. مرت اللحظات عاجلة محملة بالنشوة، كأن السنوات التي مرت ولم أره فيها، أزيحت، ولم يبق منها بيننا سوى هذه الفاصلة الآنية فكدت أبوح له عن كل مخاوفي بشأن ابنتي التي ابحث لها عن دواء. وكنت أود أخذه معي إلى البيت ألاعبه الشطرنج.. كان الوحيد الذي يغلبني على الدوام، إذ  يبتكر خططاً لم اطلع عليها أبدا و يحفظ الكثير من دسوت العباقرة، ويجيد التحليل الصائب للتنقلات.. يجمعنا اللعب ويغمرنا التحدي فتفرعت الدسوت الطويلة إلى شجون، وحكايات نغتسل فيها من أزماتنا التي كانت رغماً من صعوباتها ونربأ عن مسالكها، لأنها لم تكن إلا أشواقا إلى الأهل والأحبة… عسى أن أزيح البؤس الذي ملأ عينيه الجميلتين.. تزاحم الموقف متداخلا ببعضه وتداخلت الأسئلة العاجلة بحيوية تلك البراءة التي عدناها ببعض، وبقي الصدر يخفق بفرح غامر كأنه لا يستكين،  ولم أكد انطق بدعوتي، حتى صاحت زوجتي خوفا علينا من أن تدهسنا السيارات المسرعة، التي كانت في الضفة الأخرى من الشارع وهي تتقدم علينا متراكضه و تحمل في يدها علبة الدواء الذي سينقذ حياة ابنتنا، وقبل أن نتحرك انهل مطر كثيف كالدفق الهائل بللنا في لحظة، وأكملنا الخطوات كل إلى غايته مفترقين متقهقرين بالخطو ومتئدين باللفتات لبعضنا بعضاً، كأن المطر عجّل بحسم اللقاء، وصار عندي في تلك الأثناء إحساس منذ فارقته بأنها آخر مرة أراه فيها.











زمن بحجم الأفق



ذات صباح ما، وفي مكان ما. نهض من فراشه الوثير، إذ خنقهُ العرق المتصبب من جبهته بعد أن سالت قطراته وصارت في أنفه، حدق في الأفق من خلال زجاج النافذة التي تكثف  ما تقاطر من أنفاسه الليلية على زجاجها، ولم ير شيئاً، فمسح بإصبعيه خطاً لسعه بهما برد سطحها النظيف، وودّ لو يضع خدّه عليه لتسري إلى جسده تلك اللذة ، ولكنه قبل أن يقرب خده نظر إلى خط الإصبع المتوازي مع خط الأفق، وراح يقهقه بجنون  كمتعجب غير مقتنع هازا رأسه كحمار يشم رائحة أنثاه ، فنظر إلى إصبعه الغليظ وقال:

- إصبعي بحجم الأفق فكيف لو نظروا إلى كلي؟

قرّب إصبعه من إحدى  عينيه مغمضا الأخرى، وهو يعيد ما قاله لنفسه متعجباً، وراح يقرب كفه إلى عينيه بين لحظة وأخرى مدندناً أغنيته بحزن:-

- كل شيء بحجم الأفق حتى إبريق الشاي.. كلما المسه يكون حجمه الأفق!.

تناول مفكاً وقرر إصلاح علبة السردين النائمة في رفّ منسي من المطبخ، بعد أن هرب منها السمك إلى جهة القمامة، وراح يتأمل وزغاً  على الجدار، ودنا منه وقال بصوت عال لأجل أن يفزعه.

- حتى أنت أيها الديناصور أصبحت بحجم الأفق.















WWW عيناك..com



• كنت  أقول لعصفورتي الوديعة:

- عيناك اللتان لا تطرفان نجلاوان وعميقتان ‍ .

صورتها في واجهة الحاسوب تطالعني كل لحظة، مذ وقعت بها على شباك المعرفة (الانترنيت) وجدتها تناسبني تماماً.. تلهب خيالي، تلهمني لحني الذي أتمناه، وكان ذلك السر الذي يملأني، واستغلق فضَه. منهلي الذي لن ينضب، ولا اعرف أن اسميه سوى انه إحساس عميق يملؤني على الدوام، ويجعلني بتمام الانتشاء كلما فكرت به، وتحل بي حمى عصية كأني أغادر عالمي محلقاً، طائفاً، سابحاً بلا وزن ، أو كتلة لا يجذبني شيء .

تتشكل جمل الموسيقى أمامي بلا عناء صياغة، إذ لم أكُ يوماً فارغاً منها ومبتهجاً. كنت أسير بنغمي أعطي لكل عازف معزوفته مقسماً الوقت على الركود موزعاً النسمات على كل مختنق. وكانت هي بداخلي تمشي بخيلاء وتطوف في الدم كأنها نبض القلب.. لا أجرؤ على أن أقيد حركتها، أو أن أحد من حريتها. لا أريد أن يفلت مني هذا الصداح الذي يغمرني بالتبل، والوجد.. فيخرج صوتي الرجولي الحاد ممزوجاً بلطافتها، وحنوها مثل جرة قوس حنون على وتر مشدود، يخرج مني النغم الوديع، المسالم، وأنا راض تمام الرضا (على العكس  قبل ما عرفتها).. اجعله نداءً نغل في العظم ومحوطاً كل الجراح للأجل احتوائها وتطبيبها فما سمعت يد تصفق إلا هي قد برئت من مصاب عميق، ونجع علاج تام. معجبون يعشقون موسيقاي بجنون قد أدمنوا عذوبة جملها وجزالة معانيها التي تفصلهم عن ما يعانون منه، (مثلما المدمن كل مرة يطلب المزيد) التقط حبات البيانو بفعل سحر يتدفق كالنهر بإشعاع ساطع، وعاصف.. اقتلع الألم، و اجتث بقاياه بلا هوادة.. ولا أجد  شجاعة عاشق أمام معشوقته.. أحس بقسوة المحيط، وزحامه.. اختنق بتكدسه، وتتحول الخسارة إلى ربح متألق، لكنها اليوم تقدمت مني لتقول لي :

- رحماك خلصني؟

• كانت المرة الأولى التي أراها بكل ذلك القرب.. بكل ذلك الإذلال العصيب. مبلولة يصعب عليها الرفرفة، بعد أن اهتزت الأغصان من تحتها وفاجأتها الخطورة، فأعلنت لها بصوت كله ثقة :

- طوع يداك البريئتان؟

فأكملت في نفسي:

- أنت .. أنت ما أتمنى ؟

- رحماك؟

كأنها تطلع كالفيض اللامع من عمق الشاشة تفيض باللمسات، وأكاد اعرفها اكثر من قبل .. دافئة بالانوثة، شهية بعطرها واكثر وداعة ..

كأنما هبَّت عليَّ فجأة رائحة الياسمين من خلف السور العالي، تعصف في دواخلي نبضاً، وعصفاً، وشجى، وكلي آذان شانفة لها،  وهي تواصل القول:

- يجبروني على أن أعود إليه وأنا من احرق البحر والسفن؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ‍

• نزل صوتها بخفة، وفرح مكتوباً أمام عازفي الأوركسترا كان ذلك النغم الذي يقصي ضجة العالم، ذلك الذي ما عثرت عليه في جمرات سهدي، وتعبي أبدا، وما لم اصل إليه بقصوى جهدي وتفكيري.. كنت ملهوفا أبحث عنه، اقلب الليلة تلو الأخرى جاهداً، مجهداً ولم اكتشفه، وكأنه كان بيني وبينها ولم أضع عليه قبضتي، أو كان بين قبضتي وأنا تائه عنه. وصار كلي يتلقف (نوتته) المكتوبة على شفتين نديتين مسحوبتين إلى المغامرة، تحدقني بنظرة متوسمة، تزغرد سيمفونيتها التي لن تتوقف في ذهني:

- هو الآخر يريدني ؟

فهتفت:

- مَنْ ؟

    قالت: حبيبي.

    وقلت مع نفسي: ليتني أكونه.

    أعادت القول:

- هو الآخر يريدني.

مثل نغمة نشاز استفزت العصب، ولكنها استمرت تتصاعد دفقا، ماء عذب بتوازن مهيب، ومحسوب بتزامن جعلني اقشعر، رحتُ أعيد قراءة جداول معلوماتي القديمة عنها.. رحتُ أعطي جهازي أمراً بأن يراجع ما فاته وفاتني..تبين لي إنها بجمال أخاذ مسكر ينسيني أي أمر على الدوام ما كان قبل وبعده وبقيت أهز الرأس طرباً، كالمأخوذ محلقاً في قبس النغمات الطرية، وأسرارها البديعة مكرراً إيعاز التسجيل على القرص المرن، قلت:

- هذه أغنيتي وأنا لاجلها أموت ‍‍ ..

وراحت تكمل:

- جئت إليك فانك الفارس الذي يستخار‍‍؟

     قلت في نفسي:

- والحبيب ؟؟

- أعهدهُ عاجزاً أمام جبروت زوجي.

   ولم تكن سوى دمعة تسحّ وراء الأخرى.. بتتابع هارموني متدفق ظل يهدر مثل مدّ وجزر على ساحل منسي.

- فضحتني عيني ونبرة صوتي.  ‍

   كأنها قرأت عيني، فكشفت ما كان مخبوءً في حافظتي، وهي تعرف بأني ما قلتُ لها يوماً كل ذلك القول، ولا كتبت أناملي بريد قلبي.. ولم اكشف لها بأني أعزف من قلبي. يؤرقني هذا الانشغال، والحيرة تدفعني للوقوف. أتملى كل هذه الضجة، و تساءلت مع نفسي لم كل هذه الحلاوات مختلطة بالدموع الصافية كالنبع، كلما شربت كلماتك حلقت حلماً، مثلما تأخذني الموسيقى العبقرية.. تتراكض أبوابي وشبابيكي وتنفتح على عوالم متدفقة بالنعم، فابتعد عما سوءنا كإنسانية.. هل يكون من حقي السؤال، ويكون طعم القبل كل جواب، وليتني ارقص بالكلمات، واغني عشقي بهذه النغمات.

ظل الندم يتسرب كلمة وراء كلمة دون صوت ..

ليتك لم تكشفي جراحي بهذه الموسيقى.. ولكني أحنيت احتراماً للأوركسترا بعدما ضربتُ ثلاث ضربات معلناً البدء، مصوباً عيني إلى عازف الكلارنيت الرئيسي ليبدأ بشدوه العذب بعد ان رسم مدخلاً للعشرة عازفي الكمان الرئيسيين ليردوا بجرة قوس موحدة القرار المكين، رحتُ أؤكد لها باني طوع بنانها، سأمشي معها إلى ما أرادت حد الموت، مستغلق على سرها ومغنياً بصدق:

- عيناك نجلاوان وعميقتان.















خفّة زمن



عدتُ فرحاً خفيفاً كفراشة من حقل اندلاعها.. لا أدري أين أحط الخطوة؟. كنتُ أمشي طويلاً وراءها في المدى كله، أنهج طريقها كله، محتملاً كل شيء، ساهماً، محلقاً في فضاء حر. أتابعها منحدراً كما طفل لا يجيد السباحة وأخذه  موج عات.. اخترقت الدفقات كمأخوذ منجذب خلف ضفيرتين حلوتين.. تنوسان على قميص ملآن بالكنوز. كانتا صافيتين بالبهاء، تبرقان بشريط أبيض مزدان بكبرياء طاغ كأن أعمدة الأرصفة هي التي تجئ الي، وأنا أتملى وجهها الفاتن.. يبرق بالفرح الغامر. وكأن لقدميها وقع أجراس مدوزنة النغم، يعزف لقلبي جاذبية آسرة، فأمشي خلفها مجبراً، ذاعناً ..لا تلتفت تاركة إياي بين ترددات قاتمة بالتضاد و التعارض، تسحبني الى ما تريد دون أن تعرف.كلما تلتفت هي يتضرجُ وجهي بالحياء وتصبح القدم عبئاً على أختها..تتمردان و كأنهما تقرران تركي في بقاع جرداء عقيمة.

أعودُ أنظر إليها من خلف نظارة سوداء كأنها نافذة بيت يطلّ على العالم من علوّ شاهق.. أتأمل  وحشة الطريق، عتمته. ضوءها الذي بهرني، أرى في الخيال شرفة بيت معتم، تنبثق تلك الفتاة لوحدها في مطلق العالم، تحوّطها قلعة ساحر مكيد قد خطفها من مكانها الآمن، وزرع حولها الأصفاد التي لا تكسر ولا تلين .. أراها ترنو الى فارس مخلص لا يخاف، ولا ينثني .زهوها البريء يبشرني..أتقدم ولا ادري أين ستحل بي الخطوة؟ .

أنا أطفو بخيال، و لا أرى سواها .. تنظر هي إلى المشارب بعينين أكاد أميز إشراقهما على الطريق الذي تأخذني اليه خطواتها، أتابع موسيقى جبروت أنوثتها..

أمشي كلما تمشي، متابعاً بطرف العين بكبرياء، و لهفة..كأني أقول:

- يا حلوة العينين تمهلي؟

لم أقل لها ذلك ، أبداً..

بقيتُ أطارد بأنفي أقاحيها . بقدمي خطوتها، وبقلبي اتساعها البليغ..

في كل مرة كنتُ أريد أن أقول لها كل ما عندي ولكن (القلب) الملء بالكلام هو الذي سيقول.. سيصل اللسان إلي البوح الكامل، مخترقاً أزمنة الصمت القاهرة.. ولم يحدث أنى استطعت. كنتُ يوماً بعد آخر أنغمر في ذلك التيه المتفاقم بضياع الخطوة .. حتى وقفتُ في يومٍ ما عن ذلك المشوار بعذر قاهر، وبعد عقدين كاملين.. إذ كبرت، وكبرتُ... طوقتني.. بعينين ساحرتين وقالت:-

- سأخبر زوجي لو اقتربت مني مرة أخرى؟

بقيت بعد كلماتها ملجما بمكاني ثم عدتُ حزيناً وثقيلا..











زمنٌ مضى



شاخصاً بعيني بقيتُ أتابع تدحرج السنين الثقيلة على وجهها أقرأه دون أن يَرف لي جفن، و في مسمعي خرافة العرافة، المنتهية على الدوام بأمل مفتوح..

- هل تزوجت؟

كدتُ أنطقها، ولكنها امتدت كالغيوم المتقاطرة في الفضاء المفتوح، تتشكل كل حين بصورة تلو صورة. و كـأن امرأة أخرى حلت فيها.. بقيت لا اقبل التداخل القسري، وجهه حبيبتي كان ابيض، و طولها القدود نعومة طاغية على كل حسناء عبرت سنيّ حياتي..

- أما لكَ أن تعرفي دون سؤال ؟

وزقزقتْ مع ضحكتها عصافير الجنان:

- لديك أولاد ؟

بقيتُ ارفل حلماً آسراً. ولم تتمالك هي هدوئها، بقيتُ أستل مما يملأني بهاء، وكأني ارفع الثراء المكنون تحت الأهداب، ممتشقاً قلبي، مسرجاً غيما، شاقاً غبارا، غانماً كل شيء.. فسألت:

- هل أنت من بغداد ؟

كالحنين الثرّ تنهدت، مسقطة ما بين يديها . وقامت كالنخلة الفارعة، تصهل:

- جئت تطلب علماً يخصك لا يخصني ؟!

تركت جلستي، ولا أعرف كيف كان وقوفي قدامها.. وجهاً لوجه.. عيناً بعين.. يداي تلمسها.. ارتبكت أكثر، اهتزت كالغصن المليء أوشكت الميل، رفت عينيها، طار لونها إلى لون آخر. بقيت أتحدى. .مستسلماً لتضرجها و هي تفيض بالنعم!!.

ثمة دقات على الباب سحبتني عنها تراجعت هي أيضا، منسحبة من ملامسة الجدار الذي كان يقيد حركتها، ودخلت امرأة أخرى لتقول:

- مولاتي لدينا حالة عاجلة!

عيناها الرائعتان فقدتا كل ذاك التألق وعادت إلى ما كانت عليه بالأصل وظهرت صورتها عليها.. وجهه قاتم، وعظام صدر ناتئ تشي بجوع قاس..كانت عيناها خاليتان من أية لمعة احبها.. كدت أتورط فيما لا يستحق مني التورط… شاخصاً بقيتُ، و متيقناً أنها كانت حاضرة في ذهني كل الحضور، فاختفت الصورة خلف صورة أخرى. فيا لشقائي لو تأخرت تلك الطرقات المفزعة لحظات أخرى!!.

















زمنُ الأبيض البريء



بقي بين يدي شعر رأسها المنسدل بطراوة ندية، عيناها مغمضتان ناشرة ابتسامتها في أوداج قلبي، نافضة عنها ذلك البكاء المرير الذي كان ينحت في عظمي، ويؤلمني.

ابتسامتها بدأت تشق عباب الصمت القائم، بليغة جدا كانت الشفتان تنفرجان عنها بلا انتهاء، فأطلقت زمردا، وياسمين.. فراشات ملونة حلقت في فضاء مطلق، وبقيت أصغي لتلك الرفرفات الهادئة بجمال أخاذ، فسألتها عندما أحسست إنها تهيأت لجواب:

- وزوجك الثاني؟ ..

رفرفت كأنها عازفة قيثارة من ذهب ولكنها نطقت حروفها بتشديد قاس :

- يطلقني!

فقلت من جديد ، وأنا المتلكئ في السؤال، أبالغ بهدوئي ..

- و شقيقك هل يقبل؟

مسحت بقايا دمعه كانت تسح على الياسمين البريء، فانبرت مثل فرس صهباء..

- له أولاده وزوجته؟

تنهدت، ثم واصلت تزفر :

- يفعل أي شيء من اجل أن لا يدفع فلسا واحدا ..

كانت عيناها قرص شمس يذوب في البحر، وكنت أنا أبحر من أرخبيل بعيد .. هي ضائعة بين الأمواج لا تدري أين يقذف بها التيار البحري القوي.. قريبة مني، ولم تكن قريبة.. كانت بعيدة، ولم تكن بعيدة، فقلت لها:

- جعلتيني في حيرة من امري؟

- عجبا عشت معي نصف عقد وما زلت تجهلني ؟!

كنت أحس بأنفاسها الساخنة تلفح وجهي، وتهزني هزا عنيفا، كنت ضائعا بين حروب القلب، والعقل .عيناها الجميلتان بالدهشة، فيهما نور لن يخبو أبدا، وما أنا كنت قد هجرتها كل تلك السنين، الا إنها أرادت ذلك ..

صدرها شاهق يضرب كطبول فرح غامق، وهي حمامة بريئة بين كفي. أشياء غريبة بلا معنى تحوطني، تقيدني، وتريد قرارا مني..فكرت وفكرت، فلم اصل إلى قرار، تحركت الأرض من تحتي، وصرت قلقا غير متوازن، منغمرا بحبها الذي اباحني، ومنجذبا بشوقي إليها- أواه - ما اجمل  ذلك الحب الذي كان.. وجدتها تغفو على كتفي ببراءة كأنها تكشف لي بأنها تنام أول مرة في كنف رجل. تصاعدت المعاني وخلفتني أصبو إلى حرية لا أريد فقدها نظرت إلى عينيها فقلت مذ ذلك اليوم:

- احبك

أفردت شفتاها، وذقت ما لم أذقه طوال سنوات، ولكني في غمر ذلك الانفجار تيقنت باني أتذوق شهدا من طعم آخر. تذوقت ما أتذكره جيدا، وصارت كلها حاضرة حتى تلك الليلة الآثمة..

قالت : - احبك ..

كنت لم اسمعها من قبل، ودون أن اجيب، مكملا ما كنت بدأته معها في تلك الخلوة بعد أن تزلزل قلبي معها، وراحت الأنامل تستمر بالانزلاق على ذلك الشعر الذي تصيّر ابيضاً، من بعد أن تركته اسوداً.









زمنٌ فارغٌ للشمس



كأن قلبي هو الذي يحدثني عن كل تلك المتفاوتات البينة، بينما كنت أخطو ساهماً إلى عمق الصوان المعتم، الذي امتلأ برجال لا اعرفها. فاخترت أحد المقعدين الفارغين في أقصى اليمين من زاوية تراكمت فيها حزمة ضوء، تلامعت خلالها ذرات الغبار، و استحالت مزيجاً دافقاً بألوان كرنفالية بديعة، انزلقت من فتحة شقها عماد الخيمة التي فيّأتنا. أصخت السمع إلى ما دارت الألسن من همهمات متوالية..تتحدث عن اللحظات الأخيرة، للمرحوم كحدث جلل قد حدث، توا، ولم يكن في المستشفى: (هكذا .. كان يقول المرحوم)، (…كان يحب المرحوم قبل أن يوافيه الأجل)، وهكذا دارت الاسطوانة بالذكريات توافقياً مع دوران أشعة الشمس المتحولة من كرسي إلى آخر بتتابع متسلسل.

قالوا :- بأنه ترك مالاً كثيراً.

قلت :- ما نفع ما تركه؟

قالوا :- بأنه ترك زوجة جميلة؟

وقلت :- ليكن الله في عونها.

دارت القهوة دوراناً صامتاً على شفاه الجالسين كما دارت سورة الفاتحة دوراناً مهيباً بين كل لحظة بين الراحتين والجبين .. دورة بطيئة الوقع تلتها الرجال بتمتمة شفاه مرتجفة، وبخشوع مستقر اندلع من العمق صار راسخاً كالحزن المقيم.

بقيت تتمات الكلام تصل إلى أذني بتواصل إيقاع حبات المسبحة المضطربة التي تصفقها أصابع رعشة، دون أن يلجمها شيء.  

قالوا :- أية سطوة كان يملك؟

قلت :- جردهُ الموت منها‍!

حضرت أناء الكلام المتواصل رجالات، وذهبت أخر عن الكراسي التي طالتها الشمس، وكأنها تطهرت من البرودة الضاربة في الخشب الفارة،  قالوا:-

- ليلة البارحة حضر الكثير من أعيان البلدة.

    وقلت :-

- من كان عليه دين يؤديه!

بقيت أنفث دخان السيجارة بين كل تنهدة، ويشخص أمامي تحذير الطبيب الذي سبق، و أنقذ حياتي من موت محقق، كاد يحدث عقب نوبة قلبية، أوشكت أن تجهز عليَّ، ولما كنت اشغل مقعداً بين جموع الحاضرين، ولما بقيت كتلتي، تشغل حيزاً في هذا العالم المزدحم. كانت الشمس قد استقرت في المقعد الفارغ، المجاور لمقعدي. تصاعد الدخان إلى أعلى كأنه يرتقي الحزمة المهيبة، بحثاً عن مخرج، وكنت أتنفس حلقاته بعمق، فما قدرت صبراً على تأجيله، وكأن تحذيرات الطبيب، قد سقطت في منفضة الرماد المليئة بأعقاب السجائر، وقبل أن أنهض، شعرت ببعض الخدر في أطرافي، ولم أستطع النهوض بعدها استقرت الحزمة على فخذي.











انفـلات زمن



1

في الليل يحدث الهوس ذاته.. يتفجر الجوع المؤرق. أحاول النوم فلا أستطيع، فأدّلج إلى ممرات مشوقة مغلقاً أرقي…



2

تابعتها من زقاق إلى آخر.. حتى دخلت أحد البيوتات الصغيرة في حي شبه مهجور... لم تضحك لي فتاة بمثل ضحكتها، فصرت ناعماً إلى هديل ضحكتها الحلوة مرتجياً هنائي، منتظراً لها كل ليلي …



3

   ألم توسط بطني كأن أمعائي يلفها محور يدور بسرعة بليغة، ويشدها بقوة غريبة.. جمر يسعر بنار تمور.

الظلام دامس جداً.. لا ضوء لأرى، أمدّ يدي باتجاه مفتاح الضوء.. يصدر صوتاً، ولا يأتي الضوء. الألم يشتد أكثر، بطني تكبر يخيفني هاجس انفجارها. ثمة جفاف في حلقي – حاجتي للماء تكبر. الألم يشتد والنار من الداخل تنفثْ لهيباً حاراً يخرج مع زفيري. أحاول الحركة فلا يستجيب لها جسدي .

يخجلني الموقف.. بطني متكورة، يعاودني الشك بأني تحولت إلى أمرأة.. مثلما تحول  "كري كوري " إلى صرصار.

يداي وحدهما حرة الحركة ألمس صدري، ولا أجد أثراً لشكي! الشيء في داخلي يتحرك هوجا. الألم الهائل يدفعني إلى صرخة أخرى.. يتصاعد من البعيد صوت صراخ طفل.

لو أستطيع الضحك.. أيّ لعنة، وأيّ ألم ؟.. لعله قادم من أحشائي؟ أيكون المتحرك جنيناً؟  من يكون والده، يا ترى؟ أو أكون مثل الآلهة " آتوم " أو مثل تلك؟..

فمن يصدقني بعد الفضــيحة يا ترى ؟

يا لوجعي ؟!.



4

تابعت الدروب المؤدية إليها. حاولت لقياها، فوجدت الدروب كلها تأخذني إليها، ولا ألقاها…



5

تساءلت مع نفسي من يكون هذا الزائر الغريب. أتذكر من ليلة البارحة بأني ما فتحت الباب لطارق.. حدقت في ملامحه وجهه.. تقاطيع وجهه تطابق تقاطيع وجهي. حاولت تلمس جسدي، كأني بقيت بلا جسد فوق سريري، وأفلت مني جسدي!. لا ادري.. أليس مرضاً نفسياً– انفصاما. لست أدري ؟..

قلت له:

- ( من أنت ؟)

كأنه لم يسمعني. حركت عيوني في الاتجاهات كلها، وحركها هو مثلي.. تحرك صوب الثلاجة فتح قنينة ماء، وشرب بعد أن شعرت أنا بالعطش .

من أين جاء، وماذا يريد ؟

رغبت في أزاحه ستارة النافذة ليتسلل الضوء، فتحرك تلقائياً إلى النافذة، وأزاح الستار. الحيرة تملؤني. جسدي سليم ولم يفارقني أبدا. اليدان ذاتهما، الساعة البلاستيكية في معصمي ما زالت تعمل بانتظام، القدمان بهما نفس الجوارب اللذان أخذتهما من حاجيات أبي.

يا للمفارقة، قسماتي ذاتها.. طولي، لون بشرتي حتى قميص النوم ذاته كأني أمام مرآة، وتمردت عليّ صورتي !!.

هل أنا في حلم؟ أم مرض ؟..

يا لوجعي …

6

وقفت عساني أن أستدل على مستقر..



7

تقلبت على جنبي حائراً، هل أنجبت  نظيري ؟

أحاول  النهوض و لا أستطيع .. ربما سيجيء أبي، ويراه في بيته.. سيفرح دون شك، بعد أن يطردني متخلصاً من متاعبي له!.

- يا لوجعي …



8

أراكِ كما الشُهب المشتعلة في السماء المفتوحة، ومضاً على قلبي.. تأخذيني كالخطف مأسوراً بطلع شامخ بين لجّ الخيال، والمتاعب. خضمّ كلامٍ صامت.. أتحرق إلى جدية المعنى وعبثه.. نسغ إلى ورقتي  الذابلة ؟



9

علّي التخلص من وجوده !



10

أسيلة الوجه بقامتها الهيفاء. مدّت لي يدها قبل أن تدعني الدخول إلى غرفتها الكابية بضوء شحيح اخترقها من ستارة ملطخة ببقع صفر مقرفه، رائحة غريبة تطوف في فضاء الغرفة الفارغة إلا من بساط  إسفنجي بقع …

كانت عيناي تجول في عينها الحلوتين، شعرها مصفوف بلمعة اخترقت الألوان الضحلة، وانتشرت في سحرية. وددت لو أقبلها على صفحة شفتيها الطافحتين بالشبق الشهواني عند زاوية الغرفة في غمرة الضوء الشحيح، رميت قميصي فوق ثوبها، وسروالي .



11

خرجتُ ناكصاً بذلّ التشفي ..

12

من شيء إلى آخر.. من حلم إلى آخر وجدتني أغفو مستسلماً لنومة غير هانئة مقضضّة بالكوابيس، والأوهام؟!.









زمنُ الكليلة



اللونُ الحادُ جَذبَه، وحلّقه مغتنما  لفرصة عزتَّ عليه أن لا يُضيّعها بعدما غفلت عنهُ، وهو يتقافز حولها تارة على يمينها، وأخرى على شمالها، مثلما لو كانت تراقبه بعينين حريصتين، (فربما يسرقوه..  مثلما سرقوا ابن  جارتها قبل أسابيع ثلاثة، ضغطوا عليها أكثر من مرة لأجل بيعه إليهم، أو إيجاره. لكنها رفضت ذلك بكل ما لدى الأم من قناعة، نحو ولدها الوحيد).. تتركه يلعب حولها مثل فراشة مزهوة يتنقل من هنا إلى هناك، دون أن تغفل عن صوته، ولا تتركه يذهب بعيداً، وهو يراقب الناس التي تضع قطعاً نقدية على عباءتها المفروشة أمامها. كانت تتحمل أشعة الشمس اللاهثة في النهار، و في الليل يقودها إلى مكمنها الذي تنام وإياه، و في لحظة افتقدته أناء غياب صوته عن مسمعها..أوشكت أن تصرخ بأعلى صوتها عليه، لكنه عاد سريعاً يغر غر فرحاً، ويمسك قلماً التقطهُ من مكان قريب، وراح يخط على الجدران المحيطة بمكان جلستها، كان جذلاً بالذي يرسمه على ورق علب السجائر، أشياء لم يكن يعرفها كأنها تخرج من بين أصابعه،وتبهره، عالم جديد يُشكله من خطوط بسيطة، و يقربه الى عينيه كأنه ينحشر في تلك العوالم المتداخلة.. ثلاثة خطوط، تتقاطع، اثنان منها مع  الاول، يتكون زورق، و الثاني أمتدَّ  مثل نهر ممدود إلى حدود غير منتهية. عالمٌ فيه براءة صافية أصفى مما يحيط به، دخل متوغلاً في جزيئاته المتداخلة، عازماً على عدم إدخال أي أحد ماعدا أمه إلى ذلك الكون البديع، وخصوصاً ذلك الوجه الكريه ذي الشاربين الحادين الذي يأتيها، و يغلق الباب، و لا  يتركها، إلا باكية تلعن حظها.





















ولد وبنت وزمن



مشى الولدُ مهموماً إلى حيث لا يعرفه، بعد أن تألم كثيراً لما حصل بين أبويه اللذين يحبهما حبّاً لا مثيل له، ولم يكن حزنه السرمدي المتصاعد في لجاه أغنية حزينة مليئة بالأمل، متزاحمة بأشياء أخرى لا يدرك كنهها…

في الطريق سحَّ على خديه الندى الجميل الذي كفه بباطن كفه، وأنطلق بلا توقف، يرنو إلى غيمات موزعة بلا انتظام  في سماء ذلك اليوم اللاهث، وراح يتابع كل ما حوله بتروّ مستشرفا ما يحدث في هذا العالم المزدحم، قادتهُ لمعة، فكرة ما، إلى أن يدخل السينما. أن ذلك الشجار العنيف الذي توتر إلى حدّ دامٍ، جعلهُ بلا حول. فماذا سيقول في أبويه؟. صراخهما تصاعد إلى كلمات بذيئة نبهت كل الجيران، فاقتحموا بيتهم، دون استئذان. وجد نفسه ينزل درجات قاعة العرض ومن حوله أضواء تتلا مع. صوت أم كلثوم كان حزيناً باكياً كصوت أمه.. عصيٌّ ذلك التذكر المتداخل بين كل هذهِ المواقف المخزية.. شجار كل مرة لم يتجاوز الكلمات الحادة التي تبادلاها كحصةٍ يومية، تنتهي بزوال المؤثر. ولكن شجار اليوم تصاعد إلى عواصف من لفح حار جداً… أكثر حرارة من الصيف اللاهث، أثناء انقطاع التيار الكهربائي، وجد نفسه يختنق في المقعد الفارغ، فراح يتأمل دوائر الدخان، التي تتصاعد من أفواه متفاوتة، تزفر اللهب بقوة، مثلما يزفرها أبيه، إذ كل مرة يجعلها تخرج من كوة بالغة الوهج.. يخافها الولد، فينكمش في مقعده، كطفلٍ صغرهُ الخوف، وسحقه كطحينٍ ناعم، فراح يقاوم بعينيه اللامعتين، دموعاً كرجت مستعدة للانزلاق على خديه، وفضحه مرة أخرى، وأخذ ينظر إلى ما حوله، والدمع الشفاف شوهّ الصفاء الذي يرتجي..كانت (أم كلثوم) تبكي لغرام لن يعود، وصوتها يخرج عفياً، متوا شجا بالأنين.

رأى فتاةً انطلقت تنزل الدرج بغنج متواضع.. شعرها النازل على كتفيها يناديه، يجذبه.. يالها من بنت جريئة؟.. تحول خلفها كالمسحور ماسحاً الدمع، معدلاً أكمامه منطلقاً إلى فراغها الجميل، ينزل الدرجات خلفها بخفة عصفور.. كان الضوء يقل تدريجياً، وبدأ الصفير يتعالى من أفواه حادة قبل أن تجلس لمحها، بعد أن اصبح على مقربه منها. ولم تكن فتاة، بل كانت فتىً  بشعر اصفر طويل.

6-3-1977







لعبـــةُ زمن



(عرض الأسد قافلة، فتبرع عليهم رجل، فخرج إليه فلما سقط وركبه الأسد، فشدوا عليه بأجمعهم، فتنحى عنه الأسد، فقالوا له: ما حالك ؟ قال لا بأس علي لكن الأسد خري في سراويلي ).



• دربكي يا درابك الخلاص، و أوهجي ذؤابة الأمل الضعيفة.

       الصمت كان شاغلاً كالجدار الأصم، والليل يمتد من خلاله لينتشر على أبعاد حزينة، مرهفة الحس قتلها الخوف وضياع الإيمان بالروح الرافضة المنفضة من جبروت غسيل الدماغ و المندلقة على أوراقهم السمر الفارغة- إلا من كسل، وجبن متكلس ..

دربكي وهاتان يداي الموشومتان بأفعى خضراء تمدّ لسانها بنار ليس لها شكل تدور حمراء في القلب المترف بالوباء، بالفشل، بالإحباط. تنير الليل الأخرس، وتبل الصدى وليباس العابس: يا هاتان اليدان المنقذتان من تعنت الزمان المرّ اضربي بقوة اكبر.. دربكي، واكسري شبكة الصمت المتبدد مع خرير السواقي، وحفيف الشجر ، وتغريد البلابل، و ....

، و ....

- لكن الصمت مبذول لساكنه ..

دربكي أيتها القوة الرجاء و اهززننى لانتزع آمالي، وتطلعاتي وحبي المطمور تحت أنقاض الجمود الواسع لانقذه من رحى الهمّ الكبير . الحب لا يموت، والشجرة نزعت قلفها للمرة الألف دربكي، واغسلي ما تراكم من وسخ على أوراق الزهرة البريئة. الحب لا يموت ما دام منقوشاً على صخرة القلب الجميلة يقاوم غبار النسيان دون استسلام للطمر يبقى متوقدا كل ليلة، وكل عمر.. تبقى ذؤابته المنيرة متراقصة تتحدى اعتى القوى رغم دخوله طور احتضاره. الحب لا يموت..

قالت أمي:-

- ساكن الروح جسد وساكن الجسد روح.

صوتها الطري إيقاع من شتات عتيق مزقه الصمت الممل وهي فاضلة في عقدها السادس، تطالع العالم بعينين متشحتين باللهفة.. تلبس جلباباً ابيض موشى بخيوط سود من ليل مرّ عليها، وأهداها الحكمة والقلب الطيب . قلت لصديقي:-

- هيجان الروح في الجسد يحتاج الى إيقاع اكثر معنى كي ينتصب..

- (كبرنا على الهمّ وهذا ما يؤسفنا).

يسكت بعد قوله، ويظل مستتباً في توزيع المصابيح الملونة على الجدران بينما عيناه الجميلتان تتحركان بتوقد ذكي.. تجولان في مدى المكان باحتفاء فرح غير مكتمل، ومتقافزتان كأراجيح بمعنى حلو .. تفتتح مهرجاناً، و أملا مبتكراً يقاوم شلال الخيبة النازل على أم رؤوسنا بعنف شديد ويزيح الفروة المشيبة حتى بقيت الصلعة لوحدها هوية زمن تساقط وعقمت بوصلاته هوية جراح تعكس لمعة الألوان برثاء وهي دون لون.. المصابيح تتراقص في الأعالي فرحة بالهواء النقي الذي يلامسها، وكأنها تبتسم مادة خطوطها الضوئية الساحرة على البقاع التي تكن لنا حباً من نوع آخر يمتدّ من آفاق طفولة رخوة ذكرتني بانتصار (قطر الندى) على الساحرة الحسود !

دربك أيها المعنى، واهدني إلى كيفية تقنين الحزن، والوجع، والقلق ، و ..

((... وكما يقولون يسقط في فيك ذرق طائر العنقاء.. رائحته كريهة، فتبصق.. لكنهم يؤولون بصاقك إلى معنى فارغ مما ترميه.. تبصق على حظك فتخسره.. ويأتونك بحبال قوية.. يربطونك حياً محمولا مثل ذئب على عمود من خشب، وعيناك تبقيان تلمعان بسر لا تعرفه وأولوه أيضا إلى ما يخافوه.. يقفون أمامك في متسع الوقت الضيق ركلاً، ورفساً يطالبوك بالهزيمة.. يمارسون فيك ساديتهم الفظة.. يشققونك بلا رأفة، وعيناك مثخنتان بحلم جميل وبريق أخاذ ينهش حقدهم .. تمتد أياديهم وراء فرحك وانتشائك بالألم.. تمتد إلى العمق تحاول ان تلوث بيئة ازدهارك دون جدوى، فيكسرون زجاج نظارتيك، لا هم لهم سوى معرفة فرحك الزائغ عن أياديهم العمياء))...

...، واليأس أيضا ... ترى يا درابك الخلاص هل بالإمكان إنقاذ ما يمكن إنقاذه دون أن تذوب تلك الآمال الرائعة؟.. تعود أمي تكمل قولها، وهي تغرز أصابعها الملساء في وعاء مليء بالعجين الأبيض.. عيناها في عيني تمتدان ألى عمقي، فازدهر خجلاً من تجوالها في قسماتي:-

- انظر بنى إلى حفنة العجين هذه ..

فأنظر ألى ما تمتلئ به قبضتها، بعينين عائمتين بالانتباه.. تعصر بقوة عصابة ما بين أصابعها، فيخرج العجين شكلاً جميلاً صقلا. انظر إلى عيني من جديد، وبقوة تواصل صهيلها:-

- تأمل هذا الحصار المرّ..

- ماذا تقصدين ؟

- ستخرج من هذا الحصار كهذا العجين.. مهما كثرت وعظمت قوة الضغط فلن تنهرى ما دامت فيك قوة للتحمل.. ستبقى بكامل عفويتك.. لكن اجمل واكثر نفعاً لمرحلتك ..

درابك الليل والغجر تملأ الأذن، والذهن .. وحدك في أحضان تمتص منك الخوف القديم، وماء الظهر الخائب.. وحدك معها، والصمت وصوت درابك أنداد تخربش صفوة.. واحتها الخضراء، وبينكما نياسم مطمورة بكثبان رمل اصفر... درب من الوجد لا تقطعه عنك الأفاعى الزاحفة نحوك. ترطب وجهك برضابها كلما جففته الظهار القائظ.. وتشربها حد الارتواء، تمد إليك أجمل كف إلى جسد يشتعل ليضيء فرحاً، عطراً، وعنفواناً مدربك يفتقر إلى صوت شبابة تعزف خطوتك الواضحة لتسير طفولة تعبر الهاوية.. لعفويتك معنى القدر الجميل تخطوك نحو الأمان، هامسة:

- ثمة مخرج من هذا الضجيج لكنه لن يكون بلا ثمن.

- زفاف موجوع.

تقول والكلمات تراقص شدة الثمل:-

- (زفني واعرف مرامي.. صادوني صيد الحمامي)

تضحك، واضحك: صوت الدر ابك لا يضحك يعوي.. أنت أيضا تعوي.. تثغو.. تموء.. تصيء كلما ضربوك.. ضحكك عواء طبول مجنونة جعلت المهزلة تستمر أعواما ثقيلة.. انت تحسر من ماء الوجه الكثير.. كانت بقربك شجرة وارفة الظلال.. تحبها بكل ما للحب من حب.. صوفي ، فارق واحد كان بينكما، وهو ليس ما اخترتماه.. وجدتما من كل دين معتنق.. لكم دينكم، ولي ديني. بعدتما عن بعضكما لان القلب الواحد جزءوه ألى شيع، فباتت تكرهك لان حبها لم ينصهر وحبك.. تكرهك بقدر ما أحبتك، ولم تعدان معاً وتنعم بفيئها..

- أرجوك خذني من هنا.

- عجباً.

- لا أستطيع المواصلة بهذا الهزال.

- و لكنها ليلة زفافك..

- أرجوك خذني إلى أى مكان.

- شرط أن نعود سريعاً..

- خذني ...

((مائدة مستديرة تشبه صحناً طائراً و أوراق من البلاستك تدور بين الجالسين ليراهنوا على قوته الخارقة في الفهم والتطلع/ يأتيه الملك ثم تتبعه الملكة دون أن تدري/ عيون متصلبة/ دقات القلب تدق بانسياب هادئ على الرغم من التوتر ودخان سجائر جعل الفضاء مكتحلاً بالضباب بينما صوت ام كلثوم يأتى من المذياع الصغير البعيد جميلاً قد أرخى الأعصاب/ بدأ اللاعبون بالارتشاف من كؤوس مختلفة الأحجام مليئة بمختلف صنوف الشراب ثم يعادون النظر إلى ما جاءهم من أوراق، ويشعلون سجائر أخر ..)).

- الحب هو الحب.

- لكن يا أماه لا أريد الزواج الآن !

- سيكون رباطاً اشدّ من كل الروابط الحياتية.. ستكون عائلتك البستان الذي تضع فيه جهدك !!

دربكي يا در ابك المجد العتيق ...اليد موثقة، والصدر مثقل، والعينان مفزوعتان مما يحيط.. البشرة قست عليها عوامل الانجراف والقهر.. المدن خيال في خيال حيث لا مدن سوى هذه الجدران القريبة من بعضها بعد أن جردوني من ثيابي و ألبسونى إياها، صار عالمي من حيطان متراصة، عالية.. طبعي ازدواجا بين الخلود والنسيان بين الموت حباً، والخيانة.. بين التغريد والعويل.. بلا هدف ومعنى فالرائحة النتنة تتصاعد.. تـ.. تـ ..

العين مفتوحة على اتساع كبير ترى الحضارة وهي تتقدم نحو رقعة الرقص...  مصابيح كرنفالية الانتشار على مساحة بؤبؤ العين بألوان زاهية تختلط بغناء صامت يجول الروح صاخباً مخترقاً غشاء الأذن مثل قرقع مجارف، ومعاول تحفر.. تحفر.. ت...

((.. يدخلونك في قبو صغير لا يتسع لك إلا وقوفاً.. تملؤه رائحة جثة/ هسيس عظام تنكسر تحت قدميك/ تقيأ/ عيناك تدوران في الجدران الغامقة.. تجد أسماء مكتوبة بالدم وبخط واضح، تعلق الأسماء في قعر الذاكرة فترفض ان تكتب شيئاً واملك عالياً لا يطال.. من فتحة صغيرة يدفعون إليك بأفعى صغيرة تنظر إليها من شدة فزعك، وتجد رأسها مهروساً بكعب بندقية.. يأتيك ضجيج ضحكاتهم و أنت واجف مثل جرذ/ يأتيك صوت الماء، وثمة صفير للفوران تعرفه جيداً/ تبتهل إلى الله بعد أن تحدس بأنهم سيسلقونك ))..

تصفعك أمك :

- لا علاقة لك بأحد من هؤلاء.. أفهمت؟..

أجهشت ببكاء لو تكن تريدني أن أراه..

- مازالت عمتك تدور في كل السجون بحثاً عن ابنها الذي أخذوه منها منذ سنين؟..

(( تدور بين أصابعه وذهنه الأوراق وعيونه تدور في العيون التي تدور في عينيه ويتصنع الابتسام/ دون ان يدري/ تحرك بين الأصابع المزيج من ناس مزيجه خلطها اللعب حالة واحدة يتابعون أوراق آتية بآلية/ بعقلانية وهو يعاود الارتشاف من قدحه، كما يفعلون، ويشعل سيجارة كما يشعلون)).

دربكي آيتها الدرابك وحددي هويتي، وخطأي، وشكي. دويّ بعنف أشد، وليمتد الصوت منك إلى لغة تمور في أديم الكون: أن أحس برعشة أمل تدب في وتطرب كياني أن تحطبي كل الأوراق التي نزفها الزمن الحربي.. أن تصححي ما كتب بروية وحكمة متخلصة من التهور الغبي.. أعيدي إلى فكراً غير ملوث بدناءات الانحراف والضياع..

((هربت في يوم عرسك لتلعب دون أن... تنم مع عروسك ودون أن ... وضعوا في مجرى بولك سلكاً رفيعاً، وجعلوا التكنولوجيا تفعل فعلتها )).. الذاكرة هوية لم تجد إبرازها في الوقت المناسب. الإيقاع جعل الزمن أكبر مما يمتد به، واعمق من العجز الذي تعانيه:

يقول صديقك الذي لم تفارقه:-

- لكنك يا (قفاوس) لن تصمد طويلاً بهذين الحملين الثقيلين.. قرناك لن يتحملا ثقل الأرض ولا ثقل القضية..

- أية مهزلة تقول ؟

- تجيد التسمية لكنك ستسقط حتما يوما ما..

- أرجوك لا تبث في هذا القدر الأعمى من اليأس.

- أود نصحك.

- أريد الأمل ..

- فاقد الشيء لا يعطيه كما يقولون

- أريد الأمل ؟

- سأعود الى حفلة الزفاف دونك

- حسناً تفعل ..

عرسك مأتم هي هناك وحدها تستحقك، ولست جديراً بغيرها هي الأحلى، ولكن هزيمتك شخصت عندما رضيت بالزواج من غيرها.. ما زالت ملكة متوجة على الموسم الجميل الذي تود.. خسارتك شاخصة على تأريخك.. يداك خاليتا الوفاض، والقلب أيضا.. خسارتك صارت ربح مادي.. بقرة حلوب وولود.. خسرت الحضارة، والتطور وأنت لست قادراً على تصويب أمرك، وسينبت لك ذيل على إيقاع المهزلة، وستساق بالسياط ان توقفت عن جر العربة التي يريدون.. خسرت عينيها، والفرح ، وشعرها الذهبي.. ستبقى مزروعاً في مكان واحد، بعد ان تطلع عليك شمس تجففك حتى تسقط للمرة الأخيرة، وتحملك الريح مطوحة بك إلى الأقاصي البعيدة، وتأتي على نار تحرقك حتى تذوي رماداً، وتتناثر ذراته…

(( الصمت فاصل بين الأصدقاء والأعداء والمحاربين.. يهتفون بصوت آمر.. العب.. اكشف أوراقك.. فيذعن للأمر/ للوقت الحرج/ تفاحة ناضجة أنزلتك الأرض.. يقول احد الحاسدين يالك من صاحب حظ رفيع.. يضيف مبتسما ليت حظي يتعدى اللعب على المائدة المستديرة التي ما تلبث ان تدور، وتدور. تأتيه الغجرية صاحبة العينين الخضراء، بصدر مكشوف عن تفاحتين ناضجتين/ تلامسانه بدفء شبق، وتطبع على شفتيه قبله تمنحها لكل من يفوز.. رائحة فمها تشدّ فيه ذكرى رائحة ذرق الطير الكريهة.. تملاً فمه ويتقئ بشدة وعيناه تتابعان الصراع الناشب في عيون من يحيطونه/ توشك ان تطلق من أقفاصها/ معدته لم تتوقف عن قذف خزينها ينقلونه الى المشفى/ يبقى ما كسبه على المائدة المستديرة التي تظل تدور، وتدور..))..

- ليتها لا تعرف السكوت

الدرابك تضرب بصوت بدأ يوهن تدريجيا.... مدى الحديقة الساحرة، يتسع إلى حدود زاهية تخلب اللب.. يتقد الليل بالزغاريد، والحلوى، والأماني المنسلة بأمان بين السوداء، فتمتد لحظة التمني طويلا.. طويلا .. تعود وحيداً فارغاً يلفك صدى ضياعك منحرفاً باتجاه لا تعرفه.. الوهن أصاب كل ما فيك حتى الذاكرة.. أصاب ما فيك من انطلاق، و تفتح، وتوقد... حزيناً تعود مستسلماً إلى صوت خفت.

- تزوج من اجلي بني..

الدرابك تنوح بوهن كلما تبتعد عنها.. الأفق الجميل غطاه لون ضبابي لا يفقه.. الليل في الدار محطب بأمل جميل ومضفر كجديلة سوداء حلوة/ ابتسامة منيرة/ أضاء كمنار يرشدك حيث الأمان الذي تنشد.

و أنت حاول الثبات.. لا تهتز لست تدرى طرباً، أم من شدة الخوف.. بينما التيه ممتد بينك وبين الحفل المعد لزفافك.. لك عين ثاقبة، فميز بها المندسين بين المهنئين!! الدرابك تدوي طرباً.. جعلت العيون المليئة بالوعد.. تتوافد بلا توقف كضفاف معمرة في نفسك نفساً جديدة تبتكر فسحة للأمل الضيق.. تتوافد، تتوافد، والرقص يشتد بإيقاع أشد.. تضرب، تضرب، وتضرب.. حتى ينفرد صوت صديقك محذراً بهمس مثل صوت شبابه اكثر حزناً:-

- هاهم جاءوا ليأخذونك أيها المقامر..

يتكدسون حولك كالليل الحالك، بينما خطوط المصابيح تنشر قدامهم تحجبك عنهم/ تواريك..

(( يبق صوت الدرابك الواعدة أبدا))

لكنك تصمت، ولا تقول!!.        

14-10-1976







ما آل إليه

ـ ما هكذا... يا كريم دع المرأة تأخذ كيلو الطحين بمائتي دينار ولا تصر على بيعه لها بمائتين وخمسين؟‏

كأنه لم يسمعني بعد أن نهض من كرسيه الوثير عاقداً حاجبيه، متثاقلاً وواضعاً مسبحته ذات الحبات السود الناعمة في جيب جبته، بعد أن انبعثت منه رائحة مميزة تذكرني بأبي بعد عودته من المسجد، مسح شاربيه براحة يده اليسرى، وقال للمرأة متنحنحاً بصوته الأجش:‏

ـ والله العظيم أنا لا أبيعك أكثر من سعر الشراء... دعي البكاء وأفهميني.‏

نظرت إليه المرأة بغيظ، وانطلقت تغذ خطاها إلى عمق السوق. كانت تبدو في الخامسة والأربعين بين عباءة سوداء وأيام قد صيرتها تهمهم بصوت واهن ضعيف قائلة:‏

ـ يا إلهي بعت معظم أثاث بيتي بأبخس الأثمان ولم يبق لي ما أبيعه... حتى الملابس لم يبق منها سوى ما عليّ وعلى بناتي الخمس الصغيرات.‏

تركت الجريدة التي كانت بين أصابعي تسقط على الأرض، وهي مفتوحة على إعلان ملأ الصفحة عن حفلة سيحييها عدد من ألمع نجوم البلد في فندق الثور الجريح السياحي مع وجبة طعام مفتوحة بخمسة آلاف دينار للشخص الواحد، وانطلقت خلف المرأة تاركاً (كريم) يسألني عن وجهتي دون أن أسمعه رداً.‏

بحثت بعيني عن المرأة التي صارت جزءً من الناس المزدحمين في السوق، بقيت أحدق في وجوه النساء المتلفعات بالعباءات السود، متفرساً كما طفل أضاع أمه.. نسوة كثيرات يمشين باتجاهات مختلفة ومتعاكسة.. رجال، وشيوخ أيضاً... أصوات باعة تصيرت لغطاً متواشجاً ببكاء أطفال تخلل قرقعات عربات فارغة، وأخرى مملوءة... منبهات تزعق بهمجية تخترق الرتابة.. باعة بأصوات غليظة، وأخرى ناعمة.. همهمات استنكار.. رجال تعبون، نسوة متضجرات بتقاطيب قاسية... عيون كسيرة وأخرى متحدية.. روائح أجساد متعرقة تعط بين الفراغات ممتزجة بروائح اللحم الذي علقه القصابون على واجهات محالهم... كان بعضهم يقف في محله كتمثال شمع لا يرى ولا يسمع.. ليل يغطي العيون، أناس تتصادم ببعضها..رجل سقطت منه حاوية البيض وقرفص إليها ليجمع ما ساح من البيض على الأرض، وبقربه مشت امرأة تلوك لباناً وهي تضحك بصوت داعر إلى رجل أنيق يتابعها دون أن تبالي بنظرات الناس إليها.. طفل في العاشرة حافي القدمين بجلباب ممزق يمد اليمنى ليتلقى من الناس عطفها. رائحة لحم مشوي، ريش يحترق. أوراق أشجار تتساقط في الربيع... بخار، ورائحة وخمه.. رجال تيبست ملابسهم بعد أن نضجت أجسادهم عرقاً غزيراً. عيون قاسية، وأخرى رحيمة... توسلات، ومكابرات... الصمت يفصل بين النقائض، حاجتها طحين، وسأجدها قرب أحد بائعيه؟ اخترقت الزحام واحداً أثر آخر.. حتى وجدتها تقف إلى أحدهم وهو يحلف لها أغلظ الأيمان بأنه يبيعه لها بسعر الشراء..‏

اقتربت منها هامساً:‏

ـ هذه مائتان وخمسون ديناراً يا خالة.. خذيها لأجل إكمال المبلغ الذي معك.. رفعت إلي عينين مملوءتين بالأسى دون أن تقول شيئاً وأشاحت بوجهها بعيداً عني تاركة إياي مع البائع ينظر أحدنا في وجه الآخر.. احترت فيما أقول.. كما احترت بالخطوة التي بعدها.. قلت لنفسي (ربما تحتاج إلى خمسين ديناراً فقط؟)‏

عاودت خطوي أثرها، وأنا أمد يدي إليها دون أن أعي فعلي، حتى سمعتها تقول:‏

ـ آجرك الله يا بني.. أنا لست متسولة دع نقودك في جيبك.‏

أومأت لها أن تنتظر، فسألت بائع السجائر:‏

ـ بكم السيجارة المفرد؟‏

ـ خمسة وعشرون ديناراً‏

كان البائع طفلاً لم يتجاوز التاسعة من عمره، وقف على الناصية.. التقطت السيجارتين، وقلت بعجل بعد أن تصنع اللامبالاة.‏

ـ هات الباقي يا ولد.‏

فقلت للمرأة:‏

ـ أهذا ما تحتاجينه؟‏

عاودت النظر إلي بأسى متشح باللوم الشديد وأوشكت أن تقول شيئاً، لكنها أجهشت بالبكاء متقطع وهي تقول:‏

ـ (الله لا يوفق... أمريكا).‏

كانت السيجارة بين شفتي ترتجف، وأصابع يدي المتعرقة ممتدة إليها بالنقود‏

ـ أرجع نقودك.. الباعة ما عادوا يرحمون أبداً‏

كنت أقف أمامها كمعترض سبيل محاولاً دفع النقد لها وهي تواصل بكاءها المر. تجمع الناس حولنا، وكرهت أن أبقى محرجاً، ربما سيتدخل أحد ما ويجرني إلا ما لا أحسد عليه. أحسست بالفضاء فارغاً، صمت مقيت حال طاغياً فصل بين لغط الناس وبين صرخة ألم رهيبة ستندلع من كائن يربض بين تلافيفي. فتركتها وشأنها عائداً إلى صديقي (كريم) وأنا في ثورة غضب راغباً في تلقينه درساً مما كان يدعيه من مبادئ وأهداف بان زيفها... كنت أنوي تذكيره أيام كان يستدين ثمن علبة الدخان قبل اليوم الذي صار فيه يشتري ما يريد حتى لو كان بـ (مليون) دينار. يمور ذهني بمختلف الألفاظ والصياغات، أتذكر سهرة ليلة البارحة التي كلفته آلاف الدنانير دون أن يبالي لها. سألقنه درساً مقارناً بين ما كان وما آل إليه.. تقدمت إلى المتجر وقبل أن أنطق بشيء سمعت امرأة أخرى تبكي، وصديقي (كريم) يحلف لها أغلظ الأيمان:‏

ـ والله العلي العظيم أنا لا أبيعك إلا بسعر الشراء.‏







غَريم زمن



كان يحدث جليسه في (باص) مكتظ بالراكبين، وبقيت حكايته تدور بين الجالسين، مثلما يدور دخان السجائر المختلط مع أنفاس الراكبين وكأنه كان يتحدث ألي معه بقيت وحدي استمع إليه بكل تركيز: - (كلمتان ولم أزد عليهما شيئاً، كل ما قلته له، عندما لاقيته في منتصف الشارع، إذ كنت أغلي قبل ذلك اللقاء كمرجل، ولم أكن في حالة توازن. كنتُ أبحث عنه، متوعداً به، وكأني أحمل روحي بكفي، وبأني سأفعل به ما يحلو لي، حيث جعلني ذلك الرجل القميء، البائس في حالة يرثى لها، اذ جعلني أخسر كل استقراري، بعدما استطاع أن يمدّ جسراً سرّياً بينه، وبين زوجتي التي كنت احبها تمام الحب، ولم يكن بحسباني أن أمر بذلك الموقف البائس، أبدا. ولم اكن قبل ذلك الآثم - إلا كائناً مستقراً.. أعود إلى بيتي بعد عملي بكل أمان، واتزان، ذلك كله قد حصل لي، وأنا اصدق انطباق السماء على الأرض، ولا أصدق إنها ستقبل بذلك الأكثر تعاسة، عشيقاً، وهو النقيض مني، ولا يزيد طوله عن نصف طول الرجل العادي .. عندما يضحك كانت أسنانه مفرعة إلى اتجاهين غير متقاربين، وله عجيزة كبيرة، كما لو كانت لخنفساء، ولا أحد يصدق بأنه لو جلس لما استطاع أن ينهض..

كنت احدق في وجهه، احسسته صادقاً، ثم تنهد بحسرة متابعاً القول:

- اتعرف ماذا كانت تقول لي؛ بأنك لو فكرت بامرأة أخرى  فأني سأضع لك السم في الطعام، و طلبت منها أن نذهب إلى (عيادة الطبيب) لنبحث عن سبب عدم الإنجاب الذي كنا نشكو منه طوال عشرة أعوام متوالية.. لكي نحدد السبب ونقهره، بعد أن قهرنا طوال تلك الأعوام التي مرت علينا، وكأنها أسبوعا واحداً.. كان حبي إليها يفوق حبي للحياة، وعندما وصل أذني خبر إثمها، لم أصدق، ورحت اضرب ذلك الذي اخبرني بكل قوتي حتى كاد أن يموت بين يدي، وكأن كلامه لم يكن إلا مؤامرة دنيئة للنيل من حبنا المنتصر على كل الظروف، وعدت إلى البيت لأخبرها، لا لأعاتبها، وجدتها قد حزمت حقائبها إلى جهة لا أعرفها، عند ذلك بدأت أراجع الأمر والخبر!. قالت لي زميلتها:- بأن زوجتك مخلصة، ولكن نتائج التحليل بينت سلبية أحد الطرفين، ومؤكدة بان الطب سينجح يوماً بعلاجه الناجع)، وأستمر يقول:- (فأرادت الطلاق لأن هناك من شاور بأذنها، بأنك نويت أن تتزوج عليها، و كاد يذبحها من الوريد إلى الوريد، و قالت لي الأخرى:- هو الذي ورطها بتلك العلاقة، وكما فعلها في مرة سابقة مع امرأة أخرى قبل سنوات، زميلتها أيضا، وقالت الأخرى:- كانت ضحية جمالها وإهمالك لها، لم أك بتلك البرودة عندما قابلته في ذلك المكان، كنت انطلق تلك الكلمات، و هو يسمعني، إذ بقيَّ  متهدلا كالمشلول، رأسه إلى الأرض.

- أنا لم أكن مفسداً لحياتكَ مثلما أنتَ تفعل!

بقيّ يقول منفعلا وكنت أحسه قد بذل مجهودا كبيرا لاجل أن يصدقه صاحبه الذي تصنع الإصغاء إليه، ويبدو لي أن طريقي قد طال علي لاني لم انزل في المكان الذي كنت أود، فلقد شدتني الحكاية، التي بقي يقول صاحبها (كانت كلماتي واثقة ومليئة، وكأني أحسست بان الكلمات لم تكن إلا الأقوى من أي فعل.. رغم أنى عرفته، لا يسمع أحداً،  ولم يك يحبه أحد من كل الذين عرفوه.. عهدتُ كلماتي البائسة لن تصل، ولا قدرتي تجعلني أعادل فعلته بالمرأة التي فارقت).

فجأة نهض جليسه، وهمَّ هو معه. وراحت القصة التي شوقتني تفلت بنهايتها مني، وتمنيت أن أكتبها بطريقةٍ أخرى، غير ما جاءت.











زمنٌ بارز

1

سيدي العقيد  :-

اكتب إليك التماساً مفضاهُ عمر سيبتدئ، دون خوف من خزر عينيك التي تهددني بالسجن ، أو بالواجبات الخطرة، ولا من إشارة يديك الفانية.

بتّ‘ الآن بعيداً عن سيطرتك.. أكتب بتأن وبلا ضعف.. فصارت حريتي فيك أيها الداجي اكبر من حرية عصفور حلق في الأعالي… الآن وأنا أحاول سبك هذه السطور الجريئة إليك يتملكني ضحك كثير ، فلا يدعني أضع الحرف في الصميم.. اضحك متذكراً صلفة أفكارك كانت تدل على شخصك المهزوز، وأنت تحاول ان تحشوه رزانة، وتملأ وجهك تجهما وأنت لم تع كيف لا يمشى الإنسان مثل الحمير على أربعة.

اضحك منك الآن واجتاز خطواتي الأمينة لأتمكن من ذم نفسي فيك، وهى التي استحقت ذلها الذي فرضت.. ذلك لأني كنت بالغباء الذي أهديتك فيه يداي، وأنت تقيدهما ..كما تقيد الراحلة في إسطبل مكشوف ..

اكتب إليك بضعة الكلمات هذه لأحلّ عن نفسي عهدا ً قطعته بأني سارد إليك جزءً مما تعرض وجهي لبصاقك النتن.. كنت ساعة تلك لو فضلت الغطس في بركة (خراء)، فلا أشمّ رائحتك الزنخة، لكن رتبتك الحاجز الوحيد بين الكرامات المهدرة، فأثبت لك بأنها محض وهم، ومنزلة سقوط… أيها التعيس.. أكشف لك إحدى الحكايات التي جرت وقائعها كالماء الموزع على مسالك سوية.. لكنك لن تفهم اقسم بالكرش المتهدل، وبعينيك الغائرين كعين تمثال.. بأنك لن تفهم أبدا، و لن تصبر على الجوع لحظة واحدة.. لم تعرف الحيرة والتفنن بإظهار مكارم الأخلاق.. بتَّ معروفاً لي مثلما خبرتُ حذاء التدريب..

عجباً سيدي العقيد خليفة حفظك الله من قلمي الصغير، الذي يتعثر من كثرة اللججّْ الصعبة التي حوتها ذاكرتي، أستطيع مواصلة ما تمنيت جهرا..



2

كان البطل كلما يتأخر يجد ما يلي :-

1- فاتحة مقامه تحمل صورته، و(يافطة) مدونة بالخط العريض، سوداء على بداية الزقاق تحمل اسمه.. وكل مرة يعود.. الأطفال والشيوخ  والنساء، تهرب منه فزعه كأنها تظنه جثه تمشي..

2- زوجته تجد عشيقاً يمدّها بالذي تحتاجه في غيابه الطويل..

3- أبوه قد تزوج إحدى الأرامل، وراح يبني بها بعيداً عن اخوته الصغار..

4- الزقاق اكثر نتانة.. الليل اكثر دهمه .

5- شقيقته انتفخت بطنها، وهي لم تزل عذراء..

6- زوجة صديقه تراوده‘ عن نفسه، ويصعب عليه التخلص من مضايقاتها..



4

يقال إن السيد أبو خليل قد اصطحب معه زوجته إلى بيت العقيد خليفة تودداً كي لا يكلفه عناء الهجوم المقبل وكي تمتد أواصر العلاقة بين الأسرتين ..

كان السيد العقيد على خلاف دائم مع زوجته، فاعجب أيما إعجاب بأبي خليل، ورحب به ترحيباً حاراً، مما جعله يأتمنه كل الائتمان، وجعله ينسى كلما يربط الآمر بمأمورة تكررت الزيارات، تبادلوها، بإخلاص ودود.. حتى إذ جاء اليوم الذي خبط أبو خليل رأسه في أقرب جدار، عندما شمَّ رائحة العقيد بين نهدي زوجته!! .



5

لم يكن العقيد يمتلك شيئاً.. لكنه بين يوم وليلة تمكن من مشاركة أبي خليل، معمل الطحين الذي يملكه، وبعد أيام آخر تمكن عليه كاملاً، دون أن يدفع فلساً واحداً، وبقي أبو خليل على فراغ راحة اليد…

6

عندما تنبه أبو خليل إلى الهاوية التي ما زال يسقط فيها.. قرر أن يغتسل، وان يبتدأ من جديد، وما أن أحس العقيد به من خلل مجسات الخاصة.. كلفه بواجب عاد منه نتفاً !!.











زمن العزلة



1.

كان وحيدا في كل مكان.. يفكر، ويدخن بإسراف شديد، يحلق خلف سحبه المتكدسة في الأمكنة المغلقة، يطير معها أحيانا إلى البعيد ، ومكانه يتبدل من حين إلى آخر بطرف بصر، يتداخل الزمان بالمكان إبداعا، و يتشظى حلمه إلى عوالم، مثل شظايا زجاج متكسر. أفكاره البريئة تتبلور مع الأمنيات، وتطير مثل عصافير في جنان رائع.. تزقزق الوهم..

كلما كان وحيدا يتنفس الهواء عميقا.. يود أن ينزله إلى أقصى خلية فيه.. حرية في التنفس لا يعادلها شئ..علمته عمق الأفكار دون عناء.

كان يكتب عزلته القصية.. بإحساس، لتبقى له هذه الكتابة تعويضا له عن فضاء ما سدّ عليه بإحكام. وجهه الكلمات، وقبلته القلم..



2.

… في تفرده، وأحاسيسه، وقوالبه.. يضيف إلى كل ما يقرأه شيئا لاجل ان يكون ناضجا بتلك القراءة، ويضيء بجذوتها الطريق إلى نفسه… يكتشف بأن ما فاته غير قليل وعليه ان يعوض عما قد فاته ..هكذا العهد من حوله..في سباق معلوماتي… ضاع في التيه من لم يكن مستوعبا، ومفتوحا للتعلم. وتظل تدور تلك المسافات باتساق مع صدره المتنفس بقوة. مع عيونه التي ترى عمق البشر.. نظرته الاستكشافية تسبر عمق الفكرة، و تخرق العواصف الغامضة والأيدلوجيات المبهمة، اذ يستشرف ما وراء (الغيوم السياسية).. يحللها لنفسه، يقتات على الخالص مما ليس بريئا. فليس بالطعام وحده يحيا الإنسان . بالتدوين، بالموسيقى تعبر به عربة الوقت المنطلقة بأقصى سرعة.. محلقة بارتفاعات جنونية لا حدّ لأحد تحمل طيرانها الشاهق ذاك  بالكتب، والمكتبات جموع القلة وقلة المجموع .



3.

يفهم الذي تراكم فيهم.. وهم بلا أجنحة "ينططون"، وان قفز الضفادع ليس كطيران الطيور.. يريدون ما ملك من أجنحة.. يبغون الفضاء الذي يتسع منه كل حريته، ويتنفس عمقه الشاسع.. بطيبة قلب يقدم لهم ما لم يتمكنه الناكرين.. كان يستشف نكرانهم البغيض، و الغل الغليل في نفوسهم الضيقة. النفوس الضيقة، التي لا تحتمل اكثر مما مقدر لها ولا يدرك بعد فوات الأوان.. بان لكل شخص من الاحتمال مما ليس لغيره- الأقل إبداعا..الأقل إحساسا..

كان يقدم كل تلك الأشياء على النسيان،لاجل  التجربة التي لا يخاف منها، ويعرف بأنهم حتما سيطعنون المواسم بالصدأ. ويمرضون الورد باليباس.



4.

الزمن الذي امتلأ بالأقزام يرفض رفضا شديدا اعترافه بالعمالقة.. بصلابة الرأي.. بالهشاشة. يقسمون الأصل إلى اثنين، والاثنين إلى أربع.. يبعدون القريب نكاية ليقترب البعيد.. مشهد غابوي من الفطرية… البدائية في وجوههم التي يتهربون بها من الرقي بحجة التمسك بالميثولوجيا معلنين عن ما لا يفهموه، بأنه كان مفهوما. يسير في المعاني، ويعطيها انتشارها.



5.

كان وحيدا في وحدته، يحب ان تقترب المسافات البعيدة، وتعم الاكتشافات الخضراء كل مساحات الرمل المحروق بسالف السيف القائظ.. وما من  مؤيد.

ينتقصون بإسفاف جاهلين كل ما غاب عن قناعتهم.. يعلم انهم لا يعلمون ما يعلم عنهم، والجيل الذي يليهم.



6.

حقيق به أن يستحي من نفسه قبل أن يستحي من الآخر. فالكذب على النفس حقيقة بلادة، وتيه ذات. من كان يدرك ذلك، لا يحيق بالبطلان، إذ  نفسه تتسع في الذات البشرية.. فانبرت إليه ستارا تمزق، او حائطا فاصلا تهدم، القوة التي يكتشف فيها ضعف الآخر. كان الوهم اكبر من الحقيقة، و سعة العالم لا تحوي حيرته ويحدد روابطها،لأجل ان يقننها بتحديد المتضادات وصناعة الأسلحة..



7.

كان الثاني من الأمر الأول.. له الحرص على ما يحب. كان يحب موقف الوجه الواحد.. مؤمنا بان ما لغيره لا يصح له، وما كان إليه لا يجوز لغيره...



8.

قال لنفسه:

أقمت في الزمان مكانا، وفي المكان زمانا.. فلم أر اكثر خسة من الخيانة.. بعدها لا يصح إلا الفصل والفراق!.



9.

قال لنفسه:

كانت كتبي هي كينونتي، وصرت فيها باحثا.. معقبا .. كالمحارب الذي يتمرن بسيفه، ليزداد معرفة بعصره، وهموم شعبه.. كانت المعرفة مفتوحة القوائم، وأنا احلق طيرانا تارة، وأخرى سابرا لأعماق البواطن، ماحقا ما أستطيع من قيد للعقل بإثبات ما أستطيع إليه سبيلا.. اكتب الجوهرة المكنونة، بفكرة مسكونة.. امضي قدما، لا احفل بضيق العبارة.. معولا على قصّ من الخيال.









فاصلة زمن



1.

يرخي عليّ الزمن سدوله، و يمضي بي إلى الوقف، ويطول. فيفيض المكان من حولي  بالثبات، والحركة.. متداخلاً مع بعضه، مرتجاً كأنما نقيضاً متصارع مع نقيضه. كنت أسير بلا هدى في الطرقات العامة، والخاصة.. محاولا محاورة الطيور الجارحة بلسان تفهمه، مترجيا الأشرس لأجل أن لا يزدرد الصغار الزواغب الآمنة في أعشاشها، وان لا يمزقوها إلى أشلاء، وأكسب ودّ المتسلطات على أزقتهن، لأجل أن لا يسقطن التهم على المحصنات اللائى ُيحببنّ أزواجهنّ، ويحرصنّ على أبنائهن، و بيوتهن… بلسان ذرب، معسول، يعطي القناعة، ويوعد بالشفاعة. ولا أدري كيف يسرح فكري، ويستسلم إلى تلك العاصفة الهوجاء، التي اقتلعت ذات يوم أركان داري، و سلبت مني طفلي، وزوجتي. وجردتني من مملكتي.. لم أكن أع شيئاً مما ينتابني من تشنج لا إرادي.. زبدٌ ابيضٌ يفيضُ على شدقي، وتفلت مني السيطرة على فعاليتي. يبرد، ويتصلب جسدي، كقطعة خشب، و فكي يتشنج.. أعضُّ على لساني دون شعور بالألم، حدّ إدمائه، ويضيعا بؤبؤا عيني؛ يعيث باستقراري، ويطيح بيّ.. بعد خسارة لن تعوض؛ إلا الاستسلام لصوت ندائهما، المستغيث، الدائم، وكأنه يحدث الآن في رأسي، المليء بالمخاوف، المليء بالأوهام، و أنا لا حول لي، ولا قوة، وعندما سئل عن عظمة المصاب الأليم الذي لحق بيّ، قالوا:

- بأن النهر فاض وأخذ منا ما أمكنه أخذه!.

بقيت ضحكتي تجلجل في الشوارع، والحواري، والأزقة. مثل عتب حميم، يتحول إلى أغنية دائمة بالنشيج، أغنية حيّة ترفل بالدعاء السمح، وتذوب مرهفة على الشفاه المرتجفة من الخشوع، تدخل ضمن الفطور، وبقية الوجبات.. تضايق كل المتخمين، وتقضّ مضجع المجرمين... كجرس خطر يخطرهم بأن الله يمهل، ولا يهمل، وان من تاب سيدخل آمناً إلى مضجعه، وسينعم باستقرار هانئ، وسيكون متخلصاً من الفيضانات الكاسحة التي ربما تجتاح البيوت.. في غفلة آمنة، و العواصف المدمرة التي تقتلع السقوف، وتحل كلعنة هادرة. لا أدري أن كنت حقاً أتعامل مع ذاتي بمحض إرادتي، أم يسيرني قدر ما، أسير مترنماً بالكلمات، مزهواً بما اعتقد، و محذراً كل من بقي على ظلمه؛ أن يحتسب لليوم الذي لن يرده إلا الله. فأيٌّ من حولي، يرجعني إلى بيتنا مساءً، وتشكرهم أمي العجوز، وتحضنني بشوق، كأني أعود إليها بعد غياب طويل، ظنّاً منها باني قد ضعت منها إلى الأبد، وفي اليوم الذي يليه، أعود متوسلاً إليها، عساها أن تميل إلى رجائي، لأجل أن تسمح لي بان أخرج وحدي، فلم تكن توافق، إلا بصعوبة، وكل مرة تكون أصعب من سابقتها.

2.

صوت زعيق فرامل السيارة جعله ينتبه بكل حواسه.. إلى ذلك الحادث المروّع، بعدما هرست سيارة مسرعة طفلاً، وأمه التي كانت تروم حمله، وهو مكسور، أثر لعبه في الشارع، فأمتزج الدم بالطين الذي تصيّر بركة وحل سوداء، وقماش!!.



3.

• الزمن الثاني:

وجمهُ اليأس، بمكانه؛ شلّته الأفكار، والمخاوف عن المشاركة. نسي كل ما حوله، وتنصل عن كل شيء تاركاً الكيس الجلدي، الذي أعطته إياه أمه، لحمل الخبز من الفران.. ترك العالم خلفه منشغلاً كلاً بشغله، واخذ يركض، خلف السيارة التي اختفت كشبح اخترق البعد البصري، وطواه كما يغلق باب المستحيل.. بقي يعدو بأمل أن يسبق الأحداث قبل أن تحدث، و الكوارث قبل أن تحل.. كأنه بقي متسلقاً زمن ما، يملأ ذهنه، مندفعا بكل طاقته، محاولاً الإمساك بشيء ما، يظنه الخلاص، فتركض خلفه مجاميع من الأطفال، مصفقين له، ومغنين، وهو يحاول التخلص منهم، بكل ما لديه من مقدرة على الهرب، إلى خارج ما بلغه بضجيجه‍ا!.



• الزمن الأول:

حاولت التفكير جاهداً، أمام طلابي بعد أن سألني أحدهم، عن حالات المادة؛ الغازية، السائلة، الصلبة، وأستمر قولي : هناك حالة رابعة هي النار، وحالة خامسة، اضطربت الأوصال خوفاً من المجهول، فلم أستطع القول، جاهداً .. تعثرت الحروف، واختلطت مع بعضها، وتصاعدت الهمسات فيما بينهم، شلّتني الأفكار، والمخاوف دون أن ادري، ما الذي استغرقته من الزمن في التفكير العميق، الذي قطع الصوت، و أبقاني في عزلة صمت قاهرة، عزلتني عما حولي.. كنت مسكونا في تلك الماهية، مسائلا، نفسي أن كانت هي "الـ… ؟ "!.. ارتجفت شفاهي، وصار لساني ثقيلاً، و لم استطع أن الفظها؟

• الزمن الثالث:

شعرت بأن قلبي سقط إلى موطئي، عندما سقط في وحل الشارع؟؟

أحسستُ بشيء غير عادي،هزني هزّا عنيفاً، فأخذني بيسر، حراً، مأخوذاً.. بقيت أسير حراً، خلف طفلي الصغير، وأنا أرغب أن يقولها لي: ( بابا .. بابا)

‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍

الزمن الأول:

وجدتني أفكر ملياً، ويأخذني الوقت، دون أن أعيه…شلّتني الأفكار، والمخاوف كأني ادخل إلى دائرة، وتوصلني بدورتها إلى أخرى اكبر، وهكذا تستمر دورة اللولب المكررة إلى التلاشي.



• الزمن الثاني:

وقف أمامها، ينظر إليها منتظرا ردة فعلها، ترى هل هي الآن مشتاقة إليه.. بقدر شوقه إليها. كانت تقف في دكان صغير، تعتاش منه، منهمكة في عملها، مثل نحلة دؤوب في خليتها. عيناها نافذتان على كل العالم الذي حوله، حاول سؤالها، لأجل أن تنتبه إليه، فلم تلق له بالاً.. كانت تتصرف أمامه، بتجاهل تام، و كأنه غير موجود..إلى درجة أنه شك في نفسه، ثم استغفر ربه اكثر من مرة، تحسس وجهه بأنامل يديه، ثم كرر معها ما بدء به، دون جدوى، لكنه قطعاً، كان موجودا، وليس وهماً بها إنها غير موجودة، ولم يتمادى بذلك الظن، بل على العكس تأكد من نفسه، بأنه لم يكن كذلك.. انه يتحرك، يحلم، ينطق، يرى، يسمع، يتذكر، ويتفاعل! ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍  



• الزمن الثالث:

عندما رأيت ذلك الطفل الراكض، وهو يسقط في وحل الشارع؛ وجل قلبي.. احتقنت ذاكرتي، وهاج بي الضجيج، شلّتني الأفكار، والمخاوف، فصرت منقطعا عما حولي، ولا أرى أمامي غير ذلك الطفل الذي سقط في شارع لم يخل من السيارات المسرعة، عازماً على إنهاضه، كي لا تدهسه سيارة عاجلة، وأن أوصله سليما إلى أمه( قبل موعد محاضرتي الأولى)!.



• الزمن الثالث:

لحقني الفران إلى منتصف الشارع، لأجل أن يناولني الكيس المليء بالخبز، وبقية النقود. لكني أخذت اركض بكل ما في من قوة لأجل أن امنع الحادث، قبل حدوثه، أنقذ ما يمكن إنقاذه، كنت مسكوناً بالوجوم.. ذهني مليء بالماضي، الراكد، ولم يكن سوى وهماً؛ أني أستطيع إيقاف الزمن، أو أن امنع الحدث من الحدوث.



• الزمن الثاني:

تحرى عن المرأة صاحبة الدكان، فقالوا :

- بأن زوجها كان مدرساً قبل أن يعمل صيادا للسمك.. توفي غرقاً منذ زمن بعيد!



• الزمن الأول:

أصبحت أمامها أشك بكتلتي. حاولت الصراخ بأعلى صوتي، محاولا أن أكلمها، بكل السبل، لكنها لم تكن تراني. حاولت لمسها، وكانت دافئة، وشهية، فلم تستجب بمسي، بينما النار تمور في عروقي، دون أن تشلها الحيرة !!.

وقفت حزيناً وعيون أمي مليئة بدموع ساخنة، شلّتني الأفكار والمخاوف. و أشتدّ بي الوجع ..



4.

الجنون يتفاقم إلى حالة وعي، و الوعي يتفاقم إلى حالة جنون،

وعي الجنون، وعي، وجنون الوعي، جنون !!.





روى بعضٌ ما لم يرو بعض



تترقرق ضحكتها على بياض التذكر. صوتها العذب يتخلل صمت الليل الموحش، كحنين عات تعزفه آلة الكمان، المعلقة، بحقيبتها الجلدية السوداء على الحائط منذ زمن طويل، جعلها الغبار بلون آخر..كابية، مسكينة ..تستدر العطف، والرأفة…مثلما دولاب الملابس الذي يرش رائحتها كلما انفردت إحدى أبوابه، أو مرآتها التي مازالت تمسك بصورتها الدافئة بإشراق يملأ الأرجاء حيوية ودعة..

(- كنت تلعبين معي بمهارة الدجّال المحنك )

يمرر أنامله على الذكريات المتصّيرة أعمدة، يستند عليها البيت الجميل برسوخ ثابت.. يلبد متذكرا عزفها البديع في فراغ الليل الفضي إلى مصابيح ركيكة، خنقتها العتمة… مسدلا جفنيه بفرح خفي منتصرا على الجراح، بعد اشتياق جارف، فمازالت لمساتها فراشات ملونة ترفرف في كل مكان من البيت الذي بقي دونها يعاني من صمت مطبق، يفكك التفاؤل، ولا يعطي من الهناء قيد أنملة.. كلها خسارات تعددت.. (أغرقت كل سفني في بحر كذبك الكبير..كنت تصفين لي ماردا عظيما يزيد طوله على الثلاثين مترا.. قد سكن أمعاءك، تصفيه بدقة بالغة كأنك تريه بعينيك شاخصاً كحقيقة…تقولين انه يعمل على إيذائك بقسوة كلما كان يراك تفعلين ما لا يريدك أن تفعليه معي لتتقيئين دما، و…) كانت اكثر من حكاية في حكايتها يتوق إلى إشباع نفسه من سحر السحر…غائصاً في الحلم اكثر لأجل أن تعيد كلماتها من جديد.. يود المعرفة بعد فوات الأوان.. ليته يستدل إليها، ويطلقها من أسرها تلك الأميرة التي سلبته عقله.. كان واثقا من تهيؤاته، ما أن خرجت من البيت غاب أثرها، وراحت كحبة رمل بين الكثبان.. ليته يراها، ولو لمرة واحدة… دخلت حياته كعابرة، وأضاءتها وهي آسرة.لم تكن وهما أبدا.. كانت حاضرة، وتملأ له ذهنه بصخب. (ولم تكن من مكان قريب لأتجلى الأمر.. رغم أني عرفت ما لم يكن في الحسبان. رأيتك تجرحين لسانك ليخرج الدم مع القيء… شغلتني بألف شاغل.. ولم أحظ بالحقائق الكاملة… بل تصيرت مع أوهامي مكملة بعضها البعض.. كنت احرص عليك كأنك سر حياتي رغم تقتم الظرف وصعوبة الفرز). تضحك بعذوبة ثم تشرأب حمرة حلوة على خديها مثل تفاحتين ناضجتين حان موسم قطافهما..(أصابتك حمى شديدة من جراء تلك الليلة المزمجرة تجاوزت فيها حرارتك 42c ، وبقيت تهذين بأسماء كثيرة كنت اسمع بها للمرة الأولى، وحوادث أثارت فضولي، ووضعت جهاز التسجيل قربك، وسجل لي حتى صوت الطبيب الذي جئت به لاستشفائك… كان الهذيان مفتاحي لما لم تكشفيه). غيمه ندم داكنة حجبت عنه رؤية ما استدرك… ندم لأنه صارحها بما عرفه عنها.. جعلت منها المكاشفة امرأة غير متوازنة. وحدث ما لم يكن منه بدّ…حزمت قرارها ثم توارت في نهار لم يدركه .بقيت تترقرق على بياض التذكر…تواصل القول، وتكاد كلماتها المجهشة تخنقها:(- الحب وحده لا يكفي.. الريح وحدها لا تدفع المراكب الكبيرة إن لم نرفع لها أشرعتها ).كان أنيقا ولامعا مغلف الصور.. الذي تصدرته صورتها بثوب زفاف ملائكي (من يومها أغلقت الأبواب والشبابيك.. كنت حريصا أن لا يراك أحدا ما عندي!). تضحك بأوركسترا بالغة الشدو كنهر دفاق:- ساعة الحرج يكتشف الإنسان!.. عيناها تحفران بعمق، تحركانه مثل بيدق مسلوب القوة..لا يدري متى يمدّ خطوة نحو جادة الصواب. فرساها متأهبان للانطلاق.. تكاد عيني تحوطاها كي لا يهربا... يومها كانت طرقاتها شديدة على الباب وصدى الدقات أيقظه من حلم جميل..كان زمهريرا عاصفا بالمطر، اسكت الكلب الشرس القابع عند عتبة الباب. فتح الباب دون أن يعرف من الطارق ؟ كان يعرف بالضبط ماذا يريد الطارق.. يريد الالتجاء قليلا من زحمة الطقس اللعين.. كان مخموراً حّد العجز ليلتها . جمال بهي انتصب أمامه مبلولا بقامة ممشوقة ذا وجه دقيق الملامح كأنه صحوّ فضاء زاخر بنجوم رائعة.. عجز لسانه عن النطق بأية كلمة. كان الليل يومها ليلا كثيفا في حلكته والمدى طوحا كيد غريق يستغيث.. تقول – يومها حدثتك عن كيفية هروبي.. من الزوج المخادع الذي جعلني اخسر زوجاً لن أعادله بالدنيا، وعن الليالي المرة التي أشعرتني آلامها بالضياع… لم يكن بيتك، إلا المرفأ الذي ابحث)..ينتهي الليل وتسكت الريح فتعطي الشجرة ثمارها..أنفاسها مواعيد تفتح الأزهار…(أحيّك على مدى الأيام الرائعة التي قضيتها معك..لقد علمتني أيامي التي سبقتك الكفاية.. كنت لا اعرف إلا شيئين مترادفين هما العمل طول اليوم أو النوم بعد إرهاق.. ألا تتذكر ليلة اللقاء الأول؟ أتذكر طريقة تنفسك. الريح عاتية..أكاد اسمع احتدامها المريب الآن) هي أيضا كشفت له ما أخفاه عنها بيسر، اخفت عنه ما قرأته في دفتر مذكراته، كان يظنه بعيدا عن متناولها، روى فيه بتفصيل عن فقدانه لزوجته، وجنينها في يوم واحد..حدث مهول،  ليس بالأمر الهين..وقعه احدث زلزلة مدمرة في ذاته، وبقيت تتفهم ما كان على المرأة فعله، فصارت له تعويضا بعد الصدمة.. لولاها لتخلخلت من تحته الأرض.. كادت الشوارع أن  تبتلعه!.أعاد ما أخرجه إلى درج مكتبه، وافلت جناحي الذاكرة لتطير في الخضم المؤنس.. محلقا في النغمات الشجية لصوتها الرخيم.. يحول عينيه إلى الشباك، يأخذ سيجاره، ويمد بصره بعيدا..أوركسترا قائمة بلحن جنائزي ذلك الغياب الشاسع.نهض متثاقلا وأخذ ملابسه الداخلية متأهبا للدخول إلى الحمام.. رمي بالسيجارة دون عناء البحث عن مكان أمين لها.. يود التخلص من هموم كثيرة علقت برأسه.. يود التخلص من نتانة ما تطرحه مساماته من قرف زري.. يريد تطهير ذاته من تعب.. نفض عنه ملابسه الكاكية. صار عاريا كما طرد آدم من الجنة. فتح الصنبور وراح الما%

View alahmed's Full Portfolio