عن رواية شاكر الانباري

موطنُ الأسرارْ

رواية: شاكر الانباري

قراءة: محمد الأحمد



تُقيم الرواية حدّاً كالسكين بينها وبين الموطن الدائم الذي لم يسقط من الذاكرة أبدا؛ ذلك الوعاء الأول موطن الأسرار.. حيثُ (القبرةُ في جزرة الحلفاء، المعزى على كتف الساقية، الديكُ فوق سارية الزريبة- الرواية ص5)، لتكشط ما تراكم بفعل سنين الطويلة للغربة الثقيلة، بعيدا عن تاريخ التكوين الأول، مهما تبدلت تحت قدميه الأمكنة.. ُمزيحة حزناً قاحلاً كرمل الصحراء المقيت.. حكاية خلفها فينا ذهن المبدع، وخطها إلينا بقلم مقتدر، وبقيت تناوشه المخاوف، لان الماضي كان أثقل من حاضر؛ ربما لن يصل إلى مستقبله، ذلك المستقبل النسبي الذي كلما يصله الإنسان يجده بعيدا كخط الأفق. فثمة سراب مغري بالوصول إلى معنى الحكاية التي تغربت عن موطنها.. مبتعدة عما كان يقاسه مواطنيه الذين بقوا في بلدهم يعانون ويلات النزعات العدوانية من ساسته، ووحشية أصحاب القرار المصيري.. تلك رواية (موطن الأسرار) الصادرة عن  المؤسسة العربية للدراسات والنشر1999م.. للكاتب العراقي (شاكر الانباري).. رواية محورها رجل تعلق قلبه ما بين امرأتين من ثقافتين مختلفتين في النشأة، والاتجاه.. وصفهم بصفات التناقض، والتعارض. تجعلنا نسأل أنفسنا كلما توغلنا في بواطن المتن الروائي من بعد أن استطاعت أن تثير فينا الكثير من شجون الماضي الذي خطته المدن الطرية بألوانها القزحية، وروائحها الندية، رغباتها الفتية؛ إذ خلفت شيبا وقارا يعلمُ فؤدين ببياض الفضة. تكشف عن عمر مزقه السفر الدائم.. (أولئك المغتربون انقطعوا طويلاً عن بيئتنا، وهم يشتاقون إلى امرأة من جنسهم ولغتهم، المرأة الأجنبية لا توفر أشياء مثل تلك، لا تقيم وزنا للرجل. كل يوم في بار، تخون زوجها، وصديقها في أي وقت تشاء-الرواية ص84).. كأننا نكتب الرواية لأجل أن نجرب كتابة الحلم، مما يدهش في العالم التقني المتحضر.. لتعود بالتاريخ كليا وتكشف أسراره، وتنثر أيامه كصفحات كتاب مفتوح. نفكر مرات ومرات قبل الخطو، وما أن تشتعل الرغبة للبوح.. نعيدُ بناء أزمنتنا بمثل ما نريد، كما يجيد إنسان الأزمنة الحديثة.. بناء نفسه ضمن ما يختار، وضمن ما يريد تأكيده.. نستدرج ذلك الكم الهائل من الذكريات.. لأجل أن يكون تدويننا؛ ما نحققه خيالا بديلا عما فاتنا أن نحققه على الواقع، أم كتابة حلم يبرى لكل قارئ، فينهض إلى القراءة الأخرى، ثم يكتب رواية فيها ما كان يستفزه، ويقضّ مضجعه؛ يرمد بياضه، ومسودا بهجته... كتابة الرواية التي تحوي أسرارا لم تحوها الحياة، لتدهش قارئ بقي يقلب بشغف صفحات الأطالس القديمة استقصاءا عن عواصم الحلم، والطموح، فلم يعرف عنها سوى خرائط مهترأة، لا تمده بالذي يرويه.. يكتشفها تفوح بالمهارات اللغوية، و المفاخرة بالفحولة الشرقية، إضافة إلى فوارق المدن قياسا بغيرها، وتبيان مفاتنها... (ثمة حاجة ماسة إلى امرأة تبادله اللغة والإشارات نفسها، وخزين الرموز التي عاشها منذ كان طفلاً. في داخله آلاف العبارات البذيئة التي يرغب بإسماعها لها.. عشرات القصص الجنسية المحتبسة في صدره، وليدة الروح الرجالية – الرواية ص60).. رواية ألصقت التاريخ الشخصي بالتاريخ العام.. بكل خطوطها، وبصماتها.. قيدت الروائي في محنة الرواية.. من بعد أن أنهكته المسافات الكتابية.. لأجل أن تمتلئ بالسفر البديع ورائحة النساء المثيرة، فثمة تكرار شاحب، ومقاصد باهتة. ثمة أمل وراء التشويق يدفعنا إلى صيحات لذة تلك المرأة التي حفظت غناء سريرها، وراحت تعلن بأنها لم تعرف رجلاً مثله... (من يستطيع الفصل بين الصداقة والحب؟ هل يمكن عقد صداقة بين رجل وامرأة دون أن يمارسا الجنس، أو يحب أحداهما الآخر؟ الصداقة تشترك مع الحبّ بالميل، ميل الفرد إلى رفيقة. لكن في لحظة خاطفة تعبرُ تلك العلاقة الحد الفاصل بين الميل والحب.. عنده يصعب التفريق بين الاثنين. لقد وصلت معك إلى هذه الحالة في القصيرة التي بقينا فيها سوية. كنتُ اعدّ علاقتنا صداقة مؤقتة بين رجل فارق الشرق عقدا من السنين، وعاد إلى الجذور ليقترب من امرأة لم يعرفها سابقاً- الرواية 85). فهناك الزوجة (تاتا) التي افلت من رقابتها في (كوبنهاغن- الدنمارك)، و (هيام) السورية المتحررة من أقواسها... الأولى بادلته الأماني، ورزق منها البنتين (سهير، ومي) في استقرار عائلي، والثانية ذات الشعر السبل الأسود.. حفرت تاريخها بأزميل المدن التي فارقها، ووجدها عوضا عن فتاة أحلامه العراقية.. (يودُّ لو يلتهم الخيار والباذنجان و الباميا، والخشب، والحديد، والزجاج يستمد منها القوة على التوحد في هذه الأرض التي يحبها.. يصير جزءا منه دورة الموت والحياة فيها.. رغبة ملحة نمت معه منذ الطفولة، وكان التراب مادة لإشباع حواسه، أما الحجارة الصغيرة فكانت تشعره بأنه جزء صخرة هذا الكوكب الدائر منذ الأزل- الرواية ص 14)... فلكل مدينة امرأة كما لكل مدينة نهر.. النهر موجد المدن، والنسوة موجدات الحب.. بقيت المرأة حريصة على بيتها وحرمته.. بينما الثانية بقيت تبادل ما تشتهي من الرجال كل ما تحلم به.. فاحتار البطل (ماجد) ما بين المدينتين (بردى)، و(بحر البلطيق).. من بعد أن غابت الرواية المتتابعة بالأحداث، وحضر راويها.. تثاقلت بها التنقلات السردية، وحوت في كل تفصيل منها خصائص رواية اكتملت، بوصف عذب يطال الأمكنة، خارج بلده الرحم الأول موطن أسراره، وأعطت القارئ العبير المغترب في متون العواصم التي لم تسقط من الذاكرة.. كوننا نقرا الجغرافية، ونستذكر بأي الأماكن مررنا، وأي الطرق خسرنا.. رواية فوارق شرق وغرب.. تذكر قارئها بمعطيات كشفها (الطيب صالح) في رائعته الشهيرة (موسم الهجرة إلى الشمال).. تلك أخذت عالماً متكاملا بكل علامته الثقافية، و رواية (شاكر الانباري) تتناقض بين فوارق الشهوات التي ما عاد الإنسان خجلا منها كونها حاجات فسلجية لن يستطع إنكارها إنسانا ما، وحتماً سيكون نكرانها تشكيكاً في إنسانية الإنسان المدعي النكران.. لكنها لم تمس الشغاف، وتعود ولو قليلا إلى عراقية العراق.. كما يتوقع القارئ.. لأنها ابتعدت في المنافي السيكلوجية التي أنهكت الرواية، ولم يكُ لها أي عمق أيدلوجي.. كأنها تنكر حقائق الهجرة وأسبابها.. يوم كان النظام القائم على العراق يطارد في كل إنسان مدنيته، نافيا إياه بين أقسى أقواس الوضاعة.. لأنه كان يكره إنسانية الإنسان.. لم تدخل الرواية بتفاصيل أسباب الغربة ليكون لها القاعدة الراكزة.. بقيت تطوف بين اللذائذ، والسرد الإنشائي.. بقيت تذكر القط (بيليه)، والعنكبوت (يونس).. ولم تكن هناك أحداث محورية.. يتابعها الشغوف.. لتشده بالرواية.. (أعادت الأزمنة الحديثة صوغ معنى الإنسان مرتين: فهو المفرد المتمرد على المعطى, يعيد اكتشاف ذاته و يكاثر الاكتشاف, مجدداً الأزمنة ومتجدداً فيها, محوّلاً الحاضر إلى لحظة عابرة تخلع أبداً جلدها بلا تردد أو إبطاء. وهو المفرد الذي وضع ضمانه في ذاته, ارتكن إلى الإبداع ومقاطعة اليقين, يذهب مغامراً إلى ما لا يعرف ويقصد مستقبلاً مجهولاً لا يروّضه أحد. وما الأزمنة الحديثة, في نهاية المطاف, إلا تكامل المغامرة والذهاب إلى المجهول والإبداع الطليق, وذلك الرهان الجامح على هدف ملتحف بغموضه, عبّر عنه, ذات مرة, بحار (موبي ديك) بجلاء شاسع محتشد الرؤى. وإذا كانت الأزمنة الحديثة تعرّف ذاتها بالتبدل الذي لا يصده احد, فقد التقطت الرواية, بمعنى لا تبسيط فيه, جوهر الحداثة وكثّفته في (إنسان الطريق المستقيم), الذي يسير إلى ما لا يعرف ولا يلتفت وراءه أبداً- فيصل دراج).. جاءت الرواية معمقة الضياع والحيرة.. معمقة التشرد في المنافي البعيدة عن الوطن.. تجربة تستحق التأشير؛ تستحق القراءة..



‏‏17‏ شباط‏ 2004م

Author's Notes/Comments: 

mu29@hotmail.com محمد الأحمد  


View alahmed's Full Portfolio
tags: