قراءة في منهج فرانسيس فوكوياما

      



التحذير من التصدُّعِ العظيم

قراءة في منهج (فرانسيس فوكوياما)  

محمد الأحمد

حقق صاحب كتاب (نهاية التاريخ والإنسان الأخير ) انتشارا عظيما لم يحققه أي مفكر أميركي من قبل في زمن احتدمت به الأفكار والنظريات على حد سواء، فما بين فكرة وأخرى بون شاسع لا يصل إلا على اختلاف بَيِّنٍ، والامتياز بالجدل المتواصل حول قضايا الإنسانية الشاملة التي تتواصل عليها التغيرات العاصفة، فالأفكار الجيدة التطبيق تلتزم بجدية ما ينعكس من اثر على الواقع، ويكون لها عمقا فاعلا في المكان والزمان، ويستشف عبره بان نهاية التاريخ تذهب إلى فنائها بعد أن اخذ الإنسان بفناء الإنسان، من خلل تطويره لأسلحة الدمار الشامل، وأيضا للآلة الحرب البايلوجية (فيروسات) الأمراض الخبيثة، والإنسان الذي بقي طامحا متحديا كل ما حوله من اجل الاستحواذ الكامل على أخيه على الإنسان، ومطورا بحمية لكل شيء، حتى تدخل بخبرته الدقيقة في علم الوراثة وراح متابعا بحوثه المختبرة من اجل أن يصنف جينات منتخبة و يصنع (السوبر إنسان) كما حلم ذات يوم (نيتشه).

العبقري الشاب (فوكوياما) المولود في مدينة شيكاغو عام 1952 من أصول يابانية أو آسيوية، تدرّج في الوظائف بسبب همته الناشطة، وإدراكه بان الإنسان لابد وان يرتقي بحرصه ومثابرته العلمية إلى أعلى الدرجات، فتقلد عدة وظائف فاعلة كمثقف فاعل، قبل أن يُعين مستشارا مهماً في وزارة الخارجية الأميركية، ومن ثم تحول إلى التدريس الجامعي الأكاديمي، وأصبح من أشهر أساتذة الجامعات في الولايات المتحدة. حيث عرف من كتبه وأبحاثه المنشورة بأنه واسع الاهتمام بالقراءة والتقصي وثقافته ليست محدودة بمرجعية فلسفية اقتصادية، وهو باحث في العلوم السياسية أيضاً، ويرى البعض أن الأفكار السياسية لـ(فرانسيس فوكوياما) تحقق الكثير الاقتراب من تيار المحافظين الجدد، وله بصمة واضحة في ادلجة مشروع القرن الأميركي الجديد. وهو المشروع الذي كشفت عنه إدارة الولايات المتحدة عام 1997. وكان من أول الموقعين على عريضة سياسية مرفوعة تدعو الرئيس (بيل كلينتون) إلى قلب نظام (صدام حسين)، وكانت أول خطوة نفذها (جورج بوش) عام2003، ولم تعجب (فوكوياما) طريقة التنفيذ، و بشجاعة مثقف يدرك ما عليه فعله، صار داعيا إلى استقالة وزير الدفاع (دونالد رامسفيلد). (لقد تأسست الدولة الليبرالية الحديثة على مبدأ عدم تدخل الحكومة في المطالب الأدبية والأخلاقية التي تطرحها الاتجاهات الدينية والتقليدية، وذلك من اجل تحقيق السلام السياسي في البلاد، ولذلك، فقد تم الفصل بين الكنيسة والدولة، وتقرر اتخاذ القرارات بإتباع أراء الأكثرية حول المسائل والقضايا الأخلاقية بخصوص الأمور الحاسمة، أو بخصوص تعريف ما هو خير المجتمع-ص16 )

في كتابه الجديد الذي اسماه ب(الانهيار، أو التصدع العظيم) باحثا بعمق في الفطرة الإنسانية وإعادة تشكيل النظام الاجتماعي، ومعبرا عن قلقه الجدي في مصير الإنسان المعاصر الذي سوف تبتلعه الآلة الهائلة (الكومبيوتر) التي اخترعها وصار متداخلة بكل إنسانيته، بل ويتوقع أن تحتله مستقبلا وتستعبده لغاياتها. من بعد أن تخترع له جدول اقتصاده، بدقة من لا يخطا أبدا. متمما بكتابه مستقبلنا ما بعد البشري انعكاسات الثورة البيولوجية ـ التكنولوجية على الإنسان، فعبّر (فرانسيس فوكوياما) عن قلقه من آخر المسارات العلمية المتطورة التي توصلت إليها العلوم البيولوجية وبخاصة علم الأعصاب والدماغ، وقال (إن الصورة البيولوجيةـ التكنولوجية الحالية قد تُطبَّق على الإنسان وتؤدي إلى تغيير طبيعته. وسوف تكون لها انعكاسات خطيرة على النظام السياسي نفسه، وهذا يعني أن العالم سائر بشكل واع أو لا واعي، مباشر أو غير مباشر، نحو هدف محدد بدقة، ألا وهو تحقيق الحرية والديمقراطية والنظام الليبرالي التعددي بصفته أفضل نظام للبشر وآخر نظام، فما بعد الديمقراطية إلا الديمقراطية، وما بعد الحرية إلا الحرية. وبالتالي فالتاريخ سوف يصل إلى نهايته، إلى غايته و مبتغاه بعد تصميم النظام الديمقراطي على كل المجتمعات البشرية الأخرى التي لم تنعم به حتى الآن)، ويعطي الدليل على صحة نظريته (انهيار الشيوعية وانتصار الليبرالية الديمقراطية عليها). وبالتالي فلم يعد هناك أي منافس فاعل للنظام الفاعل بعد انهيار (الاتحاد السوفييتي). مثبتا للقراء بأنه فيلسوف بالمعنى العميق للكلمة، وإنه فيلسوف على طريقة (هيغل) في علم الجمال وتلميذه الفرنسي (كوجييف) ذلك الذي قاس كل فكرة بما تحمل من جمال، وهو يستعيد الفكر النقدي الأوروبي بجدل حرّ مقنع لأجل صياغته بطريقة أميركية حريصة على الحضور بفعلها المتقن، ومن ثم تصديرها بعدئذ إلى كل دول العالم (النامي)!، خاصة تلك التي أبعدتها أنظمتها الوضيعة عن دورها الحقيقي في العيش والنماء، وفي كتابه الجديد هذا يستخدم الطريقة نفسها في التواتر والاستفزاز، مقدما الدليل تلو الدليل، فبعد إعلانه عن نهاية التاريخ، نجده الآن يعلن عن نهاية المجتمعات، وهو يدق ناقوس الخطر المفزع، ويقول بأن الطبيعة الإنسانية أصبحت مهددة، وان العولمة الغازية الطاغية سوف تقسم المجتمع إلى كل فرد لوحده قائم بنظام اجتماعي واحد، معزول لذاته ينتج ويتفاعل من مكانه بواسطة حاسبته. لقد أثبت (فرانسيس فوكوياما) في هذا الكتاب انه مطلع على النظريات العلمية بشكل دقيق ويعرف عما يتحدث، وبالتالي فهو يتنبأ بطريق المستقبل بناء على قراءاته الواسعة وملاحظاته المحسوسة. ففي كتابه الثاني (يحدثنا عن كيفية تكون المجتمعات، ويلخصها بفكرة تلاشيها في عالم الانترنيت الاجتماعي فهو يطرح نهاية المجتمع وعزوف أفراده إلى العزلة الفردية والعزوف عن الارتباط إلا عن طريق الاتصال فزحمة المشاغل تجعل من الإنسان كائن منتم إلى حاسوبه الشخصي وعبره يسير أمره، فالكتاب يشكل خطورة أكثر بجدية موضوعية لما يبغي إثبات ما يرمي إليه، وهو كتاب قد حوي على ثلاثة أجزاء رئيسة الأول أعطاه اسم (التصدع العظيم ) ومقسما إياه إلى سبعة فصول فرعية بدءا من (الالتزام بقواعد اللعبة) أو التطور الاجتماعي إلى ما بعد ما بعد الصناعي، مجتمع المعلوماتية، حيث المعرفة بكل شيء هي مصدر الفرد والمجتمع، فيبدو (فرانسيس فوكوياما) ذو نزعة (جمالية- هيغلية) متفائلا  بمسار التاريخ، ووجهته الواضحة رغما من كل المحن والصعاب والأزمات، فيطرح عبر نهج خاص به مشكلة الطبيعة والثقافة، الطبيعة البدائية، حضارة المجتمعات. وما بعد المعلوماتية أو العولمة. (فهل كل شيء يعتمد على الطبيعة يا ترى؟) أم إن الثقافة والحضارة تلعب دورها وينتج عن ذلك إن مصير الإنسان ليس مرتبطاً فقط بما سيطرأ على طبيعته البيولوجية، وإنما أيضاً بشكل خاص بما سيطرأ على تفكيره وثقافته من تطورات. وبالتالي فالثقافة تتحكم بالطبيعة مثلما أن الطبيعة تتحكم بالثقافة وبتركيبة الإنسان ككل. فبحث في الجريمة المنظمة، والمخدرات، والعائلة، والثقة، والحكمة التقليدية إضافة إلى المسببات الديمغرافية والاقتصادية، والدور المميز للنساء.. ثم النتائج المباشرة للانهيار الاجتماعي أو التصدع الحتمي. اما الجزء الثاني: حول أصل القيم الأخلاقية، ومتسائلا من أين تأتي القواعد السلوكية وانطباعها بمرور الزمن على الطبيعة البشرية أو النظام الاجتماعي، ومنشئ التعاون بالتنظيم الذاتي عبر التكنولوجيا والشبكات ورأس المال، بحدود التلقائية وحتمية السلطة الهرمية.. حتى يصل بنا الجزء الثالث: الترميم العظيم، وهل تستنزف الرأسمالية رأس المال الاجتماعي و أعادة بناء الماضي والحاضر والمستقبل.  ولكن ليست هذه هي المرة الأولى التي يبدو فيها (فوكوياما) استفزازياً. فكم من جدل احدث كتابه (نهاية التاريخ) الصادر عام 1989. حيث يقول في أطروحته المركزية ما يلي: (التاريخ له معنى أو وجهة محددة مرسومة سلفاً: ألا وهي تعميم الديمقراطية الليبرالية كنظام سياسي على جميع شعوب العالم). فيجنح في مبحث عميق ينظر من عمق الولايات المتحدة كمجتمع متحضر، ويكشف الكيفية الدقيقة بدقة الباحث الجريء، (معدل العمر في الولايات المتحدة انتقل من 48 سنة بالنسبة للرجال إلى 74 سنة بين عامي 1900- 2000. وانتقل من 46 سنة بالنسبة للنساء إلى 79 سنة في الفترة ذاتها) وباستمرار بين قطب التشاؤم، وقطب التفاؤل فيما يخص مستقبل الإنسان. فهو من جهة يقول بان البشرية قادرة على التحكم بعلم البيولوجيا العصبية، يقول(باستحالة هذا التحكم! فإذا استطعنا ان نتحكم بمسيرة العلم فإننا سنتحاشى بالطبع الكارثة المتوقعة وإذا لم نستطع فسوف نسير نحو مصير مجهول لا يعلم إلا الله شكله ونوعيته. والواقع أن نتائج علم البيولوجيا العصبية سوف تنعكس على النظام الاجتماعي والسياسي وليس فقط على طبيعة الإنسان وخلاياه ومورثاته الدماغية والعصبية فسوف تودي إلى عالم أقل مساواة وعدلاً. ممهدا البحث إلى تواصل البحث بالبحث في كتابه الجديد  (مستقبلنا ما بعد البشري ) والذي يتألف من ثلاثة أجزاء، أيضا، وكل جزء من عدة فصول، فالجزء الأول تحت يافطة (الطرق إلى المستقبل) وفيه يتحدث عن علم الدماغ البشري وتركيبته العامة، ويشرح باقتدار عن علم الأعصاب البيولوجية، وعن العقاقير الطبية وتأثيرها على الأنسان وكيفية تحكّمها بسلوك الإنسان. ويستطرد عن إطالة عمر الإنسان في المجتمعات الصناعية المتقدمة ويجري قران متواصل ما بين سمات ابرز طبائع البشر ثم يطرح هذا التساؤل: (لماذا ينبغي أن نقلق أو أن نخاف)؟ وأما الجزء الثاني من الكتاب فيحمل العنوان التالي: (ما هو الكائن الإنساني؟ وما هي الطبيعة البشرية التي تميز الإنسان عن الحيوان وبقية الكائنات؟) بمعنى آخر: (ما هي خصوصية الإنسان؟) ويسرد مطولاً عن حقوق الإنسان، وعن (الطبيعة البشرية)، ثم عن (الكرامة البشرية)، فيستنتج بنا (أن هذه الطبيعة وتلك الكرامة أصبحتا مهددتين من قبل الثورة التكنولوجية ـ البيولوجية الحديثة). حتى يصل الى الجزء الثالث من الكتاب: (ما العمل؟ ما الذي ينبغي أن نفعله لكي نتحاشى الخطر؟) ويجيب قائلاً: (ينبغي أن نقوم بمراقبة سياسية لهذه الثورة البيولوجية التي تريد صنع الإنسان في أنبوب اختبار، أو التي توصلت إلى استنساخ الحيوانات تمهيداً لاستنساخ البشر). وبالتالي فالعلم لا يحق له أن يفعل بنا ما يشاء، فقد يفعل الصالح وقد يفعل الطالح، وليس كل تقدم أو اختراع علمي هو بالضرورة لصالح الإنسان. هذا وهم ينبغي أن نتحرر منه بعد أن أوصلنا العلم إلى حافة الهاوية عن طريق اختراع الأسلحة الذرية والكيميائية والبيولوجية. ويرى (إن الرهانات المترتبة على علم البيولوجي وعلم الوراثة بشكل خاص ذات نتائج واضحة وجدية، فهي ستؤدي إلى تغيير طبيعة الإنسان كما نعرفها اليوم إذا ما استمرت الأمور على هذا النحو ولم يتدخل أحد لتغيير دفة العلم أو وجهته، فالعلم دون وازع أخلاقي أو ضمير وجداني قد يؤدي إلى الكارثة). فالذي يستشرفه (فوكوياما) بنهاية الإنسان؟ إنه يقول بما معناه: (الإنسان كما نعرفه حالياً سوف يختفي من الوجود بعد عشرين أو ثلاثين سنة، إذا ما استمرت الأمور على حالها. فعلم الوراثة أصبح يتدخل في طبيعته أو تركيبته الداخلية. وبدلاً منه سوف يظهر إنسان جديد أكثر- سعادة- بفضل العقاقير الطبية التي يبتلعها يومياً والتي تزيد من ثقته بنفسه، أو من قدرته على التركيز، وسوف يكون أكثر ذكاءً وأقل مرضاً، وسوف يعيش عمراً أطول، ولكن المشكلة هي أنه سيكون إنساناً آخر سوف يكون اصطناعياً لا طبيعياً). فلا ريب في أن العلم أدى إلى تشكيل أعظم حضارة على وجه الأرض طيلة القرون الماضية، ولكنه الآن أصبح يتجاوز صلاحياته وصوره. وبات بخطورة يتلاعب بالجينات الوراثية للإنسان: أي بجوهر الإنسان وطبيعته الداخلية. ثم يؤكد (فوكوياما): (لقد أصبحت البشرية الآن على عتبة مرحلة جديدة هي: مرحلة ما بعد الإنسان، أو ما بعد إنسانية الإنسان. وربما توصلنا إلى مرحلة الإنسان الاصطناعي الذي تتحكم بالعقاقير الطبية أو التلاعبات الوراثية (أي الجينوم أو القانون الوراثي للإنسان). ولكن كيف يمكن أن نتحاشى كل هذه المخاطر؟ عن طريق تنظيم الاستخدامات الشرعية أو غير الشرعية للعلم فمن الواضح أن هناك استخداماً شرعياً وايجابياً للعلم) فيصفه تلك الحافة الخطرة بأنها الهاوية العظيمة التي يتوقع أن تسقط الإنسان في فخها، فهي تغريه، وتستسلم إلى رغباته فاللا مساواة بين البشر تتزايد باضطراد مستمر، وكذلك التمييز العنصري، والظلم والقهر. وهذا الاستخدام يؤدي إلى سعادة، الإنسان وخيره. ولكن هناك استخدام آخر للعلم استخدام خطر وغير مسئول. وقد يؤدي إلى دمار الإنسان في نهاية المطاف.

وبالتالي فمجمل أفكار (فوكوياما) ليست تشاؤماً. بل تحذيرا، كي تمنع وقوع الكارثة، من أجل التحكم بالعلم والطموحات التي قربها (الكومبيوتر)، والأخير هذا صارت تغزوه فيروسات مدمرة تغير بياناته، وتعبث بما يملك من قدرات، وصار (آلة) برغم ذكائها الاصطناعي يتوكأ عليها الإنسان كعصاه في ظلمة الأقدار. وفي استشفافه بأن الجنس البشري سينتصر على رغباته ومخاوفه العظيمة في نهاية المطاف لأنه كان دائماً ينتصر ويتجاوز الكوارث الطبيعية التي تعرض لها على مدار التاريخ. فالإنسان دائما هو المتأقلم، والقادر على تجاوز المحن والصعاب.



‏04‏ تشرين الأول‏، 2005

Author's Notes/Comments: 

mu29@hotmail.com محمد الأحمد  


View alahmed's Full Portfolio
tags: