ما قبل الغيمة، ما بعد الليلك

ما قبل الغيمة، ما بعد الليلك

مريم العمّوري

هاتي كل قصائدك أيتها الهزار..

صُرّي نصفها المالح في زوّادة وعلقيها على لافتة للجائعين.. أو على وتد لخيمة أطاحت بها الريح!

أما نصفها الآخر فدسّيه في قارورة وارميها في البحر..ستنقذها غيمة شريدة من فم محارة أضاعت بناتها.. وستتحد بآخر حروفها ثم ستحملها على كتفيها كأب حنون إلى سفوح الليلك المنسيّ.. هناك حيث لا تمطره بأسرارها البكر، ولا يرهقها هو برغبته المتوقدة.. ليمكثا معا في خط استواء الأرجوان وليبقيا في الزمان لغتين تتشابهان في العذوبة، ولوحتين تتجاذبان أطراف الحلم..

ربما يبقيان هكذا متسمّرين في طرفي الحكاية كعلامة استفهام بلا أسئلة.. وربما تتعثر بهما عصفورة منهكة فرت من ضجيج الأمكنة لتتوقف برهة بينهما.. تسرج قنديلها من ليلكٍ موغل في التأمل وتلتمس من أنامل الغيمة ومن بياضها الأسطوري خاتما سليمانيا، والفرصة سانحة الآن لأمنية واحدة تطير بها إلى حيث تريد!

لكن لا زال لديها الوقت قبل أن تطلق العنان لجناحيها وتبوء بالمدى السادر ثم لا تنظر للخلف كأن لم يكن! هي لا تدري لماذا يراودها إحساس بأن "هنا" مختلف عن كل الـ "هناك".. هذا الـ "هنا" الآسرُ يمعن أمامها كجملة ظرفية مبهمة، يزجي إليها موجاته الكهربية الجاذبة فلا تملك إلا أن تحدق في تهاويله وتستسلم لدعواته!


أهيَ وحدها التي ترى هالة الضباب هذا الذي يحوم حولها في هيئة صبايا يتمايلن بأناقة، تحمل إحداهن ربابة وغناء كثيرا يتدلى كالبرتقال من جدائلها، فتمتلئ السلال بالبرتقال الشهي وتعين بعضهن بعضا على حمله فوق جبهة الصباح الفتي! يا للسهول من كل هذا الحصاد! السنابل مثقلة والمناجل محنيّة بالحنين، والشمس تلوّح وجه الزيتون قبل أن يوشمه الصوّان بالحُب. والصاج يغازل عرائسه اللاتي خرجن عن طوعه ليتمرّغن بالسكر والسمسم!! وصغار يتشاغبون على أرجوحة هيّأتها لهم سنديانة طاعنة في الوقار والطيبة، أوراقها لحاف الناعسين، ولحاؤها مدوّنة العشاق!

واللوّيح يغافل زهرة لوز بقُبلة قبل أن يفلّ لينقش وجه الرخام بدبكته الواثقة، غامزا عين الحبيبة بطرف كوفيته والواشيات على حافة غيرتهنَّ يكدن يقعن في الوَله. ودالية المساء الجميل تفلّتُ عناقيدها للجدال والنكات والنميمة والنبرة المحتدة الحنونة، وإيماءة الختيار وهي تقول ألف لغة يفهمها الغلطان.

وطرحات النسوة تصافح ابتسامة الفجر قبل أن توقظ رفّ وروار كسول، فإذا بأثوابهن المطرزة بالنعناع والكهرمان تستحيل خيلا أصيلة ينهرنها برنين أساورهن العُصملّي، ويسابقن بها فضاء يتلاشى شيئا فشيئا إلى أن أطبق الصمت.. وما هي إلا أضغاث ثوان حتى دوّى انفجار عنيف بلا دويّ، فإذا بالدهشة تسّاقط على جسد العصفورة أوراقا كرنفالية ملونة!


كانت لا تزال مشدوهة بما رأت.. أو توهمت! يعتري فؤادَها رفة حميمة وحيرة تكاد تفسد عليها ما خالجها من دهشة هذا المشهد، وهي بين ذلك في صراع يكاد يقلق الأماني في خرائطها التي بذلت في رسمها عمرا طويلا من العزيمة والحلم. هل تمضي أم تبقى؟  

هل تفتنها هذه المرابع المعلقة بين سماوة الروح وحاضرة الجمال لتكتشف مزيدا من السحر فتبقى، أم هل تمضي إلى ما وراء هدف يترامي في مجهول ما ليكتشفها مزيد من الدهشة؟


كان الليك والغيمة على أهبة جوابها دون أن يبديا إلحاحا، خشية أن يثقلا على ضيفتيهما وسْط قرار هو ملكها وحدها! لكنهما لم يخفيا رغبة جامحة في جوارها الذي آنس وحدتهما، كل هذا في حديث العيون الذي يتقنانه. فما أجمل أن تكون هنا معهما بعدا ثالثا يضفي على هذا الركن الساكن مرحا طفوليا لا يعبأ بعاقبة أو قانون. هما يدركان الآن بعد طارئ مرورها أنهما بحاجة إليها بقدر أكبر مما قد تحتاج إليهما. فما نفع ما يملكان من قصيد دون صوت حلو يغنيه، دون مزمار يماوجه شجوا وجذلا، دون جمهور يتطاول نشوة حتى ذروة الذروة وهو يردد في الأصداء "الله يا عم!!"

ما نفع ما يحيطهما من سكينة ودعة دون شغب جناحها وهو يذرع الفضاء ليعلمه لغة جديدة تربك كل لغات القلب الوقورة وتذيلها بإهداءة وتوقيع وأيقونة ابتسامة وخطين مائلين!


وربما يحلو لها المكوث فترسل في إثر صاحباتها .. لا بد أن يكنَّ مثلها في رشاقة الروح وحلاوة النبرة فيمتلئ المكان بحياة مُثلى..

وبينما هما كذلك يجذفان في قارب أمنية، كانت العصفورة على ضفة شرودها تحدث نفسها بكل ما ينتظرها هناك وراء أكمة هذا المدى الأبدي كورقة سيلوفان تقول لكل مشتهٍ افتحني. فقلبها الصغير يرفّ لوقع سحر خرافي آخر بعد أن أغراه هوس الطريق عن سكينة الوصول، فالوصول يعني لها نهاية المغامرة وبدايات الأجوبة المملة وهي التي لا تزال كل خلية في جسدها تلح عليها بالمضي شغفاً!


ما برحت الغيمة تمسح على أحزان الليلك وهي تودع ثالوث قلبها بعد أن خبأا في ذاكرة اللون ريشة رمادية سقطت كقبلة أخيرة من فم العصفورة المرتحلة التي ما أن أوقدت فانوس الحب في أحلامهما حتى انطفأا في نفحة السكينة الـمُطبِقة وهفّة الجمال الـمُطوِّق الذي أدركا الآن أنه ناقص خافت حدّ الألم لأنها لم تعد جزءا من كيميائه.  


 ولا يزال الليلك يسأل غيمته في عليائها عن شاردة تطمئنهما بعد سنوات من الغياب.. فالأخبار قلّما تصل هذا الركن المعزول عن الفوضى حتى تعثرّت بهما ريح عجوز كادت تنكسر على حافة أحزانهما، تسعل دخانا لزجا وتهذر بما لا يُفهم، ألقت أحمالها على قلق أسئلة كثيرة مبرومة ما بين رعاش الليلك ووجوم الغيمة، كانا قد نصباها بإحكام مثل شبكة عنكبوت في طريق الرائح والغادي علّهما يتصيدان خبرا ما يطفئ جذوة الأحزان..

اقتربا منها يحاولان أن يُركّبا من هذرها المبعثر جملة واضحة خصوصا بعد أن خُيّل إليهما أنها أتت على ذكر الحبيبة الغائبة..  

-         أعيدي رجاءً

-         لم تقدر.. كانت أقوى منها..

-         مَن؟

-         العاصفة .. مجنونة.. أوووه مجنونة

-         حدّثينا أرجوك

-         عليَّ أن أذهب.. ستلسعني.. الشهب تترصد بي.. الماكرة.. ستلسعني

وقبل أن يتفوّها بحرف آخر، كانت الريح الخرِفة قد تفرّقت في الجهات ذعرا كمن ركبها جِنّ، مخلفة وراءها سؤالين خائبين ورسالة عتيقة مهترئة لم يتنبّها لها، تداولتها أكف النسيم يمنة ويسرة حتى انتهت مبحوحة في قعر وادٍ شاحب بعيد ليس بذي ليلك ولا غيمة، بقيت هكذا تتأرجح في غياب آخر سحيق وهما في الجانب الآخر من الانتظار يتأرجحان على شفا يأسهما..  

 

قِفا لأزجي اعتذاري.. فقد بلغتُ قراري

لـمّا ركبتُ جموحي.. وطوّحتني الصحاري

بنصف ضلع كسيرٍ..  وخيمة في الحصارِ

فكدتُ أُسلِم قلبي.. لكل ظفر ضاري

لولا بها أدركتني.. زوّادةُ الأشعارِ

تلك التي أودَعَتْها.. للجائعين هَزاري

يا حبّتا العينِ عودا.. عزفينِ في مزماري

فمنذ ذنب رحيلي.. لم تبرحا أفكاري

حتى انتهيتُ خيالاً.. لم يعدُ حَدَّ سِواري  

كل الذي أرتجيهِ.. أن تغفِرا أوزاري

وترسِلا لفؤادي.. غمْراً من الأقمارِ

عَـلّي أعيدُ طريقي.. من ظلمة الأسوارِ

عـلَّي أعود لأصلي.. مخلّفاً أدواري

ونلتقي أفراحاً.. على دفوف الدارِ

فإن تعاظم ذنبي .. ورمتُما إنكاري

أظلّ في ركن شوقي.. أحيا على التذكارِ



View nasheed's Full Portfolio