قصيدة العودة إلى سنار بين الشاعر والقصيدة





العودة إلى سنار (الشَّاعر):

كتب الشاعر محمد عبد الحي هذه القصيدة في عام 1962 وبعملية حسابية بسيطة ندرك أنه كتبها وهو بعد في الثامنة عشرة ربيعاً.* ونشرت سنة 1963. ولكن من المعروف أن هذه القصيدة كتبها الشاعر أكثر من سبع مرات وكأنها جزء من سجل حياته تنمو معه نضجاً وعمقاً كلما نضج هو وكبر.

حيث يقول عنها:

"تحولاتها ـ تحولاتي (هل أنا غير حصاة، تتبلور فوق جمر الأغنية؟؟ منذ أن كتبت ثم نشرت في الرأي العام في ديسمبر 1963 وحوار 1965 وتم كتابتها مرة أخرى وأخرى في يوكشير وأكسفورد".

وقد ذكر الشاعر وسوغ كتابتها مرات ومرات وما تمثله هذه القصيدة في نفسه يخبرنا قائلاً: "لسبب ما فعل ذلك أليوت بمسودات الأرض اليباب ربما أراد أن يتخلص من وزره، وأفعل ذلك تخلصاً من أثمي الخاص. لقد أصبحت القصيدة مركزاً جاذباً لقواي الشعرية، إذا لم أتخلص منها ستظل تجتذبني وذلك مضر. لقد أضر بأذراً باوند في أناشيده فقد أصبحت ديناصوراً شعرياً يصعب التحكم فيه ولا يشبع أبداً مهما ألقمته من الكلمات والكلمات".

فهي إذن بالنسبة له تطهر من إثمه الخاص. ولكنها كما ذكرت سابقاً تمثل تأريخه الفكري وقد نمت معه "وربما كانت (العودة إلى سنار) دفعة من كيان الفنان في شبابه حينما رغب مثلما ـ رغب جويس في أن يشكل في مصهر روحه ضمير أمته الذي لم يخلق بعد. وربما كانت فتحاً آخر. وإلا كيف أفسر أنها كتبت سبع مرات أو نحو ذلك كأنها تدرج من مقام إلى مقام حيث تأريخ الذات وتأريخ القبيلة شيء واحد".

إن اهتمام محمد عبد الحي بتأسيس خطاب الهوية السودانية، جعله يسقط رغبته هذه في هذه القصيدة التي يعدها الشاعر رحلة من مواطن البراءة الأولى حيث قيل:

"اهتمام محمد عبد الحي بالأسطورة والتأريخ والمسرح وكل المكونات التراثية محاولة منه للعودة إلى نبع البراءة الأولى ـ في التأريخ السوداني توقف عند مروي وهي حضارة سودانية عظيمة ولكنه تجاوزها إلى سنار باعتبارها الأكثر حضوراً في الذات السودانية".

ولكن في المقابل نجد أن محمد عبد الحي كان دائم النفي لتوجه هذه القصيدة السياسي ويرى أن البعض قد حملها تحاميل لم يرم هو إليها. حيث قال في واحدة من رسائله لأحد أصدقائه:*

"وقد ظهر الجزء الثاني من حلقة النقاش التي أدارتها سلمى الخضراء الجيوشي. وبدأت أحس أن القصيدة قد تستعمل لأسباب سياسية هي ليست فيها ومنها. أريدهم أن يلتزموا أكثر بقضايا العرب وقضايا الأفارقة، ولكنهم الآن يهربون من الاثنين ويخافون الالتزام بالأبعاد العميقة للثقافة السودانية. وأهم من ذلك أريدهم أن يعرفوا أن الإدراك الثقافي ما هو إلا وسيلة لإدراك أعلى وأعمق ولكن القصيدة نفسها صورة وأحلام وكوابيس وتشنجات إيقاعية، ونشوة، ورعب وشيء من المعرفة الحدسية الشعرية فهي اللغة ومن اللغة وللغة".

وتأكيداً لما سبق نجد الشاعر يقول في مقام آخر: "ما تقدمه القصيدة ليس فكراً سياسياً أو قومياً. إنها تأكيد للجوهر الديني للوجود الإنساني وهذا الجوهر وحده هو أصل الملامح المتعددة للإنسان وأفعاله وتبقى القصيدة كالشجرة وجودها في حد ذاتها. ولا تترجم إلى عناصر أو أشكال غير ما هي فيه".

وقد يكون الشاعر قد اختار موضوع هذه القصيدة وأسماها العودة إلى سنار تأثراً بالحركة التي قادها مجموعة من الفونج والمثقفين قبيل الاستقلال بقيادة خضر عمر التي تدعو إلى أن يسمى السودان بجمهورية سنار باعتبار أن سنار هي رمز أو بداية حقيقية لتكوين السودان الحالي حيث تجاوز بين العناصر العربية والعناصر المحلية.

ونرى أن هذه القصيدة لقد حظيت بكثير من الدراسات التي كتبت بواسطة نقاد سودانيين أو عرب ومنهم على سبيل المثال وليس الحصر: سلمى خضراء الجيوشي* وعبده بدوي** ومجذوب عيدروس*** وسيد أملس**** وما زال بها متسع يستحق الاهتمام والكتابة.

العودة إلى سنار (القصيدة):

تتكون قصيدة العودة إلى سنار من خمسة أناشيد. جعل الشاعر لكل منها عنواناً، وهي على التوالي:

نشيد البحر، نشيد المدينة، نشيد الليل، نشيد الحلم، نشيد الصبح. فالبحر يقابل اليابسة المتمثلة في المدينة والليل يقابل الصبح والحلم هو تأليف لهذه الأضداد.

فالقصيدة هي تأريخ لمكان، ولكنه مكان ينتفي فيه الزمان، حيث أن صوت "الأنا" في القصيدة: (لعلّه الشاعر نفسه). رحالة جوال، ولكن ترحاله وتجواله ليس مكانياً، إنما زمانيٌّ، فهو يترحل ذهاباً وإياباً، عبر حقب تأريخ المكان. فهو يخترق حاجز الزمان حيث ينفذ إلى الماضي، ثم يعود إلى الحاضر وفي تجواله هذا يبحث عن الحق، حذوه حذو أبي يزيد البسطامي. ولكن يجد أن البسطامي أوفر حظاً منه، إذ أن أتاه هاتف قبل تعمقه في رحلته، وأخبره أن الحق حيث خرجت فرجع ولزم الخدمة، حتى فتح له. أما رحالة العودة إلى سنار فقد تجشم عناء الرحلة والسفر من البداية إلى النهاية. وكذلك عذابات التجريب والإخفاقات. حيث عاد إلى موطنه بحثاً عن الحق، بعد أن غادره بحثاً عن الحق، ولم يبلغ مبتغاه في دار الغربة، فأتى إلى الوطن لغربة من نوع آخر وهي غربة عن الحق.

ويبدو "الأنا" هنا وكأنه بطل أسطوري، له قوة خارقة، وقدرة على النفاذ عبر الأزمنة المختلفة. فهو عند وصوله إلى أهله في المملكة الزرقاء، استقبله أهله بكل زخمهم وحبهم، ولكنه ما زال يحس بغربته المعرفية، ويتوق إلى الترحال للبحث عن الذات والحقيقة. ولكن بوجوده في المملكة الزرقاء، لم يجد كل ذاتيته بل رأى جزءاً منها، ولكنه يبحث عن الحقيقة، والحقيقة لا تكون إلا كاملة. ولذلك يتوغل مرة أخرى في الزمن ليقف على الحضارة المروية ولكن أيضاً لا يجد مبتغاه ولا تكتمل الحقيقة. ولكنه يعرف جزءاً من التكوين في رحلته هذه.

وترقص في الأجراس وفي الديباج

امرأة تفتح باب النهر وتدعو

من عتمات الجبل الصامت والأحراج

حرّاس اللغة ـ المملكة الزرقاء

ذلك يخطر في جلد الفهد،

وهذا يسطع في قمصان الماء.

الليلة يستقبلني أهلي:

أرواح جدودي تخرج من

فضة أحلام النهر، ومن

ليل الأسماء

تتقمص أجساد الأطفال

تنفخ في رئة المداح

وتضرب بالساعد

عبر ذراع الطبال

الليلة يستقبلني أهلي:

أهدوني مسبحةً من أسنان الموتى

إبريقاً جمجمة

مصلاة من جلد الجاموس

رمزاً يلمع بين النخلة والأبنوس

وكانت الغابة والصحراء مثل امرأة عارية تنام على سرير من البروق، في حالة انتظار لذلك الثور* الخارق وهو يرمز إلى الثقافة الإفريقية حيث يكون الوجه والقناع** شيء واحد. والقناع يرمز إلى الثقافة الإفريقية، والوجه إلى الثقافة

العربية وتوحدهما معاً يخلقان هذا الخلاصي في مملكة البراءة وهي سنار.

وكانت الغابة والصحراء

امرأة عاريةٌ تنام

على سرير البرق في انتظار

ثورها الإلهي الذي يزور في الظلام

وكان أفق الوجه والقناع شكلاً واحداً

يزهر في سلطنة البراءة

وحمأ البداءة

ثم يبدأ النشيد الثاني، المدينة حيث يطلب الرحالة أن تفتح له الأبواب، وبالفعل تفتح له الأبواب ليدخل إليها عائداً هل هي عودة من سفر حقيقي وغربة عن الوطن؟ أم عودة معرفية بعد غربة عن المعرفة. ولكنه عاد وفتحت له الأبواب أي عودة هذه؟! عاد هو يغني بلسان ويصلي بلسان. فهو عندما يغني ويعبر عن ما يجيش بنفسه فإنه يستخدم لغته الأولى وهي اللغة الأولى لعلها اللغة المروية، ولكن عندما يصلي يصلي بلغته الجديدة المكتسبة. فهو قبل أن تنتفي الغربة المعرفية لديه، كان لسنين طويلة مستلفاً له لغة ليست هي لغته ورؤيا ليست له، ولهذا خرج مغامراً يبحث عن ساحرة الماء الغريبة علها تقدم له إجابات على استفهامات غامضة كثيرة. وهو في بحثه هذا كان مستسلماً للبحر ليأخذه إلى سنار، وهنا تنتفي إرادته. وإنه في بحثه هذا، يحلم بأرض خلقت خصيصاً للغرباء. وهناك حيث يضاجع حوريات البحر إله البحر إلى آخر ما يقوله الشعراء .. وهي أرض أسطورية لا وجود لها.

أنا منكم. تائه عاد يغني بلسانٍ

ويصلي بلسان

من بحار نائيات

لم تنر في صمتها الأخضر أحلام المواني

كافراً تهت سنيناً وسنينا

مستعيراً لي لساناً وعيوناً

باحثاً بين قصور الماء عن ساحرة الماء الغريبة

مذعناً للريح في تجويف جمجمة البحر الرهيبة

حالماً فيها بأرض جعلت للغرباء

ـ تتلاشى تحت ضوء الشمس كي تولد من نار المساء ـ

ببنات البحر ضاجعن إله البحر في الرغو ..

(إلى آخره مما يغني الشعراء!)

وفي ترحاله هذا بحثاً عن الحقيقة، رأى فيه الأهوال، والغرائب، والعجائب، ولكنه في داخله دائماً يتساءل هل يا ترى سيرجع يوماً إلى بلاده. ولكم تمنى أن يكون له طائر يحمله إلى بلاده. ولكن عند رجوعه يريد أن يكون ملماً بالحقيقة الكاملة، وعارفاً لها. وكان صحوه هو الحلم، وكان الحلم هو همه الأوحد في تلك الذاكرة الأولى لأيام مروي المنسية. وأحلام قبيلته التي ينتمي لها بين موتاه حيث جذوره وتأريخه، وأقاصيص الطفولة الحلوة. وعندما يفتح الحراس الأبواب له يدخل وفي التو يحس بالالفة والدعة، والتأقلم لينام مثل نوم طفل الماء في الحصى، والطير في أعشاشه، والسمك الصغير في أنهاره، وفي غصونها الثمار، والنجوم في مشيمة السماء. أي الرجوع من غير المألوف إلى المألوف.

ونمت

مثلما ينام في الحصى المبلول طفل الماء

والطير في أعشاشه

والسمك الصغير في أنهاره

وفي غصونها الثمار

والنجوم في مشيمة

السماء

وفي النشيد الثالث الليل، نعرف أن المدينة رحبت بالرحالة، وضمته إلى حضنها الحنون. وأدهشته رؤية الأنهار العظيمة، والبروق والرعود، التي ذوبته في الوجود ليصبح جزءاً لا يتجزأ منه. وفي ظلام الليل يحدث له هذا الكشف التصوري، حيث ترجع الأشياء إلى شكلها القديم المعهود، ويرجع إلى بدايته التي ما قبلها بدايات، وإلى التكوين الذي ما قبله تكوين، قبل أن تحدث تلك الحادثات ليكون هذا المكون الجديد في الذات وتجلياتها.

في الليل تطفو الصور الأولى

وتنمو في مياه الصمت

حيث يرجع النشيد

لشكله القديم

قبل أن يسمِّي أو يسمَّى،

في تجلي الذات، قبل أن يكون غير ما يكون

قبل أن تجوِّف الحروف

شكله الجديد

وفي الحلم يتجاوز البطل أسطوريته ليحدث له انهزام يحوله إلى بطل تراجيدي كانت زلته* بحثه عن ذاته وهويته، خارج بلاده. متجولاً عبر الأزمنة، حيث ذهب باحثاً عن معرفة الذات في مروي، ثم تركها وذهب إلى سنار، كلاهما على حدة لم يحولانه إلى هذا الكل المنشود، وبعد ذلك تجاوزهما معاً ونظر إليهما معاً، ليحدث له الكشف المعرفي حيث توحد الجزء المروي الممثل للحضارة الزنجية والجزء السناري الممثل للإنسان العربي مكوناً منهما معاً الكل السوداني. وباندماج هذه الأضداد حدث هذا التوحد. ولأن للحلم منطق للأحداث يتنافى مع الواقع، إلا أن الحلم للشخص الواصل إنما هو رؤيا، تتحقق وإشارات تتبلور، تعطيه الأمان وتترع قلبه بالحب، ويحس بالقبول. إنه لم يعد غريباً، بل إنه جزء لا يتجزأ من الصورة الكلية.

يمدّ لي يديه

يقودني عبر رؤى عينيه

عبر مرايا ليلك الحميمة

للذهب الكامن في صخورك القديمة

فأحتمي كالنطفة الأولى

بالصور الأولى التي تضيء

في الذاكرة الأولى

وفي سكون ذهنك النقي

تمثالاً من العاج،

وزهرة

وثعباناً مقدساً وأبراجاً

وأشكالاً

من الرخام والبللور

والفخار

ولكن مهما يكن من شيء، فأن يكون هذا الحلم أضغاث أحلام، أو رؤى، إلا أنه لن يكون ولن تتحقق كينونته إلا في بلاده تحت تلك الشمس الحارقة والحب العميق ـ ثم تستمر هذه الرؤى والأحلام حتى يأتي الصبح.

حلمٌ؟ رؤىً وهميةٌ؟ حقٌّ؟

أنا ماذا أكون بغير هذا الصوت، هذا الرمز،

يخلقني وأخلقه على وجه المدينة تحت شمس الليل والحب العميق

وعند طلوع الشمس يبدأ الرحالة نهاره بإحساس بالاكتمال لأول مرة في حياته. هذا الإحساس الذي ينجم عن القبول بعد أن حدث الكشف وتحققت المعرفة، ليتحول التنافر إلى تجانس، فهو عرف أنه زنجي عربي مسلم واختار أن يكون كل ذلك الزخم بدلاً أن ينحاز إلى مكون واحد. وهنا يحدث له انتفاء لصفة البطل التراجيدي ليتحرر من المكان والزمان، وليعلو صوته رأسياً وتتسع رؤيته أفقياً ليصبح الآن بإمكانه أن يرى ويشاهد الحقيقة كل الحقيقة حيث يحدث له التطهير بعد أن دفع ثمن ذلته، وصبر على حكم القضاء والقدر، وانتفت بالنسبة له كل الأضداد، وبالتالي اكتملت دائرة الحق والمعرفة. وبهذا تم الكشف والقبول ووصل إلى المقام المراد. حيث تجانس تام ولا نشاز في الحياة.



ونخلص إلى أن بطلنا هذا، هو بطل جوال في الزمان مفكوك الأسر طليقاً. ولكنه في بحثه الدائب عن الحقيقة، تتحول ماهيته حيث يكون في البدء بطلاً أسطورياً،* ثم يتحول إلى بطل تراجيدي** ثم أخيراً يتحول إلى مرحلة اللابطل.*** ولكنه في ذات الوقت إنسانٌ عاديٌّ وصل إلى مرحلة الكشف والقبول لكن ليس وحده بل بعد أن سُخر له مَلَك يسري به ليلاً في رحلة عبر الأزمان.


Author's Notes/Comments: 

جزء من الفصل الثالث لبحث صمم لنيل درجة الدكتوراة

الســــــــــــــــــــــــودان للجميع

View sudan's Full Portfolio