حضور الأندلس في الأدب الفلسطيني الحديث





د. حمد عبدالله الجعيدي [1]

من مظاهر التواصل الحضاري لعروبة فلسطين تمسك أدباء هذا البلد ـ مسلمين ومسيحيين ـ بتراثهم العربي والإسلامي [2] ، حيث تشكل الأندلس واحدة من الحلقات المهمة في هذا التراث ، بما قدمته للحضارة الإنسانية من معارف وتجارب إنسانية غنية للتعايش العرقي والتسامح المذهبي في ظل السيادة العربية الإسلامية ، إلى ان جنت عليها أيد إسبان نصارى متعصبين في غفلة من حكام تنازعوا فذهبت ريحهم وآل ذلك الصرح الحضاري العظيم إلى مصيره المحتوم .

وقد تراوح حضور الأندلس في الأدب الفلسطيني بين صورة الأندلس الفاتح المتفتح ، مدعاة الفخر ،متمثلة في عملية الفتح ذاتها ( 92هـ ـ 711م ) وفي بناء صرح الحضارة في قرطبة وإشبيلية وغرناطة . .  . وما قدمته هذه البلاد في ظل السيادة العربية الإسلامية من علماء ومفكرين و أدباء وساسة وقواد ، وبين صورة الأندلس المفكك المغلوب على أمره إلى أنْتَ تمكنت الممالك الإسبانية النصرانية ومن ورائها أوروبا ، من الاستيلاء على آخر معقل للعرب المسلمين بشبه الجزيرة الإيبيرية سنة 879هـ /1492م . وثمة صورة ثالثة لهذا الحضور تمثلت في طبيعة الأندلس الجميلة : " جنة الله على الأرض "  في ظل العرب المسلمين ، و"الفردوس المفقود" بعد غروب شمس الإسلام والعروبة عنه .

وقد تمكنت صورة الأندلس من نفوس الأدباء الفلسطينيين حتى أصبحت مصدر إلهام لهم ، منه يستدعون انتصارات طارق بن زياد أحد أشهر القادة العسكريين في عصره  [3]، وقوة عزيمة عبد الرحمن الداخل وحنين ابن حمديس الصقلي إلى وطنه ، وشموخ الحضارة الأندلسية ومصيرها المأساوي عبر جسر ( زمكاني ) يربطهم بواقعهم الفلسطيني المؤلم في ظل واقع عربي لا يقل مأساوية ـ إن لم يزد ـ في ظروفه عن تلك الظروف التي أدت إلى "غروب شمس العرب عن الأندلس ".

وقد استدعى الأديب الفلسطيني الأندلس إلى واقعه عبر مسافة زمانية اتسعت لتشمل التاريخ العربي الإسلامي بأكمله ، ومسافة أخرى مكانية امتدت لتضم ضفتي البحر الأبيض المتوسط . وقد يكون محمود صبح قد شعر بهذا الامتداد عندما حصر إهداء ديوانه " كتاب لقيثارتين " في عبارة : "إلى ضفتي بحري ".

وسوف نتابع هذا الحضورـ بعد التعري بمصادره وتحديد إطاره ـ عبر عناصره التي استدعاها الأدباء الفلسطينيون في إطار مكونات عملهم الأدبي .

ومصادر البحث هي مصادر الأدب الفلسطيني منذ أواخر العقد الأول من هذا القرن حتى اليوم ."وعند الحديث عن الأدب الفلسطيني يتوجب التمييز بينه وبين الموضوع الفلسطيني في الأدب . . . فالأدب الفلسطيني هو الأدب الذي كتبه فلسطينيون أينما وجدوا ، ومهما اختلفت جنسيات جوازات السفر التي يحملونها لأجل الوصول إلى لقمة العيش ،وكروافد للأدب الفلسطيني تعتبر تلك الدراسات التي دارت حول هذا الأدب مهما اختلفت جنسية مؤلفيها .

ونحن إذ نصر هنا على فرزما هو فلسطيني عما هو عربي غير فلسطيني فإننا لا نجد أي مبرر لانتهاج النهج نفسه فيما يخص أقطارا عربية أخرى غير فلسطين، حتى ولو كان ذلك بحسن نية ،وذلك لأن الوطن العربي اليوم ،أرضا وشعبا وثقافة وفكرا أحوج من أي وقت مضى لاختفاء هذه النعرات القبلية ، إلا فيما يتعلق بفلسطين ،فإنه يتوجب التأكيد على صفتها الذاتية المحلية ، لأن هذه الصفة الذاتية المحلية هي المستهدفة اليوم ،واسمها هو المطلوب حيا أو ميتا لدى الاستعمار والصهيونية وبعض الأنظمة المحلية الدائرة في فلكها .ففلسطين اليوم هي أشبه ما تكون بعضو الجسم الذي يلدغه ثعبان مفرغا فيه كل سمومه فيأتي الطبيب ليشد الضماد عليه مانعا من ان يتسرب منه واليه حتى لا ينتقل السم إلى سائر الجسد .وعند ما يتم التطهير ويتخلص العضو من السموم الغازية ، فلا بأس من ان تفك الضمادة كي يعود العضو إلى الجسم دون ان يضر به . . . هكذا يتوجب علينا ان نضمد الجرح ، ونشد ضماد التحرير حول فلسطين بحدودها الإقليمية من النهر إلى البحر ، ومن الرأس إلى الخليج حتى تتطهر من سموم الاحتلال ،وعندها تعود إلى الوطن الأم ،ويسقط كل مبرر لوجود هذه الصفة الإقليمية " [4].

ويشمل الإطار الزمني للبحث القرون الثمانية لتاريخ الأندلس والقرن العشرين من تاريخنا الحديث . أما الإطار المكاني فيشمل المساحة الجغرافية للأندلس ( العربية المسلمة ) والوطن العربي . ومن هنا تخرج من هذا البحث الإشارات كلها التي تشير إلى المدن الأندلسية أو إلى الأندلس ( كإقليم في إسبانيا المسيحية ) في فترات تخرج عن إطار القرون الثمانية .

وقد خرجنا من قراءة ما توفر لدينا  من مصادر الادب الفلسطيني بنتيجة تتمثل في ندرة استدعاء كتاب النثر الفلسطيني للأندلس حيث تكاد تنحصر محاولاتهم فيما قام به خليل بيدس [5] ومحمد نفاع وخضر زهران ونجاتي صدقي و إبراهيم الشنطي وهي على أي حال إشارات ليس بإمكانها منافسة مثيلاتها عند الشعراء الفلسطينيين ، في الكلم أو في الكيف  [6].

ويمكننا تصنيف عناصر حضور الأندلس في الأدب الفلسطيني في حضور الأمكنة وفي استدعاء الشخصيات التاريخية والأدبية .

أما الشخصيات التاريخية فقد استدعى الأديب الفلسطيني منها تلك التي قامت ـ إيجابا أو سلبا ـ بدور مهم في تاريخ الأندلس و تغيير مجراه ،ومنها شخصية طارق بن زياد فاتح الأندلس وصاحب الخطبة المشهورة ، فقد استدعى الأديب الفلسطيني هذه الشخصية وشكلها وفق حاجته الا بداعية ،وخدمة للفكرة التي يود توصيلها محاولا خلق نوع من التوازن بين الإبداع والالتزام ، من هنا جاءت شخصية طارق بن زياد وانتصارها البارع رغم ضعف العدد والعدة ،محفزا للخروج من الواقع المتردي وتجاوز الهزيمة  [7].

في قصيدة "لا مفر "من ديوان "سفينة الغضب "يخاطب هارون هاشم رشيد أبناء شعبه المشردين ،متقمصا شخصية طارق بن زياد ،ومتخذا من عبارات خطبته المشهورة محورا لقصيدته مع شيء من التحرير في عبارات الخطبة ،وتلك ضرورة سعى إليها الشاعر للوصول إلى أكبر قدر ممكن من الصدق في نقل واقع المأساة التي يعيشها شعبه :

أحبتي . . .

فاليوم . . . يومكم

فالبحر من ورائكم

والخصم من أمامكم

فما لكم . . .

والله حتى الصبر

ولالكم . . .

والله حتى القبر [8]

فشخصية طارق التي تقصها الشاعر تحصر معاني خطبتها في الواقع الفلسطيني ، حيث تمتلئ الخنادق قبل بالجثث قبل القتال ،وهذه إشارة إلى الحروب الشكلية ذات النتائج المدمرة التي خاضتها الأنظمة زورا باسم فلسطين . كما يتوقف الشاعر في منتصب القصيدة ليعيدنا إلى خلاصة الرسالة التي يحملها وهي التعريف بالواقع الفلسطيني وذلك بإعادة الحوار إلى الشخصية المستدعاة والنقل عنها :

تاريخكم . . .

ومجدكم . . .

مغارب مشارق

يهدر في آذانكم

كالرعد كالصوا عق

بمثل ماقد قالها

للفاتحين طارق :

. . .  . . .  . . .

ولتهدر الجبال

في القدس  .. .

في نابلس . .  .

في جرزيم . . .

في عيبال . .  .

الثورة .  ..

. .. ..  . . .

يا رجال . . .  [9]

وفي إطار الواقع المعاش تتخذ صورة طارق عند محمد عز الدين المناصرة طابع التملص من المسؤولية والهروب من الواقع ومن المواجهة ، حيث نجد طارق بن زياد في "غيمة ساحلية " يتسكع في المقاهي ليشارك المغلوبين على أمرهم رحلة الهروب من المواجهة ، وبهذا تتدرج الشخصية المستدعاة بسلبيتها في إطار السلبية العامة التي يعيشها الواقع العربي المعاصر .

سأذهب إلى مقهى الأندلس

وأدق كأسي بكأس طارق بن زياد

وأقول اتبعيني أيتها المدينة [10]

لكن صاحب "الكنعانياذا " ـ وهو واحد من أكثر شعرائنا الفلسطينيين استخذا ما للمادة التراثية ـ يدرك ان الهروب من المواجهة هو ضرب من العبث فيضع له حدا ويغوص ـ من جديد ـ في التاريخ العربي ليستدعى شخصيات منها :" ابن زريف الشامي "و" على الجهم الدامي " و" دليلة الغزاوية " وكلها أسماء تعبر عن انتصار الارادة ومنها يستمد المناصرة العزم على التمسك بأصوله الكنعانية حتى إنه "يمط " هذه الكلمة تأكيدا على هذه الهوية الوطنية التي فيها خلاصه :

وأقول هذه حيفا

أو أفعل كما فعل أبو محجن الثقفي [11]

فالشاعر يريد وضع حد لواقع التردد والهروب من المواجهة تماما كما وضع أبو محجن الثقفي حدا لقيده وشارك في معركة القادسية ضد الفرس ، إلى ان انتصر الفاتحون المسلمون .

ويعود المناصرة في "يا أخضر "من ديوان "لن يفهمني أحد غير الزيتون " ليغمس شخصية طارق بعد استدعائها في جدلية الواقع المعاش ،وليتقمصها وينطق باسمها أو ينطقها باسمه :

بيت قرب الفاشست يطل على البحر ، يعانق أشجار الأرز

ويحميني من زخات المطر ومن دقات الشرطة فوق الأبواب البيضاء

الجبل أمامي والبحر ورائي ، والفرس الخضرا بين الأحراش الزرقاء

هل أكتب ان المنطقة العليا تعني المنطقة السفلى ،هل أكتب

ان القمح رماد ،ان الماء دم وان الضحك بكاء؟‍‍ ‍‍‍‍!! [12]‍

وفي أطار هذه الجدلية يستدعي معين بسيسو في "قصيدة من فصل واحد " شخصية طارق في صورة سجين عصرنا حيث يصلي الجواسيس خلف علي ، ويسألون الطعام من يد معاوية حتى يتد حرج رأس الشاعر الجاسوس على ربابته بعد ان يسعى لدى الخليفة للنيل من الشعراء الشرفاء :

و"طارق "في الزنزانة

"طارق " فتح الأندلس

وفتح خليفتنا الزنزانة  [13]

ويقترن اسم طارق هذه المرة أيضا بأسماء أخرى من التراث العربي انعكس عليها الواقع المعاصر فاختلفت  دلالتها باختلاف واقعنا اليوم عن واقعها بالأمس ، فجاءت موازية لدلالة طارق ، قائد الأمس ،سجين اليوم ، حتى يصبح "سيف الدولة "عينا للروم ، ويغني " عنترة " انتهاك "أنو شروان " لعرض "عبلة " . . .

وتحدث المفارقة بين التاريخ والجغرافيا عندما يجمع ناهض منير الريس بين شخصية طارق رمز الكرامة والنصر ،وبين صورة حكامنا اليوم كرمز نقيض ،حيث مضيق جبل طارق ومضايق تيران قطبان لجدلية مأساوية تبدأ بالفتح في الأندلس المسلمة ، وتقف عند الاحتلال الأجنبي لأراضينا العربية اليوم :

إني أعود من جرائد المساء خالي الوفاض

أدخل قمرتي ،

وأفرد الخرائط التي وجدتها

في غرفة الزيت وأبدأ المسير

هذا المضيق ما اسمه ؟

وطارق . .  .

هل زار شرم الشيخ أو تيران ؟.

لكن بحر الصين في مكانه يبدأ من إيلات  [14]

View shamasnah's Full Portfolio