قطرة آســــــــرة

قطرةٌ آسره

  قصة قصيرة

محمد الأحمد

صار حضورها موقظاً لزحمة إشغالات ملحة الحضور، لزجة، طائفة في ذهنه المتوقد حنيناً... كشف ما كان مخفياً بين الطيّات الثقيلة، المتكدسة من موجات الندم، والتي منعته بحيوية عجز مقيد، كما يأسر العنكبوت فريسته. حيث بقيت زحمة من الأفكار تتطاير متناثرة في الخضم الثقيل الذي طالما رفضه بعزم متشدد، مثلما يزيح الهلل* الملتصق على زوايا الحيطان العالية، بعد أن تأكد انه على يقين تام، انه لم يكن يوما حشرة وقعت في شراك العنكبوت، ولكن ينظر من الشباك عبر الزجاج النظيف، ويبحر صوبها… بعد ان صار متأكدا بانها لن تراه، من خلل الزجاج المظلل، الذي يسمح بحرية رؤيتها، دون أن تراه، و يعاني من عناء خجله الذي خسره الكثير. عيناه العائمتان بالأسى المتراكم، أصبحتا مشدودتان إلى ذلك الأفق الجميل، و تركتا ما كان منشغلا به… أناء التهام ذلك الحيوي الأطراف، الرمادي اللون، الذي عالج ما اختطفه من شبكته العريضة الامتداد، ببراعة قل مثيلها.. بقيت تلك المرأة تنظر صوب نافذته بعينين متلمظتين وكأنهما عينا قطة ضلت الطريق تحت ضوء ساطع، عيناه تتابعان المبادلة التي انتصر فيها المتعدد الأطراف، وراح يحجل إلى غايته، بلا توقف، يتهالك كلما اخذ من الزمن بغيته في الندم على خسران قد حدّ من الانطلاق نحو الأماني.. كانت في وقفتها الكسيرة، تنتظر كالملهوف الذي تتوارد إلى ذهنه الذكريات اللذيذة، متلظية، ساهمةً، و محلقةً في عوالم متداخلة، وجهه المستند على ابتسامة، مقموعة بالتردد، ممتزجة بالقلق كأنها مثله تماما. كبئر مهملة، ولكنه على يقين بأنها تفيض بالماء على الرغم من أن لم يكن في وجهها أيما تعبير لفرح، أو لحزن، مفغورة ألفاه تمسك حافة حقيبتها اليدوية المعلقة إلى كتفها الأيمن، المتهدل من الثقل، وتوشك أن تفعل شيئاً ما – كلما تلفتت بريبة، إلى كل ما حولها، دون أن تغير مكانها خطوة واحدة.



كان إحساسه بذلك اليوم- انه سيكون فعلاً يوماً متميزاً- ارتشف الجرعات الدافئة من قدح صغير بقي معلقا بين أصابعه، ثم ودعه على منضدة قريبة كانت قرب كرسيه المتحرك. وحرك بيده الأخرى مؤشر محطات الراديو إلى أقصاه دون أن ينظر إلى لوحته، أو يرفع عينه عن المرآة، بحثاً عن موسيقى تناسب الأحلام الموزعة في انتظام سقيم، بعد أن ابتعدت نظراته كليا عن فظاظة الالتهام، من بعد تخدير، وودع ذلك الكائن في عزلته القصية، مستنفداً ما رزقه الله.



التقطت أذناه، بلهفة، الموسيقى التي تروقه مع تلك الغيوم المتقاطرة في السماء، وبدت كالمكتوبة على فضاء المساحة.. غيمه بعد أخرى، تزمجر بوميض يسبق الصوت. كانت الصور تتشكل وتتداخل لتغير لوحة الجمال التي أمامه.. بعد أن أعطته المرأة معان راقية، وأخرى غير التي تخص الجمال، تحركت في داخله، وراحت تفيض وتأتلق. يتهالك كلما اخذ من الزمن بغيته في الندم على خسران قد حدّ من الانطلاق نحو الأماني.. بقي ينظر، وحسب.. أناء الارتشاف من قدح صغير بين أصابعه، ويضرب بخاره في انفه. بعد أن تلظى انتظاراً في المكان المحدود، لما ستفعله تلك المرأة التي ناهزت الخامسة والأربعين، وكأنها متطوحة تتلاعب بشعرها موجات هواء الشتاء القارصة. تمنى ساعتها أن يمتلك منظاراً يختزل الخمسة والعشرين متراً- التي تبعدها عنه، لأجل أن يروي فضوله، فيراها صافية الوجه، رغم كل ذلك البعد، وكأنها تقاسمه ظلمة وحدة مريرة.. فستانها المخملي الأنيق جعلها جزءاً حيوياً لما يراه أمامه عبر النافذة التي صارت سلواه بعد خروجه من المستشفى. الهلل لا يحجب الرؤية، ولكن الخيال، أحيانا من عدم الجدوى، يتثبت كحقائق شاخصة، مكتسية اللحم، والدم.. تجعله مسترجعا آخر ما انفجر بين قدميه، وطوح به عالياً، متصوراً ما حدث، ويتمنى بعمق، وبعد فوات الأوان لو لم يكن مفسداً لحقول الألغام، ولم يكن الذي حدث له.. عيناه مصوبتان نحو النافذة، ويتابع الاتهام الشره لذلك الحيوي الأطراف، الرمادي اللون، الذي عالج ما اختطفه من شبكته العريضة الامتداد، ببراعة قل مثيلها.. أيام ذاك، لم يكلف نفسه عناء الاستقصاء..لاجل ارواء الفضول. يظنها تفكر بقصة حب تحولت مسيرتها إلى كل تلك التعارضات، فجعلتها تمعن النظر مليا في الدار العتيق الذي يقطنه منذ زمن ليس بالطويل.اذ كان جادا في انغمار عمله، ولم يدخر جهدا لغيره... قصة حب في هذا البيت سمعها بتشويق من الجيران، من كل الذين باركوا له الشراء من أبناء الشارع الذي يسكنه، ولم يعرف بتلك القصة..



كان الوقت لزجاً الى حدّ السقم، وكان المدى مزدحماً الى حدّ التكدس، فأيقن انه يعشق الموسيقى كالمتعبد، لكنه لم يأخذ لها من حياته وقتا سوى سماعها قبل النوم، غرامه الذي لم يتبدل. حدس إنها – ربما - تكون تلك الزوج المؤلفة لتلك المعزوفات البديعة التي حازت على ارفع الجوائز. مازالت لديه صورة لها اقتطعها من صحيفة كانت تصدر قبل اندلاع الحرب، سيطلب من ابنه الصغير بعد عودته من عمله أن يريه إياها بأقرب فرصة. ِحالة يرثى لها، أن لا يترك كل تلك الخيالات التي تستنزفه، ولكنها السلوى الوحيدة التي يستسلم إليها، فتعبث به، وتأخذ به حيث تريد، وليس إلى ما يريد. لعلها مرتبطة بهذه المرأة- قصة عازف آلة الكلارنيت المنتحر، في الفرقة السمفونية الوطنية، تأخذه إلى أبعاد يجهلها.. كم يودّ الآن لو يسمعها كاملة… ترى هل تشبه قصة العبقري (شوبان) وزوجه؟



في المساء تندلع تلك الأشياء متكاثفة مع تكدس الظلام، و وتطوف محلقة بدوائر موسيقية، تملأ ذهنه… تبدو حالة من التقاطع المتداخل مع ومضات تبرق في عوالم وحدته المتكررة بسقم مقيت. يترك كل الأشياء المنطقية جانباً، ويقلب في أوراق تلك الملكة المضيئة وهي تعبث بمصيره. مثلما أوصى (شوبان) بعزف القداس الجنائزي** في مراسم تشيعه. على زجاج النافذة تقف حشرة ما بينه وبينها.. تصير بحجمها!، وتحجب عنه الرؤية. الأنغام المتوالية تتداخل، وتتراقص الأحرف تحت وابل من المعنى يشدهُ إلى معان متوالدة من بعضها.. في العام الماضي قبل أن تحمله لعنة العربة، كاد انتحاره أن يتحقق، ولكنه خلف خسارات لم تنته إلى لحظته... بقيت أيامه عاجزة الإقلاع عن التشابه، والرتابة، وال..



يتقدم منه ابنه، وهو يقول :



- قد وضعوا في بداية الزقاق إعلانا تجارياً يحمل صورة امرأة ترتدي جورباً شتائي!.



لم يصدق ذلك، فخرج يقاوم صعوبة الانطلاق، منسلا بهدوء متزن، يدفع عجلة العربة التي تحمله، مستقبلا نثيث المطر اللزج على وجهه.. مواجها، و تحققا بنفسه من صحة ما سمع!







‏الأربعاء‏، 28‏ نيسان‏، 2004



* نسج العنكبوت.

** احدى روائع الموسيقى الكلاسك.


View alahmed's Full Portfolio
tags: