بساتين القلب اني بك مقيم



بساتين القلب.. أني بك مقيم زمنا



بقي كلما يتحرك مقبض باب، يوقظ في داخله خوف مقيم في خلاياه، خوف لم يستطع أن يتخلص منه، ولو كان وراء باب مرتجة بألف مزلاج... إذ رسخ في أعماقه منذ أول زمن وعاه.. ليدور بقلبه ويخطفه كمارد ساحر، ويسجنه في أرذل السجون.. أزاح الملاءة جانبا، وقفز من السرير بسرعة تاركه يحدث صريرا خافتا، و حركة تململ لذيذ تطوف برائحة نعمة دفء قاهر.. تضخم الصوت الخافت في هذا السكون وتصاعد عاليا، ومهتزا. حاول أن يمدّ بصره من خلل ثقب الباب لكن الفتحة الضيقة لم تسعفه. توقف عن رغبة قاهرة بأن يفتح بها الباب، مفاجئة.. وبعد لحظات من المحاولة اليائسة للنظر وصل إلى آذنه وقع خطوات هادئة.. تجرّ بمهل وتأنٍّ، كعادتها تذرع الممر إلى ضجيج يوم عابر.

ترى ماذا ستقول إن اكتشفت أمر من معه؟..

فتاة جميلة هادئة العينين والأنفاس كبستان يعبق بالزهر. تنهد بأمل جديد، فاسند ظهره بالحائط متهالكا، متمسكا بخيط دخان يجول معه الركن المعتم.. يريد أن يهدى ذلك البحر الذي تعالى هدير في داخله المضطرب.. تسربت إلى ظهره ببرودة الجدار، والبلاط التي تسربت عبر قدميه العاريتين.. أشعرته ماذا يحتاج عمقه الملتهب.. اقترب من سترته المعلقة مخرجا علبة سجائره، مرة أخرى، لا يملّ الذي أمتد أسطورة غمرت عقله، عاوده حنينا جديدا، لأن يعيد ذلك التجوال الحقيقي في تضاريس الوجع الشهي. تموجات بديعة، وتقوسات لينة سكنت تحت الشرشف الحريري الناعم.. اشتعلت رغبته مجددا، ترك عقب سيجارته، يفلت من أصابعه إلى الأرض ثم داسه بقدمه العارية، دون أن يعي.. كاد أن يصرخ من الألم، لكنه اقترب منها متتاليا... يجر نفسه بغيبوبة عقل مؤجل.. يوما بعد يوم.. وليلة بعد أخرى.. كل مرة يحياها، بمعييها دفئا... منغمرا في النشوة، وتبقى متواصلة، لا يعرف الابتعاد عنها.. بعيدا عن قسوة أيام الشتاء الباردة، والحاقدة. الزمن البطيء يتوازن بما يمور في العروق، يفيض به التشوق الآني لما يهيم به ويغلبه.. رائحة أنثوية الأنفاس.. كل شيء متوقف..

- (فينان)..

ينطق اسمها، وتتململ من جديد.. ما زالت الخمرة تفعل بها ما لا يمكنها أن تفعلها به. يلمسها بأنامل حيية، تفاصيل لون قزحي يشرق من بين البياض الجائر، ويكون الصمت حدّا فاصلا بينه وبين الجدران الصماء، الملساء كالطيب الذي يخور بالأنفاس، ويحولها إلى لهثات غير مسيطر عليها، يصرخ باسمها، وكأنه يحاول أن يتخلص من دوامتها التي تلفه بسورها العاتي:

- (فينان) أصيخي..

يأتيه صوتها مغمغما، ودون فائدة، متسائلة:-

- ماذا دهاك.. نم فالليل مازال في بدايته..

تمد إليه يدها تدعوه أن يدخل إلى الفراش. لكن بصره بقيّ حبيس تلألئها المكتنز.. غير مبالية بما يخافه، بقيت تغط في استقرار ثابت.. شفتاها زهر رمان يتوهج، يناديه إلى بساتين تمنى أيامها.. أنفاسٌ تتلاحق، وأنفاسه تمتزج بأنفاسها. يلفه القلق والأرق والخوف المقيم.. وثمة هواجس غامضة تعصف في رأسه.. بقي مدينا من اجل أن يقيم في بيت من انتشله يوما ما من الضياع في غربة وصلها بعد أن خسر كل آماله، وبقيت له معها سنوات دراسته التي لن ينسى ما وهبته بكرم.. كان أيامها يافعا تهزه الأقدار.. استأجر غرفة من شقتها المعلقة على مدينة مشتعلة بأضواء لا تلامسها الشمس. وراح يعيش معها طوال دراسته وهي معه مثلما ينظر الفلاح المواسم.. كانت ذكية وكان الأذكى.. يعاملها كامرأة لا ترضى بالحياة التي قضتها. كان يعرف خطواتها التي كانت قبل قليل، هادئة تجول البيت على الرغم من قلقها القائم عليه، فبعد كل هذا الزمن يعود إليه السؤال كيف سترضى بذلك؟ إذ يعرف إن المرأة تنكسر بامرأة أخرى. جحودٌ له مخلفاته الجسام. نتائجٌ صعبة العاقبة.. تكات الساعة تعلن عبور الهزيع الأول من الليل، فيهمس برفق في أذنها..

- أرجوك.

محاولته باهته، وبكل بساطة أدارت ظهرها إليه، باقية تغطّ في نوم عميق، ثمة أفكار تنهمر إلى رأسه.. ترى ستنفجر في لحظة غيظ ما قد يؤذيه، لا يعرف أي شيء.. يحميه من كل رغبات الشيطان الذي يسكن أعماق الإنسانية... اليأس يأكل كل ما به من رغبة.. نهض تاركا الغرفة ومتوجها إلى فناء الدار.. بعد أن أعاد غلقها جيدا وما أن أطل من الممر حتى عهد مصباح غرفتها مازال مطفأً، ربما تنتظره بصبر نافذ..

دفع الباب برفق وكانت مفتوحة.. دخل عليها بعد أن أصر الباب وراءه دون أن يدع الباب يصدر صوته.. كملكة تنام بكل أمان، ومثل عروس في يوم زفافها الأول، والمكان ممتلئ بعبق عطر يشده.. أراد أن يتلمس وجهها.. لكنه تراجع.. لأنه جافا، وهادئا في غفوة أراحت فيها غضونها المتوترة.. كقلعة كئيبة. رائحةُ حروب استنزفته بلا طائل... يا لهذا الوجه الهادئ من تعب السنين ويا لهذا الإنسان المليء بالرغبة.. تكبره هي بضعفي عمره.. فيكاد أن يرى ذلك الكائن الذي يسكن أغوارها..

تنبهت مبتسمة.. يديه تقوده في ظلام الغرفة إلى الكنبة التي توسطت الغرفة.. وراح يتابع تفاصيل الوجه المتغضن، ذلك التعب الذي لم يثنيها، ليته يستطع على فعل شيء من اجلها و ليس من أجل نفسه. رغبة قوية مثل تيار جارف.. يرد جميلا.. يطيعها مثل تابع..

كأنها قالت: (ليست هناك في العالم امرأة تمنحك ما أمنح)..

طالت الدقائق.. تأخر الفجر..

أراد أن ينهض تاركا إياها تغطُّ في نوم عميق، تسبح في حلم خفي من أحلام. لكنه بقي برغبة في البكاء، يريد إطفاء جذوة الحريق الذي شبتّ في ضميره، وفي كيانه..

كيف يفعل؛ أن يذل روحه.. كان يخاف أن يعود إلى هناك. ثمة رائحة تشوق أن يتنشقها... لم يقتل، ولم يسرق.. ولم يرتكب أي إثم... كأنه قد أجرم هناك.. في يوما ما، سيأتون إليه، متناوبين عليه ضربا بلا رحمة.. سيكبلونه ذليلا ثم يقذفون به في زنزانة تملأها العفونة والعطن... هو لم يفعل أي ذنب.. فمن أين جاءت عقدة الخوف هذه، وترسبت أعماقه.. فقد جعلتهُ خافتا، ومطيعا لكل من ينفذ به مأرب. أي حزن تملكه.. فعاد كسيرا إلى غرفته النائمة في مكان يذكره بانحطاط بدأ يتكاثف في اللحظة.. لكنها بقيت نائمة، كانت الغرفة كلها تغط في صمت كالموت.. لكزها بقوة، فتعقد حاجبيها دون أن تقول شيئا..

- تحاولين تعذيبي..أودّ أن أعترف لك ما فعلته بنفسي.. فاسمعي أرجوك.

لم تسمع وتعره اهتماما... فراح يعبا ملابسه في كيس.. مقررا مغادرة المكان إلى...

Author's Notes/Comments: 

mu29@hotmail.com محمد الأحمد  


View alahmed's Full Portfolio
tags: