بائع الحلوى



بائع الحلوى

قصة: د.طارق البكري



(1)

في صباح شتوي لطيف، فتح يوسف شباك غرفته، ليستقبل نهاره الجديد.

سرَّ يوسف وهو يستمع إلى زقزقة العصافير، ويتأمل وداعة خيوط الشمس الدافئة، المنسكبة بحنان على أغصان الأشجار العارية الممتدة على جانبي الطريق.

تنشق يوسف عطر الصباح المغسول بماء المطر، والمفروش بالضياء، فغمرته سعادة ظهرت على وجهه، وصار الهواء المنعش الرطب يداعب شعره الناعم.

(2)

رأى يوسف خيال رجل قادم من بعيد، إنه العم الطيب صلاح، بائع الحلوى اللذيذة، يدفع أمامه عربته الخشبية، التي تحمل صندوقًا زجاجيًا يلمع باستمرار، وبداخله أصناف من الحلوى يسيل لها اللعاب.

العم صلاح يهتم بالنظافة، يحفظ الحلوى في صندوق مغلق، لا يصل إليها الغبار، ولا تهاجمها الحشرات الضارة، لا يلمس قطع الحلوى بيده، بل يستخدم أداة خاصة لحملها، ثم يضعها في علب بلاستيكية صغيرة، يقدمها للمشترين في أكياس شفافة، وبذلك اكتسب العم صلاح محبة الكبار والصغار لجودة بضاعته ولإخلاصه في عمله ونظافته وحبه للآخرين.



(3)

اقترب العم صلاح من نافذة يوسف، وقال: >هل أنت مريض يا يوسف؟! لقد دخل جميع طلاب مدرستك فصولهم وأنت لا تزال في بيتك!!<

قال يوسف: >أعجبني هذا الصباح الجميل<.

قال العم صلاح: >هيا يا يوسف.. أسرع إلى مدرستك، لا تكن كسولاً<.

قال يوسف: >حاضر يا عم صلاح.. سأنزل حالا<.

(4)

خرج يوسف من بيته، فقال العم صلاح: >هيا.. اركض كيلا تتأخر أكثر<.

لم يهتم يوسف بكلام العم صلاح، وأخرج من جيبه ورقة نقدية يريد أن يشتري قطعة من الحلوى...

قال العم صلاح: >أنت متأخر عن مدرستك وتريد أيضًا أن تضيِّع وقتًا إضافيًا بأكل الحلوى؟! لن أبيعك أي قطعة حلوى، ولو دفعت لي ثمنًا مضاعفًا، سأمنع عنك الحلوى اللذيذة حتى لا تتأخر مرة ثانية<.



(5)

فوجئ يوسف بموقف العم صلاح، ولما هَمَّ بالذهاب، قال العم صلاح بهدوء: >أعدك أنني سأعطيك غدًا أكبر قطعة من الحلوى مكافأة لك لو خرجت إلى المدرسة في وقت مبكر<.

يوسف غضب جدًا من العم صلاح، وقال: >لا أحتاج لأية قطعة حلوى تأتيني منك.. لن أشتري منك شيئا بعد اليوم، ابتعد عن طريقي، سوف أطلب من كل أصدقائي ألا يشتروا منك<.

تبسم العم صلاح، ووعده بقطعتين من الحلوى لو التزم بما طلبه منه؛ الأولى مكافأة له على نشاطه، والثانية ليعرفه أنه يحبه ويهتم به أكثر من المال.



(6)

قضى يوسف نهاره يفكر، هذا الرجل الفقير المسكين، الذي لا يملك شيئًا، يريد أن يعطيه قطعتين من الحلوى دون مقابل؟! وصار يردد في قلبه: >لا شك أنه يحبني<، وقرر الاعتذار منه فور خروجه من المدرسة.

شعر يوسف أن بائع الحلوى حريص على العلم رغم أنه لا يعرف القراءة والكتابة، ولذلك يريد الصغار أن يتعلموا، لأنه يحب العلم كما يقول دائمًا، حتى انه يسأل التلاميذ أحيانًا أن يقرأوا له الحروف ليتعلمها.

وقال يوسف: >لقد كان العم صلاح كريمًا ولطيفًا ونصوحًا، فكيف أرد إحسانه بالإساءة، لقد فعلت خطأ جسيمًا.. فهل سيقبل اعتذاري؟ بالتأكيد سيقبله.. فهو طيب القلب..<

وظل يوسف طوال اليوم مشغول الفكر..



(7)

بعد انتهاء دوام المدرسة خرج يوسف مسرعًا ليعتذر من العم صلاح، الذي كان غالبًا ما يقف بعربته وصندوقه الزجاجي أمام مدخل المدرسة.

لكن العم صلاح لم يكن موجودًا في مكانه المعتاد..



(8)

عاد يوسف إلى البيت حزينًا لأنه لم يتمكن من الاعتذار للعم صلاح، >لقد كان العم صلاح أفضل مني ــ فكر يوسف ــ رغم أني كنت قاسيًا معه كان لطيفًا معي، لم يقل لي كلمة تزعجني، فكل ما يريده مصلحتي.. فهو رغم فقره الشديد سيكافئني لو التزمت بأمر هو واجب عليَّ.. مسكين يا عم صلاح.. كم أخطأت في حقك؟!<

وظل يوسف على هذه الحال طوال النهار.

وبعد أن ذاكر دروسه وأكمل جميع واجباته.. ذهب إلى فراشه وغرق في نوم عميق.



(9)

في صباح اليوم التالي، قام يوسف من فراشه مبكرًا، وجهز نفسه بنشاط، وخرج إلى مدرسته، لكنه لم يجد العم صلاح في الطريق، وقف يوسف أمام باب المدرسة.. وراح ينظر في كل اتجاه.. لكن العم صلاح لم يظهر، فدخل المدرسة كيلا يتأخر عن صفه.



(01)

بعد انتهاء المدرسة كان الطلاب يسألون عن العم صلاح، فقرر يوسف أن يسأل عنه في بيته.

وكان العم صلاح يسكن في سرداب بيت قديم هو وزوجته العجوز، ولم يكن عندهما أولاد، وكان الناس يقولون: >إن ابنهما الوحيد مات منذ زمن بعيد<.



(11)

قرع يوسف باب بيت العم صلاح ففتحت له امرأة عجوز، سألها: >أين العم صلاح<؟

فقالت بحزن: >إنه مريض في الداخل وحرارته مرتفعة جدًا<.

قال: >ولماذا لم يذهب إلى المستشفى؟<

قالت: >أنا كبيرة بالسن.. وهو لا يستطيع الوقوف على قدميه من شدة المرض<.



(21)

أسرع يوسف واتصل برجال الإسعاف ونقلوه إلى المستشفى وقام الأطباء بمعالجته، وقالوا لا بد أن يظل يومين في المستشفى، وعليه أن يرتاح في المنزل أسبوعًا كاملاً قبل أن يعود إلى العمل.



(31)

انتشر خبر مرض بائع الحلوى في جميع أنحاء الحي، فقرر يوسف وأصدقاؤه أن يجمعوا مصروفهم اليومي ويقدموه للعم صلاح حتى يشفى ويعود للعمل، وجمعوا نقودهم، وكلفوا يوسف تنفيذ المهمة.



(41)

في المساء عاد يوسف إلى بيته، وأخبر والديه بما حدث.. ففرحا جدًا بإنقاذ العم صلاح وتعاون جميع أصدقائه.. وراحوا جميعًا يدعون له بالشفاء.

دخل يوسف غرفته، وذاكر دروسه ثم نام من شدة التعب.



(51)

في صباح اليوم التالي خرج يوسف مبكرًا إلى المدرسة... فوجئ بالعم صلاح أمام مدخل بيته، يحمل قطعتين كبيرتين من الحلوى، قال العم صلاح: >لقد كنت متأكدًا أنك لن تتأخر مرة ثانية عن المدرسة، لذلك حضرت إلى هنا وانتظرتك<.

(61)

لاحظ العم صلاح دمعة تسقط على خد يوسف، فسأله عن السبب.. فقال له: >لقد حلمت بك هذه الليلة؛ لقد كان كابوسًا مريعًا<.

وحكى له يوسف حكاية الحلم.

ضحك العم صلاح وسأله:

>هل ستفعل مثلما فعلت في منامك لو وقع ذلك لي في الحقيقة؟<

فقال يوسف بلا تردد: >لا نتمنى لك إلا الصحة والعافية، آسف يا عم صلاح.. لقد أخطأت في حقك.. أعدك أني لن أتأخر مرة أخرى عن المدرسة<.

فقال العم صلاح: >هيا اذهب إلى المدرسة الآن.. قبل أن يتأخر الوقت<.

اقترب يوسف وقبّل رأس العم صلاح ثم مضى مسرعًا إلى المدرسة.

View bakri's Full Portfolio