حلم شرقي

Folder: 
قصص قصيرة

قصة قصيرة....... كُليزار أنور

حلمٌ شرقي

حينَ أبلغني رئيس القسم بأني سأجري لقاءً مع شخصيةٍ غريبة الأطوار تعيش في أحد الجبال تخيلت بأني سأُقابل رجلاً طاعناً في السن خبر الحياة والتجربة ومَلَ منهما ليأخذ فرصة أخيرة حيث السكون والتأمل.

كانَ لابد لي من زيارةٍ قصيرةٍ قبل التصوير لتنظيم الحلقة الجديدة من برنامجنا ((على ضفةِ الحياة)). وقفت السيارة أسفل السفح.. وترجلنا صعوداً _أنا والمصور_ إلى حيث يسكن الرجل الفريد باختياره كما وُصفَ لنا . ولكوني _ أصلاً _ من منطقةٍ جبليةٍ، فلم يكن الأمر صعباً عليّ أو غريباً.. بل بالعكس، فأنا ابنة الجبال.. وكم أخذتنا الدروب نحوها. مدرج محفورٌ في الصخر وعلى الجانبين تبدو الأرض سجادة خضراء تطرزها أنواع شتى من الأزاهير.. والغالب كان من النرجس وشقائق النعمان المنسقة بألوانها بين أحمرٍ قانٍ وبنفسجي وأصفر. سلكنا درب اليمين وبعدها دخلنا ثنيةً ضيقة أشبه بالمضيق.. ووصلنا إلى فسحةٍ تصورتها صعوداً، وبدت عندما اقتربنا أرضاً منبسطةً وهذهِ الفسحة قادتنا إلى انحناءةٍ.. وقابلنا المنظر. هناك كانت المفاجأة الكبرى!

تصورتُ وأنا أتهيأ للقاء الرجل بأني سأجدهُ في خلوةِ متصوفٍ أو أشبه ما يكون بالغار، وإذا بي أمام قصرٍ أبيض واجهتهُ من الرخام.. يقف على بابه رجل أنيق الملبس، وسيم الطلعة. قلتُ للمصور:

- ربما هو أحد أصدقائه.

فأجاب:

- حتماً.

تقدم نحونا قبل أن نصل إليه.. رحبَ بنا بمصافحةِ ودٍ جميلة.. ودخلنا المكان الذي تصورتهُ صومعة! البوابة البيضاء قادتنا إلى باحةِ القصر المتألقة بجماليتها الساحرة.. أشجار تتعانق بطولها، زهور تتمايل بحسنها، نافورات مرمرية ، عصافير، سناجب، ببغاوات. رفعتُ نظري وإذا بشرفةٍ مقوسةٍ تقابلني تتدلى منها نباتات الزينة فرحة، نضرة، باسمة للربيع. وقادنا إلى داخل القصر.. جلسنا على الأرائك الفاخرة.. كنتُ أجول بنظري بين تلك التحف النادرة بتصميمها الفني البارع، فكل الجمال والسمو والذوق يسكن هنا. رحبَ بنا ثانيةً.. وصبَ لنا القهوة من (دلةٍ) على (منقلٍ من الفحم). كل هذا الوقت وأنا مازلتُ في انتظار ذاك الرجل الذي سأُهيئ اللقاء معهُ. وتفاجأتُ مرة أُخرى عندما ذكر اسمه من خلال سياق الحديث ، فقلت باندهاش غريب:

_ أنت ؟!

_ نعم .

_ لكنك

وقبلَ أن أُكمل أجاب :

_ وهل كُنتِ تتصورين بأنكِ ستقابلين شيخاً ؟

_ بصراحة .. نعم .

المعلومات التي حصلتُ عليها تقول: انهُ رجل خريج كلية الهندسة.. درسَ في فرنسا وعاشَ فيها.. متزوج ولهُ ولدان. حينَ استعرضتُ في ذهني ما أعلمهُ عنه.. قلت له بمباغتة:

_ أتعيش هنا وحدك ؟

_ أجل .

أجابَ بها فقط .. لم يكمل ، فقلت :

_ أينَ زوجتك .. أولادك ؟؟

وبصوتٍ خفيض يشوبه الحزن :

_ زوجتي غادرت منذ زمن .

_ أين ؟

وكأني أستجوبه.. خجلتُ من سؤالي بهذهِ الطريقة.. اعتذرت، فرد بابتسامة ناعمة:

_ المرأة تغادرنا أما بالموت أو الخيانة !

وصمت.. ورأى في عينيّ السؤال عن كيفية مغادرتها:

_ ماتت قبلَ سنتين.. هناك. كانت رمزاً جميلاً للوفاء والجمال. وحدها التي أضاءت بيتي وقلبي وحياتي.. لكنها غادرت.. وغادرت معها الأيام الجميلة. لم تعد تعود إلينا إلاّ كزائر مساء. مازالَ طيفها ينغص هدوء حياتي.. مازالَ وجهها أمامي يأمر أجفاني ألا تغمض على سواه! اني أحتقر الأسى الذي لا فائدة تُرجى منه، وأزدري النحيب. ستبقى ذكراها في الفؤاد باقية، حية مادام يخفق بالحياة.

_ وأولادك ؟

_ أحدهم يدرس في أمريكا والآخر في ألمانيا.. ولكلٍ منهما حياته الخاصة.. نحـاول أن نلتقي في يومٍ واحد كل سنة.. في ذكرى موتها!

وأخذنا بجولةٍ حول القصر.. مكانُ تلفهُ موسيقى كونية رائعة.. أرانا برج الحمام الذي يربيه.. كلهُ حمام أبيض، فأسأل:

_ لماذا الحمام ؟ ولماذا الأبيض بالذات ؟

_ لأنهُ رمز السلام والبراءة .

نظرتُ إلى السماء. وجدتُ طيوراً حرة تُحلق من بعيد.. قلتُ له:

_ ألا تحاول صيدها .. انها ثمينة جداً ، لو بعتها ؟!

قاطعني بحدة :

_ أنا أكره الصيد .. والله خلقها حرة !

_ لماذا تُخفي كل هذا عن العيون ؟!

_ هناك أسطورة تقول: " ان الطبيعة هي التي تصنع وتبدع الألوان والكلمات. في حين ان الإنسان يحاكيها، وذلك من أجل إرضاء السماء لكي ينال الخير ويحصل على قدر كبير من السعادة".

_ وهل حصلت على السعادة التي تنشد ؟

_ وبالضبط .

في نهاية لقائي أدركت بأن هذا التخفي أشبه بتخفي امرأةٍ ذات حُسنٍ أخاذ.. أخفى خمارها سحر جمال انوثتها. وبأنَ ما رأيتهُ لم يكن نزوة لثري بل تجسيد واضح لروحِ حُلمٍ شرقي!

www.postpoems.com/members/gulizaranwar

View gulizaranwar's Full Portfolio