لعبة زمن







لعبـــةُ زمن



(عرض الأسد قافلة، فتبرع عليهم رجل، فخرج إليه فلما سقط وركبه الأسد، فشدوا عليه بأجمعهم، فتنحى عنه الأسد، فقالوا له: ما حالك ؟ قال لا بأس علي لكن الأسد خري في سراويلي ).



• دربكي يا درابك الخلاص، و أوهجي ذؤابة الأمل الضعيفة.

       الصمت كان شاغلاً كالجدار الأصم، والليل يمتد من خلاله لينتشر على أبعاد حزينة، مرهفة الحس قتلها الخوف وضياع الإيمان بالروح الرافضة المنفضة من جبروت غسيل الدماغ و المندلقة على أوراقهم السمر الفارغة- إلا من كسل، وجبن متكلس ..

دربكي وهاتان يداي الموشومتان بأفعى خضراء تمدّ لسانها بنار ليس لها شكل تدور حمراء في القلب المترف بالوباء، بالفشل، بالإحباط. تنير الليل الأخرس، وتبل الصدى وليباس العابس: يا هاتان اليدان المنقذتان من تعنت الزمان المرّ اضربي بقوة اكبر.. دربكي، واكسري شبكة الصمت المتبدد مع خرير السواقي، وحفيف الشجر ، وتغريد البلابل، و ....

، و ....

- لكن الصمت مبذول لساكنه ..

دربكي أيتها القوة الرجاء و اهززننى لانتزع آمالي، وتطلعاتي وحبي المطمور تحت أنقاض الجمود الواسع لانقذه من رحى الهمّ الكبير . الحب لا يموت، والشجرة نزعت قلفها للمرة الألف دربكي، واغسلي ما تراكم من وسخ على أوراق الزهرة البريئة. الحب لا يموت ما دام منقوشاً على صخرة القلب الجميلة يقاوم غبار النسيان دون استسلام للطمر يبقى متوقدا كل ليلة، وكل عمر.. تبقى ذؤابته المنيرة متراقصة تتحدى اعتى القوى رغم دخوله طور احتضاره. الحب لا يموت..

قالت أمى:-

- ساكن الروح جسد وساكن الجسد روح.

صوتها الطري إيقاع من شتات عتيق مزقه الصمت الممل وهي فاضلة في عقدها السادس، تطالع العالم بعينين متشحتين باللهفة.. تلبس جلباباً ابيض موشى بخيوط سود من ليل مرّ عليها، و أهداها الحكمة والقلب الطيب . قلت لصديقي:-

- هيجان الروح في الجسد يحتاج الى إيقاع اكثر معنى كي ينتتض..

- (كبرنا على الهمّ وهذا ما يؤسفنا).

يسكت بعد قوله، ويظل مستتباً في توزيع المصابيح الملونة على الجدران بينما عيناه الجميلتان تتحركان بتوقد ذكي .. تجولان في مدى المكان باحتفاء فرح غير مكتمل، ومتقافزتان كأراجيح بمعنى حلو .. تفتتح مهرجاناً، و أملا مبتكر يقاوم شلال الخيبة النازل على أم رؤوسنا بعنف شديد ويزيح الفروة المشيبة حتى بقيت الصلعة لوحدها هوية زمن تساقط وعقمت بوصلاته هوية جراح تعكس لمعة الألوان برثاء وهي دون لون.. المصابيح تراقص في الأعالى فرحة بالهواء النقي الذي يلامسها، وكأنها تبتسم مادة خطوطها الضوئية الساحرة على البقاع التي تكن لنا حباً من نوع آخر يمتدّ من آفاق طفولة رخوة ذكرتني بانتصار (قطر الندى) على الساحرة الحسود !

دربك أيها المعنى، واهدني إلى كيفية تقنين الحزن، والوجع، والقلق ، و ..

((... وكما يقولون يسقط في فيك ذرق طائر العنقاء.. رائحته كريهة، فتبصق.. لكنهم يؤولون بصاقك إلى معنى فارغ مما ترميه.. تبصق على حظك فتخسره.. ويأتونك بحبال قوية.. يربطونك حياً محمولا مثل ذئب على عمود من خشب، وعيناك تبقيان تلمعان بسر لا تعرفه وأولوه أيضا إلى ما يخافوه.. يقفون أمامك في متسع الوقت الضيق ركلاً، ورفساً يطالبوك بالهزيمة.. يمارسون فيك ساديتهم الفظة.. يشققونك بلا رأفة، وعيناك مثخنتان بحلم جميل وبريق أخاذ ينهش حقدهم .. تمتد أياديهم وراء فرحك وانتشائك بالألم.. تمتد إلى العمق تحاول ان تلوث بيئة ازدهارك دون جدوى، فيكسرون زجاج نظارتيك، لا هم لهم سوى معرفة فرحك الزائغ عن أياديهم العمياء))...

...، واليأس أيضا ... ترى يا درابك الخلاص هل بالإمكان إنقاذ ما يمكن إنقاذه دون أن تذوب تلك الآمال الرائعة؟.. تعود أمي تكمل قولها، وهي تغرز أصابعها الملساء في وعاء مليء بالعجين الأبيض.. عيناها في عيني تمتدان ألى عمقي، فازدهر خجلاً من تجوالها في قسماتي:-

- انظر بنى إلى حفنة العجين هذه ..

فأنظر ألى ما تمتلئ به قبضتها، بعينين عائمتين بالانتباه.. تعصر بقوة عصابة ما بين أصابعها، فيخرج العجين شكلاً جميلاً صقلا. انظر إلى عيني من جديد، وبقوة تواصل صهيلها:-

- تأمل هذا الحصار المرّ..

- ماذا تقصدين ؟

- ستخرج من هذا الحصار كهذا العجين.. مهما كثرت وعظمت قوة الضغط فلن تنهرى ما دامت فيك قوة للتحمل.. ستبقى بكامل عفويتك.. لكن اجمل واكثر نفعاً لمرحلتك ..

درابك الليل والغجر تملأ الأذن، والذهن .. وحدك في أحضان تمتص منك الخوف القديم، وماء الظهر الخائب.. وحدك معها، والصمت وصوت درابك أنداد تخربش صفوة.. واحتها الخضراء، وبينكما نياسم مطمورة بكثبان رمل اصفر... درب من الوجد لا تقطعه عنك الأفاعى الزاحفة نحوك. ترطب وجهك برضابها كلما جففته الظهار القائظ.. وتشربها حد الارتواء، تمد إليك أجمل كف إلى جسد يشتعل ليضيء فرحاً، عطراً، وعنفواناً مدربك يفتقر إلى صوت شبابة تعزف خطوتك الواضحة لتسير طفولة تعبر الهاوية.. لعفويتك معنى القدر الجميل تخطوك نحو الأمان، هامسة:

- ثمة مخرج من هذا الضجيج لكنه لن يكون بلا ثمن.

- زفاف موجوع.

تقول والكلمات تراقص شدة الثمل:-

- (زفني واعرف مرامي.. صادوني صيد الحمامي)

تضحك، واضحك: صوت الدر ابك لا يضحك يعوي.. أنت أيضا تعوي.. تثغو.. تموء.. تصيء كلما ضربوك.. ضحكك عواء طبول مجنونة جعلت المهزلة تستمر أعواما ثقيلة.. انت تحسر من ماء الوجه الكثير.. كانت بقربك شجرة وارفة الضلال.. تحبها بكل ما للحب من حب.. صوفي ، فارق واحد كان بينكما، وهو ليس ما اخترتماه.. وجدتما من كل دين معتنق.. لكم دينكم، ولي ديني. بعدتما عن بعضكما لان القلب الواحد جزءوه ألى شيع، فباتت تكرهك لان حبها لم ينصهر وحبك.. تكرهك بقدر ما أحبتك، ولم تعدان معاً وتنعم بفيئها..

- أرجوك خذني من هنا.

- عجباً.

- لا أستطيع المواصلة بهذا الهزال.

- و لكنها ليلة زفافك..

- أرجوك خذني إلى أى مكان.

- شرط أن نعود سريعاً..

- خذني ...

((مائدة مستديرة تشبه صحناً طائراً و أوراق من البلاستك تدور بين الجالسين ليراهنوا على قوته الخارقة في الفهم والتطلع/ يأتيه الملك ثم تتبعه الملكة دون أن تدري/ عيون متصلبة/ دقات القلب تدق بانسياب هادئ على الرغم من التوتر ودخان سجائر جعل الفضاء مكتحلاً بالضباب بينما صوت ام كلثوم يأتى من المذياع الصغير البعيد جميلاً قد أرخى الأعصاب/ بدأ اللاعبون بالارتشاف من كؤوس مختلفة الأحجام مليئة بمختلف صنوف الشراب ثم يعادون النظر إلى ما جاءهم من أوراق، ويشعلون سجائر أخر ..)).

- الحب هو الحب.

- لكن يا أماه لا أريد الزواج الآن !

- سيكون رباطاً اشدّ من كل الروابط الحياتية.. ستكون عائلتك البستان الذي تضع فيه جهدك !!

دربكي يا در ابك المجد العتيق ...اليد موثقة، والصدر مثقل، والعينان مفزوعتان مما يحيط.. البشرة قست عليها عوامل الانجراف والقهر.. المدن خيال في خيال حيث لا مدن سوى هذه الجدران القريبة من بعضها بعد أن جردوني من ثيابي و ألبسونى إياها، صار عالمي من حيطان متراصة، عالية.. طبعي ازدواجا بين الخلود والنسيان بين الموت حباً، والخيانة.. بين التغريد والعويل.. بلا هدف ومعنى فالرائحة النتنة تتصاعد.. تـ.. تـ ..

العين مفتوحة على اتساع كبير ترى الحضارة وهي تتقدم نحو رقعة الرقص...  مصابيح كرنفالية الانتشار على مساحة بؤبؤ العين بألوان زاهية تختلط بغناء صامت يجول الروح صاخباً مخترقاً غشاء الأذن مثل قرقع مجارف، ومعاول تحفر.. تحفر.. ت...

((.. يدخلونك في قبو صغير لا يتسع لك إلا وقوفاً.. تملؤه رائحة جثة/ هسيس عظام تنكسر تحت قدميك/ تقيأ/ عيناك تدوران في الجدران الغامقة.. تجد أسماء مكتوبة بالدم وبخط واضح، تعلق الأسماء في قعر الذاكرة فترفض ان تكتب شيئاً واملك عالياً لا يطال.. من فتحة صغيرة يدفعون إليك بأفعى صغيرة تنظر إليها من شدة فزعك، وتجد رأسها مهروساً بكعب بندقية.. يأتيك ضجيج ضحكاتهم و أنت واجف مثل جرذ/ يأتيك صوت الماء، وثمة صفير للفوران تعرفه جيداً/ تبتهل إلى الله بعد أن تحدس بأنهم سيسلقونك ))..

تصفعك أمك :

- لا علاقة لك بأحد من هؤلاء.. أفهمت؟..

أجهشت ببكاء لو تكن تريدني أن أراه..

- مازالت عمتك تدور في كل السجون بحثاً عن ابنها الذي أخذوه منها منذ سنين؟..

(( تدور بين أصابعه وذهنه الأوراق وعيونه تدور في العيون التي تدور في عينيه ويتصنع الابتسام/ دون ان يدري/ تحرك بين الأصابع المزيج من ناس مزيجه خلطها اللعب حالة واحدة يتابعون أوراق آتية بآلية/ بعقلانية وهو يعاود الارتشاف من قدحه، كما يفعلون، ويشعل سيجارة كما يشعلون)).

دربكي آيتها الدرابك وحددي هويتي، وخطأي، وشكي. دويّ بعنف أشد، وليمتد الصوت منك إلى لغة تمور في أديم الكون: أن أحس برعشة أمل تدب في وتطرب كياني أن تحطبي كل الأوراق التي نزفها الزمن الحربي.. أن تصححي ما كتب بروية وحكمة متخلصة من التهور الغبي.. أعيدي إلى فكراً غير ملوث بدناءات الانحراف والضياع..

((هربت في يوم عرسك لتلعب دون أن... تنم مع عروسك ودون أن ... وضعوا في مجرى بولك سلكاً رفيعاً، وجعلوا التكنولوجيا تفعل فعلتها )).. الذاكرة هوية لم تجد إبرازها في الوقت المناسب. الإيقاع جعل الزمن أكبر مما يمتد به، واعمق من العجز الذي تعانيه:

يقول صديقك الذي لم تفارقه:-

- لكنك يا (قفاوس) لن تصمد طويلاً بهذين الحملين الثقيلين.. قرناك لن يتحملا ثقل الأرض ولا ثقل القضية..

- أية مهزلة تقول ؟

- تجيد التسمية لكنك ستسقط حتما يوما ما..

- أرجوك لا تبث في هذا القدر الأعمى من اليأس.

- أود نصحك.

- أريد الأمل ..

- فاقد الشيء لا يعطيه كما يقولون

- أريد الأمل ؟

- سأعود الى حفلة الزفاف دونك

- حسناً تفعل ..

عرسك مأتم هي هناك وحدها تستحقك، ولست جديراً بغيرها هي الأحلى، ولكن هزيمتك شخصت عندما رضيت بالزواج من غيرها.. ما زالت ملكة متوجة على الموسم الجميل الذي تود.. خسارتك شاخصة على تأريخك.. يداك خاليتا الوفاض، والقلب أيضا.. خسارتك صارت ربح مادي.. بقرة حلوب وولود.. خسرت الحضارة، والتطور وأنت لست قادراً على تصويب أمرك، وسينبت لك ذيل على إيقاع المهزلة، وستساق بالسياط ان توقفت عن جر العربة التي يريدون.. خسرت عينيها، والفرح ، وشعرها الذهبي.. ستبقى مزروعاً في مكان واحد، بعد ان تطلع عليك شمس تجففك حتى تسقط للمرة الأخيرة، وتحملك الريح مطوحة بك إلى الأقاصي البعيدة، وتأتي على نار تحرقك حتى تذوي رماداً، وتتناثر ذراته…

(( الصمت فاصل بين الأصدقاء والأعداء والمحاربين.. يهتفون بصوت آمر.. العب.. اكشف أوراقك.. فيذعن للأمر/ للوقت الحرج/ تفاحة ناضجة أنزلتك الأرض.. يقول احد الحاسدين يالك من صاحب حظ رفيع.. يضيف مبتسما ليت حظي يتعدى اللعب على المائدة المستديرة التي ما تلبث ان تدور، وتدور. تأتيه الغجرية صاحبة العينين الخضراء، بصدر مكشوف عن تفاحتين ناضجتين/ تلامسانه بدفء شبق، وتطبع على شفتيه قبله تمنحها لكل من يفوز.. رائحة فمها تشدّ فيه ذكرى رائحة ذرق الطير الكريهة.. تملاً فمه ويقئ بشدة وعيناه تتابعان الصراع الناشب في عيون من يحيطونه/ توشك ان تطلق من أقفاصها/ معدته لم تتوقف عن قذف خزينها ينقلونه الى المشفى/ يبقى ما كسبه على المائدة المستديرة التي تظل تدور، وتدور..))..

- ليتها لا تعرف السكوت

الدرابك تضرب بصوت بدأ يوهن تدريجيا.... مدى الحديقة الساحرة، يتسع إلى حدود زاهية تخلب اللب.. يتقد الليل بالزغاريد، والحلوى، والأماني المنسلة بأمان بين السوداء، فتمتد لحظة التمني طويلا .. طويلا .. تعود وحيداً فارغاً يلفك صدى ضياعك منحرفاً باتجاه لا تعرفه.. الوهن أصاب كل ما فيك حتى الذاكرة.. أصاب ما فيك من انطلاق، و تفتح، وتوقد... حزيناً تعود مستسلماً إلى صوت خفت.

- تزوج من اجلي بني..

الدرابك تنوح بوهن كلما تبتعد عنها.. الأفق الجميل غطاه لون ضبابي لا يفقه.. الليل في الدار محطب بأمل جميل ومضفر كجديلة سوداء حلوة/ ابتسامة منيرة/ أضاء كمنار يرشدك حيث الأمان الذي تنشد.

و أنت حاول الثبات.. لا تهتز لست تدرى طرباً، أم من شدة الخوف.. بينما التيه ممتد بينك وبين الحفل المعد لزفافك.. لك عين ثاقبة، فميز بها المندسين بين المهنئين!! الدرابك تدوي طرباً.. جعلت العيون المليئة بالوعد.. تتوافد بلا توقف كضفاف معمرة في نفسك نفساً جديدة تبتكر فسحة للأمل الضيق.. تتوافد، تتوافد، والرقص يشتد بإيقاع أشد.. تضرب، تضرب، وتضرب.. حتى ينفرد صوت صديقك محذراً بهمس مثل صوت شبابه اكثر حزناً:-

- هاهم جاءوا ليأخذونك أيها المقامر..

يتكدسون حولك كالليل الحالك، بينما خطوط المصابيح تنشر قدامهم تحجبك عنهم/ تواريك..

(( يبق صوت الدرابك الواعدة أبدا))

لكنك تصمت، ولا تقول!!.        

Author's Notes/Comments: 

mu29@hotmail.com محمد الأحمد  


View alahmed's Full Portfolio
tags: