النعنع البري.. رواية الأسئلة الصعبة

قراءة

النعنع البري.. رواية الأسئلة الصعبة!

أنيسة عبود تجمع صوتها في صوت عالٍ

 كُليزار أنور

الرواية ليستْ موهبة فقط ، بل هي فن معماري يحتاج كاتبها إلى تقنية عقل مهندس ليكتمل البناء بشكل يجعلها مريحة قابلة للسكن أطول فترة ممكنة لا أن تكون مجرد منظر لعمارة ملونة الجدران !

أنيسة عبود .. كاتبة عربية معروفة كتبت القصة والرواية والشعر أيضاً ، ولها عامود أسبوعي في إحدى الصحف السورية . صدر لها : " غسق الأكاسيا " و " تفاصيل أخرى للعشق " مجموعتان قصصيتان . و رواية " النعنع البري " عام 1997 وقد فازت بجائزة المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة .. وأُعيد طبعها عام 2001 . و رواية " باب الحيرة " عام 2002 .

" النعنع البري " فضاء متنوع الألوان نابض بهموم الواقع العربي . اختلطت العوالم في هذهِ الرواية بين الحقيقة والخيال ، الخير والشر ، الأسطورة و الفنتازيا .. ذابت العوالم مع بعضها وما على القارئ سوى أن يفصل بذكائه وحسهِ الإنساني بين ما هو معلوم ومجهول ! حبكة السرد قوية ، بنية النص متماسكة جداً لا يوجد خلل نهائياً .. عمل بدون ثغرات ، بل في منتهى البلاغة والجمالية . ولأن أنيسة عبود شاعرة ، فكان لنصها موسيقى هادئة ناعمة مرافقة للسرد .

كان المونولوج سمة من سمات الرواية .. استدرار عاطفي يوحي بالحب والقلق والحزن والحرية والضياع والضعف .. يجسد لمراحل معينة ليسَ في حياة شخصياتها ، بل في حياة أي إنسان يعيش في هذا الواقع العربي المر . تداخل الزمان بالمكان ، لم تدخلنا بمتاهة ، فبإمكان القارئ أن يلتقط بسهولة الخيوط ويفصل بين ما حدث في الماضي وبين ما يحصل الآن وتتنبأ بما سيحدث في المستقبل .

تبدأ الرواية بصوت عليا .. تسرد لنا جزء من الحكاية وكأنها تقرأ في دفتر مذكرات .. يستمر السرد بلغة شفافة متينة إلى الصفحة ( 17 ) ليبدأ علي من بعدها بسرد الحكاية .. هي نفس الحكاية لكننا نسمعها بصوته .. يتصفح الأوراق يفتح الذاكرة ينبش فيها " وراء كل نافذة حكاية . تحت كل مصباح موعد . اثنان يفترشان طاولة رأس السنة .. يفترشان أحلامهما . كؤوسهما دفء وموسيقى وأنا وحدي أتسكع على بساط البرد . أجرجر خيباتي مهزوماً . انها الهزيمة العاشرة .. قولي أكثر . أكثر من ذلك " ص 21 .

علي و عليا .. استعانا بالكلمة كي لا يموتا ، مثلما فعلت شهرزاد سردت الحكاية تلو الحكاية كي لا تقتل .. استعانت بالكلمة كي تتخلص من القتل الذي ينتظرها كل صباح .. أم تراها أنيسة عبود هي شهرزاد وهي التي تقمصت الشخصيتين .. بكل أمانة فرشت ذاكرتها أمامنا بلغة صادقة ، فالكاتب لغة .. والإنسان هو التجربة !! وكم كانت صادقة في زمنٍ لا صدق فيه .. تقمصت الدورين بفنية تستحق عليها جائزة أفضل أداء روائي . لنعد إلى علي ونصغي إليه وهو يسرد الحكاية من البداية .. منذ الطفولة في قريته النائية القريبة من النهر . قص علينا حكاية حبه الأول لليلى والتزامه بالمبادئ التي ترسخت في الذاكرة والضمير .. انهُ شاعر كبير ، لم يبع قصائده ذات يوم من أجلِ مالٍ أو جاهٍ أو .. .. . ناضل من أجل أن يبقى شريفاً .. لم يتحول إلى قميص يلبسونه ويخلعونه متى يشاؤون ! لم يحب سوى ليلى ، وليلى أخذها البحر " أمد يدي وأنتِ لا تردين على ندائي ولم أعد أراكِ ولا أسمع صوتي . اختلط الماء بالصمت .. الأيدي المودعة بالأيدي الراحلة .. اختلط الشط بالقاع وصرنا كنقطتين في فضاء لا نهاية له . " ص 163 .

لم يستطع الانتقام ، لأنهُ ليسَ بإمكان أحد أن ينتقم من البحر ! ولم يخن ليلى عندما أحب عليا .. لأنهُ يبحث عنها في عليا .. لو كان رجلاً خائناً لخانها مع سلوى أو مع جارته " يا . يا .." التي لا يعرف حتى اسمها . انهُ لا يريد المرأة الجسد .. انهً يرغب بالمرأة الروح والفكر والوجدان ، فالمرأة ليستْ مجرد جسد !

وعليا أيضاً لا تعترف بلغة الجسد فقط .. إنها تبحث عن رجلٍ يصنعها ! في رواية " النعنع البري " تتداخل الأصوات ، فالسارد مرة عليا ومرة علي ومرة راوٍ عليم يتراوغ معهم بسرد الحكاية .. والقارئ ليسَ بيده سوى أن يصغي .. لا يهمه مَن الذي يروي ، فالمهم استمتاعه بقوة السرد وشفافيته ولغته التي سحرت الأجفان بالدهشة . وينهار علي بعدما أفرغ كل ما في ذاكرته من ألم وقلق وعذاب .. يُنقل إلى المشفى ، ينقلهُ صديقه سامح . يتدخل الراوي ليسرد ما حدث ، فهو يبحث عن قصة يختزل بها أزمنة .. يحاول أن يسرد لنا حكاية عليا ، لكنها تقطع عليه طريق السطور ، فيرضخ لها " فاني أذهب لالتقاط قصة امرأة غيرك .. النساء كثيرات . ولكل امرأة قصة . كالبيوت . كالقرى .. هل أُتابع ؟! " ص 170 .

وتتابع عليا سرد الحكاية .. حكايتها ، وكل ما تطلبه من الراوي أن يصغي لها . حكايتها لا تختلف كثيراً عن حكاية علي ، بل هي تشبهها إلى حدٍ كبير حتى في الأسماء ، فهي عليا وهو علي . كلاهما ولد في قرية أي المكان نفسه والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية هي نفسها طالما يعيشان في واقع عربي واحد ، فكل قُرانا تشبه بعضها مثلما تتشابه كل مدننا تقريباً ! اضطر والدها أن يبيع أرضه للزعيم رغماً عنه ، فتركوا القرية باكراً .. ومن يومها وهم بلا أرض تسكنهم بالحنين ، فلا المدينة استقبلتهم ولا القرية احتوتهم .. انهُ أول انهزام تتعرض له وهي مازالت طفلة . تكبر .. وتكبر أحلامها ، وباجتهادها وحده تحصل على الدكتوراه من باريس .. وتعود إلى وطنها أستاذة جامعية ، لكن دون أن تنسى جذورها .. مازالت متعلقة بالمكان لأنها مقتنعة بأن الوجوه غير الأمكنة " الأمكنة لها ذاكرة والوجوه لها أقنعة " ص 204 .

كلنا سنموت وتبقى الكلمة وحدها .. مثلما كانت في البدء الكلمة ! تناسلت الكلمة إلى كلمات ، فغدت روايات لكل كائن تنفس الوجود ، فالحرف غدا بديلاً للصراخ .. للصراخ بوجه الظلم والغدر والخيانة والبيع .. بيع كل شيء أوله الضمير وآخره الوطن ! عليا فصلوها من الجامعة لأنها اكتشفت غش ابنة الزعيم ولم تعتذر لها ولوالدها .. الفصل حولها إلى موظفة في دائرةٍ ليسَ لها أهمية " الإنسان الذي لا يبدع ينهار لأنهُ لا شيء . على الإنسان أن يقدم شيئاً لهذهِ الكرة الأرضية الملوثة .. أن يزرع شجرة .. أن يبعد كيس نايلون .. أن ينجب طفلاً . قصيدة … دائماً أنا في صراع مع الزمن . الإنسان يصارع الزمن بالعمل … الكاتب يبدع عدة كتب .. يوقف الزمن . والعامل .. و .. .. و أنا كيف أُوقف الزمن ؟ " ص 319 .

وقررت أن تعود إلى الريف .. اقتنعت أخيراً بفكرة علي .. وعادت هي أيضاً مثلما عاد هو إلى قريته . " _ اني أجهز ديواناً جديداً . سأهديه لكِ .. ماذا أُسمّيه . _ لا أعرف .. _ أُسميه .. النعنع البري ؟! انهُ يذكرني بكِ .. بأشياء كثيرة " ص 321 . هو سمى كتابه الشعري " النعنع البري " والكاتبة اختارت " النعنع البري " اسماً لروايتها هذه التي بين أيدينا .

يا ترى الروائية جسدت شخصية مَن ؟ علي أَم عليا ؟ أم الاثنين معاً ، فـ( علي وعليا ) كائن واحد وإن اختلفت التفاصيل الصغيرة . لكن عليا لم تستطع أن تتواصل مع أهل القرية _ وكأنها ليست جذورها _ لم تستطع أن تتجاوب مع الجيران . مالت إلى العزلة ، فأفكارها ليستْ كأفكارهم .. وتعلمت الإنصات إلى أُمها ، وهذا الإنصات كان لهُ التجاوب الجميل مع أُمها . وماتت أُم عليا " ودب الخلاف بين اخوتي .. أُمي كانت المنزل الذي يضمنا " ص 330 .

عادت إلى المدينة بعد موت أُمها .. وما عادت ترى علي .. غادرها دون سابقِ إنذار ودون أن تعرف السبب وراء غيابه . وسمعت من الناس انهُ أصدر ديواناً جديداً .. كان قد وعدها أن يهديها الكتاب ، لكنهُ أهداه للزعيم ! حتى علي صاحب المبادئ تغير .. انهُ زمن الممكن !

كانت الصدمة قوية جداً .. وعلى أثرها اختفت عليا .. قالوا : أخذها البحر ! لم نعرف ماذا حل بها .. ولم تخبرنا الروائية ، كل ما عرفناه انها هربت أو ربما سافرت ، لكنه سفر من نوعٍ آخر .. سفر لا يحتاج إلى جواز وتأشيرة دخول !

كانت النهاية غريبة في آخر صفحة من الكتاب .. يلجأ علي إلى سامح . ها هما يلتقيان .. بكى سامح على كتف علي ، فقد اشتركا في الأثمِ نفسه .. كانا يحبان امرأة واحدة . مَن سيداوي الآخر ؟ مَن سيعاتب الآخر ؟ فكلاهما كانا السبب في ضياع عليا !!

* " النعنع البري " رواية الكاتبة أنيسة عبود .. صدرت عن دار الحوار / اللاذقية / الطبعة الثانية / 2001 .

 * نُشرت في جريدة (الزمان) العدد (3382) في 26/ 8/ 2009. 

View gulizaranwar's Full Portfolio