رئيس سابق لم اعرفه

رئيسٌّ سابق لم اعرفه



يشدُّ عليّ الهواء الساخن، ويحوطني عباب قيظ قرف أقاومه بضراوة وجلد على مسافة تقترب بي من مشوار وودّته، بعد ان أثقلني قلقي وجعلني أتعثر الخطى، وفي رغبة قيء كثير.. بقيت تتصاعد كأنها لهب نار مستعرة في أعماقي فألجمها جيداً، وأبدأ بتجوال عيني في ما تعرضه المحلات المتراصة جنب بعضها على ضفتي الشارع، منقباً في الواجهات. فلم تبق لي إلا صيدلية واحدة في نهاية الشارع أسأل صاحبها عن الوصفة التي كتبها الطبيب لجدتي المحتضرة.

حرارة يوم لعين جعلني لا أسمع غير صمت يتخلله صفير ما، أسمعه وحدي، تعودت عليه. قلت في نفسي علي أن أحتمي من اللفيح الساخن بالظل الضليل.. كان الهواء ساخناً حاملاً معه ذرات غبار تمتزج مع العرق المتفصد من جبيني، متحولة إلى طين ثقيل يحسسني بقرف شديد (لو أجد الدواء لهان الأمر). طال الزمن، مضجراً إلى حدّ السقم. خطوات المارة لها إيقاع له معنى التحفظ من قسوة شمس تموز العمودية، تجيء سريعة مارقة غير مكترثة بالوجوه التي تمرها. بقيت غيرقادراً على تمييزمن يمرّ جانبي. أمي قالت توصيني بعدم التأخر..

(لو كنت أعرف الطريق جيداً لخرجت بنفسي)

مسافة ما، وأقترب من نهاية الشارع، لعلني أجد مأربي. قلت في نفسي.. (جدتي تحتضر وعلي أن أحثُّ الخطى سريعاً قبل أن تأتيها المنية).. كانت تقبلني كل ليلة، تحكي لي حكايات البطولة والأساطير والأحاجي .. تعودت عليها، أحس الآن وعلى الرغم من قسوة الشمس تحنو علي، وتطبع على وجنتي قبلتها الباردة.. عيناي طائران يحطان هنا او هناك ليكشفان لي طريق لم يسبقني إليه ظلي. بقيت خطوتي عجلى، ويتدفق سيل التذكر، وأنا أجتاز حانة تفوح منها رائحة حادة جعلتني أتذكر تلك الليلة المشئومة. عندما بلغت الثامنة عشرة، يومها شربت كثيراً مع بعض اصدقائي، وغامرت لاحس بالانتشاء أكثر حتى نقلوني إلى المشفى، مما جعل والدي يعلم بالأمر، قبل أن أغادر فراش المشفى ولقنني درساً لن ينسى، ذكرى أليمة..

بدا وجهي على واجهة الحانة مستطيلاً وطويلاً.. أضحكتني الصورة كثيراً، ورحت أتابع طريقي راجياً أن أبتاع الدواء المكتوب أسمه على الورقة التي تبللت من العرق، أفرزته يدي المضمومة، و لقيتني أرفعها إلى عيني، محاولا التأكد فلم أجد حروفها قد تشوهت..

لكن؛ يدّاً ما حطت بثقل غريب على كتفي، كأن صاحبها اراد التوكأ عليّ، فالتفت مستطلعا نحوه فوجدت رجلاً قصيراً له عينان عديمتا الرموش.. كأن شراً ما يختبيء وراءهما... احترت في مراده، حاولت تذكر اني اعرفه ام لا، ولم أستطع.. قبل أن أيقن بأن هذه المرة الأولى التي أراه فيها.. بقيت انظر اليه.. كان رثُّ الثياب معلقا على صدره اغطية قناني مشروبات غازية، وقطع بلاستكية ملونة.. كاوسمة ونياشين حروب فاز بها، اضافة الى وشاح عريض من القماش لفه من كتفه الأيمن الى خصره الايسر، وايضا علق الى جانبه الايمن حافظة مليئة بورق جرائد قديمة دحست على شكل مسدس، بقي يتحسسه كل لحظة، اثارني شعر راس المصبوغ حديثاً وغير المصصف، لم يلق برجل في عمره، فقلت متوقفاً يلفني بعض الارتياب:

- ماذا تريد؟..

- خاطبني باحترام؟

- ماذا تريد يا صاحب الفخامة..

زمَّ شفتيه بحزم، وقال:

- طلبت منك ان تخاطبني باحترام..

- عفواً سيدي

- لم تسخرمني كلما مررت من قدام الحانة.. ألا يعجبك وجهي؟..

كرهتُ تهدله، وعدم استطاعته ان يثبت نظره الي، بعد ان تصاعدت من فيه رائحة كريهة، وكأن كلماته الممطوطة وجدت صعوبة قبل ان تصل أذني، فقلت:

- لم يسبق لي شرف رؤيتك من قبل..

- وكيف كنت لا تعرف رئيس دولتك؟

اردفت متهكماً

- السابق طبعاً..

- بلى

اردت ان اشاكسه، فقلت:

- لم اكن اعرف بأنك افلتت من حبل المشنقة.. سيدي

توقعت ان تثور ثائرته، ولكنه اجاب من بعد تارجح

- وكيف يعدمون رئيسا لم يفز بالانتخابات..

- خانك الحظ سيدي

- لا احالوني الى التقاعد..

ابتسمت للموقف، وراحت الابتسامة تكبر تدريجياً حتى صارت عاصفة حمقاء من الضحك المتواصل. فقررت ان اتجاهله وان لا أعره أهمية، فأدرت اليه ظهري، تاركاً إياه في حريته، لجوجاً غير واع لما يفعله، وبقي محاولا اللحاق بي بخطوات غير متوازنة.. كان مائعاً الى الحدّ يمنعه من الانتصاب.. رثيتُ لحاله البائس، وتوقفت لأسمع ما يريد مني كاملاً.. أنفاسه اللاهثة تهرق بوجهي برائحة نتنة، فلم احتمل، ولم اتوقف عنده، فبقي يردد ورائي:

- انت تستحق السجن المؤبد.. بل الاعدام!

كانت عيناه تلمعان لمعاناً بلا معنى. فحاولت أن أتحشاه، لكنه دفعني بقوة في كتفي كاد أن يسقطني على أرض الشارع.. فأفلت من ضربة سيارة مرّت بسرعة جنونية. توقفت في الوقت المناسب، ونزلت منها امرأة كنت أعرفها في زمن ما.. عيناها شكلان لصحو من ذكريات وأوهام.. نظرت، وأخترقت أجزائي.. تصاعدت الدماء إلى وجهي، وشعرت أن حرارة الشمس قد تفاقمت أكثر، بقيت انظر الى المرأة الجميلة، وكأنها قد قالت كلاماً جارحاً لم أستطع تحمله منها: (لست خائبة الظن فيك.. فأنت أقل مما أتصور).

تنهدت بعنف وأشعة الشمس أنارت وجهها أكثر.. بدت لي أكثر جمالاً من السابق وأن السنوات التي مضت دون أراها قد جمعت كلها في هذه اللحظة، وبددت الشوق الجامح. كل شيء قد ضاع. ركبت سيارتها بصمت، وانطلقت نادمة على زمن أضاعته معي.. بعد أن تهيأ لها بأننا أنا وهذا السكير- توحدنا معنا علاقتنا النزال العبثي في شارع عام.. كأنها قالت أيضاً، لستما سوى مدمنين كادت الحماقة أن تقتل أحدكم..

- لماذا لا ترد عليّ أيها الجبان!.

(جدتي تحتضر وعلي أن أحث الخطى سريعاً قبل أن تأتيها المنية)

حولت عنه مسمعي، واجتزته. ثم لحقني من جديد ووجدته ماسكاً أياي من تلابيبي.. عيناه غائمتان اكثر مما يجب، كنت موقنا بأنه في محض سكره لن يقبلها في صحوه. وهو بهذا الحال البائس يثير العطف والاشمئزاز معاً كان يترنح كأنه معلق بخيط من الأعلى تمايل به رجليه إلى اليمين ومرة إلى اليسار لم يستكن ابدا. يشد بيديه على خناقي حتى أدمعت عيناي من شدة الشدة.. دفعته عني بقوة أسقطته على أسفلت الرصيف الحار، وأصطدم رأسه بعمود الكهرباء، وتفجر الدم من مؤخرة رأسه.. بدا أحمرا قان خضب رأسه بهتُّ لفعلتي الوحشية، فبقى في مكانه مستقراً يجهش مستدرا للعطف.. رمقني بحث وأنا أبتعد عنه مجتازاً للشارع على مرمى البصر أتابعه وهو باق بمكانه الذي برك فيه ولم يستطع النهوض..

تذكرت (لو كنت أعرف الطريق جيداً.. لخرجت بنفسي)، فجعلتني الكلمات أقل صبراً على مسيرة الخطوات التالية، نحو الصيدلية. وبعد لحظات وصلتها ودخلت و مددت بيدي، بالورقة إلى الرجل العجوز الذي خبأ عينين زرقاوين هادئتين خلف نظارتين سميكتين. تناول من الورقة تحرك أمامي بخطوات رزنة إلى أحد الرفوف المليئة بالادوية ناولني علبة بيضاء ثم عاد إلى جلسته. كان الهواء مبرداً أنعشني فدفعت الدواء جيبي ببطئ بعد ان طاب لي الوقوف داخل الصيدلية... كانت خطواتي العائدة أسرع بكثير من قبل. ولكن صاحب الصوت المتحشرج عاد يلهث خلفي كأنه يبغي الثأر لما فعلته دفعتي فيه قوية. توقفت مدة اللحظات وكنت أشد حنقا من الجراء الذي لم بي، وقد بادرني قائلا والزبد الأبيض يتطاير من شدقيه على ملابسي:

- جبان..

-  ارجوك من الممكن ان تكون مؤدب اللسان..

-   تفرض علي ماتريد والله زمن!

كأنه قدر يلحقني حيث تحل خطواتي..

-  ماذا تريد مني بحق السماء؟

- أردت أن أعرف ما الذي جعلك تضحك عندما رأيتني جالساً في الحانة.. ليس من حقك فأنا رئيس وقور محترم..

أحترت فيما أقوله، ضاعت لغتي وغص صوتي، فأخذته من يديه وأنا أجره وهو يتطوح في الهواء يمينا ويساراً، كطائرة ورقية اوشكت ان تطير.. كان يمانع وأنا أكثر إصرارا، وأكثر صبراً على المهزلة. حتى وصلت به بعد جهد إلى الواجهة الزجاجية للحانة التي رأيت وجهي معكوساً عليها.. كانت سوداء مثل مرآة تعكس صورة كل ما أمامها، ولم يتبين للناظر من الخارج إلى الداخل شيئاً، قائلاً:

-   أنت كنت تجلس في الداخل؟ أليس كذلك؟

- نعم..

- سأدخل وأجلس في المكان الذي كنته.. وستضحك علي بقدر ما تحب.. ثم تدعني أذهب إلى سبيلي.. ما رأيك؟

بقيت نظراته أكثر شروداً، وكأنه لم يفهم شيئاً ولم يرض بالحل الذي عرضته.. كنت أحس بقلبي ينقبض تدريجياً، وكأن عطانته سكنت أنفاسي، ازداد عرق جبهتي وأبتل المنديل بصورة نهائية من غزارة العرق المتفصد من جبهتي.. حرت في تفسير ذلك لكني أبعدت من رأسي هاجس أن جدتي قد ماتت في هذه اللحظات الضائعة وأنا أحاول التملص من هذا المعتوه.. تنفست بعمق وأنا أقول له بتوسل..

- ماذا ترى الأن؟

فقال بعفوية، بعد أن رأى صورتينا:

- شخصان لاأعرفهما.. أحدهما يشبهك..

حاولت ان اعيد عليه السؤال:

- ماذا تريد مني؟

- ان تقدم لي اعتذارا رسميا امام رئيس هيئة الأمم المتحدة؟..

زفرتُ بقرف، ثم ألتفت إلى ناحية الشارع وأشرت إلى سيارة أجرة.. أنقذفت بداخلها، وقلت للسائق:-

- أرجوك خذني إلى بداية الشارع..

تحسست الدواء بيد، وانا أحاول كتم قهقة عالية.

Author's Notes/Comments: 

mu29@hotmail.com محمد الأحمد  


View alahmed's Full Portfolio
tags: