بقية زمن



بقيةُ زمن



ما عليّ إلا أن أهولَ ما أتخيل، وأستمر في حكي حكاية متواصلة، دون توقف، و اجعلها مشوقة بما يجعلها، تغريها، ترغبها بالبقاء عندي، والتشبث بي، فأسردها ممتزجة بما بقي عندي من الأسرار التي ما كان علي أن أبوح بها..

الخطوات تعبر بي حيث لا أدري، عشقاً أخطو.. حلماً أخطو.. سائرُ مسافات هائلة، أناء خيال بلجج البحر الذي لم أره، إذ بقيت حجيز حروب لم تعط أكثر مما يعطي البحر الضاحك، عشاقه. نسمات طيبة أتخيلها تهبُّ، ُمضَمَخة برطوبة لاذعة بلذة، نشية.. مستقراً في مكان فيه أتلاق الذكرى، و التفتح… لكن كيف لي أن أبقى.. خزين ذاكرة مليئة بالضجّ، والتناقض. كيف لي أن أبقى بعريّ أمام مرآة ذاتي؟… بقيتُ أراقب سنيناً عجافاً تركت سنابكها كتجاعيد على جبهتي التي مرّ عليها الضوء، فأنعش خطوطاً عميقة، مظلمة بحافة جريحة، فضحت تعبي الدائم. أقف مبهوراً، وحيداً، دون رفقة حنون، توغل الصبح البهيج في العتمة، تذبح ما بقيّ من ثقالة، متمنيا بقائها على الصدر، حبيبة تنزع عني الصمت المقيت، فتخرج شذرات الضوء، من الكلام ما يمتع، وتنشر حولي أنغاماً ملونه كحباحب تطمس كآبتي.. تمزج الماضي الملء بالحاضر الخاوّ.. تذوب الحدود، حتى يتسع الزمكان…

احكي حكاية بعد أخرى، وقبل أن تنتهي الحكاية العماد، اربطها ببداية لحكاية أخرى، من اجل أن لا يبقى الصمت موحلاً بالتراخي، وذهني يمور كالتنور الذي تسعر ناره.. (رأيت بعض الزيت الطافح على سطح الماء الذي نويت أن آتي عليه حدّ الخلاص)

- ما عساني أن أفعل أن تذكرت لك أحلى ما يمكنني تذكره…

- ذلك شأنك

- الأجمل الذي عندي لا يحرك الأجمل الذي عندك

- تجنب الكذب ولن يخيب الطريق إليّ! .

- سأظل صادقاً فلا تهربي من وحشية حقائقي؟!

هدلت بصوت رخيم، كالمعترض

- وأن تتجنب الشاطحات؟

- لك الحقيقة..

ثم ضحكت كفجر أتلق. جابت عيناها وجهي كأنها في حلم، فتنهدت منطلقاً في تجاويف بؤرة وسعتها عيناي، لتحتويها. وبقيت أستدرج الظل الممتد إلى الحاضر المتجدف. كان الليل موغلا في امتداد الصبح البهيج، كأنه يصرعه.. يقاوم إحداهما الآخر، وما برح الأمن مفتقد مذ كاشفتها بخوفي عليها من الحقائق الموجعة، فأردت أن أقول بان الحرب الاولى لم تستطع ان تاكل الثانية، او الثالثة.. الحرب لاي طرفين تخلف فجائع، وهزائم..أوشكت أن اعترف. لكني تفاديت ما أوشكت أن ادخل أليه دون تخطيط مسبق، فقلت:

- كان أبي مقامراً شهيراً قبل زواجه وكان معروفاً أن وعد برّ رغماً عن كل شيء..

- أكمل و لا ترتجي مني التصديق؟

- سبق له أن تراهن بان يهب غالبه في عراك الديكة أول مولود يأتيه!.

استللت سيجارة، ورحت أتابع فضول عينيها المتطلعتين بانبهار، ثم قلت محاولاً استمالتها، بكل ما في الحكاية من شد..

-  ما زال المطر يهطل في الخارج

ابتسمت بمكر، ولم تجبني، فاندفعت معتصماً بحصني.. مواصلا الكلام، من اجل أن لا يتراخى الصمت بيننا، وتهمّ في جمع أشياءها، استعداداً لاجل ان تغادر المكان:-

- عيناك تذكراني دوماً بعينيّ زوجة عمي!

عاودت ابتسامتها الماكرة. كأنها تغطسني في مداهما الكستنائي الرائع، أطيافُ أمنيات توشك أن تتحقق. بقيت منقباً في دهاليز اللمعة الساحرة.. باحثاً عن سرّ.. يجعل الحكاية لا تتوقف، وكأن الألف ليلة قد تقلصت بيننا، لم تكن (شهرزاد) بل كانت (شهريار) يمنحني فرصة المضي في حيوية الحكاية.. بقيت مغامراً ومجازفاً، حتى تطيل معي المكوث، و أبقى دون ذبح، فكم حرب تركتنا مذبوحين دون رحمة، كالفراق، القى فيه الحتف. عيناها ما يدفع للبئر بالماء.. حاولت إخفاء اضطرابها، بتساؤل حذر:-

- ما وجه التشابه؟

- ربما فيض الأنوثة...

- حاذر أني أغادر المكان إلى الأبد..

تداركت مقاطعتها لما أردت، فأردفت بعجلة، محاولا الحفاظ على ذلك الايقاع المتوازن..

- كانت في مثل عمرك.. في حوالي الثالثة والعشرين سوء حظها جعلها ترتبط برجل جاوز الحادية والستين كعمي….

اقتربت صاغية، أكثر.. (زأر الوحش، معلناً تأهبه للأنقاض.. كأني أستل سيفي، لأغمده في جسد الوحش المنقض عليّ ً)…

- أحذر بدأت تسقط في كذب واضح!

- أعرف جيداً بأنها لم تكن سوى حقيقة مائلة بعض الشيء!

( تنهدت وأرتفع الطائران الوحشيان الساكنان صدرها، كأنهما أوشكا أن يطبقا على فريسة بريئة)

- وما كان في مقامرة أبيك؟.

ضحكت بانتصار، وشاركتني هي بابتسامة غير عميقة آلمتني. تعامد الظل حتى فاض لجّ الكلام إلى حيث لم أعرف فيه كيف بدأت الأحداث، لتنتهي!. كنت متيقنا بأني لو أجلت، فأنها لن تقبل..(كما قبل شهريار ذلك من شهرزاد)..

- سمعت من جدتي عن عمي بأنه ذهب إلى الرجل الذي غلب أبي وأكرمه بديلاً عني قصراً منفياً كان قد كافح من أجله خمسة عشرة سنة إرضاءاً للرجل الغالب وأعادني إلى أمي.. (المهرة الصغيرة بدت تضيق من اللجام)... أخرجت منديلي ومسحت بقلق لأخفي اضطرابي. يداي أخذتهما الرعشة. عيوني أخذت تمدّ‘ خطوطاً عميقة إلى عينيها. الريح في الخارج، تصفر والمطر طفق على الزجاج والجدران. الليل يتمادى، والخوف يتقدم. فتحة قميصها تكشف عن صبح بهيج.. ما الذي سيكمل الليل دون حلم؟.( الذاكرة تنحل تدريجياً.. الخيوط المشوقة تفلت)، حلقت حقيبتها إلى كتفها. فقلت:

- بودي لو أكشف لك شيئاً مهماً عن علاقتي بزوجة عمي الشابة..

- قل ما تريد ؟( الريح في الخارج، ذئاب، حروب، وشرطة سرية شرسة)…

- عرفتها امرأة كاملة الأنوثة.. ناقصة الوفاء..

تنهدت كأنها تغرز أنفاسها في صدري القاحل (عيناي تكتشفها)..

- ماذا تعني؟

- سمعت عمي يوبخها بعد أن لحظها كثيرة الاهتمام بي.. مخبراً إياها عن شرّ دفنه طويلاً.. عن أخيه الذي كان بلا خصية!

- تعني والدك ؟

- نعم وعليها أن تحاذر مما يشطح به فكرها نحوي لأنها عديله أمي.

‍ انفضت عني بعينين مملوئتين بالاستنكار، ونهضت مثل عصفور مفزوع (أنقلب السحر على الساحر، قلت لنفسي)، ثم توجهت خارجاً دون أن تكشف لي ما حلّ بها من شر. رميت عقب السيجارة تحت قدمي، وأخرجت أخرى بعد أن تمادى الليل إيغالاً في الصبح البهيج. حيث بقيّ الصمت موحلاً بالتراخي.. من بعد ان نكصت، ورحت محاولاً النوم، لكني لم استطع.

Author's Notes/Comments: 

mu29@hotmail.com محمد الأحمد  


View alahmed's Full Portfolio
tags: