المعراج النبوي وأثره في الشعر الفارسي



الأستاذة الدكتورة شيرين عبدالنعيم حسنين





أستاذة الفارسية ورئيسة قسم لغات الأمم الإسلامية وآدابها

كلية الآداب ـ جامعة عين شمس

القاهرة ـ جمهوريّة مصر العربيّة



الهبت المعجزة الكبرى التي خصّ بها اللّه‏ سبحانه وتعالى الكريم سيدنا محمداً (ص).. وهي المعراج النبوي... فما من نبي صعد إلى السماوات حتى سدرة المنتهى وتجاوزها ليرى الآية الكبرى للّه‏ في السماوات ثم عاد في نفس الليله ليكمل حياته على الأرض إلاّ خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (ص).

لذا فقد دفع المعراج النبوي بمشاعر الأدباء المسلمين على اختلاف لغاتهم ومشاربهم، فتناولوه من خلال أعمالهم الأدبية، حيث وظّفه كلّ منهم بما يخدم الهدف الذي أ ّلف عمله من أجله.

وقد تأثرت الآداب الغربية بالتراث الفكري الإسلامي، فراحوا يحاكونه، وأبرز شاهد على ذلك دانتى وكوميديته الإلهية المستمدة من الفكر الإسلامي(1)، والمصطبغة بالروح الأوروبية.

وقد كان الأدب الفارسي من بين الآداب الشرقية الإسلامية التي حفلت بالأعمال الأدبية التي عالجت فكرة المعراج النبوي.

وقد اخترت من بين روائع الأدب الفارسي عملين للدراسة من خلال هذا البحث أحدهما منظومة (منطق الطير) للشاعر الصوفي الكبير فريد الدين العطّار الذي يعد من أكبر مشايخ التصوف الفارسي، والثاني منظومة (جاويدنامه)، أي رسالة الخلود للمفكر الإسلامي الكبير محمد إقبال.

وسوف تقوم الدراسة في هذا البحث ـ بعد الحديث عن المعراج النبوي ـ على هاتين المنظومتين اللتين تعدان من روائع الأدب الفارسي مبينة كيف نجح كلّ من العطّار وإقبال في توضيف فكرة المعراج النبوي ليخدم الهدف الذي أ لّف منظومته من أجله ولنبدأ أولاً بالحديث عن المعراج النبوي، واللّه‏ الموفّق.

أولاً : المعراج النبوي

كان الرسول الكريم محمد (ص) قد قوبل بالإيذاء والجحود والنكران من قبل المشركين والكفار، وفي عام واحد ـ وهو عام الحزن ـ قد ماتت زوجته خديجة رضي اللّه‏ عنها التي كانت سكناً له، تداوي ما يلقاه من مشقة في سبيل الدعوة، وفي نفس العام مات عمه أبو طالب الذي كان حماية خارجية له يحميه من الأذى، فلم يكن أمامه إلاّ السماء تلك التي كلّفته بالرسالة ليبلغها للناس، فرفع الرسول (ص) أمره إلى السماء، يشكو ظلم أهل الأرض، فناجى ربّه قائلاً: (اللّهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين وأنت ربّي، إلى مَن تَكِلني، إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدوٍ ملَّكته أمري، إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكنّ عافيتك أوسعُ لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمرُ الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحلّ عليَّ سخطُكَ، لك العُتبى حتى ترضى ولا حولَ ولا قوةَ إلاّ باللّه‏ِ العليّ العظيم).

فأراد الحقّ سبحانه وتعالى أن يُلفت نظر الرسول الكريم أنه إذا ضاقت عليه الأرض فإنّ ملكوت السماء يحتفي به ويرحب، وأنّ ربه الذي كلّفه بهذه الرسالة السامية، بلا شكّ سينصره رغم كلّ هذه الشدائد.

ومن هنا جاءت معجزة الإسراء والمعراج فجاء جبريل وهو (ص) نائم في الكعبة وأيقظه، ثم أتى له بالبراق(2)، فركبها حتى أتى إلى بيت المقدس، فربط الدابة في الحلقة التي يربط بها الأنبياء دوابّهم.

ثم دخل الرسول (ص) المسجد، وصلّى فيه إماماً بالأنبياء، ولما خرج أتاه جبريل بإناء من خمر، وآخر من لبن؛ فاختار اللبن، فقال جبريل أصبت الفطرة.

وكما هو واضح مما سبق أن معجزة الإسراء والمعراج قد تمّت بالروح والجسد، وأنها معجزة من اللّه‏ سبحانه تعالى سجلها في محكم تنزيله بقوله تعالى: «سبحان الّذي أسرى بعبدهِ ليلاً مِنَ المسجدِ الحرامِ إلى المسجد الأقصى » (3).

وكان الحقّ سبحانه وتعالى قد أراد بهذا الإسراء أن يعطي رسوله (ص) للناس الدليل المادي والعقلي ـ برؤية أشياء وأحداث تخضع لقوانين البشر ـ على صدق المعجزة الكبرى وهي عروج الرسول (ص) إلى السماء.

تلك المعجزة التي تفوق طاقة وقدرات العقل البشريّ.

أما عن المعراج النبوي، فقد عرج الرسول الكريم إلى السماوات السبع يصطحبه جبريل عليه السلام مرشداً له في رحلته السماوية.

فرأى في السماء الأولى آدم وفي السماء الثانية رأى يحيى وعيسى عليهما السلام وفي السماء الثالثة رأى يوسف وفي السماء الرابعة رأى إدريس وفي السماء الخامسة رأى هارون وفي السماء السادسة رأى موسى وفي السماء السابعة رأى إبراهيم صلاوات اللّه‏ عليهم أجمعين.

وقد شاهد الرسول عليه الصلاة والسلام خلال معراجه إلى السماوات السبع أشياء كثيرة نذكر بعضها: إنه مرّ على قوم يزرعون ويحصدون في يوم وكلّما حصدوا عاد الزرع في نفس ساعة الحصاد كما كان من قبل أن يحصدوا فسأل جبريل مَن هؤلاء؟ فأجابه: هؤلاء هم المجاهدون في سبيل اللّه‏ تضاعف لهم الحسنة إلى سبعمائة ضعف وما أنفقوا من شيء فإنه يضاعف لهم.

كما رأى عليه الصلاة والسلام امرأة عجوزاً حاسمة ذراعيها وعليها من كلّ زينة، فسأل الرسول الكريم عنها، فأجابه جبرائيل: هذه هي الدنيا التي تفتن الناس بزينتها.

ثم رأى الرسول الكريم أشخاصاً يرضخون رؤوسهم بالصخر، حتى تشقّ وتسيل منها الدماء، ثم تعود كما كانت، ويعودون هم مرة أخرى ليضربوا رؤوسهم بقوة في الصخر، ثم تعود كما كانت، فسأل الرسول عليه الصلاة والسلام من هؤلاء يا جبريل، فأجابه: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن تأدية الصلاة.

كما رأى الرسول الكريم خلال المعراج قوماً تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد وكلّما قُرضت عادت كما كانت فسأل من هؤلاء يا جبرئيل؟ فأجابه: هؤلاء خطباء الفتنة الذين يقولون ما لا يفعلون.

كذلك رأى الرسول الكريم صخرة يخرج منها ثورٌ كبير، ويريد أن يرجع من حيث خرج، فلا يستطيع، فسأل جبرئيل عليه السلام عنه، فأجاب: إنّ هذا مثل الرجل الذي يعطي الوعد ويقسم عليه، ثم لا يفي به.

وأيضاً رأى الرسول الكريم (ص) قوماً يسبحون في بحر من الدماء، ويلقفون الحجارة بأفواههم، فأسال عنهم جبرئيل عليه السلام، فأجابه: هؤلاء أكلة الرباء.

كما رأى الرسول الكريم أُناساً يتركون اللحم الطيب أمامهم ويأكلون اللحم النتين، فسأل جبريل عليه السلام عنهم فأجابه: هؤلاء هم الزُناة الذين يتركون المرأة الحلال ويذهبون إلى المرأة الحرام.

كذلك رأى الرسول الكريم (ص) رجلاً يحمل حملاً لا يقدر عليه ثم يمدّ يده إلى شيء آخر ليزيد حمله فسأل جبرئيل عليه السلام عنه، فأجاب: هذا الذي يحمل الأمانة ويعجز عن أدائها وإذا استتبعنا المعراج النبوي فقد ظلّ الرسول الكريم (ص) وبرفقته جبريل يصعدان حتى وصلا إلى سدرة المنتهى وهي المكان الذي ينتهي عنده علم الخلائق فتوقف جبرئيل قائلاً للرسول الكريم: أنت يا رسول اللّه‏ إن تقدّمت إخترقت وإن تقدّمتُ أنا إحترقت.

فتقدم الرسول الكريم (ص) وتجاوز سدرة المنتهى ليرى الآية الكبرى للّه‏ في السماوات كما ذكر اللّه‏ عزّ وجلّ في محكم تنزيله «لقد رأى من آيات ربّه الكبرى » (4) وقد كانت رؤية الرسول الكريم للآية الكبرى هي المرحلة الأخيرة في رحلة المعراج حيث عاد في نفس الليلة ليكمّل حياته على الأرض كخاتم الأنبياء والمرسلين.

وبعد أن استعرضنا رحلة المعراج النبوي ما تحويه من معجزة إلهية يعجز العقل البشريّ عن إدراكها سنقوم بدراسة مدى تأثير هذا المعراج النبويّ في الأدب الفارسيّ وذلك من خلال رائعتين من روائع أعماله، فلنبدأ أولاً بمنظومة (منطق الطير) للشاعر الصوفي الكبير فريد الدين العطّار.

ثانياً : منظومة (منطق الطير)

أ ـ التعريف بها

تعد منظومة الطير للشاعر الصوفي الكبير فريد الدين العطّار(5) إحدى روائع الأدب الصوفي في الشعر الفارسي ويرجع تاريخ نظمها إلى عام 583 ه وقد نظمها العطّار في فن المثنوي في قالب الشعر القصصي وتقع في حوالي أربعة آلاف وستمائة وخمسين بيتاً من الشعر وقد حظيت هذه المنظومة بشهرة واسعة فترجمت إلى اللغات العربية والتركية والهندية والفرنسية والإنجليزية وذلك لأهميتها وقد استمد العطّار اسم المنظومة من القرآن الكريم من تلك الآية الكريمة رقم (16) التي وردت في سورة النمل إذ يقول المولى عزّ وجلّ : «وورثَ سليمانُ داوودَ وقال يا أيُّها النّاسُ علمنا منطقَ الطيرِ وأوتينا مِن كُلِّ شيء أنَّ هذا لهو الفضلُ المبينُ » .

وقد اختار العطّار لمنظومة طيوراً حقيقية فيما عدا إله الطير حيث رَمَزَ له بطائر وهمي يعرف بالسيمرغ(6).

والمنظومة عبارة عن مقدمة طويلة و 45 مقالة تتضمن سرد أحداث القصة ويتخلل بين كلّ مقالة وأخرى روايات عن مشايخ الصوفية ثم خاتمة.

وإذا استعرضنا أحداث المنظومة نجد أن العطار قد استهلها بمقدمة طويلة في حمد اللّه‏ عزّ وجلّ ونعت الرسول عليه السلام والحث على عدم التعصب بين السنة والشيعة والحديث عن شفاعة النبي (ص) التي اختص بها دون سائر الأنبياء لمنزلته الكريمة.

ثم انتقل إلى الحديث عن قصة معراج الطيور، فبدأ الحديث بذكر أن الطيور عقدت اجتماعاً كبيراً للتشاور فيما بينهم من أجل معرفة إله لهم يهديهم ويرشدهم، فأقبل الهدهد لرئاسة هذا الاجتماع، فرحّب به سائر الطيور هادياً ومرشداً لهم، لكونه فريد الحضرة ورسول الغيب مزوداً من الحضرة بالعلم.

ثم بدأ الهدهد في الحديث إلى الطيور لحثهم على سلوك الطريق فأخبرهم بأن جميع الممالك لها ملك يدير أمورها ويمتثل الجميع لأمره ثم اطلعهم بأن لهم ملكاً يدعى السيمرغ يعيش خلف جبل قاف لكن الطريق إليه تكتنفه الصعاب والأهوال ولابد من التحلي بالشجاعة والتضحية بالأرواح حتى يمكن الوصول إليه.

فتحمس الطيور بعد حديث الهدهد لخوض الطريق وإن كان هناك من الطيور من تملكها الخوف فراحت تقدم المعاذير الواهية لمرشدها الهدهد.

ونذكر بعضاً من هذه المعاذير التي تمثل علل البشر لعدم سلوك الطريق الصوفي، فقد اعتذر البلبل بسبب عشقه للوردة فردّ عليه الهدهد بالحجج عن زيف هذا العشق.

كما اعتذرت الببغاء عن المضي لأنها خضر الطيور وتكتفي برشفة واحدة من ينبوع الحياة وقد ردّ عليها الهدهد بأن هذا ليس ينبوع السعادة فلابد من نثر الروح من أجل الحبيب وطلب ماء الحياة منه.

كما تقدمت الصعوة واعتذرت عن عدم المضي لاحساسها بضعفها، فلامها الهدهد لهذا العذر الواهي.

ثم راح الهدهد يشد من أزر الطيور ويقنعها بضرورة السلوك حيث أن العشق أسمى مكانه من الإيمان والكفر ويبين لها رسومه وآدابه.

فاستجابت الطيور للهدهد، وعقدت العزم على سلوك الطريق، وفي أثناء قطع الطريق تقاعس البعض وتخلف، وذلك لقلة إيمانهم وعدم صدقهم في سلوك الطريق، أو لانشغال البعض بما فتن الطريق، كما هلك البعض.

وقد استعرض العطّار هنا أودية الطريق التي تُعدّ هنا المقامات التي يسلكها السالك الصوفي كمراحل لتصفية روحه، حتى يحظى في نهاية الطريق بالمشاهدة الإلهية، التي هي هدف كلّ سالك.

وقد كانت أودية الطريق عند العطّار سبعة وهي : وادي الطلب، وادي العشق، وادي المعرفة، وادي الاستغناء، وادي التوحيد، وادي الحيرة، وأخيراً وادى الفقر والغناء.

وإلى أن قطعت الطيور أودية الطريق السبعة كان قد فنى معظمها، فلم يصل منها غير ثلاثين طائراً إلى الحضرة الإلهيّة.

وعندما نظر الثلاثون طائراً إلى السيمرغ، كان هو نفسه الثلاثين طيراً، وحينما نظروا إلى أنفسهم كانو هم أنفسهم السيمرغ، فغلبتهم الحيرة فجاءهم الخطاب من الحضرة قائلاً بلا لفظ: إن صاحب الحضرة مرآة ساطعة كالشمس، كلّ من يقدم إليها يرى نفسه فيها، ومن يقبل بالروح والجسد يرى الروح والجسد فيها، وحيث أنكم وصلتم ثلاثين طائراً فبدوتم في هذه المرآة ثلاثين طائراً، فلا تدركنا عين، فكيف تدرك عين النملة نور الثريا؟! وكيف تحمل نملة سنداناً؟! وكيف تحمل بعوضة فيلاً بين فكيها؟! لقد سلكتم الأودية من أجلنا، فبقيتم في وادي الذات والصفة فاقدي الأرواح ونحن الجوهر الحقيقي للسيمرغ، فامحوا أنفسكم فينا بعز وإجلال لتجدوا أنفسكم فينا فانمحوا فيه إلى الأبد مثلما ينمحي الظل في الشمس.

وهكذا تحققت وحدة الشهود بين السيمرغ والطيور التي بلغت الحضرة الإلهية.

ب ـ ملامح المعراج النبوي في منطق الطير

بعد أن استعرضنا قضية معراج الطيور في منظومته «منطق الطير»، يتضح لنا أن الشاعر الصوفي الكبير العطّار كان مطلعاً بالثقافة الإسلامية حيث استمد اسم المنظومة من القرآن الكريم من سورة النمل.

كما يبدو أيضاً أن العطّار قد أيقن جيداً المفهوم الحقيقي للمعراج النبوي وعده أرقى سمو روحي للنفس البشرية، وقد لمسنا هذا من خلال المعاني الصوفية التي برزت من خلال منظومته «منطق الطير» وذلك يبدو فيما يلي:

1 ـ استلهم الصوفية من عروج الرسول عليه السلام إلى السماوات السبع برفقة جبريل كمرشد له في الطريق، يجيبه عما يقابله في الطريق من غموض ومعضلات وهو ما تحدثنا عنه عند الحديث عن المعراج النبوي بأنه لابدّ لكل مريد أو سالك من مرشد، ليرشده في الطريق الصوفي، ويحل له معضلات الطريق.

2 ـ استلهم الصوفية من عروج الرسول الكريم السماوات السبع من الأدنى إلى الأعلى حتى بلوغه الى سدرة المنتهى بل وتجاوزه إلى الحضرة الإلهية، الطريق الصوفي الذي يقسم إلى مراحل من مقامات وأحوال ـ وهي التي عرفت عند العطّار بالوديان ـ لابدّ لكل سالك أن يسلكها كي تتطهر نفسه من العلائق الدنيوية حتى يحظى بوحدة الشهود فيفنى في اللّه‏ ويبقى به بعد فنائه.

3 ـ لعلّ وديان الطريق السبعة التي تحدّث عنها العطّار في منظومته وهي تمثل مقامات الطريق عند الصوفية رمزاً للسماوات السبع التي عرجها الرسول الكريم (ص) الذي اتسم بخلقه القويم، فلابدّ لكل سالك يريد المثول أمام الحضرة الإلهية أن يقطعها وقلبه يغمره العشق الإلهي حتى يتطهر من علائق النفس البشرية.

4 ـ كان المعراج النبوي بالروح والجسد، وقد تأثر العطّار بذلك عند وصفه لمعراج الطيور في منظومته، فعندما وصل الثلاثون طائراً إلى السيمرغ، جاءهم الخطاب من الحضرة قائلاً بلا لفظ إن صاحب الحضرة مرآة ساطعة كالشمس، فكل من يقبل عليه يرى نفسه فيها، ومن يقبل بالروح والجسد يرى الروح والجسد فيها.

5 ـ أكد يقين العطّار من خلال حديثه عن وحدة الشهود التي هي أمل كل سالك وهو الغناء باللّه‏ والاتحاد بذاته الإلهية، أن اللّه‏ لا يُرى، وذلك عند حديثه عن بلوغ الثلاثين طائراً الحضرة الإلهية، فلما نظروا إلى السيمرغ، كانوا يروا أنفسهم، فغلبتهم الدهشة والحيرة، حتى جاءهم الخطاب من الحضرة يبلغهم بأنه ليس لأى كائن تدركنا عينه مثلما لا تدرك عين النملة نور الثريا.

هذا وبعد العرض لمنظومة منطق الطير يتضح لنا مدى تأثر الصوفي الرمزي بالمعراج النبوي الشريف الحقيقي، فاتخذه رمزاً بغية الوصول إلى مقام الشهود.

ثالثاً : منظومة جاويد نامه (رسالة الخلود)

أ ـ التعريف بها :

صاحب هذه المنظومة الشعرية الرائعة هو الشاعر الإنساني الشهير والمفكر الإسلامي الكبير (محمد إقبال) (7) وقد نظمها في ألف وتسعمائة وتسعة وخمسين بيتاً من الشعر، وتعد منظومة رسالة الخلود أروع أعمال الشاعر محمد إقبال، بل وتعد كوميديا إلهية شرقية، حيث استطاع إقبال من خلالها أن يعبّر عن آرائه المختلفة المتعلقة بالمجتمع الإسلامي الذي يعيش فيه.

وهذه المنظومة عبارة عن عمل متكامل مستقل يتناول قصة معراج روحي عبر الأفلاك يتناول من خلاله الشاعر محمد إقبال ماهية حقيقة الخلود للنفس البشرية بابداع رائع اكسبها الخلود مثل إسمها.

وقد حظيت هذه المنظومة منذ أن نشرت بالفارسية عام 1932 م بمكانة عالية على مستوى الشرق والغرب.

فبدأ الغرب بالاهتمام بترجمتها إلى اللغات الأوروبية المختلفة منذ الخمسينات من القرن الماضي فترجمت إلى اللغات الإيطالية، والألمانية، والإنجليزية، والفرنسية.

كما ترجمت في الشرق أيضاً إلى عدة لغات شرقية مختلفة، فترجمت إلى السندية عام 1965 م، وإلى البشتونية عام 1967 م، وإلى الأُردية عام 1970 م.

وكان الدافع للشاعر محمد إقبال إلى نظم منظومته جاويد نامه هو أنه طاف بلدان العالم الإسلامي، ورآه قد سقط في براثن الاستعمار والشيوعية، وفتنه بريق الغرب، فأصبح أسير المادة ونسى خالقه، مما أدى إلى فقدان التآخي والتضامن بين أفراد المجتمع الإسلامي، فسيطر عليه الشعور بالغربة وسط مجتمعه والأسر في هذا الزمان، فتاقت نفسه إلى الدعوة من أجل إنقاذ الإسلام والمسلمين في هذا العالم الصاخب.

لذا قام بنظم منظومته الرائعة جاويد نامه ـ أي رسالة الخلود ـ وذلك من خلال قصة معراج للروح الإنسانية إلى اللّه‏ تعالى بعد أن اقتنع أن على المؤمن أن يرضى بالذات الإلهية دون هذا العالم، وأن يتخذ الرسول محمداً صلّى اللّه‏ عليه وسلّم قدوة، الذي غادر الكون وما وراؤه متجهاً إلى اللّه‏ عزّ وجلّ، وذلك ليتلقى من الحق تعالى تعاليمه، فيعود إلى الأرض وينظم حديثاً إلى شباب الأمة الإسلامية ممثلاً في ابنه جاويد ـ أي الخالد ـ حيث أن الشباب هو الذي يعقد عليه الأمل والمستقبل من أجل تصحيح مسار الأمة الإسلامية.

وكان ذلك نابعاً من إيمان إقبال العميق بأن الروح المسلمة وأمة الإسلام لابد لهما من الخلود رغم كل فساد العالم.

من هنا كان سبب تسمية الشاعر إقبال لمنظومته باسم رسالة الخلود.

وإذا استعرضنا موضوع قصة معراج رسالة الخلود، نجد أن الشاعر الكبير محمد إقبال قد استهل منظومته بدعاء اللّه‏ ينطوي على احساس عميق بالغربة في هذا العالم، فهو يفتقد الخلّ والصديق، مكبل بقيود الزمان والمكان، فيتضرع إلى اللّه‏ أن يحرره من أسرهما حتى ينطلق إليه قائلاً ما ترجمته: «وجهك إيماني أنا ـ قرآني أنا، فوجهك هو هدفي الأسمى ومطمحي الأعلى، فلا تبخل عليَّ يا ربّ بالتجلي، إنني ألفيت نفسي غريباً تحت السماء، فهيّا يا ربّ وقل لي: آني قريب».

ثم يواصل هدفه في الخلود فيقول ما ترجمته: «أنا فانٍ فاجعلني يا إلهي خالداً، حررني من هذا التراب واجعلني سماوياً».

فإذا بروح الشاعر الصوفي الكبير جلال الدين الرومي تخترق الحجب وتقبل إليه، ويدور حوار بينهما حول معنى المعراج، فيصفه الرومي بأن ثورة في الشعور، ويقول أن المؤمن لا يقنع بهذا العالم الذي تتجلى فيه صفات الرحمن ولا يرضى ـ كالمصطفى (ص) ـ إلاّ بالذات الإلهية نفسها، فلقد ترك الرسول (ص) الكون كلّه وما وراء الكون واتجه إلى اللّه‏ وحده.

فتتوق نفس إقبال إلى العروج بعد هذا الحديث، حينئذ تظهر روح الزمان والمكان في صورة ملك، ينظر إلى إقبال نظرة تجعل جسمه خفاقاً، لينطلق في رحلة معراجية بصحبة الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي مرشداً له ليجوبا بعض الأفلاك.

وكان أول فلك هبط عليه إقبال وبصحبته الرومي القمر، فشاهد جبال القمر، ثم مضى به الرومي إلى غار في بطن جبل من الجبال، فالتقيا بعارف هندي، ودار حوار بينهم عن صلة العبد بربّه وبعالمه، ثم انتقلا إلى وادٍ من أودية القمر يطلق عليه الملائكة اسم (وادي الطواسين) كان يوجد به أربع صخرات كبيرات كتبت على كل واحدة منها الملامح الرئيسية للجانب الأخلاقي تعاليم بوذا وزردشت والمسيح ومحمد (ص).

وقد صور في طاسين محمد عليه الصلاة والسلام على لسان أبي جهل ـ ألد أعداء الرسول عليه الصلاة والسلام ـ من ثنايا شكواه من النبي (ص) بسبب قضائه على الجاهلية، الدور الذي لعبته الرسالة المحمدية في تطور التاريخ البشري.

ثم انتقالا إلى الفلك الثاني وهو عطارد فالتقيا بالمصلحين السيد جمال الدين الأسدآبادي المشهور بالأفغاني ورفيقه في هذا الفلك سعيد حليم باشا السياسي التركي فسأل السيد جمال الدين إقبال عن أحوال العالم الإسلامي، فاشتكى له إقبال سوء أحوال المسلمين وضعفهم بسبب ما لحق بهم وبالعالم من جراء الاستعمار والشيوعية.

كما اشتكى إقبال عدم دراية المسلمين بالعالم القرآني، فشرح له السيد جمال الدين محكمات العالم القرآني التي يقوم عليها العالم، ثم أخذ يشكو بعد ذلك حالة الموت التي ألمت بالعالم الإسلامي وتطهيرها من علائق الدنيا، أما في منظومة جاويد نامه فكان هدف المعراج هو توثيق الدعوة الاصلاحية الإسلامية وإكسابها قوة وعمق تأثير في نفس متلقيها.

وفي ختام بحثنا نوجز القول بأن معجزة المعراج النبوي الكبرى قد ألهبت أخيلة الشاعرين الكبيرين العطّار وإقبال فنجحا من خلال إبداع أدبي متميز في توظيف المعراج بما يخدم هدفين رائعين من روائع الشعر الفارسي، الهدف الأول صوفي في منظومة منطق الطير والآخر اصلاحي في منظومة جاويد نامه.

ومما لا شك فيه أن هاتين المنظومتين تؤكد حقيقة أكيدة وهي أن الصلات اللغوية والأدبية بين العربية والفارسية تغوص بجذورها إلى ما قبل الإسلام، وقد قويت دعائمها وتوثّقت بعد الإسلام، وقد تجسدت هذه الدعائم في مدى تأثر هاتين الرائعتين الفارسيتين بالمعراج النبوي صاحب المعجزة الإلهية الكبرى.

والسلام عليكم ورحمة اللّه‏ وبركاته.

أهم المصادر والمراجع

أولاً: المصادر والمراجع العربية :

ابن عربي:

1 ـ رؤية اللّه‏القاهرة

أ.د. بديع جمعة :

2 ـ دراسات في الأدب المقارن (الطبعة الثانية) بيروت 1980

3 ـ من روائع الأدب الفارسي (الطبعة الثانية) بيروت 1980

4 ـ منطق الطير القاهرة

متولي الشعراوي:

5 ـ معجزة القرآن (الجزء الثاني) القاهرة

6 ـ المعجزة الكبرى القاهرة

أ.د. محمد السعيد جمال الدين :

7 ـ الأدب المقارن القاهرة

8 ـ رسالة الخلود القاهرة 1974

أ.د. ملكة على التركي:

9 ـ مدخل إلى الأدب الصوفي الفارسي القاهرة 1998

ثانياً : المصادر والمراجع الفارسية :

فريد الدين العطّار:

10 ـ منطق الطير تهران

11 ـ جاويد نامهطبع 1945 م

الهوامش



________________________________________

1. دانتي الياري = Dant Alighieri (1265 ـ 1321 م)، أعظم شعراء إيطاليا ومن رجالات الأدب العالمي، خلد اسمه بملحمته الشعرية «الكوميديا الإلهيّة».

2. هو دابّة بيضاء فوق الحمار ودون البغل.

3. سورة الإسراء، الآية 1.

4. سورة النجم، الآية 18.

5. فريد العطّار: أحد مشاهير الصوفيّة العظام، ولد سنة 545 ه بمدينة نيسابور وعاش بها وتوفي بمسقط رأسه وقبره فيها. ألمّ بأنواع العلوم والمعارف السائدة في عصره وترك العطّار أعمالاً كثيرة في مقدمتها رائعة أعماله «منطق الطير»، وأهمّها تذكرة الأولياء، بندنامه، اسرارنامه، خسرونامه، الهى‏نامه، مصيبت‏نامه.

6. السيمرغ: كلمة فارسيّة مركبة من «سي» أي الثلاثين، و «مرغ» بمعنى الطائر، أي بمعنى الثلاثين طائراً، ويطلق هذا اللفظ على العنقاء، وهو طائر خُرافي كان ذا مكانة في إيران قبل الإسلام.

7. ولد محمد إقبال بالهند سنة 1877 م، وتربّى منذ صغره تربية إسلاميّة، وقد حصل على ليسانس الآداب من كلّية الحكومة في لاهور، وعمل معيداً في نفس الكلّية ونال درجة الماجستير في الفلسفة منها أيضاً، ثم سافر إلى لندن حيث درس هناك ثلاث سنوات، ثم رحل إلى ألمانيا ونال درجة الدكتورا سنة 1970 م. وبعد ذلك عاد إلى وطنه حيث شرع دعوته الإسلامية. وله دواوين شعرية بالفارسية والأورديّة.


View shamasnah's Full Portfolio
tags: